الثلاثاء، 26 مايو 2020

قبل المغرب


قبل المغرب

م/1                                                                                   ن/خ
                                                      الشارع
-عصر يوم في فصل الربيع,سيارة نصف نقل متوقفة أمام عمارة قديمة في شارع شعبي متواضع المساكن,علي الرصيف امرأة تبيع الليمون,بجوارها أخري تفرش طشت ممتلئ بالجبن,من العمارة يهبط رجال يحملون كراتين معبأة بالكتب,كراس,منضدة صغيرة وجهاز كمبيوتر.
-بينما يرصون هذه الأشياء,تنعطف الكاميرا وتدور حول السيارة حتي تصل في لقطة متوسطة حتي تصل للسائق ورجل آخر بجواره,السائق يرتدي كمامة لكنها ليست علي فمه بل علي ذقنه,حتي يتمكن من تدخين سيجارة وصلت الآن لنصفها.
السائق:البت أسماء بتي مقهورة عالآخر عشان الأستاذ عمر هايقفل المكان,بتقولي يابابا ده كان أحلي حاجة في حياتي...بنت الإيه جات له عيلة كده وإنت عارف لا فيه مدارس بتعلم ولا فيه نيلة,خلاها بنت مفتحة عالآخر...وترسمني تقولش زي الجدع ده اللي اسمه بيكاسو(بحزن)خسارة حقيقي.
الرجل:وأكل عيشه هو كمان اتقطع,كان لينا فين الهم ده؟! هو إحنا كنا ناقصين بلاوي الكورونا دي كمان!
قطع
م/2                                                                                   ن/د
أمام باب الشقة
-الرجال وقد أفرغوا الشقة تماماً يهبط منه آخر اثنين وهما يحملان دكة كبيرة,تظهر خلفهما علي البسطة رحمة,فتاة في منتصف العشرينيات,رقيقة,شعرها الفاحم وعينيها السوداوين يوحيان بالألفة من أول نظرة,تتجه نحو الشقة في حزن,تدخل أمام الكاميرا وعندما تخرج من الكادر تظهر لافتة "بناء المستقبل"وتحته ثلاث كلمات"تعلم –فكر-ابدع".
م/3                                                                                   ن/د
داخل الشقة
عمر يقف ساكناً أمام نافذة مفتوحة,الكهرباء مفصولة,الزوايا مظلمة,الضوء يغمر البقعة التي يقف فيها,علي الأرض تناثرت أوراق ورسومات طفولية,وقطع كروشيه وطربوش قديم وعباءة علي مقاس طفل صغير كانا يستخدمان كأغراض تمثيلية.
-عمر يشعر بوجود رحمة دون أن ينصرف عن التحديق في الخارج.
عمر:طول حياتي يا رحمة كنت بابوظ بإيدي الحاجات الحلوة,أمشي كويس وعال العال وقبل ما آخد منها اللي أنا عايزه كانت تروح مني...بإيدي...حاجة غلط أعملها أو أقولها وفجأة ألاقي الحلم ضاع... بيتحول لكابوس ودموع...إلا المرة دي جات لوحدها,ومش عليا أنا بس عالدنيا كلها!
رحمة ( تحاول مداراة الحزن في صوتها مصطنعة الدعابة):أنا الحاجة الوحيدة اللي مش هاتقدر تضيعها منك,عارف ليه يا أستاذ لأني هافضل مكلبشة فيك بإيدي وسناني لحد ما نتجوز.
تتقدم نحوه وتضع يدها علي ظهره بحنان
رحمة:وبعد ما نتجوز إنت اللي هاتمسك فيا بإيدك وسنانك.
يلتفت عمر فنراه شاب في أوائل الثلاثينيات ما يميزه أنه لا يوجد به شئ مميز علي الإطلاق,عادي إلي درجة غريبة,عيناه متلألئة بالدموع
رحمة(بجدية وقد بدا صوتها مرتعشاً من الحزن):مش دايماً كنت بتقول إن اليأس خيانة للمستقبل,ما أحبش أشوفك كده تحت أي ظرف كان,أزمة وهاتعدي زي ما مليون أزمة قبليها وعدت
تأخذ يده بين كفيها
رحمة:مين عارف؟زي ما يقولوا لعلها رحمة.
-ينظر لها وليده بين كفيها وفي عينيها شئ فهمته,تترك يده وتدس يدها في شنطتها.
رحمة:معايا كحول.
يبتسمان
-يخرجان من الشقة,يتردد عمر لحظة أمام اللافتة,ثم يخلعها ويحملها تحت ذراعه
م/4                                                                                   ن/خ
الشارع
السيارة رحلت,يخرجان من العمارة والحسرة علي وجهيهما.
طفلة باكية ترقبهما وهما يرحلان.
م/5                                                                                ن/خ
أمام إحدي المحال
باب المحل يرتطم بالأرض بقوة,رجل ينحني ويغلق القفل.
يظهر طفل بدين يلهث من الجري حاملاً كيس.
الطفل:والنبي يا عمو عايز بكرة خيط.
الرجل:ما جيتش من بدري ليه الساعة جات خمسة خلاص بكرة ابقي حود خدها
الطفل:لسه جاي من الشغل والله ما بنطلعش قبل كده
الرجل:قبل ما تروح الشغل
الطفل:أنا باروح من الفجر
الرجل يلتفت له لأول مرة
الرجل:بتشتغل فين؟
الطفل:في فرن
-يفتح الكيس فنري ملابس متسخة بالعرق والدقيق.
-يتعاطف معه الرجل
الرجل( مبتسماً):هاتطير طيارة بيه ولا إيه؟
الطفل:شوية كده قبل المغرب
يفتح الرجل المحل ويخرج حاملاً بكرة خيط,يعطيها للطفل
الطفل:بكام
الرجل:خلاص يا ابني مش مهم كل سنة وانت طيب
قطع
م/6                                                                          ن/خ
صنينة دوران صغيرة
عمر ورحمة يجلسان علي مقعد خشبي في صمت وبجوارهما اللافتة,يرقبان زحام وهرجلة قبل الحظر.
الطفل في المشهد السابق يربط الخيط في الطائرة ,يحاول أن يرتفع بها فلا يقدر, ترتعش في الهوا ثم تسقط,ينظر للأطفال الآخرين الذين تعلو طائراتهم في غيظ,يحاول أكثر من مرة.
يجري بظهره حتي يتعثر في رحمة,تئن من الخبطة ويقع علي الأرض,وينهضانه سوياً.
يلتقط عمر الطائرة من الأرض
عمر:أنا شايفك من ساعتها,طيارتك عمرها ما هاتطير,مش موزونة عشان تقاوم الهوا,لازم تتفك وتتعمل جديد...أعملها لك؟
يومئ الطفل موافقاً
يبدأ عمر في عمل الطائرة من جديد
عمر:الواد ده بيرجعني بتاع عشرين سنة ورا
رحمة:تعرف إني ولا مرة طيرت طيارة.
عمر:خمس دقايق بالظبط وهاتبقي الكابتن رحمة اللي هاتلف العالم
تنظر له بحب وقد انهمك في عمل الطائرة.
بعد دقائق.
الشمس أصبحت متوارية تماماً وآخر خيط ضوء بدأ يرحل الآن
عمر يقف ويعلو بالطائرة,يسلم الخيط لرحمة التي تمسكه فرحة ويبدوان سعيدان لأول مرة من بداية اليوم,الطفل بجوارهما يقفز من السعادة,تبتعد رحمة عنه في مرح مشيرة إلي خوفها أن يصطدم بها ثانية.
عمر ورحمة يسيران في سكون ثم يغيبان عند أول منعطف
الطفل يدور حول الصينية ركضاً بالطائرة,الآن هي عالية وقوية يمكنها مقاومة الرياح ومنافسة طائرات الأولاد الآخرين.
-النهاية-




الجمعة، 8 مايو 2020

رسائل"مستقبل الثقافة في مصر"1


سيدي العميد...
إني متعب وحق الله,متعب من الجهل والتخلف والانهيار المدوي لكل ما حولي-ولا أبرئ نفسي-الذين ارتحلوا من بلاد الناس ليحلوا بأرض مصر المباركة,وقد فارقها أمثالك من النوابغ النبهاء,سيدي عميد الأدب العربي,اعذرني علي قولي...لكني أعيش في زمن أصبح اسم سيادتكم فيه مثار سخرية واسهزاء البلهاء والحمقي ممن تسلقوا سلم مقلب الزبالة ذاك المسمي زوراً"تعليم",سيدي العميد لطفاً لا تغضب مني فأنا من مريديك القدامي منذ عشت أيامك بحجرة بيتنا القديم أيام الصفاء وراحة البال والأمل الطليق في غد أجمل أعيشه,قفلت شرفتي الصغيرة بالألموتال وحولتها لمكتبة,أول مقتنياتي كانت أيامك تطل منها أوراق حياتك حية نابضة بالشقاء والأمل,توزعني خلالها مشاعر الإعجاب بك والرحمة لآلامك,إني بكيت عليك يا سيدي وعلي شقاؤك في العمي والفقر وتنكر الأيام,وأعجبت بصلابتك وحبك في العلم وجرأتك علي المعرفة.
ما زال هناك من يعرفون قدرك وقيمتك رغم عواصف الهجوم العاتية,التي أظنها لم تنل من مثقف في القرن الماضي أكثر مما نالت من قامتك السامقة,المحلقة فوق هامات الصغار,وأنا يا سيدي صغير أحيا في زمن الصغار قبل سنوات كانوا ميديوكر الآن تقزموا حتي أصبحوا كالفيروسات,الكبار العارفين بقدرك ممكن أحكي لك عنهم يوسف زيدان أحد معجبينك الخلصاء والسائرين علي دربك الممتد نحو صهد المعرفة وحرارة الاكتشاف,أنت لا تعرفه ولا تعرفني,لكننا نعرفك جيداً,فأنت من الصنف الذي يعرفه الناس وما عليه إن جهلهم,يُذكر بك في يومك الأربعائي الذي اختاره للأحاديث والكتابة تيمناً,فأعادني لسيل ذكريات معك.
اسمح لي بالحديث قليلاً لعلي أفضي لك بأشياء ترضيك مع إني لي داء عجيب,إن كل ما أصنعه حسناً لا بد أن أفسده في النهاية!
أعرفك...أعرفك صبياً في مغاغة تقطن الصعيد,لك في دارك أقاصيص وفي القرية حكايات.
أعرفك ضائقاً بمناهج الأزهر وتخلفه عن الحضارة,كما أضيق بالنظام اللاتعليمي المتخلف الذي أنتج لنا عاهات خطيرة يا سيدي نخرت في بلاد النيل وجعلتها عمياء صماء شوهاء عرجاء,بل ضيقي أضعاف مضاعفة,فإن كان الجهل سببه غياب المعرفة,فزمني هو عصر المعرفة بضغطة زر واحدة...لا في الماضي كان ضغطة الآن يكفي لمسة علي شاشات يصنعها الأوروبيون والأمريكيون -ممن أردتنا أن نحذو حذوهم فاتهموك يا سيدي!-لترتحل إلي آفاق حتي أنت كنت تجهلها-سامحني-ولا تعرف بوجودها,زمن التكنولوجيا التي نستهلكها وحسب وليتنا نستهلكها فيما ينفع بل في الهراء والتفاهات.
أعرفك في فرنسا غريباً ببلاد الغال,تسعي للعلم الذي لا ساحل له وقد كانت بلادك أصله ومنبعه,وجدته وتعلمته وفرحت به,وعدت لمصر تنشره وتذيعه,فما كان جزاؤك إلا النيابة والاتهام والتشنيع.
أعرفك عند رجوعك شخص من الناس تضطرب أمور حياته كأترابه من الرجال,زواج وعمل وميلاد طفل,ثم الرفعة والاتصال بأهل الحكم.
منك عرفت ابن خلدون لأول مرة من هو وماذا قال وماهية مقالته,ما غفل عنه بالخطأ أو تغافل عنه بالقصد,ومع المتنبي في خطوب حياته صحبتني أنا أعمي وأنت عصاي ومتكأي,بلغتك البليغة وآيات عباراتك الأنيقة,صحت كما صاح نزار قباني:
ارم نظارتيك ما أنت أعمي
إنما نحن جوقة العميان
وفي حديث الأربعاء حدثتني بحديث حلو ومبتكر ليس عن فلان وعلان إنما حديث قلبك الكبير وعقلك الجواب,تقلب في أخبار القدماء وتصوغها من جديد,تشككك فيها وتنقدها لا تسير مع القطيع أينما سارت بهم عصا التراث ونعيق الناعقين,بل تختط لذاتك طريقاً متفرداً,لا أكتمك سراً أن معرفتي بك قطعت صلتي بكتب العقاد وجعلت إعجابي القديم به يتهاوي بمعاولك,وكرهت تلك المدرسة السلفية في التفكير حتي ولو بدت تقدمية وهي ترزح في أغلال هي نفسها لا تعرف من صنعها في البدء,لكن الشئ بالشئ يذكر لم أعجب بتلخيصك للأقاصيص والمسرحيات اليونانية والفرنسية,فمتي كانت الصورة تغني عن الأصل.
واصطحبتي معك يا سيدي وعرفتني علي قادة الفكر منذ سقراط,تلقيت كلماتك بروح ساخنة لما كنت في مقتبل الشباب,وها أنذا أخطو نحو الثلاثين ومازالت كلماتك تحيي في حماسة الصبا القديم,وفي الشعر الجاهلي كان الزلزال وقد فرقت بين المرويات الدينية وعلم التاريخ كما يجب أن يكون,حررت الذهن من البلادة والجمود والتصورات الجاهزة,فأصبح كل شئ عرضة للنقد والاستفهام,كأنك عازم أن تهدم السجون الفكرية التي عشنا فيها وتخلصنا عن طريق غير مباشر بتلك التهمة التي لحقت بالتاريخ المصري,علي جثث ملوكنا القدامي الذين يسمونهم"فراعنة"علي اسم فرعون موسي الذي اختزلوا فيه حضارة مصر العظيمة ورقة حكمتها وطيبة فلسفتها,ثم جاء مريد آخر يا سيدي أنت تعرفه,اسمه خيري شلبي الذي حول أيامك لمسلسل إذاعي بعدما خدعك خدعة بيضاء لا جناح عليها وأسمعك الحوار بنطقه الفصيح مع أنه قد ينطق أيضاً بالعامية,فوجد هو الآخر صوته الخاص علي حسك,مما أشعر أبيه بالفخر بعدما كان حانقاً عليه مقللاً من شأنه,فانظر أي فخر أن يقترن باسمك إنسان,ابن شلبي هذا كما يسمي نفسه حيناً وحيناً باسم الطرشجي الحلوجي,اكتشف نص محاكمتك واجداً فيها درساً عظيما,سيدي ليس فيها أي دروس!بعد دروسك انحدر بنا الحال لنجد في براءتك درساً ونسينا منهجك الديكارتي الفعال.
أستحيي أن أحدثك عن ديكارت!فماذا أعرف أنا عن ديكارت أو عن أي شئ في العال,فكما استشففت يا سيدي إني رجل جاهل لا يفقه شيئاً علي الإطلاق,ولكني أستميحك أت تدعني أسلي نفسي عن همومي وأوهامي,وفساد العالم من حولي وخبث البشر في حياتي,ديكارت الرجل الذي فكر لنفسه بنفسه,في البدء كان ديكارت صوفياً أراد التجرد من كل العلائق المادية ليصل إلي الحقيقة عن طريق الشك,مطلقاً صيحته العابرة للزمن"أنا أفكر إذن أنا موجود"معتبراً أن تلك الخطوة هي الطريق الوحيد لمن يريد الإضافة للعلم وليس الأخذ منه فحسب,ومن فلسفته الديكارتية ومنهجه الرياضي أسس بنيان فلسفي مؤثر بغض النظر عما أخطأ فيه وأصاب,فمن من بني آدم لا يخطئ ويزل,كأرسطو المعلم لأول الذي أعرض عنه الناس بفعل ديكارت وأمثاله عندما كشفوا لهم تهافت بعض آراؤه وسذاجتها في كثير من المواضع,قضي ديكارت أعوام وأعوام يفكر ويحلم ويتدبر في مادته الفلسفية قبل أن يشرع في كتابة تأملاته بغرفته الدافئة بهولندا,ثم يموت في خدمة القصر عام 1650قائلاً"تلك نفسي وينبغي عليها أن تغادرني الآن"ويقولون مات بالالتهاب الرئوي ويقولون مات مسموماً,وبعد ثلاثة عشر سنة من وفاته تدين الكنيسة الرومانية أعماله وتعتبرها ضمن الكتب الممنوع حيازتها,لماذا يا سيدي تمنع أعمال ديكارت عن الناس؟ألأنها تشككهم في الموروث والمقدس أم لأنه ناهض أرسطو وكان حبيب الكنيسة واحتكم للعقل دون شفيع؟أليس ذات الشئ حدث معك في الشعر الجاهلي,عندما وضعت العقل فوق النقل وانحزت لما وقر في نفسك من حقيقة ذلك الشعر وخصاله وتطوره وظهور التكلف فيه ليبدو بدوياً خشناً,إذن...فلا امرؤ القيس ولا عنترة ولا عمرو بن كلثوم!أقول هذا الكلام وأنا حزين فهؤلاء شكلوا جزء من وجداني يصعب بتره,لكن عزائي ما قال أرسطو بأنه يحب أفلاطون لكن الحقيقة أعز عليه من أفلاطون,وهذا لا يعني أني أسلم لك فما هذا علمتنا,بل علمتنا التحصن بالمنطق ضد الدوجماطيقية,لكن منهجك يفضي لنتائج منطقية صعب نقضها,إذن فهي صحيحة إلي حين,كالبراديجم في العلوم التطبيقية,ألم يكن نيوتن فسر الكون علي هواه واطمأن له الناس ثم بزغ شروق آينشتاين ونسبيته فتبددت الراحة ووهم الحقيقة وتجلت النسبية في سماء العقل البشري وجعلته يسبح في الفضاء.
تهدي كتابك"مع أبي العلاء في سجنه"لهؤلاء الذين لا يعملون ويؤذي نفوسهم أن يعمل الناس",وهل في الحياة المصرية أكثر من هؤلاء,إذا وجدوا شخصاً يكدح ويعمل ليصل لهدفه بالطريق المستقيم المرسوم بخط العمل والمرصوف بأسفلت العرق,لا يسلم منهم,يذيقونه اللوم والتقريع وإن استفادوا منه ينقلبون عليه ولا يشكرون,يصيح"الطريق من هاهنا أيها الحمقي البائسين,لا سبيل إلاه حتي نصل إلي ما وصل له غيرنا نحن لسنا أقل منهم",فماذا يفعلون به يا سيدي يحقرونه ويزدرونه ويقللون من شأنه,وبالطرق الملتوية يسبقون,ثم يلقون عليه وهو في المرتبة الأدني منهم الآن قاذورات ألسنتهم ونتانة ضمائرهم ثم يتيهون في الأرض مرحاً,كأننا ملكنا العالم ولم يعد لنا سوي أن نتيه علي بعضنا,ألم لأننا لضعفنا وقلة حيلتنا بين الأمم أصبح العراك العقيم والتباهي الفارغ هو كل ما يغطي عرينا أمام بعضنا البعض,أنا لا أدري يا سيدي فكما قلت لك أنا رجل جاهل ولكني أسمح لي أن أحكي لك فصلاً في حياتنا الفكرية المعاصرة لم تشهده أنت حدث بعد وفاتك بحولي عشرين عاماً,وعن مثقف مصري كان مثلك من طبقة توصف بأنها متواضعة لا أدري لماذا,مع أنها أخرجت للبيئة المصرية للآلئها المفتخرة,اتخذ العلم طريقاً للحياة,عاش ليتعلم ويعلم في مجتمع جرف من كل المعاني واحتله مجموعة من الفارغين وقفوا للفاضية والملآنة كما يقولون في المثل الشعبي,كان صادقاً وشجاعاً يا سيدي واسمه نصر حامد أبو زيد....لا أعرف كيف قفز لذهني الآن...علي ما يبدو الجراح تذكر بالجراح!
ذلك الفصل يتصل إتصالاً وثيقاً بدعوتك القديمة المتجددة لبحث مستقبل الثقافة في مصر,لم لو تهزم لما كانت هذه البلاد شهدت مآس عديدة وذبح لأكبر العقول المفكرة فيها لحساب نفس الاتجاه الذي هاجمك وقل من أطروحتك,دعني أقول ما في نفسي متشجعاً بحديثي معك ومستظلاً بواحتك من الحرية وتلك النار التي كانت جذوتها مستعرة فيك وتدفعك دفعاً قوياً للبحث والدرس...إني أشعر بالخيانة!كيف كان عندك حلاً نافعاً لإصلاح التعليم ليجنب البلاد من الانحدار ولم ينفذ أحد ما جاء به...خونة في البلاد!أين هم ليدفعوا فاتورة باهظة لفساد الشعب وضياع الشخصية الوطنية وانهيار القيم وموت التعليم الذي أردت أحيائه من قبل,وسعيت لرتق خروقه,التعليم الذي كنت ساخطاً عليه هو الآن منتهي أمنياتنا وغاية آمالنا يمثل لنا البقعة المضيئة في تاريخنا الحديث,استمع يا سيدي لشهادة أحد العاملين فيما يسمي زوراً الجامعة ولا يمكنني وصفهم بغير العاملين فهم لا يقربون للتعليم بصلة ولو أنصفوا لاستمعوا لكلام يوسف زيدان عندما اقترح أن تغلق الجامعات ويتعلمون هم أولاً ثم لهم أن يدعوا بعد ذلك ما شاءوا, وذلك أخف وقعاً مما يصفهم به وجدي الفيشاوي أحد العاملين في جامعة الأزهر في رواية "الجامعة والصعود إلي الهاوية" -والعنوان مقتبس من إحدي قصص الجاسوسية والخيانة!- وكلامه ينطبق علي كل الجامعات في مصر" يخيل إليه أن الجامعة ما عاد جامعة إنما يركز نظراته علي آذانهم لقد امتلأت الجامعة بأصحاب الآذان الطويلة...ماذا حدث للجامعة!الصورة سوداء كئيبة...أين جيل الأساتذة العمالقة...ماتوا...لم يعد للعمالقة مكان بين هذا القطيع الهائل من لئام الأقزام وأصحاب الآذان الطويلة".
ما نجحنا فيه بعد ثمانين عاماً من دعوتك أن أصبح التعليم وسيلة لأحقر الادعاءات الإجتماعية والطبقية ألقاب وشهادات بالكوم كل عام هل كنت تحلم يوماً أن يصير عدد الخريجين يزيد الأربعمائة ألف في عام واحد وعدد الحاصلين علي درجات علمية دبلوم وماجستير ودكتوراة-يا حلاوة علي الأوهام اللذيذة-108ألف في عام واحد,لو أن واحد بالمائة فقط من هؤلاء جميعهم متهم بشبه التعليم أو التنوير لكنا اليوم في الصفوف الأولي للدول المتقدمة,لكنها تجارة سواء كانت جامعات حكومة وخاصة وللأسف كان مساري في الخاصة وأنا برئ منها وهي بريئة مني,فلطالما أهنت وأطلق عليّ وصف الحمار,لأني بحثت فيها عما أردت فلم أجد,فجنوا مني وأساءوا لي علي الدوام لأن مجرد بحثي وعدم استقراري أزعجهم,يريدون الدعة وتبادل الأوهام في سلام,تجارة كتلك التي كان يقوم بها الخديوي حين ينعم بالرتب والألقاب,ومازال معروف الرصافي صوته يدوي مع كل دفعة من الخريجين:
وأي نفع لمن يأتي مدارسكم
إن كان يخرج منها كما دخلا
أنت سعيت في الخير وأردت الإصلاح لكنك قوبلت بشتي الإتهامات والإفتراءات,لا تحزن يا سيدي فإن منا من يحبك ويحب من يحبك,فمثلك هم قارب النجاة الوحيد في عالم يتغير الآن كما كان يتغير يوم كتبت كتابك عن مستقبل الثقافة,هوجمت لأنك أردت أن نكون محترمين في بلادنا لنصبح محترمين أمام العالم,فمجتمع بلا تعليم مجتمع بلا كرامة,عقلنا اليوم في أفضل حالته وأسعدها تكراري لا يستطيع غير الاستعادة والاقتباس والتقليد أما الأفكار الأصيلة والمشاريع الحقيقية فلا مكان لها بعدا احتله التافهين من كل مشرب التافهين من المتحدثين باسم الدين,والمشهورين باسم الفن والصائحين باسم الغناء,والفن مع العلم هما الراية الأولي لأي مجتمع حديث,ولو استمعت لآراء المنتسبين لهذين المعنيين في مصر لسمعت غثاء القول وأجهله,هؤلاء لغوشوا علي مشروع نهضتك التعليمية لتجنبني أنا وجيلي والأجيال التي سبقت ما لحق بنا من تشويه في تلك التجربة الإجرامية التي تمارس في البلاد,متروكين تحت رحمة ذوي الآذان الطويلة الذين شكلوا هم أيضاً بنفس الطريقة ليعيدوا إنتاج التخلف في دائرة مفرغة,أردت كسرها لكنهم مسكوا لك الطبلة والطار والدف والمزمار وعلي طريقة الأساليب المنحطة عزفوا كشرشوحات الحواري"التغريب-الهجوم علي الإسلام-الانسلاخ من الهوية-الهجوم علي الأزهر-"وكل هذا الهراء الذي لا يجيدون غيره وأحقر منه.
دونت كتابك يا سيدي عقب معاهدة 1936,التي أنهت بشكل رسمي 54عاماً من الاحتلال البريطاني واعترفت لمصر باستقلالها,لكن ويا ويلي من لكن كل ما يجئ بعدها يجب ما قبلها,كان استقلالاً منقوصاً وسيادة مقيدة حيث اشترطت بريطانيا شروطاً مجحفة,فرفض الشعب المعاهدة واحتفل يوم ألغاها النحاس عام 1951قائلاً "من أجل مصر قدمت معاهدة 1936ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها"وتلك العبارة كاشفة عن كمية الجدل والاعتراضات التي صاحبت تلك المعاهدة,لكنها بلا شك كانت نقطة حاسمة في تاريخ مصر التي انفصلت عن التاج البريطاني,وأصبحت تسعي لتكتشف ذاتها من جديد,شمرت عن ساعد الجد وبدأت العمل لبناء مستقبل الثقافة في مصر,وصدرت كتابك بقول رفيقك في ظلام البصر ونور العقل أبو العلاء المعري:
خذي رأيي وحسبك ذاك مني
علي ما فيه من عوج وأمت
وماذا يبتغي الجلساء عندي
أرادوا منطقي وأردت صمتي
ويوجد بيننا أم قصي
أقاموا سمتهم وأممت سمتي
استمع لندائي من أسفل سافلين فأنا ليس دراية بالنقد ولا عندي خلفية أدبية تؤهلني للحكم ,لكني أفكر وأنت تحب المتفكرين وأدرس معك وعلي يديك كما كنت أفعل عندما كان يطرح يوسف زيدان أسئلته الأسبوعية,كان توقفها أكبر خسارة منيت بها في حياتي العقلية,وأنا رجل يعمل بالتجارة وذقت كثيراً مرارة الخسارة,بعدما حصلت علي شهادة في الإعلام وفنون الإتصال-شهادة زور لا أعترف بها ولا بسواها ككل الشهادات في هذا المجتمع-يمكنك القول أني اشتريتها من سوق الاستثمار في مستقبل الأمة وطموحات الشباب في مكان لا يهتم سوي بالمال,ادفع ادفع ولن تحصل علي شئ علي الإطلاق,وفيما يسمي الجامعات الحكومية لن تحصل علي شئ أيضاً لكنك معفي من الدفع,أقول لك ذلك لتحتمل آرائي السخيفة فأنا أدري الناس بها...وانتظر مني كل أسبوع خطاب جديد حتي ننهي درسنا حول مستقبل الثقافة في مصر.