الاثنين، 23 أغسطس 2021

جثة بدون عنوان

 

جثة بدون عنوان

لثوان أطلت الشمس من بين الغيوم القاتمة التي تكاثفت في منتصف نوفمبر,ليشعر بدفئها اللذيذ عم سعيد للمرة الأخيرة علي وجهه الأسمر الضامر,وعندما غابت من جديد سقط علي الرصيف فاجتمع حوله المارة وأصحاب المحلات المجاورة,حاولوا إفاقته وهو يهمهم بكلام غامض وفي النهاية أرقدوه في انتظار الإسعاف,بعد حوالي45دقيقة من ارتطام جسده بالأرض أعلن المسعف وفاته ورحل بسرعة,وبقي عم سعيد ممدداً علي الأرض مغطي بملاءة قديمة قذرة نخرها الزمن في كل مكان,العارفين بأحوال الموت وخبراء الجنائز وطقوس الدفن أعلنوا موته قبل مجئ الإسعاف بفترة,الموت يغير سحنة الإنسان والجسد المسجي للمرة الأخيرة دون أمل في القيام من جديد له لغة لا يفهمها سوي من عاشر الموت,ورآه يحتل الجسد الإنساني ويجعله ضئيلاً وعاجزاً ومثيراً للشفقة.

مع إعلان الوفاة ظهر سؤال علي ألسنة أهل الشارع"أين يسكن عم سعيد,أين يقطن أهله؟"تطوع المدعون-الكثرة الطاغية في المجتمع-فأدلوا بمعلومات تضاربت كلها:شبرا,السريع,شارع فاطمة الزهراء....تليت بجوار الميت كافة مناطق دمنهور القديمة ولو أعيدت له الحياة لحظتها لضحك عليهم من قلبه,وتم إرسال العديد بناء علي إفادات خاطئة إلي مناطق عدة عادوا منها خائبين,ازداد عدد المجتمعين حوله,وقد كان معظمهم لا يحفل به ويراه أقل من أن يدير معه حواراً أو يجالسه,ربما يحسن عليه بمنحه حذاؤه ليلمعه.البعض جاء للفرجة والترحم,والآخرين وهم الأغلبية تحلقوا حول الميت هرباً من تفاهة وتكرار جياتهم اليومية ليندمجوا مع معني أكبر.

-نلتقط له صورة ونضعه علي الإنترنت ربما يراه أحداً من أهله.

-إن للميت حرمة!

-أهله لم يسمعوا عن الإنترنت يوماً,وبالتأكيد لا يستخدمونه!

-إذن هل يبقي الرجل ممداً في العراء إلي الأبد؟!

-نكلم النجدة.

-النجدة ستشرح الجثة وتفتح تحقيقاً,والرجل مات موتة ربنا أمامنا فما أهمية إبلاغ الشرطة؟

من تخطوا الثلاثين في الشارع وعوا علي الدنيا وعم سعيد في مجلسه وراء صندوقه الأسود الداكن,يجاهد مع عينيه كي يري الحذاء الذي يمسحه,ويقربه من نظارته الغليظة حتي يعتقد من يراه أنه يقبله أو يشمه, وربما سأل الزبون عن لون الحذاء حتي يختار له الورنيش المناسب,ومع ذلك لا يعرف شخص أين يعيش,لم يهتم أحدهم أن يسأله كيف يعيش,عاش وحيداً ومات في صمت كما يليق برجل عاش في حاله,مرت مليحة في عباءة سوداء فالتفت نحوها ثلاثة شباب وبدا أنهم نسوا كل ما يخص المتوفي.

-ألم يفكر أحدكم في التفتيش عن بطاقته الشخصية؟

-ليست معه.

انبري أحد القادمين الجدد للتحديق في الجثة الممدة:

-الله يرحمه كان معه موبايل في جيبه,ربما يحمل رقم شخص يعرفه.

-لم نجد معه موبايلات.

الواقع أن الموبايل سرق من اللحظة الأول التي تحلق فيها الناس حوله,موبايل قديم جداً منقرض لا يرضي طفلاً للهو به,لكنه ربما يوفر حبة مخدرة أو أي نوع من السم الهاري لمدمن محطم.

عندما وصل الحاج منصور بسيارته الفخمة أمام الجثة,وجدها فرصة ليتباهي أمام المعوزين من أهل المنطقة,وقد تعود أن ينتهز فرصة أي تجمع ليبسط سيطرته المعنوية علي قلوب الفقراء ويزيد نظرات الحرمان في عيونهم,فتلكأ في النزول وربط الكمامة علي وجهه,توقف لثوان أمام الجثة وبحركة من يده أبعد الجميع:

-إلام تنظرون؟!لا تقفوا هكذا!

أشار لسائقه وأمره أن يبحث عن أحد معارفه,لحظتها تذكر السائق أن المرحوم أخبره ذات يوم بعيد أنه يعيش في أبو الريش,وأغلب الظن أن علاء السائق لو سمع الأقاويل المؤكدة بكل الأيمان أنه يسكن في أماكن أخري لاضطرب ونسي وتاهت منه تلك الذكري,أو ربما عرضت له باهتة كحلم قديم فلم يتكأ عليها ويتصرف علي أساسها,تحرك بالسيارة في شوارع وأزقة أبو الريش المكسرة والضيقة,ولم يصل لشئ علي الإطلاق,لقد كان عم سعيد وحيداً بصورة فظيعة,لم يتزوج يوماً ولم يعرف له أهل بل هو نفسه كان مجهولاً عند الكثيرين من جيرانه,وقبل أن يعود علاء خائباً لينضم هو الآخر شاهد شاباً يهرع نحوه:

-قيل لي أنك تبحث عن عائلة عم سعيد,أنا ابن أخته.

تفحصه علاء,وهمهم:

-عم سعيد تعيش إنت...

جاء الشاب مع أمه وأبيه في سيارة الحاج منصور,حملوا الجثة في سيارة أخري استأجروها وسط نظرات امتزج فيها الحزن الصادق,مع سعادة غامضة شاعت في النفوس لأن الموت لم يهزمهم اليوم كما هزم عم سعيد وطرحه أرضاً دون تحذير,مازالوا يحييون ويتنفسون وهاهي الشمس تشرق من جديد والأصوات تطرب آذانهم والألوان جميلة تبهج العيون,وكما احتشدوا في لحظة تفرقوا في لحظة,نادي الحاج منصور علي ابنه عوض المعروف في الشارع بـ"ابن الحاج"دون صفة أو قيمة أخري يحملها في حياته الفارغة إلا من العبث والموتوسيكلات واللهاث خلف البنات المغويات في الحواري الخلفية,وأعطاه كيس أسود:

-قل لأمك تحمر هذا اللحم جيداً وتطبخ عليه كيس مكرونة.

أما الشباب الذين لم يبرءوا من سهام الجميلة التي تداعب خيالهم في الثوب الأسود الناطق بحكاية جسد ريان يعلن حلاوة الدنيا,ويزين لهم الحياة في أحضان امرأة مثلها فتسكرهم الأحلام,فاندفعوا ناحية المقهي استعداداً لمشاهدة المباراة المرتقبة علي القنوات المشفرة...وحده الصندوق الأسود الداكن بقي علي الرصيف متوارياً في زاوية متربة.