الأحد، 4 سبتمبر 2016

هدف أريستوفان ثمنه سقراط!



الفن هو المنظار الأعمق والأصدق للحياة,وسط اضطراب بحر الحياة الهائج,بينما يتصارع الناس للاستمرار والصمود وسط أمواج تضربهم وتلقي بهم كلاً في جانب,يقف الفنان يتأمل المشهد ويشرحه بأدواته-علي اختلاف الفنانين,فالناس تغرق في تفاصيل حياتها ولا وقت لديها للتساؤل أو الفضول عن ماهية ما يحدث.
يعتبر المسرح"أبو الفنون"ليس لأنه أقدمها فحسب بل لكون خشبته السحرية تستوعب لكل الفنون تماماً كشاشة السينما الساحرة,ينقسم المسرح للونين أساسيين هما التراجيديا والكوميديا...الكوميديا هي ما تعنينا الآن وليس المقصود بالكوميديا ما هو منتشر الآن من أشكال الهزل السخيفة والتهريج المعروفة باسم"الفارس",الكوميديا هي المهمة الصعبة بالنسبة لأي مؤلف درامي,أو ممثل,فمن الصعب إن لم تكن متمكناً إضحاك الجمهور علي نفسه!وعلي مفارقات يقع هو نفسه بطلها يومياً...لكن هكذا فعل سيد الكوميديا اليونانية أريستوفان في مسرحية السحب.
الأدب اليوناني أدب خالد عظيم,أشعر شخصياً بمتعة غامرة وأنا أعيش بين أبطاله وحوادثه,تزداد هذه المتعة مع ثلاثة من أعمدة المسرح اليوناني(أسخيلوس,سوفوكليس,أريستوفان)الأولان من عمالقة التراجيديا اليونانية,والثاني صاحب أول كوميديا تناقش الأفكار والمذاهب بمسرحيته السحب.
يعتبر النقاد والقراء أن المسرحية موجهة بشكل مباشر للتهكم علي سقراط الفيلسوف العظيم والحط من شأنه أمام جمهور أثينا وأمام التاريخ بعد ذلك,لكنهم لا يتحدثون عن من يوجه لهم أريستوفان سهام نقده وسخريته قبل سقراط,وهم اليونانيين أنفسهم من خلال تقديمه لشخصية(ستربسياديس)-معني الاسم باليونانية"المرواغ"-مالك الأراض العجوز الذي أثقلته الديون بسبب تبذير ابنه,فيحاول أن يلجأ لسقراط حتي يتعلم الجدل والمنطق الباطل الذي من شأنه أن يقلب الحقائق وينجيه من الأحكام القضائية؛وبذلك يتملص من التزاماته المادية,يحاول في البداية أن يتعلم هو لكن كبر سنه وانخفاض لياقته الذهنية لا تؤهله,فيجبر ابنه فيديبيديس علي الدخول مدرسة سقراط,فيتعلم الابن فن الجدل والمحاورة لكن السحر ينقلب علي الساحر,فأول من يعاني منه أبيه,ولم يتوان الابن عن ضرب أبيه بل ويهدد بضرب أمه مبرراً فعلته هذا بأساليب إقناعية في منتهي الابتكار,يكتشف الأب المأزق الذي أوقع نفسه فيه ولا يجد متنفساً لغضبه إلا حرق مدرسة سقراط وهدمها!
هذا هو الخط العام للكوميديا الأريستوفانية في السحب,تنكشف لنا من خلاله صورة صادقة لحد بعيد عن المجتمع اليوناني ومشاكله,وكان من يود التعرف علي العالم الأثيني من الداخل الاطلاع علي مسرحيات أريستوفان,هنا يظهر بجوار سقراط شخصية أثينية خيالية"ستربسياديس"الذي يحاول طوال المسرحية الهرب من التزاماته بكل الطرق الممكنة,فيلجأ لمدرسة سقراط أو كما دعاها"دكان التفكير",في المشاهد التي تصور تجربته الفاشلة عند سقراط يتبين لنا أزمة المجتمع اليوناني الحائر بين القديم والجديد ,منطق الحق والباطل,قواعده اللغوية التي يتلاعب بها الناس في مواجهة بعضهم البعض,والأزمة القديمة الجديدة في كل زمان بخصوص تربية الأبناء وتنشئتهم ليكونوا عوناً لوالديهم لا عبئاً عليهم,مفاهيم كثيرة وجه لها أريستوفان سهام نقده قبل أن ينقد صورته الذهنية عن سقراط,وبما أن الأدب تعبير عن أفكار المجتمع وتصوراته ورؤاه,لابد من الاعتراف أن الكثيرين من المجتمع اليوناني كانوا يزدرون سقراط,لمجادلاته الفكرية المكتظة بالشراك المنطقية وشكله الغريب الغير مهندم وربما ما شاع عن قذارته وشروده الدائم,فكانت صورة سقراط التي قدمها للجمهور المسرحي هي ما يعتقدون فيه ويودون رؤيته علي المسرح مجسداً.
فهل نالت السحب من سقراط؟
وقتها... أجل نالت منه وقتها لحد بعيد وأكدت علي صورته الهزلية في عيون عامة اليونانيين,والمدهش أنه بعد خمس وعشرين عاماً نجد أن حيثيات الدعوي المقامة علي سقراط كأنها مقتبسة من مشاهد السحب:الكفر بآلهة المدينة والدعوة لإله جديد,وإفساد الشباب!!- في محاورة الدفاع يأتي سقراط علي ذكرها بدون التصريح باسمها-وهذا اعتراف متأخر جداً بصحة الصورة الأريستوفانية لسقراط,لكن علي المدي البعيد توارت السحب أمام بهاء وعظمة اسم سقراط في الفلسفة اليونانية وخلوده في الفكر الإنساني,بل أن هناك العديد من الشخصيات العادية المعاصرين لنا اليوم في القرن الحادي والعشرين يحملون اسم سقراط سواء أكان اسمهم هم أو اسم الأب أو الجد!
لكن ما نالت منه بحق وعلي الدوام,الأنماط الفكرية والسلوكية التي سخر منها أريستوفان سواء في الصورة الكاركاتيرية التي أظهر بها سقراط,أو من خلال سلوك ستربسياديس المشين في تهربه من واجباته والسعي لمصلحته الذاتية علي حساب أبناء بلدته,وانتشار المنطق الباطل بين أفراد اليونانين واهتراء الحق وسط عواصف الحياة الدنيا والتغييرات التي يتطلبها منهج تفكير كل جيل,عن طريق الكوميديا الضاحكة فهي في الأساس فعل إقصائي يهدف لتقويم سلوك المشاهد,فنحن حين نضحك علي جبان أو بخيل أومدعي علم ومعرفة....,......,.....إنما نؤكد لأنفسنا أننا لسنا هكذا ونسعي لتجنب مثل هذه النقائص في شخصياتنا وهذا هو الهدف الأسمي للكوميديا,وما حاول أريتستوفان الموهوب أن ينال منه حباً في عالم أرقي ومجتمع صحي حوربت فيه الرذائل حتي اختفت في ما وراء السحب,لكن للأسف كان سقراط ثمناً لهذا الهدف  



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق