الأربعاء، 9 ديسمبر 2020

الجنس...فردوس العرب المفقود

 

تذكر الكاتبة المصرية-الكندية شيرين الفقي في كتابها(الجنس والقلعة)عبارة علي لسان أحد الأطباء المصريين المتخصصين في أمراض النساء"علي عكس كرة القدم,بينما يتحدث عنها الجميع فنادراً ما يمارسها أحدهم,لكن الجنس يمارسه الجميع ومع ذلك يتجنبون الحديث عنه"فأين اختفت الثقافة الجنسية ومتي تحول الجنس من أسمي فعل يمارسه الإنسان بالتوحد مع الآخر والاتزاج في حضوره الجسدي والروحي ليصلان سوياً إلي النشوة التي تقربه للسماء إلي فعل مدنس يحيطه التكتم والخجل؟وكيف أصبح سطر أو سطرين في رواية يغوصان في الفعل الجنسي الفياض بالمعاني الجميلة من المحبة والرحمة والتفاهم لدعوة إلي الانحلال الأخلاقي,أو مشهد رومانسي يقرب القلوب من بعضها ويستعرض روعة الحب وعظمة الجوهر الإنساني فيه إلي عهر وفساد؟وفجأة يصبح الأديب أو الفنان مجرماً ومتهماً بمحاولة تلويث مجتمعنا النظيف الراقي!!

منذ أن بدأ الكبت.

بصعود التيارات الدينية المتطرفة بالتوازي مع انهيار منظومة التعليم تماماً وتراجع الفن والثقافة واعتبار فن التمثيل المجسد الأروع للشعور الإنساني عيب وحرام يُطالب صاحبه بالتبرؤ منه والتوبة عنه!بدأ العقل العربي عموماً في التهاوي ليغرق في العماء والصمت,وتصيبه حالة موات ثقافي مثيرة للرثاء ويطلق نزار قباني تساؤله المفجع المأساوي"متي يعلنون وفاة العرب؟"المجهول لم يعد يثير في النفس الرغبة في الاكتشاف والتعلم بل مجرد أرض محرمة محظور الاقتراب منها,وكل من يدنو منها أو يشير لها لابد أن ينفي أو يشوه معنوياً.

بهذا المنطق المدمر تبدل حال الجنس من مفهوم مقدس مسئول عن استمرار النوع البشري ليغدو في وضع مضاد للعفة والاحترام والتهذيب,تصالحت المجتمعات العربية مع الكذب والغش والزيف ووقفت بالمرصاد لأصل الإنسان وجوهر وجوده ومحور حياته الداخلية,فتوجهت رصاصات التخلف بعدما أصابت الحاضر في مقتل نحو التراث لتدينه وتمنعه,فحدثت فضيحة المطالبة بمنع(ألف ليلة وليلة) العمل الأدبي الأروع في آداب الشرق والغرب,بدعوي احتواؤه علي ألفاظ خارجة وحكايات عن الجنس!والليالي تبدأ بواقعة جنسية يكتشفها شهريار"فلما كان في نصف الليل تذكر حاجة نسيها في قصره فرجع ودخل قصره فوجد زوجته راقدة في فراشه معانقة عبد أسود ن العبيد فلما رأي هذا اسودت الدنيا في وجهه وقال في نفسه إذا كان هذا الأمر قد وقع وأنا ما فارقت المدينة فكيف حال هذه العاهرة إذا غبت عن أخي مدة ثم أنه سل سيفه وضرب الأثنين فقتلهما في الفراش",وعبر الليالي تطهره تداويه شهرزاد من نفس دائه,تحكي عن النساء وحيلهن في خيانة الرجال بل وحتي العفاريت كأنها تخبره أن ما وقع له ليس أمراً نادراً في الحياة,وفي نفس الوقت تملأ خياله بقصص الحب والإخلاص وتختم حكاياتها بعبارات شبيهة بـ"وعاش معها في أتم سرور وفي حبور إلي أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات فسبحان الحي الذي لا يموت"وأثناء الحكايات تنجب شهرزاد من الملك ثلاثة ذكور وتعلي من شأن النساء في شهريار فهي تستعطفه أن يتركها حية رحمة بأولادهما فيجيبها"والله إني عفوت عنك قبل مجئ هؤلاء الأولاد لكوني رأيتك عفيفة نقية وحرة تقية بارك الله فيك وفي أبيك وأمك وأصلك وفرعك وأشهد الله إني قد عفوت عنك من كل شئ يضرك"الليالي كلها تسعي للخلاص بالجنس, لكن في زمننا الغارق في الإباحية التي تستقطب الملايين من العرب باعتبارهم الزبائن الدائمين عندها,نجد اللاعنين للجنس في العلن ظناً منهم أنهم بذلك يلبسون رداء الطهر هم أنفسهم زوار المواقع الإباحية بفعل الكبت في السر والغرف المغلقة.

الحفدة يتبرأون من تراث الأجداد,يودون إخفاء الأعمال التي تصدر فيها الجنس وفنونه كالروض العاطر للنفزاوي الممنوع في بعض البلدان العربية وفي عام2018وبعد مرور قرون علي تدوينه, ترفض وزارة الثقافة المغربية لوحة الفنانة خديجة طنانة(كاماسوترا) المستلهمة من أوضاع الجماع المذكورة في متن أحد النصوص المؤسسة للمعرفة الجنسية,ونواضر الأيك ,الوشاح في فوائد النكاح,شقائق الأترج في رقائق الغنج,نزهة العمر في التفضيل بين البيض والسمر, للإمام السيوطي صاحب تفسير الجلالين للقرآن الكريم,وأوقات عقد النكاح لابن القيم الجوزية , السيوطي وابن القيم من كبار فقهاء الدين الإسلامي لم يجدا حرجاً في شرح فنون العشق والهوي والنكاح مستخدمين ألفاظاً تبدو اليوم صادمة لمن يطالعها مع إنها من صميم الفصحي العربية,تم التعمية عليها لصالح ألفاظ أخري صكها المتطرفين لدمار الدنيا والدين عكس هؤلاء الذين سعوا لعمار الدنيا والدين بالتقريب والمحبة لا بالكراهية وإعلان الحرب علي البشرية,وفي مؤلفات الجاحظ والتوحيدي وأبونواس والأصفهاني أمثلة للحياة الجنسية عند العرب يلعب فيها المخنثين والسحاقيات أو بلغة عصرنا"المثليين والمثليات"أدواراً أساسية مع غيرهم من هواة الغلمان والعلاقات الثلاثية وهي موضوعات لو تصدي لها أديب أوفنان عربي في وقتنا هذا فقبل أن يصرح حتي بالفكرة سيصير هو المفسد وسط باقة من فضلاء البشرية الذين يقدمون كل يوم للعالم درساً في الأخلاق والتحضر!

هذه المعاداة للجنس والتهرب من تشريحه والتوافق معه دفعت بالشباب العربي المعاصر للغرق في فخ الإباحية,لتستنزف طاقته وتشوه مفاهيمه عن المرأة التي أصبحت تعاني من التحرش والاعتداء بصورة متكررة في العالم العربي,فهي في نظر الشاب ليست شريكته وحبيبته كما أرادت شهرزاد والسيوطي وابن القيم كآية من آيات الله القائل في القرآن"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"ومن قبل في التوراة علي لسان آدم"هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي",بل هي الأداة المؤهلة لتقديم كافة الانحرافات الجنسية,هي الجسد المنتهك,هي الأعضاء المزيفة الضخمة المغرية كما تريد شركات البورنوجرافي التي تحقق الملايين بزيادة تهييج الشباب فتزيد الاضطرابات الزوجية وتقع العديد من حالات الطلاق سببها الأساسي الإدمان علي الإباحية,فيتفكك المجتمع وتنهار روابط الزواج.

الأدب الجنسي في الثقافة العربية لم يكن المقصود به إثارة الغرائز,فهذا المجتمع القديم-علي عكس الصورة الخيالية التي يروج لها,كانت الحياة الجنسية فيه متأججة,تمور بمختلف الجنسيات والميول,والكل يجد ما يرضي خياله المشبوب,لكنه كان أدباً يتماهي مع الجانب الإلهي من الجنس يود التقرب من المطلق,يعري روح الإنسان قبل أن يعري جسده,وفي كثرة الأسماء التي أطلقها العرب علي عضوي التذكير والتأنيث دلالة علي براح الصور والرموز في العملية الجنسية لتشمل عناصر كونية,فهي الحرث والخير وفي بعض الحالات لا ترتبط بالولادة والتناسل إذ يمكن تجنبهما,وإنما هي صلاة كونية يتمازج فيها الرجل والمرأة,ليعيدا تمثيل الأساطير الكبري في الحضارات الإنسانية لسماع معزوفة الكون تسري في بدنيهما,فيولد الحب.

إذن لماذا الصمت؟لماذاالخوف من الحديث عن الجنس,هل كرة القدم أمتع أو هل حركة اللاعبين في الملعب تفوق حركة المحبين علي فراش واحد؟!إن ثقافتنا الحالية عبارة عن بناء من التفاهة أقيم علي أعمدة من الجهل وتم طلاؤه بألوان التخلف والأمراض النفسية المستوطنة في النفسية العربية,وكتب علي باب"كل شئ عيب...كل شئ حرام"وتحتها تعديل لمقولة دانتي"أيها الداخلون...اتركوا ورائكم كل أمل في التفكير"إنه الجحيم الأرضي كما صاغته واقع الحضارة العربية المعاصرة,وهو عكس جحيم دانتي نعيشه ولا نقرأ عنه.

انظر حول وشاهد إلي أين وصلنا بكومة الهراء المسماة فقهاً اخترع حلاله وحرامه الخاص به,لخدمة توجهات سياسية مشبوهة كان لها أبلغ الأثر علي الواقع الاجتماعي,عشرات المؤلفات حول الطهارة والنكاح تعامل الجسد البشري علي أنه آلة ميكانيكية تحتاج إلي التشحيم والتزييت فقط,وترسم صورة المرأة بخيالها المريض المتأثر بكل تراث العقد النفسية والكراهية الدفينة للإناث,فهي الشيطان المغوي,والحية الخبيثة,والحائض النجسة,ومن هنا...من هنا أصبح الجنس مرتبطاً بالدنس لأن شريكة الرجل فيه تنزف الدم الواهب للحياة,ولأنه في العصور القديمة كان ذلك لغزاً يصعب علي الرجل حله فتكاثرت الأساطير والاعتقادات حول المرأة.

فقدت المرأة سلطتها القديمة وأصحت توأم الحية في الرواية الدينية عن الخلق,فكان التطور الموقع أن تسقط في وهدة الدنس وتصبح شرك إبليس,وللأسف هذه النظرة موجودة عند نسبة كبيرة ممن يلقون السمع دون تمييز ولا تمحيص,فكان مصير المرأة العربية الحجب والإدانة والشجب لا تهمة بلا ذنب,يكفي أنها تمتلك فرجاً يخيف الرجل ويذله في آن,يمنحه أولاده ويثير قلقه علي عفته,تتحدث الكاتبة الكبيرة نوال السعداوي عن الجنس وتدافع عن المرأة باعتبار الأنثي هي الأصل,فيصيبها سهام الهجوم الساحق,تنادي وحيدة في مجتمع أصم لا يعرف إلا ما لقن في مدارس هجرها التعليم ومنابر غادرها المنطق,تشرح في كتابها"المرأة والجنس"مفهوم العفة الحقيقية الكامنة في الصدق والأمانة لا في غشاء يمكن أن يتمزق لأي سبب كان,بل ربما لا يكون موجوداً من الأساس,تسرد بأسلوب أدبي شهادة مزجت بالعلم القهر الجنسي الذي تتعرض له النساء,تقف ضد جريمة ختان الإناث,تقف ضد السلطويين المستغلين لجسد المرأة لمتعتهم دون رادع,حتي ولو أدي ذلك لضياع إنسانة مع وليدها وسقوطهما في مجتمع قاس لم يعد يهمه سوي التهجم والإدانة,تنقد فرويد في نظرته للمأة والجنس,تقوم في أعمالها بثورة جنسية حقيقية لو كان وصل صداها للشارع,لانصلح حال المجتمع منذ زمن,وقد آمنا بقيم العمل والمساواة والصدق,بدلاً من الزيف والكذب واللذين شوها حياتنا.

ربطنا كل ما هو مدنس وحقير بالجنس,بل يصفه البعض مشمئزاً بأنه شهوة حيوانية!إنها ردة ثقافية خطيرة لها مؤشرات علي بلاهة العقل وتبلد الأحاسيس التي أصيب بها العقل العربي الذي كان يوماً مضيئاً يعرف حق نفسه وحق الآخر قبل أن يصير جباناً وخائفاً يتواري من كل شئ حتي من نفسه,فكما ذكر جيفري ويكس في كتابه( النوازع الجنسية)"...ويبدو أن الصراع ن أجل مستقبل المجتمع بالنسبة إلي الكثيرين,يجب أن يجري علي أرض النوازع الجنسية المعاصرة.فكيفما تتجه النوازع الجنسية يتوجه المجتمع.ولكن أيضاً كيفما يتجه المجتمع تتجه النوازع الجنسية