السبت، 25 نوفمبر 2023

محاولة فنان

 

 

محاولة فنان

وقف الفنان فوق حطام أحد بيوت غزة ونادي" تعالوا يا أطفال... تعالوا لنمسح دموعنا بالبسمات" تحلق حوله سلمي: ضاعت عينها اليمني، نائل: أصبح بلا ذراع، وخالد: احتبس صوته في جوف الصمت بعدما فقد عائلته، تواري الفنان خلف سور انتصب متحدياً جبروت آلات القتل، دفن وجه بين كفيه وتبللت أصابعه بدموع الألم والمرار، نظر للسور مستلهماً صلابته، وابتلع حزنه قبل أن يبتلعه هو، وخرج من جديد بالقبعة والشارب والعصا، يتمايل كغصن الزيتون، ويهتز كشجرة البرتقال، لمعت ابتسامة في عين سلمي الوحيدة، وبقيت الثانية في ظلامها الأبدي غائبة عن العالم وعنها العالم غائب، ونائل حرك ذراعه وهو يقلد الفنان، وتمني لو استطاع تحريك الآخر، أما خالد-أكبرهم سناً- تذكر مشهداً رآه في أحد الأفلام لرجل يرتدي مثل هذا اللباس يهرب من شرطي قاس، وخرج صوته أخيراً بعد شهر من السكوت"شارلي" وسرق الأربعة ثوان نجت من قصف الأرض والسماء، كأن سياط الجحيم لم تجلد غزة، ولا زارها إبليس علي ظهر دبابة ولا هبطت شياطين جهنم علي شكل صواريخ، وحين رفع قبعته محيياً، انطلقت رصاصة اخترقت دماغه وتفرق الأطفال مذعورين يطاردهم الرصاص وثيابهم مصبوغة بدماء الفنان.

الجمعة، 10 نوفمبر 2023

محطات علي درب العميد

 

محطات علي درب العميد

 

 

بلغ الأجل المحتوم صبي عزبة الكيلو بمركز مغاغة محافظة المنيا، في ٢٨أكتوبر ١٩٧٣،بعد أن بعدت به السنون عن قريته الوادعة علي ضفاف النيل و حضن أمه الحنون، وبيته الآمن المحاط بسياج من قصب يتعدي قامته الصغيرة، يتحسسه ولا يراه لأنه ضرير عرف الدنيا بالسماع وعرفها لنا بالبصيرة والإحساس والفكر، رحل عن الدنيا التي اصطدم بها واصطدمت به  وهو في الثالثة والثمانين بعد أن ترك بصمة مضيئة لا تمحي من وجدان الناطقين بالعربية، ومخلدة في قلب كل من قرأوا مؤلفاته التي شكلت عموداً رئيسياً في بناء ثقافتنا المعاصرة... حينها نعاه نزار قباني بقصيدة صادقة عبر بها عن شعوره نحو الفقيد الجليل، وكم كلف الصبي بالقصائد والشعر والأنغام منذ مطلع حياته حتي خاتمتها، يقول نزار في بدء القصيدة يرثيه بقلب يتفطر حزناً وإجلالاً:

ضوء عينيك أم هما نجمتان

كلهم يري... وأنت تراني

ضوء عينيك أم حوار المرايا

أم هما طائران يحترقان

ارم نظارتيك ما أنت أعمي

إنما نحن جوقة العميان

مات طه حسين بعد أن غير المفاهيم، وأثار عواصف جدل وخلاف ماتزال مشتعلة إلي الآن، والمحقق أنها ستظل مشتعلة حتي ينتصر العلم والجهل والمنطق علي الجهل والتدليس والسطحية، حينها فقط سينتصر فكر عميد الأدب العربي علي الظلام والظلاميين بشتي ألوانهم، وسنقتبس من تلك العينين اللتين اختبئتا خلف نظارة سوداء ذلك الضوء الشبيه حقاً بضوء النجوم العالية البعيدة في الليالي الحالكة، ضوء نحن في اشد الحاجة إليه كي نتوقف عن التخبط والتعثر في الطرقات المعتمة القذرة التي يتوه فيها العقل العربي، ضوء تحتاجه تلك المنطقة المنكوبة التي تخلفت عن قطار الحضارة الذي يسير اليوم بالطاقة النووية والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا وسباق الفضاء، بالآداب الإنسانية من قصة ومسرح ورواية، بالفنون السينمائية والتشكيلية فتتباهي الأمم بإنجازاتها العلمية والثقافية والأدبية، ونحن كلما تعلمنا ننسي، فحق لنجيب محفوظ أن نردد معه "آفة حارتنا النسيان" وكلما نهضنا سقطنا، فمازلنا نتهجي الحروف الأولي من أساسيات التقدم، ولقد حث العميد منذ أكثر من قرن أن تلحق مصر ومعها بقية العرب بقطار الحضارة حتي لا يكون للأجنبي فضل علينا، لكنه تعرض لما يتعرض له المصلحون من هدم وتشويه ممن تكمن مصالحهم في استثمار تخلف الشعوب وجهلها، وتقييدها للأبد في خانة المستهلك واعتبارها مجرد سوق لتصريف السلع بأشكالها المختلفة، من بضائع تجارية لأفكار فاسدة لاتجاهات متخلفة، يسوءهم أن يستنير الناس ويتعلمون، لأن في ذلك نهايتهم وخرابهم، فعملوا بكل قوة علي هدم مشروع طه حسين بمعاول الأكاذيب والإشاعات والتسفيه والاتهامات الباطلة التي لاحقته حياً وميتاً، ولم تنل من قامته عند العارفين المدركين لقيمته، لكنها عكست للأسف صورة مشوهة للرجل وأفكاره في أذهان العامة، ومن يحشون رؤوسهم بالكلام السائر في الهواء ويخوضون في أي موضوع دون قراءة أو دراية، خاصة في مجتمع لم يعد فيه تقريباً أي تعليم من أي نوع- وهو أكثر ما خشي منه طه حسين وأشفق علي الأمة منه-مجرد شهادات مطبوعة وألقاب طويلة أخذت بكل الطرق الممكنة، عدا الطريق الواحد الصحيح، هو التعليم الجاد الذي يمس العقل بنوره فيتألق في رأس صاحبه، ويهدي النفس بإشراقه فيعمل الإنسان بجد فيفيد نفسه ويفيد مجتمعه وبلده، ويرفع المواطن المصري والعربي رأسه أمام الأجانب، وينافسهم نداً بند كما تمني طه حسين، ومن قرأ رواية صاحب الظل الطويل يعرف ماهية التعليم الحق وكيف صنع من جودي أبوت اليتيمة الساذجة عديمة الثقافة فتاة ناضجة العقل والتفكير، تغيرت نظرتها للحياة وأصبحت مستعدة لمواجهة العالم المضطرب من حولها.

إن ذلك المشروع أشبه بدرب طويل وشاق، قطعه طه حسين عبر عقود طويلة تراكمت فيها مؤلفاته  التي يعرض فيها  رؤيته العامة للثقافة والتاريخ والتعليم والتراث، تلك المؤلفات هي المحطات التي سنقف عندها، مع أحد أهم مثقفي مصر في القرن العشرين، نسمع منه ونستمتع معه، أجل إن قراءة طه حسين متعة وأي متعة، أحياناً أرثي لمن حرم منها، إنه يؤثر في العقل والحواس جميعاً، فيجعل القارئ مشدوداً إليه منجذباً بكليته خاصة لو تمثل صوته العميق وهو يملأ فمه بحروف العربية فيكسيها فخامة ويعطي لكل كلمة حقها فتخرج فصيحة كما تكون الفصاحة، فيؤدي القارئ أثناء قراءته عملاً يحترم فيه ضميره وعقله وكيانه كإنسان مفكر، إنها متعة كبري ولذة فائقة، أن نري كيف ينتقي الكلمات ويشكل الجمل ويصيغ الفقرات، فيصنع منها المعاني الواضحة السامية، فترفع معها الذوق وتنبو به عن السطحية والابتذال، وتجعلنا علي تقدير كامل لعبقرية تلك اللغة العذبة القادرة علي التعبير والانقياد لشخص متعلم يعرف أسرارها ويستجلي معانيها فيفيد منها ويستفيد بها غيره... "الفائدة" ربما هو عنوان مشروع طه حسين ودربه الذي حارب ليشقه، ليفيد بني وطنه ويؤدي دوره كمثقف عضوي صاحب رسالة، مدركاً أن قيمة المرء الحقيقية لا تكمن في مركزه ولا ماله ولا نسبه ولا سلامة أعضاؤه، بل في قدرته علي العطاء ومدي استمراره فيه، وقد أعطي العميد الكثير، والكثير جداً ولا يمكن حصره في هذه المساحة، لكننا مع ذلك سنتعلق بشجرة طه حسين السامقة المثمرة، وسننال منها ثمرات حلوة تنعش العقل والروح، لعلها تحمسنا لزيارات عديدة لها بعد ذلك فهي موجودة تنتظر وصدقني لو زرتها مرة لن تسلو عنها وستعود لظلالها مرات ومرات بصحبة مؤلفاته العديدة المتشعبة في شتي المجالات.

في المحطة الأولي تقترب منا لافتتها ويمكننا قرائتها بوضوح" النور القادم من الجانب الآخر" نجد فيها طه حسين ينتظرنا حاملاً في يده كتبه التي تحمل عناوين، قادة الفكر، وترجماته لكتاب نظام الأثينيين لأرسطو، و لمسرحيات سوفوكليس، ورواية القدر لفولتير، والباب الضيق، وأوديب و ثيسيوس من أبطال الأساطير الأغريقية لأندريه جيد، والواجب لجول سيمون وهو أول كتاب نشره طه حسين عام ١٩١٤وشارك في ترجمته محمد رمضان وعقب عليه مصطفي عبد الرازق، وروح التربية لجوستاف لوبون، ورواية أندروماك لراسين، وعرضه للعديد من الأعمال الأدبية الأجنبية، في كتاب من أدب التمثيل الغربي، وقصص تمثيلية لجماعة من أشهر كتاب فرنسا وقدمه لزوجته بإهداء رقيق من قلب امتلأ بالحب والامتنان" إلي زوجتي التي جعل الله لي منها نوراً بعد ظلمة، وأنساً بعد وحشة، ونعمة بعد بؤس، أرفع هذا الكتاب" فلنحمل عنه كتاباُ  -كما سنفعل عند كل محطة نلقاه فيها-وننظر في صفحاته ولنفكر معه، ولنخطئ ونصيب حتي نتعلم ونعرف، فطريق المعرفة شاق ومؤلم وملئ بالعثرات وإن إجتيازه لبطولة حقيقية،  فذلك مما يسره أشد السرور ويرضيه أتم الرضا... إنه طه المغرم بتراث اليونان وأدب اليونان، وتراث أوروبا وأدب أوروبا الحافلة بالأفكار الجديدة، والاتجاهات المستحدثة التي صاغت حياة مواطنيها اليوم، وكفلت لهم التقدم علي بقية الأمم، لقد تعلم في جامعة السوربون في فرنسا، ولو لم تتهيأ له تلك الفرصة ما كان الرجل الذي نعرفه ونفتتن به، ولو خالفناه في بعض ما ذهب إليه حباً في الحقيقة وإيثاراً للحق الذي يتخطي رقاب الجميع، وهو بعض ما تعلمناه منه، يصف علاقة فرنسا بالثقافة اليونانية، في مقال" الأدب العربي بين أمسه وغده" المنشور في كتابه" ألوان" فيقول" فقد عمر الأدب اليوناني طوالاً ثم ألقي بينه وبين الناس ستاراً، فلما استأنفت الأمة اليونانية الحديثة حياتها المعاصرة، أنشأت لنفسها أدباً مهما يكن الصلة بينه وبين الأدب القديم فهو ليس  جزءاً منه ولا استمراراً له، فالأدب اليوناني القديم إذن حي بنفسه، أريد أنه لا يستمد حياته من أمة حية، تنميه وتقويه وتضيف إليه، وإنما يستمد حياته من هذه الشخصية القوية التي وهبها له اليونان القدماء. فحين نقرأ أثار هوميروس أو بندار لا نفكر في الأمة المعاصرة ولا نصل هذه الآثار القديمة الخالدة بما تنتجه من شعر ونثر، وإنما نقرأ هذه الآثار وغيرها ونفكر في الأمة اليونانية القديمة التي أنتجتها، ونوشك أن نعتقد أن الصلة بيننا وبين هذا الأدب القديم والأجيال التي أبدعته ليست أضعف من الصلة بين الأمة اليونانية المعاصرة وبين ذلك الأدب وتلك الأجيال، وربما كان من المحقق أن بعض البيئات الأدبية والفنية في غرب أوروبا وفي فرنسا خاصة أشد اتصالاً بالأمة اليونانية القديمة وتراثها الأدبي والفني والفلسفي من الأمة اليونانية المعاصرة نفسها. فلست أعرف مثلاً أن الأمة اليونانية الحديثة قد أهدت إلي العالم الحديث كراسين  أو كاتباُ كجيرودو أو شاعراً كاتباً كبول فاليري. وكل هؤلاء وغيرهم من أدباء القرن الحديث يعيشون مع الأمة اليونانية القديمة ويذوقون أدبها وفنها وفلسفتها، ويحييون هذا الأدب والفن علي نحو لم تصل إليه الأمة اليونانية الحديثة بعد. ومثل هذا يمكن أن يقال بالقياس إلي الأدب اللاتيني".

لقد تشرب طه حسين بفعل اتصاله بأوروبا ودراسته في واحدة من ألمع جامعاتها في عصره، حب الثقافة اليونانية واللاتينية، وأراد أن يتاح تعلمهما للطلبة في مصر، لأنهما أساس للثقافة الحديثة ولا يمكن فهم حاضرنا دون فهم ماضينا، فالشاشة التي تقرأ عليها الآن هذه الكلمات لم تخترع من الهواء، والتكنولوجيا والنظم السياسية والحركات الإجتماعية لم تظهر بين يوم وليلة، بل ولدت في مخاض طويل استمر منذ فجر الإنسانية، والتراث اليوناني واللاتيني مصدر رئيسي لتاريخ مصر القديمة فقد دونت التواريخ الهامة لحضارة مصر القديمة بأقلام يونانية  ورومانية مثل ما سجله هيرودوت و مانيتون وبلوتارك وسترابون، والحضارة العربية قامت علي إحياء التراث اليونان والرومان وفلسفتهم، فحضارتنا متجذرة في أرض اليونان وروما، ناهيك علي إن مصر كانت في الأساس مستعمر يونانية ثم رومانية لقرون عدة، ومازالت الأرض المصرية تخرج لنا كنوزاً ومخطوطات تلك الحضارتين، وقد ساهمتا في تشكيل العقل المصري والعربي، وبمعرفتنا لتلك الثقافة إنما نعرف أنفسنا قبل كل شئ، وهو ما فطن له طه حسين فبدأ كتابة سلسلة قادة الفكر الصادرة عام ١٩٢٥،وذكر فيها قادة الفكر كما يراهم فإذا هم  خمس يونانيين وروماني واحد، يستهلهم بشاعر الخلود هوميروس، صاحب ملحمتي الإلياذة والأوديسة، ويطلب من قارئه أن" يفكر" ومع التفكير يصل إلي استنتاج أن الشعر هو أساس الحضارة، وأن" الشعراء هم قادة الفكر" ويقارب بين الأمتين العربية واليونانية، فهوميروس هو من مهد لظهر  سقراط وأرسطو وأسخيلوس وسوفوكليس وفيدياس وبيركليس، وامرؤ القيس والنابغة والأعشي وزهير" وغيرهم من هؤلاء الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم" هم مهدوا الطريق لظهور العلماء والعباقرة في الحضارة الإسلامية، ثم يعرض لما يعرف بالمشكلة الهوميرية، الخاصة بحقيقة وجود هوميروس من عدمه ويوضحها بعبارات دقيقة، ويضرب لنا مثلاً من البيئة المصرية ليقرب للأذهان دور هوميروس المحوري عند اليونان" تصور الشعراء العاميين الذين يقصون علي الناس في قري مصر أخبار الهلالية والزناتية يلحنونها علي الربابة، ولكن لا تتصور الناس الذين يستمعون لهؤلاء الشعراء متحضرين تحضر المصريين يلتمسون آدابهم وأخلاقهم وفلسفتهم في الدين والعلم والفلسفة والسياسة، وإنما تصورهم قوماُ ليس لهم دين منظم ولا أدب مدون ولا فلسفة ولا سياسة وإنما الشعراء يحملون إليهم من هذا كل شئ، تصور هذا تتمثل تأثير "الإلياذة" و"الأودسا" في الحياة اليونانية المعاصرة، ثم يذكر أهمية الملحمتين في الثقافة القديمة والمعاصرة علي السواء، وأنه لا توجد مدرسة في الغرب تحترم نفسها لا يدرس فيها الطلبة الملحمتين بلغتها الأصلية أو بإحدي اللغات العديدة المترجمة، ويختم حديثه بعبارات ترسم الإبتسامة وتحفز الهمة " ولكنك ستسألني ما الإلياذة وما الأودسا؟ ولست أجيبك علي هذا السؤال وإنما أريدك أن تجيب نفسك عليه، أريد أن تقرأ الإلياذة والأودسا لتعرف ما هما، وكل ما أطمح إليه في هذه الفصول هو أن أشوقك إلي أن تقرأ شيئاً قليلاً أو كثيراً من آثار المفكرين الذين أتخذهم موضوعاً لهذه الأحاديث".

يستكمل العميد تتبع صعود الأمة اليونانية في مراتب التفكير وتقدمها العقلي مع القائد الثاني، وينسب ذلك إلي" التطور" وكما يأخذ التطور الدارويني قروناُ طوالاً، لا يختلف التطور العقلي للحضارات عنه في شئ، فبعد سلطان الشعراء علي الروح والوجدان ظهر سلطان الفلاسفة علي الفكر، بعدما تيقظ العقل، وبدأ الإنسان يسيطر علي قوي الطبيعة ويستغلها وكان قبل ذلك يتعبدها خوفاً من قوتها الرهيبة وغموضها بالنسبة له، ويصور الفرق بين مفهومي الشعر والفلسفة" فالفرق بين الشعر والفلسفة عظيم. ذلك أن الفلسفة لا تعتمد علي الخيال ولا تعتز به و إنما هي مظهر الحياة العقلية القوية، هي وسيلة الإنسان إلي أن يتصور الحقائق كما هي ويحكم عليها الأحكام التي تلائم طبعها أو قل هي الوسيلة إلي أن يتصور الإنسان الحقائق ويحكم عليها بعقله ولا بحسه وشعوره. تعتمد الفلسفة علي النقد ويعتمد الشعر علي التصديق" وذلك الإنتقال يشرحه العميد آخذاً بالأسباب السياسية والإقتصادية والإجتماعية، مثلما سيشرح الأحداث المصيرية المعروفة بالفتنة الكبري زمن عثمان بن عفان وعلي ابن أبي طالب بعد ذلك بسنوات.

نصل إلي نقطة نختلف فيها بشدة معه ونعتقد أن العميد جانبه فيها الصواب إلي حد بعيد، وهي تصويره العبقرية اليونانية خالصة من التأثيرات الشرقية، بل إنه ينكرها بلهجة قاطعة، قبل أن يقول ذلك يعرف أن هناك من لا يرضي عن ذلك الرأي، لكنه يمضي بعزم وتأكيد لأن ذلك هو الحق الواجب اتباعه. الدلائل علي تلمذة اليونان لحضارات الشرق ومصر القديمة تحديداً ليست خافية، بل اليونانيين أنفسهم أول من صرحوا بذلك، وتكفي عبارة أفلاطون" ما من علم لدينا إلا وقد أخذناه من مصر" وقد زار أفلاطون نفسه مصر وتلقي علومه فيها، ولم يكن الفيلسوف اليوناني الزائر الوحيد لمصر القديمة مبتغياً المعرفة والتعلم، سبقه طاليس الذي يعرفه البعض بأبو الفلسفة، وفيثاغورس قضي في بلادنا عشرين عاماً يتعلم فيها ويدرس بين كهنتها، ويقال أنه خرج منها بنظريته الشهيرة، ونجد الكاتب الأمريكي جورج. جي. إم جيمس يعترض علي مصطلح" الفلسفة اليونانية" لأنه يري أن أصحابها الحقيقيون هم الكهنة المنبثين بين جدران المعابد المصرية، ويذكر ذلك في كتابه الذي يغني عنوانه عن تفصيل فحواه" التراث المسروق... الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة" وعالم المصريات جيمس هنري بريستد يسمي كتابه الأشهر في مجاله" فجر الضمير" وما الضمير إلا نتاج حضارة وعلم وفن بلغ الذروة فمنح الكائن البشري معني الضمير وخلع عنه رداء الوحشية والهمجية الملتصق به منذ وجوده علي الأرض، ولا يوجد مكان أشرق فجر الضمير فيه قبل مصر، التي عاش فيها الحكيم والمعلم الأول إيمحوتب العبقري الأول بين بني البشر، والرجل الذي من طينته خلق بقية الأفذاذ في الأمم المختلفة، وأغلب الظن لو كان علم المصريات بلغ ما وصل إليه من نتائج مؤكدة في وقت تأليف هذا الكتاب، لكان له رأياً يختلف أشد الاختلاف ولم يكن ليقول" نعتقد ونظن أن غيرنا من مؤرخي الفلسفة المحدثين يعتقد أيضاً أنه لم يكن للشرق في تكوين الفلسفة اليونانية والعقل اليوناني والسياسة اليونانية تأثير يذكر. إنما كان تأثير الشرق في اليونان تأثيراً عملياً مادياً لا غير...."

عقب طرحه ما وصل إليه، يصور حياة سقراط معتبراً إياه ابناً لعصر الشك الذي اجتاح اليونان في العقود التي سبقت ميلاده مع ظهور السوفسطائيين، وعلي هدي قاعدة" اعرف نفسك" يذكر أن" الفلسفة يجب أن تقوم منذ اليوم علي معرفة النفس والعلم بها أن الفلسفة يجب أن تكون إنسانية أي أن الفلسفة يجب أن تقوم قبل كل شئ علي الأخلاق"، لقد أعلن سقراط أنه لا يعرف شيئاً علي الإطلاق وهكذا أصبح أحكم الحكماء!

يشبه سقراط بالفيلسوف الفرنسي ديكارت المولود بعده بعشرين قرناُ، فقد كان علي الأول والثاني أن يثبت نفسه اولاً ليثبت حقائق عالمنا العجيب، ويبين أثر الفلسفة السقراطية وما زرعته في وجدان العالم القديم، بتساؤلاته التي لا تنتهي حول كل شئ، فنتج عنها إعدامه لتجرؤه علي آلهة أثينا، وخروجه عن قوانين الدولة، لكن بعد أن مهد لظهور اسمان من أعلام الإنسانية، هما أفلاطون وأرسطو.

مع كل شخصية يطبق العميد منهجه كما وضعه في مقدمة كتابه" هذه الفصول مزاج من البحث الفردي والإجتماعي سأجتهد ما استطعت في أن أبين فيها شخصية الفلاسفة والمفكرين الذين سأعرض لهم ولكن علي أن تكون هذه الشخصية متصلة بالبيئة التي نشأت فيها متأثرة بها ومؤثر فيها أيضاً" وبهذا المنهج يتجول بنا في مدن اليونان ويرسم لوحة للزمن اليوناني المضطرم بعواصف الفكر والحروب والسياسة، ويلم بجوانب فلسفة أفلاطون المتشعبة العميقة، ووجه الاتفاق والاختلاف مع سقراط، ولا يخفي علي القارئ أن شرحه لتلك الفلسفة يشوبه النقص والقصور، فأفلاطون بكل أفكاره وحواراته يحتاج لكتاب ضخم" لست أنا الذي أستطيع وضعه" ومع ذلك يوجز فلسفة أفلاطون قدر الإمكان، الباقية في المذاهب الفلسفية والدينية، يلجأ إليها المتصوفون والمفكرون والمتفلسفون، كلهم يغترف من بحرها الواسع ما يعينه علي طريقه الذي اتخذه لنفسه، وعرف في التراث الإسلامي بأفلاطون الإلهي، لقربه من الفلسفة الإسلامية، كما هو في نفس الوقت قريب من الفلسفة المسيحية، لأن فلسفته قائمة علي أم الإله هو أساس كل شئ ومبتغاه.

كحبات اللؤلؤ يلضم سقراط مع تلميذه أفلاطون، حتي ينتهي بتلميذ تلميذه أرسطو، الذي" يؤثره وكان يسميه القراء وكان يسميه العقل أيضاُ" وأرسطو هو الأستاذ والمربي لأحد أشهى القادة إن لم يكن أشهرهم علي الإطلاق، فقد كان معلماً للإسكندر الأكبر صاحب المعارك التي غيرت العالم للأبد، يسرد المتغيرات في عهد أرسطو ودوره في تاريخ الفلسفة، فهو المعلم الأول الذي سيطر بمؤلفاته الأشبه بدائرة المعارف علي العقل الإنساني حتي عصر التنوير الأوروبي، وآثر البحث المباشر علي أسلوب الحوار السقراطي الأفلاطوني" الذي يعنيك من فلسفة أرسطاطاليس هو أن تعلم أنه الفيلسوف الوحيد الذي حاول أن ينظم العلم الإنساني من جهة ويستقصي قوانين التفكير والتعبير والسيرة العامة والخاصة من جهة أخري" لقد تبين في عصر النهضة الأوروبية وقبلها في عصر الحضارة الإسلامية أن العديد من آراء أرسطو خاطئة، لكن يبقي استكشافه لقوانين القياس والاستقراء إنجازاً يبقي ببقاء الفكر البشري، وقل ذلك في توضيحه لقوانين الدراما المعمول بها حتي الآن في المسرح والسينما والتلفزيون، وستظل آرائه السياسية في طبيعة الحكومة المناسبة للشعب بأنها هي تلائم روح الشعب بغض النظر عن المسميات، والخلقية في التوسط والبعد عن الإفراط والتفريط باقية مع كل جيل، إنه حقاً المعلم الأول كما سماه العرب لمساهمته الفعالة في تكوين العقل العربي كما كون بعد ذلك العقل الأوروبي" فهذا من الاسم من الأسماء الخالدة التي تكون أشد من الدهر قدرة علي البقاء إن صح هذا التعبير ومن أراد أن يبحث عن قادة الفكر فلن يستطيع أن يوفق إلي جادة البحث وإحسانه إلا إذا عني بأرسطاطاليس وفلسفته وأنزلهما منزلتهما الحقيقية وهي المنزلة الأولي".

تنتقل قيادة الفكر من الشعر مع هوميروس للفلسفة مع سقراط، والآن تقع في يد السياسة والحرب مع الإسكندر الأكبر، رأي طه حسين فيه قائداُ فكرياُ خضع العالم لسطوته" وأتاح للآداب اليونانية والفلسفة اليونانية أن يتغلغلا في أعماق الشرق ويؤثرا في نفوس الشرقيين ويصبغاها هذه الصبغة اليونانية التي كانت قد أعدت من قبل لتكون صبغة عامة خالدة للعقل الإنساني كله" وعلي نفس المنوال يري يوليوس قيصر كمتمم لسيرة وأهداف الإسكندر، وفي عصر لاحق تسقط الفلسفة والسياسة معاً، ويبدأ سلطان الدين يغزو النفوس، فإذا كان الغرب غزا الشرق بفلسفته مرة وقهره بسلاحه مرات ومرات منذ حروب طروادة، فالشرق وعن طريق المسيحية يتغلغل في الغرب" وإذا المسيحية هي الديانة الرسمية للإمبراطورية  كله. وإذا المسيحية تضطهد الوثنية بعد أن كانت الوثنية تضطهدها. وإذا الشرق قد سيطر علي الغرب بأنظمته السياسية وميوله الدينية" ثم جاء الإسلام فاقتنص من الإمبراطورية المسيحية الشرق وترك لها الغرب، والديانتان لم تستغنيا عن فلسفة وتشريع اليونان وروما، حتي عادا من جديد في القرن الخامس والسادس عشر يخلبان ألباب الأدباء والفنانين والعلماء في أوروبا، وفي العصر الحديث اجتمع الشعر والفلسفة والسياسة والدين مع العلم وتشعبت القيادات الفكرية لأنواع متعددة لم يعرفها العالم القديم.

علي تلك الصورة يري طه حسين تاريخ العقل الإنساني وتطوره منذ النشأة الأولي، ووجد ضالته في البحث بحكم ثقافته التي شب عليها في فرنسا، هناك فوق أرض الجانب الآخر البعيد.

علي مدار حياته وعبر الصحف والمجلات التي كان يلتقي فيها مع قراؤه، ليمتعهم بمقالاته و بأحاديثه الصافية الرائقة، لم يتوقف عن جذب انتباههم للحضارة الغربية الحديثة وأبرز شخصياتها، وكتاب" ألوان" ممتلئ به عدد من تلك المقالات، فنجد حديثاً عن بول فاليري الشاعر والكاتب الفرنسي صاحب" المقبرة البحرية" وآخر بعنوان" صورة المرأة في قصص فولتير" ويتحدث "في الحب" عن اسمين من ألمع الأسماء في الثقافتين العربية والفرنسية هما ابن حزم وستندال، وكتابتهما عن الحب والغرام، وعن" الساحرة المسحورة" مدموازيل دي لسبيناس وحياتها الدرامية، و"الأمل اليائس" لمدام دي ديفانت، و"قصة الفيلسوف العاشق" أوجست كونت.

 

المحطة الثانية" شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء" وفيها نري طه حسين وأبا العلاء المعري يجلسان يتحدثان، وكل منهما لا يري صاحبه، فهما مشتركان في ابتلائهما بالعمي منذ الصغر، لكنهما أشد الناس اطلاعاً علي دخيلة الآخر ونفسه وتقلبات حياته، لقد فتح كلاً منهما قلبه للآخر، ولولا ذلك ما استطاع العميد أن يفصل حياته وأفكاره وفلسفته في تلك الكتب التي يشير إليها بين يده وهو يتحدث مع حكيم المعرة، وعناوينها" تجديد ذكري أبي العلاء"، "مع أبي العلاء في سجنه"، "صوت أبي العلاء"، "شرح لزوم ما لا يلزم لأبي العلاء المعري"، تلك الكتب محطة هامة بل إن شخصية المعري هي الشخصية المحورية في مشروع العميد كله، فكتب عنه مرات ومرات واستدعاه من ذاكرته ليستشهد به في موضوعات شتي، يبحث في أشعاره وحياته عن أقوال ومواقف يدرجها تأكيداً لما يقول ويسجل، كأنه يطمئن برفيقه وصاحبه، لقد كان المعري رجلاً غامضاً يسكن كتب التاريخ والتراث، يختلف المستشرقون حوله، ولا يجد عناية من العرب المحدثين، حتي أظهر طه حسين للعالم المعري، وفتح بطن الكتب والمدونات الكبري ليستخرج منها الرجل اللغز، وشخصياً تولهت بالمعري وأنا في مقتبل العشرينيات، حين قرأت ما كتبه عنه العميد، والأديب الفنان نجيب سرور في كتابه" تحت عباءة أبي العلاء"، وقتها أدركت أنني أمام شاعر سيشغلني العمر كله ما شاء لي الله البقاء علي ظهر الأرض، شاعر غامض وملئ بالرموز واللغة الملتوية، وله جرأة علي نقد الحياة بكل ما فيها، يذم فلا يعبأ أين يقع ذمه، ويعلن تشاؤمه فيثير كوامن الأحزان ويهيج خلايا التفكير في عقلي، وأعتقد أن جزءاً كبيراً من ركوني للحزن والتأمل في الحياة يرجع لتأثري بحياة وأدب المعري وآراؤه في الزمن والناس، لقد سبق شوبنهاور في فلسفة التشاؤم، وعاني من العزلة والنبذ باختياره، ولم يهتم بالناس فاهتم به كل الناس، وسعوا لدراسته وقراءة شعره ونثره... المعري... إنني لو تركت لنفسي حرية الاستمرار، لطال مكوثنا في تلك المحطة للأبد، فلنعد لهذين الرجلين اللذين ما زالا يتناجيان في تفاهم، ولنأخذ كتاب "تجديد ذكري أبي العلاء" الذي حصل به العميد علي درجة الدكتوراة في ١٥مايو ١٩١٤، وهو في الخامسة والعشرين، كأول رسالة في رحاب الجامعة المصرية حين كانت تخرج الرسائل العلمية القيمة، ويدرس فيها الطلبة ما يمدهم بالقدرة علي التفكير والإبداع، قبل أن تتحول لما هي عليه الآن، لسبب أساسي أنها أغفلت أفكار ومبادئ طه حسين، الرجل الذي أراد لها أن تكون جامعة بحق ومركز استنارة في العالم العربي لا مجرد مركز لطبع الشهادات، بل للأسف هناك من يزدريه ويسخر منه!!!

في مقدمة الطبعة الثانية عام ١٩٢٢يظهر استياء العميد ممن يفتون ويقولون بغير علم وطريقة استقبالهم لهذا الكتاب" و مازلت أنتظر نقد الناقد المخلص لا يدعوه إلي نقده إلا حب العلم والرغبة في الإصلاح. فأما هذا الذي يبغضك ويحقد عليك فيتخذ النقد سبيلاً إلي إيذائك والنيل منك، فخليق بك أن تتركه وشأنه، وأن تنصرف عنه إلي ما ينفع ويفيد"، وانظر إليه قبل ما يقرب من قرن كيف جعله التعليم الحقيقي، واعياً بماهية النقد، مدركاً للأدوات والمعارف الواجب توافرها عند الناقد الأدبي، وقارن ذلك بما يكتبه أدعياء النقد فلا تجد فيه فائدة ولا لذة" أنشئ قسم الآداب في الجامعة، ودعي إليها جلة الأساتذة المستشرقين في إيطاليا وفرنسا وألمانيا، وانتسبت لهذا القسم، وأخذت أسمع الدروس فيه. فإذا ألوان من الدروس لم أعرفها من قبل. وإذا فنون من النقد لم يكن لي بها عهد. وإذا دارس الأدب لنفسه ينبغي أن يدرس جيده ورديئه، وأن يتقن غثه وسمينه علي السواء من غير تفاوت ولا تفريق. وإذا الباحث في تاريخ الآداب ليس عليه أن يتقن علوم اللغة وآدابها فحسب، بل لابد له أن يلم إلماماً بعلوم الفلسفة والدين، ولابد له أن يدرس التاريخ وتقويم البلدان درساً مفصلاً. وإذا الباحث عن تاريخ الآداب لا يكفيه من درس اللغة حسن البحث عما في القاموس واللسان وما في المخصص والمحكم، وما في التكملة والعباب. بل لابد له مع ذلك أن يدرس أصول اللغة القديمة، ومصادرها الأولي. وإذا الباحث عن تاريخ الآداب لابد له أن يدرس علم النفس للأفراد والجماعات إذا أراد أن يتقن الفهم لما ترك الكاتب والشاعر من الآثار. وإذا اللغة العربية وحدها لا تكفي لمن أراد أن يكون أديباً أو مؤرخاً للآداب حقاً، إذ لابد له من درس الآداب الحديثة في أوروبا، ودرس مناهج البحث عند الفرنج، بله ما كتب الأساتذة الأوروبيون في لغاتهم المختلفة عما للعرب من أدب وفلسفة ومن حضارة ودين".

ويفصل الحوادث والخطوب في عصر أبي العلاء متنقلاً من الحروب للدسائس للمؤامرات المحاكة طمعاً في الملك والسلطة، منهج العميد المعتاد في دراسة الشخصية فهي ليست كياناً مقطوع الصلة بالعالم انبتت من فراغ، بل ثمرة لعصر وحياة وتركيبة اجتماعية أفرزتها علي منوال محدد، ويطيل في التفصيل شارحاً كل ما يتصل بهذا العصر ويبرر الأطالة بأن" هذه الحياة السياسية المملوءة بالفزع والهول، وبالاختلاف والاضطراب، وبالفساد والانتقاص، وبالكيد والخديعة، قد عملت من غير شك عملاً غير قليل، في تكوين الفلسفة العلائية، فلابد من فهمها إذا حاولنا أن نفهم أبا العلاء. ونحن إذا فهمنا هذه الحياة السياسية السيئة، وقرناها إلي غيرها من الأسباب التي اشتركت في تكوين هذا النسيج الفلسفي التي تمثله اللزوميات، لم يبق ما يحمل علي لوم أبي العلاء أو تأنيبه، فإن كل شئ حوله إنما كان يزهد العاقل في الحياة، ويرغبه عنها، ويملأ نفسه سوء ظن بها، وقبح رأي فيها" ويستكمل العميد استقصاء الحياة الإقتصادية التي كانت تبعاً للحياة السياسية غاية في القسوة والشظف، وأكمل دراسته بالحياة الدينية بعد أن توسعت المذاهب الدينية وتعقدت المفاهيم بعد أن كانت بسيطة في حياة النبي، واتخذت كأسلحة للصراع السلطوي وأثر ذلك علي الحياة الإجتماعية والخلقية، وفي نفس الوقت كانت الحياة العقلية في إزدهار فيفرد  فصولاً لعلوم وآداب عصر المعري" فإنا نعتقد إعتقاداً منطقياً تؤيده حقائق التاريخ، أن المسلمين لم يشهدوا عصراً زهت فيه حياتهم العقلية، وأتت أطيب الثمر وألذ الجني، كهذا العصر الذي نبحث عنه ونقول فيه".

يتماهي العميد إلي أقصي درجة مع المعري واصفاً حياة المكفوف، فلا تدري هل يصف حال المعري أم يصف حاله هو أم يصف حال العميان كلهم، بكلمات دقيقة تمس القلب وتجعلنا ننظر إلي الرجلين معاً نظرة ملؤها العطف والإكبار" والمكفوف إذا جالس المبصرين أعزل، وإن بزهم بأدبه وعلمه وفاقهم في ذكائه وفطنته، فقد يتندرون عليه بإشارات الأيدي، وغمز الألحاظ، وهز الرءوس وهو عن كل ذلك غافل محجوب، فإن نمت عليهم بذلك حركة ظاهرة أو صوت مسموع، فحجته عليهم منقطعة، وحجتهم عليه ناهضة. وليس له في ذلك إلا ألم يكتمه وحزن يخفيه، ثم هو إن اشتد ذكاؤه، وانفسح رجاؤه، كثرت حاجته إليهم، وكثرت نعمهم عليه، فهو عاجز عن تحصيل قوته إلا بمعونتهم، وهو عاجز عن شفاء نفسه من حيث العلم والمطالعة إلا بتفضلهم. وهو عاجز عن الكتابة والتحرير إلا إذا أعانوه وتطولوا عليه. وللمنن المتظاهرة والآلاء المتواترة في نفس العاجز الفطن أثر هو الشكر يشوبه الحزن. والثناء يمازجه الأسي. والحرمان أخف عليه من منة يعقبها مَنٌّ، ونافلة يشوبها استطالة. ولشعور الإنسان بعجزه وقع ليس احتماله ميسوراً، ولا الصبر عليه إلا متكلفاً، وليس يلقي المكفوف من رأفة الناس به، ورحمتهم له، وعطفهم عليه، إلا ما يذكي الألم في صدره، ويضاعف الحزن في قلبه، ثم هو لا يلقي من قسوتهم وشدتهم واستهانتهم وازدرائهم إلا ما يشعره بالذل والضعة، وينبهه إلي العجز والضعف. ومكان المكفوف في نفس زوجه وبنيه دون مكان المبصر. فإجلالهم إياه محدود، وطاعتهم له مقصورة علي ما ينتبه إليه، ثم هو بعد ذلك كله قد حرم التمتع بلذة يكبرها الناس، وجهله إياها يضاعف خطرها في نفسه. فإن تعاطي صناعة الشعر أو الوصف فإن هذا الحرمان قد استتبع ضعف خياله، وحال بينه وبين مجاراة الشعراء والواصفين فيما يتنافسون فيه، إلا أن يكون مقلداً أو محتذياً، ثم هو يسمع الناس يتحدثون عن بهجة الربيع، وجمال الربيع، وجمال الربي، وعن اتساق الأزهار، والتفاف الأشجار، وعن اكتساء الأنهار الجارية، والبحار الطامية ثياباً فضية أو عسجدية في الصباح والأصيل، وعن أولئك الحسان الفاتنات توردت خدودهن ولمعت ثغورهن اللؤلؤية بين شفاههن اللعس، والتأمت من وجوههن وشعورهن نضرة النهار وفحمة الليل، وعن السماء وأفلاكها، والنجوم وحركاتها، وعن السحاب المركوم يخفق فيه البرق، وعن حبات البرد تتساقط، وقطرات المطر تنثر، وعن ضوء القمر هلالاً أو بدراً، وعن الشفق أول الليل وآخره.

يسمع أحاديثهم عن هذا كله وما أبدعوا فيه من تشبيه لا يعقله ولا يفقه كنهه، فضلاً عن أن يجاريهم فيه أو يسبقهم إليه، ثم هو بعد ذلك قاعد إن نفر الناس لقتال أو حرب، قد يئس وطنه من نصره، وقنط من حفاظه فلم ينط به أملاً، ولن يعقد به رجاء كَلٌّ علي الناس في كل شئ، تكلة في حياته المادية والمعنوية، فاليأس أخلق به من الرجاء، والموت خير له من الحياة إلا أن تكون له نافلة من فضيلة الصبر وشدة الأيد.

فإذا أضيف إلي هذه الآلام فساد الأخلاق، و انحطاط النفوس، وازدراء المنكوبين وأصحاب الآفات حتي من الخاصة وأهل العلم، ثم اشتداد الفقر ونضوب موارد العيش، أنتجت هذه المصيبة من الآثار ما ستراه في حياة أبي العلاء. "

ما قاله طه حسين الشاب وقتئذ، يشعرنا بالألم لظروف حياته، فكيف كان يشعر هو وأبي العلاء؟! لقد وحد العمي بين طه حسين والمعري لا شك في ذلك، وجعله أكثر قدرة علي فهم مراميه، لأنه مر بما مر به يعرف كنه الظلام والعجز والحيرة والقهر، وفي" الأيام" يسرد بأسلوبه الشاعري المؤثر، أول مرة يدرك في طفولته أن أعمي، يعرف إخوته ما يجهل هو، وبستطيعون ما يعجز عنه، وتسمح لهم أمهم بما تحظره عليه، فشعر بالضعف وبأن غيره يتميز عليه، ومن حوادث حياته التي تلت  فهم نفسية المعري وسلوكياته بل وفعلها في صغره أن يسمع بأن هناك شاعراً اسمه المعري مر بالدنيا، والعبارات التي عبر بها طه حسين عن معاناته مع العمي، خليق أن يكتبها المعري لو كان عاش في القرن الماضي، والعمي جعله يجد في طلب العزلة عن الناس، فأصبح رهين المحبسين الظلام وجدران بيته الذي يعصمه من البشر حوله، ويريحه منهم ومن أفعالهم، ويجد العميد في البحث عن المعري بصيغة أكاديمية غرضها نيل رضا اللجنة الممتحنة في المقام الاول، فيلتزم منهجاً محدداً لا يحيد عنه، ويمر سريعاً علي مواضيع كثيرة، أما لو أردنا معرفة كيف رأي طه حسين المعري حقاً وعاشره، فعلينا بكتاب سيكتبه بعد ربع قرن تقريباً  من رسالته، وقد نضج فكره وتسامت رؤيته وأصبح طه حسين كما نعرفه ونحبه، فترك نفسه علي سجيته لا يفكر في شئ عدا حكيم المعرة نفسه، فينقب جدران سجنه الذي حبس فيه شاعرنا نفسه طواعية، وندخل بصحبته "مع أبي العلاء في سجنه" وفيه الإهداء الشهير الساخر من طه حسين للمتنطعين" إلي الذين لا يعملون ويؤذي نفوسهم أن يعمل الناس، أهدي هذا الكتاب"، وفي عام ١٩٤٤نسمع معه" صوت أبي العلاء.

المحطة الثالثة" صاحبنا"، وفيها يجلس العميد يتلمس عدة كتب سردية" الأيام، أديب، دعاء الكروان، الحب الضائع، المعذبون في الأرض، أحلام شهر زاد، جنة الحيوان، جنة الشوك" كتاب واحد كلما لمسه ارتسمت ابتسامة مشوبة بالحزن، ويعود بالذاكرة إلي يوم بعيد غاص في ذاكرته قبل عقود استطالت" لا يذكر لهذا اليوم اسماً، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتاً بعينه، وإنما يقرب إلي ذلك تقريباً" بتلك الكلمات يبدا كتاب "الأيام" الذي يتلمسه العميد بأصابعه، وعلي وجهه الابتسامة الجامعة بين لذة الحياة وشقائها.... الأيام أحد أشهر الكتب في الثقافة العربية، والبعض يضع شهرته بعد ألف ليلة وليلة، ولن أنقل هنا أي اقتباسات منه، لأن الاقتباس من ذلك المجلد يشعرني أني جزاراُ أقبض بكفي علي الساطور، وأقتطع من كائن حي له كيان وروح، وحتي لو تجرأت واقتبست منه فسأحتار ما الذي أنقله وما الذي أتركه، إن الكتاب كله قصيدة شعرية أو قصة شعرية بمعني أدق، عن الذات والوعي والمجتمع والعلم والنضال والشعر والحب والألم والصداقة والسياسة والحزن والموت والزواج والعمي والأبوة والغربة والحرب والسلام والعلم والنضال والسفر والحب، وشتي معاني الحياة، وهذا هو ما يسمي الأدب العظيم والكتب الخالدة تتمتع بتلك الروح المنبعثة من صدقها وحرارتها، تجعل القارئ يعيش معها ويحس بكل ما تحس به الشخصيات، يتألم معها ويفرح وسطها متوحداً مع حياتها، مثلما فعل طه حسين بنا في مذكراته، وكان صادقاً لأقصي درجات الصدق، عازفاً علي أوتار اللغة، ولو لم تكن الأيام كتاباً لكانت كونشيرتو موسيقي تتحاور فيه جميع الآلات، ومن جناية التعليم في مصر أن جعل ذلك الكتاب البديع مثار سخرية الطلبة وبغضهم، وشخصياً أحمد الله أني كنت شغوفاً بالقصص منذ صباي، فاعتدت قراءة القصص المقررة قبل بدء موسم المدارس، لأني تجاربي المريرة في هذا المجال جعلتني أعرف ما الذي سيفعل بتلك القصص، وكيف ستقدم، ولأي مدي ستكون ثقيلة علي نفسي، كارهاً لها، عندما تقع في يد شخص غير مؤهل للسمو لمقام التدريس العالي والتعليم الحق لا نفسياً ولا علمياً ولا تربوياً، وكيف سيجعلها هذا الشخص مصدراً للإزعاج، وقرأتها بعد ذلك أكثر من مرة، وكأني أقرأها لأول مرة، وأعيش حياة صاحبنا، أحاول اختراق الجدران لأتسمع صوت الشاعر وهو ينشد قصص الزناتية والهلالية، وأخاف أن تعبث بي العفاريت ليلاً، وأشعر بلحية شيخ الكتاب بين أصابعي، وأنام علي الحصيرة، وأذوق العسل الأسود وخبز الازهر الذي يجد فيه الأزهريون الويل، وأدمع حين أري ابنة صاحبي تبكي وهي تسمع منه لقصة أوديب، لأنها تري في عمي أوديب وعذابه صدي من عمي أبيها وعذابها، فتبكي الطفلة علي أبيها وتقبله حناناً، وأعبر البحر في المركب، وأقوم بكل ما يقوم به صاحبي طه حسين، إن لم يكن ذلك هو فن الأدب فما هو إذن؟ إن الأيام آية من آيات الأدب العربي، بل والعالمي، ومن المفترض أن كل من يدرس ذلك الكتاب دراسة حقة يمسه بصيص من حب الأدب وعشق القراءة وتقديس المعرفة، لكن للأسف لم يتم الإستفادة من تقرير ذلك الكتاب الفريد علي شباب الأمة ورجال المستقبل.

محطات طه حسين عديدة، ومن المستحيل الإلمام بها في مقال أو حتي كتاب، إنه من صناع الثقافات كفولتير في فرنسا وشكسبير في إنجلترا وجوتة في ألمانيا، يحتاج إلي دراسات دورية متعمقة، المحطات كثيرة جداً، والمجال محدود فلنكتف بتلك الإطلالة السريعة علي درب العميد... وفي نهايتها سنحد تمثال طه حسين كما تخيله الفنان عبد الهادي الوشاحي منتصباً عملاقاً كانه يستشرف المستقبل ممتلئاً بالعزة والكرامة، وبجانبه بحروف من ذهب كتاب" مستقبل الثقافة في مصر" ليفتحه كل ذي عين وبصيرة، وليقرأ فيه ليجد منقذاً من مصائب كثيرة ولدت داء التخلف والتراجع، لأنه يهتم بأخطر وأجَل مشكلة وهي التعليم المندثر تقريباً في مصر، ففيه وضع العميد خلاصة آرائه للنهوض بمصر ولا نهوض لأي شعب سوي بالتعليم، فيه ستجد عرضاً للمشاكل المزمنة في النظام التعليمي وحلها، وظلت تلك الحلول علي الاوراق دون تنفيذ منذ ١٩٣٨ حتي اليوم!

محمود قدري