الأحد، 24 أكتوبر 2021

ابن خلدون

 

ابن خلدون

 

 

المقدمة

أجمل وأعمق ما يجمع الدول العلاقات الثقافية والفنية,فمن تلك المداخل الذهنية والروحية تتعزز الروابط بين الشعوب وتتقارب الرؤي والأرواح,وفي ضوء إعلان عام 2021-2022عاماً للثقافة المصرية التونسية,قامت وزارة الثقافة المصرية مشكورة بفتح تلك النافذة علي البلدين,من خلال مسابقة بحثية موضوعها "ابن خلدون" أحد أعلام الحضارة البشرية,المفكر الذي تدعيه عدة ثقافات لينسب إليها تشرفاً بانتماء مفكر من هذا الطراز,لكن مهما بلغ الجدل من حدة فلا يمكن إنكار ميلاده في تونس وتأسيسه الثقافي والعلمي بها,وقضاء آخر فترة من حياته في مصر والدفن تحت ثراها,فكان خير موضوع لتلك المناسبة كي ندرس تاريخ مصر وتونس في تلك الحقبة من خلال شخصية ابن خلدون,والنظر من جديد لفكر هذا الرجل الموسوعي.

والحق يقال لم يكن لدي حافز قوي للاطلاع علي كتابات ابن خلدون بتأن,عدا ما كان يعرض لي من شذرات وفقرات متفرقة,في شتي الموضوعات التي استعانت بابن خلدون,وفي ذلك تبيان لمدي أهميته وتشعب أفكاره في أكثر من مجال وتأثيره الضخم في العالم,منذ اكتشاف المستشرقين لأهمية مقدمته ثم تبعهم العرب المحدثون للحديث عن ابن خلدون,لكن شتان بين الفريقين,الغرب استفاد منه لأكثر درجة,أما نحن فلم نجن سوي التباهي بابن خلدون ذو الأصل العربي,فلم يخلفه عربياً ليكمل مشروعه بل تبناه الغرب واستخلصوا منه جواهر المعرفة وطبقوها...علي كل حال,جاءت تلك المسابقة البحثية لتجعلني أتعرف بجدية علي ابن خلدون,وبالفعل دهشت لهذا العقل المثقف الفذ الذي كان مسك الختام للحضارة العربية,فقد كان زمنه في القرن الرابع عشر بداية الانحطاط التاريخي,وأعجبت بملحوظاته اللماحة في التاريخ والنفس الإنسانية وظروف المجتمعات ونظراته في الأدب واللغة,وعشت زمنه من جديد,ورأيت حياته المشحونة بالأحداث مما يجعلها مادة خصبة لعمل فني رفيع المستوي يسلط الضوء علي حياته وعصره,وانتابني شعورين متضادين السعادة لأن ابن خلدون كتب مقدمته الخالدة بلغتي الأم,فبطريقة ما ينتمي لي بل أمتلكه روحاً وفهماً أفضل من الأجانب,وشعور آخر بوخز الضمير لتقصيرنا المفرط في حقه,وفي حق المعرفة والعلم بصفة عامة,كيف لم يبن العرب علي مقدمته عشرات المؤلفات والمشاريع,فهذا الرجل فتح بلغتنا نحن علم جديد أسماه"العمران البشري والاجتماع الإنساني"ليؤهلنا لخوض مرحلة جديدة في عالم يموج بمخاض الأنوار الأوروبية,لنغلب العقل علي النقل ونحافظ علي وضعنا المتقدم,لكننا أهملناه ورحنا في غيبوبة الفتاوي وأحكام الفقهاء وظهر المتطرفون ليمحو أي نور فكري أو حضاري,وللعجب هذه المشاكل هي نفسها التي مازالت تواجه مصر وتونس حتي اليوم,لقد بدأت النهضة في العصر الحديث في البلدين في فترة زمنية متقاربة,ففي مصر كان رفاعة الطهطاوي,وفي تونس خير الدين التونسي,حاولا جلب الأنوار من جديد,لكن وأسفاه تهاوي مشروع التنوير في كلا البلدين إلي حد ينذر بالخطر,والأمل في استرداده من جديد عبر أنشطة مثل تلك المسابقة البحثية التي تنظمها وزارة الثقافة في مصر لشعب البلدين,للعودة من جديد لمنابعنا الحضارية وثقافتنا الراقية التي أفادتنا وأفادت العالم معنا,كي نتكاتف للوقوف أمام قوي الظلام التي تحاول طمس أمثال هؤلاء الأفذاذ,لحساب بضعة أسماء أخري تتمسح بالدين, لم نجن من ورائها غير جذب متواصل عنيف ومدمر نحو القاع,فقد صدق الهولندي دي بوير بقوله في حديثه عن ابن خلدون أنه لم يكن له سلف فكري وبقي دون خلف!

إن العقول في سماء الثقافة التونسية التي يمكن الاستفادة منها كابن خلدون لا يمكن حصرها في تلك المساحة الضيقة,ربما تجئ مناسبات أخري للحديث عنها,ولنكتف الآن بصاحبنا,لنجتمع تحت اسمه مصريين وتونسيين يجمعنا تاريخ واحد وهموم مشتركة,ولنا شخصية محببة ولدت هناك وماتت هنا,ابن خلدون...ابن خلدوننا.

الفلسفة الخلدونية في تمحيص وتحليل الأخبار التاريخية نحن الآن في أشد الحاجة إليها,وسط تلك الأحداث المتلاحقة في المنطقة العربية من نهاية عام 2010,كل ساعة عشرات الأخبار والشهادات والتقارير والفيديوهات,فيها عدد هائل من سموم فكرية وأكاذيب هدفها هدم الدول وتفكيك المجتمعات,والإطاحة بالمؤسسات,يعطينا ابن خلدون قاعدة ذهبية في إعمال العقل في الخبر,وعدم تصديق كل ما يرد من مرويات في أي مجال ففيها الكثير من الأكاذيب والأوهام,وربما لا يختلف عمل بعض الإعلاميين أو المنتسبين زوراً إلي مهنة الإعلام عن المؤرخ المتسرع العجول الذي ينقل كما سمع,وسواء قام بذلك بحسن نية أو بسوء نية ففي الحالتين يهدد استقرار المجتمعات بأخباره,سنري كيف يوضح لنا ابن خلدون طريقة الحماية الفكرية من الأخبار المزيفة والمفبركة التي نطالعها يومياً علي شاشات التلفاز والمواقع الإلكترونية.يمكننا اليوم تذكر ابن خلدون وكأنه يري حالنا ويشاركنا مشاكلنا,وسنجد عنده التحليل الاجتماعي السديد لما يعوقنا اليوم عن الأخذ بأسباب التقدم,وتلك سمة النظريات الكبري والفلسفات العميقة التي أنتجها الجنس البشري,ففي كل عصر يتم العودة إليها والاستفادة منها,فالزمن يجددها ويزيد بريقها ولا يذروها مع الرياح ممزقة لا فائدة ترجي منها,كالعديد من الأعمال التافهة التي حفلت بالغيبيات والتغييب والخطأ والخطل,فأصبحت عرضة ليدوسها الزمان ويتناسها الناس مع قدم العهد بها,بل ربما ناقشوها أو ألمحوا إليها في خجل كأنهم يعتذرون من تذكرهم لتلك الأفكار والأعمال المجدبة,التي تعبر عن الفرق الشاسع بين أصحابها,وأصحاب المعاني الكبري الذين نفتخر بإنسانيتنا كلما اكتشفنا فيهم نواحي جديدة.

تراثنا العربي الحقيقي المتمثل في أمثال ابن سينا والخوارزمي والبيروني وابن عربي والحلاج,وجابر ابن حيان وابن الهيثم وابن النفيس,والمتنبي والمعري وابن حزم,في كتاب ألف ليلة وليلة وكتاب الأغاني وكتب المفكرين المستنيرين من العرب,هو الضامن الوحيد لاستمراريتنا كأمة لها جذور وتاريخ وفضل قديم علي البشرية ,في هذا التراث يكمن شرفنا الإنساني والعلمي ومن المخجل إهماله لحساب كتب صفراء سودت بأفكار بغيضة ملؤها الحقد والعنصرية والتعالي علي خلق الله وادعاء التميز عليهم,ففي كل أمة خرج من يرددون أمثال تلك الأحاديث المقززة للجنس البشري اليوم,وميزان من تخلف أو تقدم يكمن في تخليه عن تلك الحشرات العقلية الضارة بالروح والعقل وتشبثه بنور العلم والإخاء الإنساني,هكذا فعلت أوروبا لتخرج من ظلمات العصور الوسطي ونجحت في ذلك,بعدما نزعت القداسة عن البشر وكلامهم وأصبح كل شئ موضوع نقاش وأخذ ورد ونقد,أما العميان ففي ظلمات أفكارهم يتخبطون ويقتلون بعضهم بعضاً كأننا خرجنا من الكهف للتو ولم نمر مع الإنسانية في رحلتها الطويلة بما يهذب الروح والعقل ويجعلنا ننظر للمستقبل.

ابن خلدون وأضرابه من الفلاسفة والمثقفين في الحضارة العربية ليسوا مجرد أسماء ورثناها لنتباهي به بها ونرددها دون وعي حقيقي بالأساس الذي قامت عليه شهرتها العالمية ,ودون نظر في مضمون أفكارها وأعمالها,بل هم نتاج المنهج العلمي والشك الفلسفي والإبداع النفسي,الذي قاوم أشكال القهر والحرمان وعمل في أصعب الظروف ليقدم خلاصة أيامه وتجاربه,هم نجومنا الحقيقيون وأبطال تاريخنا وقدوتنا في عالمنا المزري الحالي,صحيح أن كثير من أفكارهم تخطاه الزمن تطوراً وإبداعاً,لكن قيمتهم تكمن في خطة تفكيرهم وقدرتهم علي الملاحظة وشجاعتهم العلمية والأدبية لمواجهة العالم بأساليبهم الجديدة ونتائج بحثهم الغير مسبوقة,فليس المطلوب محاكاتهم أو تقليدهم بل الاعتبار بما قدموه وزادوا عليه بتضحيات كانت هي السبيل الوحيد للحفاظ علي نتاجهم العلمي والفكري.

و أشكر وزارة الثقافة المصرية علي تلك الفرصة التي دفعتنا لوضع ابن خلدون في صدارة تفكيرنا,مع رجاء حار بتكرار أمثال هذه الأنشطة علي الدوام وفي كل المناسبات الممكنة,وتسهيل المشاركة للجميع,فالطريق الوحيد الذي سار فيه البشر وأثبت فعاليته ونجاحه الباهر طريق العلم والمعرفة,فعلينا تعويض مافاتنا بكل الطرق الممكنة,لملاحقة ركب الإنسانية الذي نقبع اليوم في نهايته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1

الواقع العربي في كتابات ابن خلدون

كان عصر ابن خلدون في القرن الرابع عشر ميلادياً بداية الانحطاط للحضارة العربية؛لتسلم شعلة العلم والقيادة الفكرية لأوروبا الخارجة من ظلام العصور الوسطي وسيطرة العقل الخرافي علي المجتمع والرضوخ لسلطة رجال الدين,فبعد مسيرة طويلة من الإنتاج العلمي العربي حل الخريف علي الروح العربية لتدخل هي بدورها عصور الظلام!

يمثل ابن خلدون اللمعة الأخيرة للأنوار للشمس العربية قبل انطفائها,وقد شهدت كتاباته علي زمنه,زمن الفتن والقلاقل والاضطرابات والوباء-هل تغير الحال كثيراً عن زمن ابن خلدون؟!-حيث كان ابن خلدون أول عالم عربي اهتم بتسجيل سيرته الذاتية,فما نعرفه عنه وعن أحداث حياته رواها بنفسه في"التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً"فأتاح للباحثين مادة خصبة لاستقراء الواقع العربي الذي عاش فيه عبد الرحمن ابن خلدون المولود في تونس بدار مازالت قائمة بشارع تربة باي عام 1332الموافق غرة رمضان من عام732هـ ,والمتوفي في القاهرة 17مارس 1406 عن 73عاماً عامرة بالتجارب والمشاهدات.

في تونس كانت النواة العلمية الأولي التي شكلت شخصية ابن خلدون, وهي يومئذ مركز العلم الأدب في بلاد المغرب, فقد شغف منذ حداثته بالعلم والمعرفة,فأفرد لتلك المرحلة من حياته صفحات في "التعريف" ذكر لنا شيوخه وأهم من أخذ عنهم والكتب التي اطلع عليها مما يبين لنا الحياة العلمية بتونس في ذلك العهد[1].

ثلاث دول قامت علي أنقاض دولة الموحدين:دولة بني حفص,دولة بني عبد الواد,دولة بني مرين,وعندما بلغ ابن خلدون السادسة عشر من عمره استولي السلطان المريني أبو الحسن علي دولة بني عبد الواد,وواصل توسعاته نحو الشرق فاحتل بجاية واعتقل أميرها الحفصي,حتي وصل إلي أبواب تونس وهكذا استطاع أن يملك بلاد المغرب ويطوعها لحكمه[2]’إلا أن ملكه لم يستمر أكثر من عامين بعدما ثارت عليه نفس القبائل التي ساعدته من قبل في التوسع حتي تونس وحاصرته في القيروان وبعدها ثارت تونس نفسها وأعلنوا ولائهم للحفصيين وتبعهم أهالي قسنطينة,وحدث بعدها وقائع معقدة كعادة الأحداث في المغرب العربي في ذلك الوقت,التحق خلالها ابن خلدون بأول وظائفه السياسية إذ دعاه الوزير ابن تافراكين كاتباً لعلامته وهي وضع الحمد لله والشكر له بالقلم الغليظ بين البسلمة وما بعدها بالقلم الغليظ في المخاطبات والمراسيم,إذ تغلب علي نائب السلطان المريني,ونصب علي العرش السلطان الطفل اسحق بن أبي يحيي واستبد من خلاله بأمور الحكم.

وقبل استكمال سلسلة الوقائع التي شارك فيها ابن خلدون أو شهد عليها,لابد أن نتوقف عند حادث بشع كان له أثراً كبيراً في حياة ابن خلدون,رغم أنه مر عليه سريعاً كأنه لا يريد أن يتذكر مآسيه"لم أزل منذ نشأت,وناهزت مكباً علي تحصيل العلم,حريصاً علي اقتناء الفضائل,متنقلاً بين دروس العلم وحلقاته,إلي أن كان الطاعون الجارف,وذهب بالأعيان,والصدور,وجميع المشيخة,وهلك أبواي,رحمهما الله"[3].

الطاعون الجارف الذي عاصره ابن خلدون هو نفسه الوباء الذي دعته أوروبا بالموت الأسود,بعدما روعها كما روع دول آسيا والشرق الأوسط,أشار لهذا الطاعون المعربد ابن خاتمة الأندلسي في إحدي رسائله بعد أن يذكر أن الوباء ظل في بلدة المرية لأشهر وبلغ عدد من يموت بسببه كل يوم 70 شخصاً"وأين هذا العدد مما بلغنا عن غيره من بلاد المسلمين والنصاري فقد بلغنا علي ألسنة الثقات أنه هلك في يوم واحد بتونس ألف نسمة ومائتا نسمة وبتلمسان سبعمائة نسمة,وهلك بجزيرة ميورقة في يوم أربعة وعشرين من شهر مائة ألف نسمة,وهكذا كان سائر البلاد صغيرها وكبيرها علي ما تأتي إلينا"[4].

كأن ابن خلدون يشهد صورة مصغرة من نهاية العالم وخرابه بينما هو يتطلع لمجد أسلافه الذين اشتهروا بالعلم والرياسة,كانت الدنيا من حوله تفني والبنيان يتداعي,يغلب علي ظننا أن ابن خلدون اختزن في نفسه تلك الذكريات المؤلمة لكنها طفت علي قلمه حينما دعي علمه الجديد"علم العمران",هاهو العقل الخلدوني الكبير ينتقم من الطاعون المخرب للدول والمجتمعات باكتشاف الأسباب العلمية للحضارة والتمدن,فإذا كان الموت غلب في جولة فابن خلدون يغلب في أخري.

تتدحرج كرة الإمارة نحو أبي عنان بعد تغلبه علي جيوش أبيه أبو الحسن وهكذا يندرج ابن خلدون في بلاطه وقد بلغ الثالثة والعشرين,وتستمر اللعبة الجهنمية في بلاد المغرب العربي,وابن خلدون ينتقل من خدمة أمير إلي آخر ويتحول ولاؤه لمن يري فيه تحقيقاً لمصالحه ملبياً لطموحاته وآماله في السعي نحو المناصب التي طالما تاقت لها نفسه تشبهاً بسيرة أجداده التي نري أنها سببت لديه عقدة نفسية كانت تدفعه لمحاولة إثبات نفسه بكل الطرق الممكنة مستخدما ذكاؤه وثقافته وحسن حديثه,فتعرض للسجن أكثر من مرة بسبب المؤامرات التي شارك فيها,هذه الظروف التي عاش فيها انعكست علي شخصيته"وقد قويت حينئذ لدي ابن خلدون نزعة ذميمة,يصرح هو نفسه بتصويرها,ولا يحاول إخفاءها,وإن كان يلتمس لها المعاذير والمبررات,وهي نزعة انتهاز الفرص بأية وسيلة,وتدبير الوصول إلي المقاصد من أي طريق.فكان لا يضيره,في سبيل الوصول إلي منافعه وغاياته الخاصة أو في سبيل اتقاء ضرر متوقع,أن يسئ إلي من أحسنوا له,ويتآمر ضد من غمروه بفضلهم,ويتنكر لمن قدموا له المعروف.وظلت هذه النزعة رائدة في مغامراته السياسية وعلاقاته بالملوك والأمراء والعظماء منذ صلته بوظائف الدولة حتي مماته.

ولذلك لم يمض علي انتظامه في بلاط فاس عامان حتي تحركت نفسه إلي خوض غمار الدسائس السياسية ليحقق عن طريقها مطامحه وآماله.فعلي الرغم من أن أبا عنان لم يدخر وسعاً-باعتراف ابن خلدون نفسه-في إكرامه والعطف عليه,إذ اختصه بمجلسه العلمي للمناظرة وولاه علي حداثة عهده بالوظائف الحكومية منصب الكتابة والتوقيع عنه,علي الرغم من ذلك كله تآمر عليه هو والأمير أبو عبد الله محمد الحفصي صاحب بجاية المخلوع,وكان حينئذ أسيراً في فاس.ويروي ابن خلدون قصة هذه المؤامرة في عبارة غامضة,ويعترف بما وقع بينه وبين أمير بجاية الأسير من التفاهم,وأنه خرج عن حدود التحفظ,ولكنه يعتذر بأن الذي حمله علي ذلك ما كان بين أسرته وبين بني حفص الذين ينتمي إليهم الأمير المخلوع من ود قديم.فقد ولي في عهدهم جداه الأول والثاني شئون تونس وبجاية كما سبق بيان ذلك,فاتفق ابن خلدون مع الأمير المخلوع الأسير علي تدبير مؤامرة لتحريره واتسرداد ملكه علي أن يوليه منصب الحجابة(أرقي منصب في الدولة,ويشبه منصب رئيس الوزراء)متي تم له الأمر.فبلغ أبا عنان خبر هذه المؤامرة فقبض علي ابن خلدون وعلي الأمير المخلوع كليهما وسجنهما؛وكان ذلك سنة 758هـ,ثم أطلق سراح الأمير,ولكنه أبقي علي ابن خلدون في سجنه"[5].

كثيراً ما يتم المقارنة بين آراء ابن خلدون وآراء مكيافيللي لتقاطع سيرة حياتهما وأفكارهما في نقاط عدة,لكن الشبه الأكبر بين ابن خلدون نفسه والأمير الذي تمني مثله مكيافيللي"...وألفي ابن خلدون في تلك الحوادث فرصة للعمل والظهور؛وقام خلالها بدور لا يحمد,وقد كان تصرفه في حق السلطان أبي عنان بادرة سيئة تنم عن عواطف وأهواء ذميمة؛بيد أنه لم يكن وليد خطأ مؤقت,بل كان علي العكس عنوان نزعة متأثلة في النفس,وثمرة مبدأ راسخ.كان ابن خلدون رجل الفرص,ينتهزها بأي الوسائل والصور؛وكانت الغاية لديه تبرر كل واسطة,ولا يضيره في ذلك أن يجزي الخير بالشر والإحسان بالإساءة,وهو صريح في تصوير هذه النزعة لايحاول إخفاءها.فقد أطلقه الوزير ابن عمر من الأسر,وأحسن إليه وأثابه,لكنه ما كاد يري وثوب المتغلب منصور بن سليمان حتي ترك جانب الوزير إلي جانب خصمه,وتولي الكتابة للملك الجديد,بيد أن ولاءه لم يطل,فإن السلطان أبا سالم نزل في غمارة وأخذ يدعو لنفسه,فاتصل مبعوثه الفقيه ابن مرزوق بابن خلدون سراً,وسلمه من أبي سالم كتاباً يرجوه فيه بث دعوته والتمهيد لعوده,ويعده بأجمل خير وحظوة,فقام ابن خلدون بالمهمة,ومضي في تحريض الزعماء والشيوخ حتي استجابوا لدعوة أبي سالم,وأجمعوا أمرهم علي تأييده,وكذا وافق الوزير ابن عمر علي طاعته بعد أن أجهده الحصار.ثم غادر ابن خلدون سيده فجأة مع نفر من الزعماء إلي معسكر السلطان أبي سالم,وعرض عليه خطته لخلع منصوربن سليمان.وهنا يعتذر ابن خلدون عن تصرفه,ويصرح لنا بأنه انحرف عن منصور(لما رأيت اختلال أحواله ومصير الأمر إلي السلطان).وسار أبو سالم في جموعه,وابن خلدون في ركابه إلي فاس,ففر منصور ابن سليمان عند مقدمه,وجلس أبو سالم علي عرش أبيه في شعبان سنة 760 وعين ابن خلدون كاتب السر والإنشاء,وجعله موضع ثقته وعطفه...."[6].

لقد اختار ابن خلدون الأندلس أرضاً جديدة لأحلامه وهناك يجد الترحاب,فقد تعرف علي سلطان غرناطة أبو عبد الله ثالث ملوك بني الأحمر ووزيره الشهير لسان الدين الخطيب لما كانا في فاس أثناء ثورة خلع علي إثرها أبي عبد الله,والتجأ إلي المغرب العربي بصحبة وزيره لكي يتمكن من استعادة عرشه,ولسبب آخر فهناك مجد أسلافه ممن كانوا أهل حكم وسياسة حتي سقوط إشبيلية عام 1248م علي يد فرناندو الثالث ملك قشتالة "ولما استولي الموحدون علي الأندلس,وملكوها من يد المرابطين,وكان ملوكهم:عبد المؤمن وبنيه.وكان الشيخ أبو حفص كبير هنتانة زعيم دولتهم,وولوه علي اشبيلية وغرب الأندلس مراراً,ثم ولوا ابنه عبد الواحد عليها في بعض أيامهم,ثم ابنه أبا زكريا كذلك,فكان لسلفنا بإشبيلية اتصال بهم,وأهدي بعض أجدادنا من قبل الأمهات,ويعرف بابن المحتسب,للأمير أبي زكريا يحيي بن عبد الواحد بني أبي حفص أيام ولايته عليهم,جارية من سبي الجلالقة,اتخذها أم ولد,وكان له منها ابنه أبو يحيي ابن زكريا ولي عهده الهالك في أيامه,وأخواه:عمر وأبو بكر,وكانت تلقب أم الخلفاء,ثم انتقل الأمير أبو زكريا إلي ولاية إفريقية سني العشرين والستمائة.ودعا لنفسه بها,وخلع دعوة بني عبد المؤمن سنة خمس وعشرين.واستبد بإفريقية,انتقضت دولة الموحدين بالأندلس,وثار عليهم ابم هود.ثم هلك واضطربت الأندلس,وتكالب الطاغية عليها,وردد الغزو إلي الفرنتيرة,بسيط قرطبة وإشبيلية إلي جيان,وثار ابن الأحمر بغرب الأندلس من حصن أرجونة,يرجو التماسك لما بقي ن رمق الأندلس.وفاوض أهل الشوري يومئذ بإشبيلية.وهم بنو الباجي,وبنو الجد,وبنو الوزير,وبنو سيد الناس.وداخلهم في الثورة علي ابن هود,وأن يتجافوا للطاغية عن الفرنتيرة,ويتمسكوا بالجبال الساحلية وأمصارها المتوعرة ن مالقة إلي غرناطة إلي المرية؛فلم يوافقوه علي بلدهم.

وكان مقدمهم أبو مروان الباجي,فنابذهم ابن الأحمر وخلع طاعة الباجي,وبايع مرة لابن هود,ومرة لصاحب مراكش من بني عبد المؤمن,ومرة للأمير أبي زكريا صاحب إفريقية.ونزل غرناطة,واتخذها داراً لملكه,وبقيت الفرنتيرة وأمصارها ضاحية من ظل الملك,فخشي بنو خلدون سوء العاقبة مع الطاغية علي تلك الثغور؛فملك قرطبة,وإشبيلية,وقرمونة وجيان وما إليها,في مدة عشرين سنة.ولما نزل بنو خلدون سبتة أصهر إليهم العزفي بأبنائه وبناته...."[7].

وهناك أرسله السلطان في سفارة لبيدرو ملك قشتالة المعروف ببيدرو القاسي عند الأوروبيين,وعند ابن خلدون"الطاغية ملك قشتالة يومئذ بتره بن الهنشة بن اذفونش,لاتمام عقد الصلح ما بينه وبين ملوك العدوة".

ينجح في مهمته كسفير للنوايا الحسنة,لكنه يترك الأندلس بعدما فسدت علاقته بلسان الدين بن الخطيب نتيجة للوشايات والسعايات,ويعود من جديد لبلاد المغرب ليباشر سيرته الأولي في السياسة والسعي لتحقيق الذات بنيل المناصب حتي أدركه السأم واستشعر الفشل في الحياة السياسية,وهذا من حسن حظ البشرية جمعاء لأنه سلك بعدها طريق العلم وبدأ في تدوين عمله الأهم"المقدمة" في قلعة بني سلامة بمدينة وهران غرب الجزائر,بعدما أمضي 25عاماً من مره في بلاط الحكام وبين السيادة والضياع.

البلد الأخيرة التي شهد ابن خلدون عليها كانت مصر التي زارها وهو في سن52عاماً,وقد اكتملت شهرته وعرف المتعلمون قدره"ولما رحلت من تونس منتصف شعبان من سنة أربع وثمانين,أقمنا في البحر نحواً من أربعين ليلة,ثم وافينا مرسي الاسكندرية يوم الفطر.ولعشر ليال من جلوس الملك الظاهر علي التخت,واقتعاد كرسي الملك دون أهله بني قلاون؛وكنا علي ترقب ذلك,لما كان يؤثر بقاصية البلاد من سموه لذلك,وتمهيده له.وأقمت بالاسكندرية شهراً لتهيئة أسباب الحج ولم يقدر عامئذ,فانتقلت إلي القاهرة أول ذي القعدة,فرأيت حضرة الدنيا,وبستان العالم ومحشر الأمم,ومدرج الذر من البشر,وإيوان الإسلام,وكرسي الملك,تلوح القصور والأواوين في جوه,وتزهر الخوانك والمدارس بآفاقه,وتضئ البدور والكواكب من علمائه؛قد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء,يسقيهم النهل والعلل سيحه ويجني إليهم الثمرات والخيرات ثجه؛ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة,وأسواقها تزخر بالنعم.ومازلنا نحدث عن هذا البلد,وبعد مداه في العمران,اتسعا الأحوال؛ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا,حاجهم وتاجرهم,بالحديث عنه.سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس,وكبير علماء بالمغرب؛أبا عبد الله المقري,مقدمه الحج سنة أربعين,فقلت له:كيف هذه القاهرة من لم يرها لم يعرف عز الإسلام.

وسألت شيخنا أبا العباس ابن إدريس كبير العلماء ببجاية مثل ذلك فقال:كأنما انطلق أهله من الحساب؛يشير إلي كثرة أممه وأمنهم العواقب.

وحضر صاحبنا قاضي العسكر بفاس,الفقية الكاتب أبو القاسم البرجي بمجلس السلطان أبي عنان,منصرفه من السفارة عنه إلي ملوك مصر,وتأدية رسالته النبوية إلي الضريح الكريم,سنة ست وخمسين وسأله عن القاهرة فقال:

أقول في العبارة عنها علي سبيل الاختصار:إن الذي يتخيله الإنسان,فإنما يراه دون الصورة التي تخيلها,لاتساع الخيال عن كل محسوس,إلا القاهرة,فإنها أوسع من كل ما يتخيل فيها.فأعجب السلطان والحاضرون بذلك."[8]

يمكننا استشعار الحرارة التي يتحدث بها ابن خلدون عن القاهرة المملوكية,فهي المدينة الوحيدة التي أفاض في وصفها بإعجاب,ومن ذلك نتمكن من تقدير مكانة القاهرة في ذلك العهد,وهناك يشغل ابن خلدون منصب القضاء في عهد الظاهر برقوق بالإضافة للتدريس في الجامع الأزهر وأغلب الظن أن دروسه كانت تدور حول الأفكار التي صاغها في مقدمته,حتي وقعت فتنة يلبغا الناصري,الذي تمكن من الإطاحة بالظاهر برقوق لكنه يتمكن من استعادة عرشه,وهي واحدة من عدد هائل من فتن ومؤامرات البلاط المملوكي الذي لم يكن يختلف كثيراُ عن بلاط بلاد المغرب,يسرد ابن خلدون الواقعة ويعالجها من الجذور مستخدماً منطقه العلمي المميز,فيستعرض تاريخ المماليك منذ البدء بعد أن يوضح نظريته"وذلك أن الدولة الكلية,وهي التي تتعاقب فيها الملوك واحداً بعد واحد,في مدة طويلة,قائمين علي ذلك بعصبية النسب أو الولاء,وهذا كان الأصل في استيلائهم وتغلبهم,فلا يزالون كذلك إلي انقراضهم,وغلب مستحقين آخرين ينزعونه من أيديهم بالعصبية التي يقتدرون بها علي ذلك,ويجوزون بالأعمال التي كانت بإيدي الدولة الأولي؛يفضون جبايتها بينهم علي تفاضل البأس والرجولة والكثرة في العصابة أو القلة؛وهم علي حالهم ن الخشونة لمعاناة البأس,والاقلال من العيش لاستصحاب حال البداوة,وعدم الثروة من قبل.ثم تنمو الثروة فيهم بنمو الجباية التي ملكوها,ويزين حب الشهوات للاقتدار عليها,فيعظم الترف في الملابس والمطاعم والمساكن والمراكب والممالك وسائر الأحوال,ويتزايد شيئاً فشيئاً بتزايد النعم وتتسع الأحوال أوسع ماتكون,ويقصر الدخل عن الخرج,وتضيق الجباية عن أرزاق الجند وأحوالهم,ويحصل ذلك لكل أحد ممن تحت أيديهم,لأن الناس تبع لملوكهم,ودولتهم,ويراجع كل أحد نظره فيما هو فيه من ذلك,فيرجع وراءه,ويطلب كفاء خرجه بدخله.

ثم أن البأس يقل من أهل الدولة بما ذهب لهم من الخشونة,وما صاروا إليه من رقة الحاشية والتنعم,فيتطاول من بقي ن رؤساء الدولة إلي الاستبداد بها غيرة عليها من الخلل الواقع بها.ويستعد لذلك بما بقي عنده من الخشونة,ويحملهم علي الاقلاع عن الترف,ويستأنف لذلك العصابة بعشيره أو بمن يدعوه لذلك؛فيستولي علي الدولة,ويأخذ في دوائها من الخلل الواقع,وهو أحق الناس به.وأقربهم إليه فيصير الملك له,وفي عشيره؛وتصير كأنها دولة أخري,تمر عليها الأوقات.ويقع فيها ما وقع في الأولي؛فيستولي آخر منه كذلك إلي أن تنقرض الدولة بأسرها,وتخرج عن القوم الأولين أجمع.وتأتي دولة أخري مباينة لعصابة هؤلاء في النسب,أو الولاء.سنة الله في عباده"[9].

وفي ختام حياته المضطربة يقوم ابن خلدون بمهمة أخيرة لكن هذه المرة لم يسع إليها بل هي من سعت نحوه,فتحت عنوان"لقاء الأمير تمر سلطان المغل والططر"يدون ابن وقائع خروج السلطان فرج بن برقوق لصد غزو تيمور لنك علي الشام"لما وصل الخبر إلي مصر بأن الأمير تمر مَلَك بلاد الروم,وخرب سيواس,ورجع إلي الشام,جمع السلطان عساكره,وفتح ديوان العطاء,ونادي في الجند بالرحيل إلي الشام,وكنت أنا يومئذ معزولاً عن الوظيفة؛فاستدعاني دواداره يشبك,وأرادني علي السفر معه في ركاب السلطان,فتجافيت عن ذلك.ثم أظهر العزم علي بلين القول,وجزيل الانعام فأصخيت وسافرت معهم منتصف شهر المولد الكريم من سنة ثلاث؛فوصلنا إلي غزة,فأرحنا بها أياماً نترقب الأخبار؛ثم وصلنا إلي الشام مسابقين الططر إلي أن نزلنا شقحب,وأسرينا فصبحنا دمشق,والأمير تمر في عساكره قد رحل من بعلبك قاصداُ دمشق,فضرب السلطان خيامه وأبنيته بساحة قبة يلبغا.ويئس الأمير تمر من مهاجمة البد,فأقام بمرقب علي قبة يلبغا يراقبنا ونراقبه أكثر من شهر,تجاول العسكران في هذه الأيام مرات ثلاثاً أو أربعاً,فكانت حربهم سجالاً؛ثم نمي الخبر إلي السلطان وأكابر أمرائه,أن بعض الأمراء المنغمسين في الفتنة يحاولون الهرب إلي مصر للثورة بها؛فأجمع رأيهم للرجوع إلي مصر خشية من انتقاض الناس وراءهم,واختلال الدولة بذلك,فأسروا ليلة الجمعة من شهر(....)وركبوا جبل الصالحية,ثم انحطوا في شعابه,وساروا علي شافة البحر إلي غزة,وركب الناس ليلاً يعتقدون أن السلطان سار علي الطريق الأعظم إلي مصر,فساروا عصباً وجماعات علي شقحب إلي أن وصلوا إلي مصر,وأصبح أهل دمشق متحيرين قد عميت عليهم الأنباء."[10]

استمراراً لسلسلة الغدر المملوكي تتسبب تلك الخيانة من الأمراء, في استباحة دمشق وسحق أهلها وحرق شوارعها,رغم محاولة ابن خلدون في لقاؤه مع تيمور أن يحفظ دماء سكان المدينة,يحاول بعض المؤرخين وضع ذلك الموقف ضمن مواقف ابن خلدون الوصولية,فهو يتملق تيمورلنك ويحاول نفاقه في الكلام ونيل الحظوة عنده بكتابة كتاب عن بلاد المغرب يستعين فيه بغزوها,والغالب علي ظننا أن بلاد المغرب فصلها ابن خلدون في مقدمته وتاريخه في كتاب"العبر"والكراسات التي قدمها لتيمور هي عبارة عن تكرار ما كتبه قبل سنوات طويلة خلت,أما تهمة النفاق فكيف يتمكن العالم وقد بلغ الشيخوخة أن يدافع عن مدينة تراجع عنها حماتها سوي بلسانه كي يحفظ أرواح أهلها.

كانت حياة ابن خلدون كما دونها مرآة صادقة لعصر كامل تنقل ابن خلدون بين دوله وشعوبه شاهد عيان ومشارك فعال في لحظاته الأبرز الأكثر سوءً في معظم الأوقات,غاص في مشاكلها وعرف بتفكيره العميق دقائق الحياة الاجتماعية والسياسية فيه,لقد شغلت حياته العملية المنخرطة في أمور المجتمع كل سيرته تقريباً,فلم يحدثنا عن والديه أو زوجته وأبناؤه أو أياً من أموره الشخصية إلا بإشارات مقتضبة,لكنه ترك لنا ذخيرة هائلة من المعارف والمعلومات عن زمنه والواقع العربي كما عاصره...واقع الصخب والتنافس المرير.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

2

الفكر الاستشرافي في فلسفة ابن خلدون

 

استطاع ابن خلدون استشراف المستقبل في لمحات تعرض لنا في مقدمته,كأنه عالم مستقبليات يشرح بمنطق محكم ما ستتمخض عنه الأيام من نظريات وأحداث,المقدمة نفسها عمل استشرافي فتح للعالم آفاق جديدة لم تكن معروفة له حينئذ,أودع فيها ابن خلدون أفكاراً سبقت عصرها,وأثبت المستقبل صدقها لينضم إلي نخبة العقول القائدة للبشرية نحو المعرفة وتوطيد أركان المنطق العلمي في عالم يسوده الجهل والفوضي,وبتأطير المعارف وتنظيمها يتم السيطرة علي تلك الفوضي,والقضاء علي ذلك الجهل بالذات والنفس والعالم.

نظرية التطور:قبل العالم الإنجليزي تشارلز داروين كان العديد من المفكرين والفلاسفة يشعرون بداخلهم أن عملية الخلق قائمة علي النشوء والارتقاء وليس التصميم المباشر,عبروا عن ذلك في كل الثقافات تقريباً,وعرف العلماء العرب كابن سينا وابن الطفيل وإخوان الصفا والجاحظ وغيرهم تلك الحقيقة ودونوها في مؤلفاتهم.

لم يشذ ابن خلدون عن تلك الروح التأملية في حقيقة الوجود بل يدهشنا بقوة استبصاره"اعلم أرشدنا الله وإياك,إنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها علي هيئة من الترتيب والإحكام,وربط الأسباب بالمسببات,واتصال الأكوان بالأكوان,واستحالة بعض الموجودات إلي بعض,لا تنقضي عجائبه في ذلك ولا  تنتهي غاياته,وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني,وأولاً عالم العناصر المشاهدة كيف تدرج صاعداً من الأرض إلي الماء,ثم النار متصلاً بعضها ببعض.وكل واحد منها مستعد إلي أن يستحيل إلي مايليه صاعداً وهابطاً ويستحيل بعض الأوقات,والصاعد منها ألطف مما قبله إلي أن ينتهي إلي عالم الأفلاك وهو ألطف من الكل علي طبقات اتصل بعضها ببعض علي هيئة لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط,وبها يهتدي بعضهم إلي معرفة مقاديرها وأوضاعها وما بعد ذلك من وجود الذوات التي لها هذه الآثار فيها.ثم انظر إلي عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم إلي النبات ثم الحيوان علي هيئة بديعة من التدريج:آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له,وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف,ولم يوجد لها إلا قوة اللمس فقط.ومعني الاتصال في هذه المكونات أن آخر كل أفق منها مستعد بالاستعداد القريب لأن يصير أول أفق الذي بعده.واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه,وانتهي في تدريج التكوين إلي الإنسان صاحب الفكر والروية,ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك,ولم ينته إلي الروية والفكر بالفعل,وكان ذلك أول أفق من الإنسان وبعده.وهذا غاية شهودنا."[11]إنه شرح يسبق مجهودات علماء الأحياء التي توجت بكتاب"أصل الأنواع"لداروين وشرح تفصيلي علي حسب لغة ومعارف عصره لشجرة الكائنات الحية وعلاقتها ببعضها البعض وتناغم الطبيعة في سيمفونية أزلية من حولنا.

علم النفس السياسي:تحت عنون"المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أقواله وعوائده"يتنبأ ابن خلدون بسقوط الأندلس طبقاً لعلامات نفسية هي ذاتها التي تطغي علينا الآن في الوطن العربي,أمام الثقافة الخارجية للدول الكبري التي طغت علي العقل العربي وجعلته فضلاً عن كونه مستهلك نهم لبضائع تلك الدول,كأداة للتفاخر والتباهي دون أي محاولة للعمل والإنتاج علي منوالها,إلي مقلد أعمي غير واع أن مايصلح لحياة الغرب ليس بالضرورة هو الشئ المناسب لحياة الشرق"والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه:إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه؛أو لما تغالط به من انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب,فإذا غالطت بذلك واتصل لها حصل اعتقاداً,فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به,وذلك هو الاقتداء,أو لما تراه,والله أعلم,من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس,وإنما هو بما انتحله من العوائد والذاهب,تغالط أيضاً بذلك عن الغلب,وهذا راجع للأول.ولذلك تري المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها,بل وفي سائر أحواله.وانظر ذلك في الأبناء مع أبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً ,وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم.وانظر إلي كل قطر من الأقطار كيف يغلب علي أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم؛حتي إنه إذا كانت أمة تجاور أخري ولها في الغلب عليها فيسري إليهم هذا من التشبه والاقتداء حظ كبير؛كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة,فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم,حتي في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت,حتي لقد يستشعر الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء؛واللأنر لله,وتأمل في هذا سر قولهم:"العامة علي دين الملك",فإنه من بابه,إذ الملك غالب لمن تحت يده,والرعية مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم والمتعلمين بمعلميهم,والله العليم الحكيم,وبه سبحانه وتعالي التوفيق"[12]

ابن خلدون هنا ليس عرافاً أو ضارباً للودع ليتنبأ بضياع الأندلس القريب,بل مفكر ذو نظر ثاقب,رأي أي الثقافات الغالبة للمجتمع الأندلسي,وبالتأكيد مع الوقت ستصير هي الصبغة الوحيدة لذلك المجتمع وهذا ما حدث بالضبط,عند سقوط الحلم الأندلسي وانهيار الحضارة العربية في أوروبا.

فلسفة الفن:يصعب تخيل عمل موسوعي كالمقدمة خالياً من نظرة إلي الفنون,يختم ابن خلدون فصل"في صناعة الغناء"الذي عرفه بأنه"تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات علي نسب منتظمة معروفة يوقع علي كل صوت منها توقيعاً عند قطعه فيكون نغمة,ثم تؤلف تلك النغم بعضها إلي بعض علي نسب متعارفة,فيلذ سماعها لأجل ذلك التناسب,وما يحدث عنه من الكيفية في تلك الأصوات"[13],بملحوظة ذكية كم يتردد صداها الآن وسط كل تلك الأصوات الصاخبة المنفرة التي تنطق بكل ما يثير النفس من تقزز ورثاء علي مجتمع تردي إلي الحضيض و انقطع عنه  المدد الروحي الذي يقدمه الفن للنفوس"وهذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف,إلا وظيفة الفراغ والفرح,وهي أيضاً أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه.والله أعلم"[14],يواكب الفن الحقيقي لحظات المجد في تاريخ الأمم فهو الزهرة الأخيرة التي تزين ثوب الحضارة الأنيق,وسقوطها مؤشر لفساد الذوق العام,وكيف لمجتمع فسد ذوقه وبالتالي فسدت خياراته أن يبني صروح العظمة الحضارية.

الضرائب:في عام 1982عانت الولايات المتحدة من أزمة اقتصادية,تمكن الرئيس دونالد ريجان من حلها بالاستعانة بابن خلدون,فبعدما قرر إلغاء الضرائب علي الأفراد والشركات استبدله بقرار آخر يقضي بخفضها,وفي إحدي خطاباته ذكر أنه تعلم الاقتصاد في الجامعة,وتعلم من ابن خلدون أن في بداية حياة الإمبراطورية يكون معدل الضرائب منخفض,لكن العوائد مرتفعة,وفي نهاية الإمبراطورية وسقوطها,تصبح الضرائب مرتفعة والعوائد قليلة,هكذا أنقذ ابن خلدون الاقتصاد الأمريكي في فترة حرجة مرت بها في عهد ريجان ونص كلامه في المقدمة"اعلم أن الجباية في أول الدولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة,وآخر الدولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة.والسب في ذلك أن الدولة: إن كانت علي سنن الدين فليست تقتضي إلا المغارم الشرعية من الصدقات والخراج والجزية,وهي قليلة الوزائع ,لأن مقدار الزكاة من المال قليل كما علمت وكذا زكاة الحبوب والماشية,وكذا الجزية والخراج وجميع المغارم الشرعية,وهي حدود لا تتعدي؛وإن كانت علي سنن التغلب والعصبية فلابد من البداوة في أولها كما تقدم,والبداوة تقتضي المسامحة والمكارمة وخفض الجناح والتجافي عن أموال الناس,والغفلة عن تحصيل ذلك إلا في النادر,فيقل لذلك مقدار الوظيفة الواحدة والوزيعة التي تجمع الأموال من مجموعها.وإذا قلت الوزائع والوظائف علي الرعايا نشطوا للعمل ورغبوا فيه,فيكثر الاعتمار.ويتزايد محصول الاغتباط بقلة المغرم,وإذا كثر الاعتمار كثرت أعداد تلك الوظائف والوزائع,فكثرت الجباية التي هي جملتها."[15].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

3

قراءة تحليلية في مقدمة ابن خلدون

 

المقدمة في مجملها محاولة جديدة لقراءة التاريخ,اختط فيها ابن خلدون لنفسه منهجاً مغايراً لما ألفه المؤرخون من قبل,فرجلنا رجل ذهني من طراز نادر,لا يردد كالبغبغاء ولا يسلم بصحة رأي قبل إمعان النظر فيه,صاحب منهج فكري لم نعهده في الشرق والغرب,دائرة معارف استندت علي علم التاريخ يستقي منه,ويدون ملاحظاته الذكية,فتولد علم الاجتماع بالنظر والدراية الملاحظة,وربط السبب بالمسبب وتشكيل الرؤي التاريخية بربطها بالواقع الأرضي المحض,لم يقف في كتابه خطيباً ولا واعظاً كما جرت العادة لكل من يتصدي للأمور العامة,بل كان باحثاً خالصاً أدار عمله البحثي علي أكمل وجه,وطبعاً كعادة الأعمال الكبري لم تخل من أغاليط عديدة ومآخذ متنوعة,وتحليلنا المتواضع للمقدمة سيستند علي الرؤية التاريخية لابن خلدون للأحداث والوقائع ومحاولة تفسيرها طبقاً للمنطق والعقل.

بعد الاستفتاح التقليدي المسجوع,يبدأ ابن خلدون التأسيس لعمله بالتعريف بعلم التاريخ "أما بعد:فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال,وتشد إليه الركائب والرحال,وتسمو إلي معرفته السوقة والأغفال,وتتنافس فيه الملوك والأقيال ويتساوي في فهمه العلماء والجهال.إذ هو في ظاهره لا يزيد علي إخبار عن الأيام والدول.والسوابق من القرون الأول.تنمو فيها الأقوال.وتضرب فيها الأمثال.وتطرف بها الأندية إذ غصها الاحتفال وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال,واتسع للدول فيها النطاق والمجال.وعمروا الأرض حتي نادي بهم الارتحال,وحان منهم الزوال,وفي باطنه نظر وتحقيق.وتعليل للكائنات ومباديها دقيق,وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق.فهو لذلك أصيل في الحكمة وعريق,وجدير بأن يعد في علومها وخليق.وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها,وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها,وخلطها المتطفون بدسائس من الباطل وهموا فيها أو ابتدعوها.وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها.واقتفي تلك الآثار الكثير ممن بعده أو ابتدعوها.وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها.واقتفي تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها.وأدوها إلينا كما سمعوها,ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها.ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها.فالتحقيق قليل.وطرف التنقيح في الغالب كليل.

والغلط والوهم نسيب الأخبار وخليل.والتقليد عريق في الآدميين وسليل.والتطفل علي الفنون عريض وطويل,ومرعي الجهل بين الأنام وخيم وبيل.والحق لا يقاوم سلطانه,والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه.والناقل إنما هو يملي وينقل.والبصيرة تنقد الصحيح إذا تمقل,والعلم يجلو لها صفحات الصواب ويصقل"[16]

يمهد ابن خلدون لمقدمته بالأسباب التي دعته للتدوين في علم التاريخ,فيوضح أولاً مكانة علم التاريخ وطبيعته المتفردة عن سائر العلوم,فهو العلم الذي اهتمت به الدول والحضارات وفي سبيله تحتمل مشاق الترحال,وله مزية جمعت بين المتناقضات,فالعوام يهتمون به والملوك تتنافس فيه ويتساوي في فهمه العلماء والجهال.

لقد عرفت الحضارات مؤرخين أعلام في حقل الدراسات التاريخية,فقد خلب هيرودوت ومانيتون وبلوتارك وغيرهم من مؤرخي العالم القديم الألباب لقرون طويلة,برواياتهم عن الملوك القدامي وتصويرهم لطبائع الشعوب في مصر واليونان وروما,وفي الزمن المعاصر نجد ويل ديورانت يفرد 40عاماً ليضع مؤلفه"قصة الحضارة"وأرنولد توينبي يدون مؤلفاته العمدة في فلسفة الحضارة,بينما توماس كارلايل يتبع سير أبطال التاريخ ويلفت لهم الأنظار برؤي متجددة.

ويعلق ابن خلدون أن السبب في تساوي فهمه بين العلماء والجهال بأن للتاريخ وجهان,أحدهما ظاهر يتعامل مع الأخبار المتناقلة عن الأمم السابقة محلاة بالأقوال والأمثال,فيصير بذلك مثار حديث في الاجتماعات مشبعاً فضول الناس حول الأقوام التي جاست علي الأرض وكيف تقلبت بهم الأطوار,فهذا سبب فهم الجهال له من الناحية الظاهرية.

أما باطن ذلك العلم فأساسه نظر وتحقيق,وتعليل للحوادث وتآلف علوم متعددة للربط بين التفاعلات التاريخية والاجتماعية,هكذا يدرك العلماء مرامي التاريخ,فهو ليس مجلس سامر يعمر بالأقاصيص والحواديت المسلية,بل يدخل في عالم الفلسفة ليصبح فرعاً من العلوم العقلية لا النقلية في حاجة إلي إمعان النظر وسرد الأسباب والكيفيات.

"هذا,و قد دون الناس في الأخبار وأكثروا,وجمعوا تواريخ الأمم والدول في العالم وسطروا.والذين ذهبوا بفضل الشهرة والأمانة المعتبرة,واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخرة.هم قليلون لا يكادون يتجاوزون عدد الأنامل.ولا حركات العوامل؛مثل ابن إسحق والطبري وابن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي والمسعودي وغيرهم من المشاهير المتميزين عن الجماهير,وإن كان في كتب المسعودي والواقدي من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الإثبات.ومشهور بين الحفظة الثقات,إلا أن الكافة اختصتهم بقبول أخبارهم,واقتفاء سننهم في التصنيف واتباع آثارهم.والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون أو اعتبارهم,فللعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار,وتحمل عليها الروايات والآثار.ثم إن أكثر التواريخ لهؤلاء عامة المناهج والمسالك,لعموم الدولتين في صدر الإسلام في الآفاق والممالك.

وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ والمتارك.ومن هؤلاء من استوعب ماقبل الملة من الدول الأمم,والأمر العمم,كالمسعودي ون نحا منحاه.

وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلي التقييد ووقف في العموم والإحاطة عن الشأو البعيد,فقيد شوارد عصره,واستوعب أخبار أفقه وقطر,اقتصر علي أحاديث دولته مصره,كما فعل ابن حيان مؤرخ الأندلس والدولة الأموية بها,وابن الرقيق مؤرخ إفريقية والدول التي كانت بالقيروان.

ثم لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد,وبليد الطبع والعقل أو متبلد.ينسج علي ذلك المنوال.ويحتذي به علي المثال.ويذهل عما أحالته الأيام من الأحوال,واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال.فيجلبون الأخبار عن الدول,وحكايات الوقائع في العصور الأول,صوراً قد تجردت عن موادها,وصفاحاً انتضيت من أغمادها,ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها؛إنما هي حوادث لم تعلم أصولها,وأنواع لم تعتبر أجناسها ولا تحققت فصولها,يكررون في موضوعاتها الأخبار المتداولة بأعيانها,اتباعاً لمن عني من المتقدمين بشأنها,ويغفلون أمر الأجيال الناشئة في ديوانا,بما أعوز عليهم من ترجمانها,فتستعجم صحفهم عن بيانها,ثم إذا عرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقاً,محافظين علي نقلها وهماً أو صدقاً؛لا يتعرضون لبدايتها,ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها,وأظهر من أيتها,ولا علة للوقوف عند غايتها,فيبقي الناظر متطلعاً بعد إلي افتقاد أحوال مبادئ الدول ومراتبها,مفتشاً عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها,باحثاً عن المقنع في تباينها أو تناسبها,حسبما نذكر ذلك كله في مقدمة الكتاب.

ثم جاء آخرون بإفراط الاختصار.وذهبوا إلي الاكتفاء بأسماء الملوك والأمصار,مقطوعة عن الأنساب والأخبار,موضوعة عليها أعداد أيامهم بحروف الغبار,كما فعل ابن رشيق في ميزان العمل ومن اقتفي هذا الأثر من الهمل,وليس يعتبر لهؤلاء قال,ولا يعد لهم ثبوت ولا انتقال,لما أذهبوا من الفوائد,وأخلوا بالمذاهب المعروفة للمؤرخين والعوائد"[17]

وينتقد ابن خلدون ما وصلنا من التاريخ,حيث زين الباطل بطلاء زائف من الحقائق الملفقة والموضوعة,ولم يلحظ أحد المعني الكامن خلف تلك الروايات,لم يعترضوا علي الأقوال التافهة,يحدد ابن خلدون ثلاث أسباب لما دون في كتب التاريخ من غث القول فتحول مع مرور الزمن وتقادمه إلي حقائق عند النقلة:

1-قلة التحقيق والنظر العقلي, القدرة علي التنقيح وتمييز الباطل من الحق ضعيفة.

2-اختلاط الأوهام بالحقائق عند تناول الخبر التاريخي,فالكثير من المؤرخين يضفي صور من خياله,وأفكاره الشخصية علي الأحداث,وذلك تبصر من ابن خلدون في النفس البشرية وميلها إلي الوهم.

3-غياب النزعة النقدية,في مقابل الميل إلي التقليد,فالنقد والتمحيض يحتاجان إلي مجهود عقلي,أما النقل والسير علي خطوات القدماء فمسالكه واسعة,والتطفل علي العلوم ممن يفتقرون للإمكانيات البحثية اللازمة,داء قديمم في الإنسانية,والجهل هو المتسيد وعواقبه وخيمة.

ووسط كل هذا النقد للمؤرخين يذكر ابن خلدون ستة مؤرخين هم الأبرز في علم التاريخ:ابن إسحق,الطبري,ابن الكلبي,الواقدي,الأسدي,المسعودي,مع ذلك يخص المسعودي والواقدي بأن المطاعن في تاريخهم لا يمكن إغفالها,لكنه يضع قاعدة ذهبية لقراءة الأعمال التاريخية".والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون أو اعتبارهم,فللعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار,وتحمل عليها الروايات والآثار"والميزة في أعمالهم استيعابهم شمولية التاريخ وتغطية جوانب متعددة من حياة الأمم,مثل المسعودي ومن سار علي نهجه,تلك هي الطبقة الأولي.

أما الطبقة الثانية تضم من اقتصر في بحثه عن عصره ومنطقته كابن حيان الذي أرخ لأرض الأندلس وسجل زمن الدولة الأموية بها,وابن الرشيق مؤرخ إفريقية.

الطبقة الثالثة ينتقدهم ابن خلدون كمقدلين متبلدي العقول,ينسجون علي نفس منوال السابقين غير متفطنين إلي تبدل الأحوال والأخبار,يكررون دون وعي,عاجزين عن التبصر في أسباب قيام الدول وسقوطها.

الطبقة الرابعة لا يعتبرهم ابن خلدون مؤرخين من الأساس,فهم مؤرخو الاختصار والاستسهال,لم يذكروا سوي أسماء الملوك والأقطار كابن الرشيق في ميزان العمل.

بذلك يؤكد ابن خلدون ما ذكره في مقدمته"مرعي الجهل بين الأنام وخيم وبيل"

"ولما طالعت كتب القوم,وسبرت غور الأمس واليوم,نبهت عين القريحة من سنة الغفلة والنوم,وسمت التصنيف من نفسي وأنا المفلس أحسن السوم.

فأنشأت في التاريخ كتاباً,رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجاباً,وفصلته في الأخبار والاعتبار باباً باباً,وأبديت فيه لأولية الدول والعمران عللاً وأسباباً,وبنيته علي أخبار الأمم الذين عمروا المغرب في هذه الأعصار,وملأوا أكناف النواحي منه والأمصار,وما كان لهم من الدول الطوال أو القصار,ومن سلف من الملوك والأنصار,وهم العرب والبربر,إذ هما الجيلان اللذان عرف بالمغرب مأواهما,وطال فيه علي الأحقاب مثواهما,حتي لا يكاد يتصور فيه ما عداهما ولا يعرف أهله من أجيال الآدميين سواهما,فهذبت مناحيه تهذيباً,وقربته لأفهام العلماء والخاصة تقريباً,وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكا غريباً,واخترعته من بين المناحي مذهباً عجيباً,وطريقة مبتدعة وأسلوباً,وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها,ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها؛حتي تنزع من التقليد يدك,وتقف علي أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك"[18]

المعرفة الحقة تورث الهمة وتجعل الإنسان يحاول سد النقص الحاصل في الدنيا من حوله,بقراءة ابن خلدون كتب التاريخ وتمحيصها بذهنه المثقف بعلوم عصره,جال الماضي والحاضر في خاطره,فحدثت له لحظة تنوير واستفاقه,وهفت نفسه للتأليف والكتابة في علم التاريخ والعمران,ويعرض حاله بتواضع,"كتاب العبر"الذي وضع ابن خلدون منهجه العلمي في مقدمته للأسف لم يفلح في تطبيقها كاملة في متنه التاريخي,لكن المقدمة يتأجج فيها العقل النقدي بصورة مذهلة.

التاريخ علم يصعب إحكامه إلا علي القلة ممن توفر لهم علم غزير,فهو محتاج لمصادر مختلفة للتعلم والتعمق المعرفي,وعقل نقدي ثاقب كي يصل الباحث إلي الحقيقة أو علي الأقل يبتعد عن المزالق والأخطاء,المؤرخ إذا اكتفي بالنقل دون اعتبار لقوانين السياسة وطبيعة المجتمع والنفس البشرية,والأخذ بالقياس والمقارنة,تصبح الواقعة التي يذكرها متهافتة لا تثبت أمام النقد,بل ومضرة بالعقل الجمعي,ويضرب أمثلة متعددة لتبيان وجهة نظرة:

-ذكر المسعودي وغيره من المؤرخين أن موسي عليه السلام أثناء تيه بني إسرائيل,أحصي عدد القادرين من قومه علي حمل السلاح ممن بلغوا عشرين عاماً فأكثر فوجدهم 600أو يزيد,يفند ابن تلك الرواية ويثبت زيفها من عدة زوايا:

1-الناحية الجغرافية:تضيق مساحة مصر والشام في ذلك الوقت ليتسع لاستضافة كل ذلك العدد من اليهود.

2-الناحية العسكرية:جيش بهذا الحجم لا يمكنه القتال كوحدة متلاحمة,فما تقوم به الميمنة من مهام لن تشعر بها الميسرة,ومن في المقدمة لا يمكنه معرفة ما يجري في المؤخرة.

3-من الناحية التاريخية:مملكة فارس القديمة كانت تفوق ملك الإسرائيليين لحد هزيمة بختنصر لهم والاستيلاء علي بلادهم,وتخريب بيت المقدس,وجيشه لم يبلغ ذلك العدد قط.

الناحية السكانية:قبل الاقتصادي والسياسي الإنجليزي توماس مالتوس,يضع ابن خلدون نظريته في النمو السكاني,فما بين موسي واسرائيل أربعة آبا فقط,وعلي ماذكره المسعودي نفسه كانوا يبلغون سبعين شخصاً فلا يمكن أن يتشعب النسل في تلك التفرة كي يبلغ هذه الأعداد الضخمة.

من عيون ابن خلدون يجدر بنا مراجعة الكثير من"الحواديت"التي قيلت عن مصر القديمة,فقد امتلأت الكتب المعاصرة بالافتراءات والأكاذيب تماماً كالعديد من المؤلفات,التي عملت علي النيل من حضارة وادي النيل بتصويرها مكاناً لأعمال السخرة والاستعباد,أو للسحر والغيبيات,أو ما حفلت به قصص اليهود من تشويه وسرقة للتراث المصري.

-يصنف ابن خلدون ضمن الأخبار الواهية الحكايات التي يتناقلها المؤرخون عن التبابعة ملوك اليمن,وغزوهم البلاد,فيقولون أنهم هزموا الترك والفرس ودخلوا الصين وعادوا محملين بالغنائم,وتركوا هناك قبائل من حمير.

يوضح ابن خلدون زيف هذه الأخبار,بأن التبابعة كان ملكهم بجزيرة العرب المحاطة بالبحر في ثلاث جهات,بحر الهند جنوباً,وبحر فارس شرقاً,والبحر الأحمر غرباً,ولايمكن أن يتحركوا بالجيش الهائل الأسطوري الذي هز كل هذه الدول والممالك إلا عن طريق السويس,فهو الطريق الوحيد الوصل لوجهتهم,ولا يمكن أن يتقدموا تلك المسافة كلها دون أن ينهبوا ويحتلوا البلاد التي يمرون عليها ولا يذكر التاريخ البتة محاربة التبابعة لملوك مصر.

-الطعن في نسب إدريس بن إدريس بن عبد الله,في لمحة ذكية يستدل ابن خلدون للدفاع عنه بطبيعة العيش في البادية,فلا شئ مستتر عن عيون الآخرين,فالجدران تلاصق الجدران والفواصل معدومة بين المساكن فأي شئ يثير الريبة سيعرف ويشتهر لوقته.

-دخول الإسكندر الأكبر في تابوت من الخشب وفي باطنه صندوق من الزجاج لما صدته دواب البحر عن بناء مدينة الإسكندرية,فيقرر باستحالة ذلك من الناحية البيولوجية لأنه سيختنق ومن للهلاك بهذا الاستهتار,فإذا نزل البحر علي علي تلك الحالة,سيتأكد قواده من خفة عقله وطيشه ولن ينتظرون رجوعه وسرعان ما سيولون عليهم غيره.

 

في تبيان أهمية الاجتماع الإنساني واستحالة عيش الإنسان منفرداً واحتياج المجتمعات لسلطان غالب له يد قادرة,أي رئيس وحكومة بالمعني العصري كي ينظم حياتهم,ويمنع تعدي البشر بعضهم علي بعض لغلبة الحس الحيواني عليهم,يعارض الرأي القائل بضرورة الحكم الديني المستمد من سلطة سماوية"وتزيد الفلاسفة علي هذا البرهان حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل العقلي,وأنها خاصة طبيعية للإنسان,فيقررون هذا البرهان إلي غايته وأنه لابد للبشر من الحكم الوازع ثم يقولون بعد ذلك:الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر؛وأنه لابد أن يكون متميزاً عنهم بما يودع الله فيه من خواص هدايته ليقع التسليم له والقبول منه,حتي يتم التحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزييف.وهذه القضية للحكماء غير برهانية كما تراه؛إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه,أو بالعصبية التي يقتدر بها علي قهرهم وحملهم علي جادته.فأهل الكتاب والمتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلي المجوس الذين ليس لهم كتاب؛فإنهم أكثر أهل العالم؛ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار فضلاً عن الحياة؛وكذلك هي لهم لهذا العقد في الأقاليم المنحرفة في الشمال والجنوب.بخلاف حياة البشر فوضي دون وازع ألبتة فإنه يمتنع.وبهذا يتبين غلطهم في وجوب النبوات وأنه ليس بعقلي وإنما مدركه الشرع كما هو مذهب السلف من الأمة"[19]

يدحض خطأ النسابون وهو يبرز علي أساس عملي أثر المناخ في عادات وطبائع الشعوب"ولما رأي النسابون اختلاف هذه الأمم بسماتها وشعارها حسبوا ذلك لأجل الأنساب:فجعلوا أهل الجنوب كلهم سودان من ولد حام وارتابوا في ألوانهم,فتكلفوا نقل الحكاية الواهية وجعلوا أهل الشمال كلهم أو أكثرهم من ولد يافث,وأكثر الأمم المعتدلة وأهل الوسط المنتحلين للعلوم والصنائع والملل والشرائع والسياسة والملك من ولد سام,وهذا الزعم وإن صادف الحق في انتساب هؤلاء فليس ذلك بقياس مطرد,إنما هو إخبار عن الواقع,لا أن تسمية أهل الجنوب بالسودان والحبشان من أجل انتسابهم إلي حام الأسود.وما أداهم إلي هذا الغلط إلا اعتقادهم أن التمييز بين الأمم إنما يقع بالأنساب فقط,وليس كذلك:فإن التمييز للجيل أو الأمة يكون بالنسب في بعضهم كما للعرب وبني إسرائيل والفرس,ويكون بالجهة والسمة كما للزنج والحبشة والصقالبة والسودان,ويكون بالعوائد والشعار والنسب كما للعرب,ويكون بغير ذلك من أحوال الأمم وخواصهم ومميزاتهم,فتعميم القول في أهل جهة معينة من جنوب أو شمال بأنهم من ولد فلان المعروف لما شملهم من نحلة أو لون أو سمة وجدت لذلك الأب,إنما هو من الأغاليط التي أوقع فيها الغفلة عن طبائع الأكوان والجهات وأن هذه كلها تتبدل في الأعقاب ولا يجب استمرارها"[20]

حول سيرورة التاريخ والأيام التي تتداول بين الأمم والشعوب وسورة العنفوان والخشونة أمام النعيم المهلك"واعتبر هذا بما وقع في العرب لما انقرض ملك عاد قام به من بعدهم إخوانهم من ثمود,ومن بعدهم إخوانهم العمالقة,ومن بعدهم إخوانهم من حمير,ومن بعدهم إخوانهم من التبابعة من حمير أيضاً,ومن بعدهم الأذواء كذلك.ثم جاءت الدولة لمضر.وكذا الفرس لما انقرض أمر الكينية ملك من بعدهم الساسانية,حتي تأذن الله بإنقراضهم أجمع بالإسلام.وكذا اليونانيون انقرض أمرهم وانتقل إلي أخوانهم من الروم.وكذا البربر بالمغرب لما انقرض أمر مغراوة وكتاة الملوك الأول منهم رجع إلي صنهاجة ثم الملثمين من بعده,ثم المصامدة,صم من بقي من شعوب زناتة وهكذا"[21].

وقد تستغني الدولة عن العصبية لأن الدول في البداية يصعب الانقياد لها إلا قهراً,ومع الوقت قد تتخلي عن العصبية وتعتمد علي الأغراب,أو عصبيات أخري تندرج تحت رايتها"ومثل هذا وقع لبني العباس.فإن عصبيتهم كانت فسدت لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق,واستظهارهم بعد ذلك إنما كان بالموالي من العجم والترك والديلم والسلجوقية وغيرهم.ثم تغلب العجم الأولياء علي النواحي وتقلص ظل الدولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد,حتي زحف إليها الديلم وملكوها,وصار الخلائق في حكمهم.ثم انقرض أمرهم وزحف آخر التتار فقتلوا الخليفة ومحوا رسم الدولة.

وكذا صنهاجة بالمغرب فسدت عصبيتهم منذ المائة الخامسة أو ما قبلها,واستمرت لهم الدولة مقلصة الظل بالمهدية وبجاية والقلعة وسائر ثغور إفريقية وربما انتزي بتلك الثغور من نازعهم الملك واعتصم فيها؛والسلطان والملك مع ذلك مسلم لهم حتي تأذن الله بانقراض الدولة وجاء الموحدون بقوة قوية من العصبية في المصامدة,فمحوا آثارهم.

وكذا دولة بني أمية بالأندلس لما فسدت عصبيتها من العرب استولي ملوك الطوائف علي أمرها,واقتسموا خطتها,وتنافسوا بينهم,وتوزعوا  ممالك الدولة,وانتزي كل واحد منهم علي ما كان في ولايته,وشمخ بأنفه وبلغهم شأن العجم مع الدولة العباسية,فتلقبوا بألقاب الملك,ولبسوا شارته,وأمنوا ممن ينقض عليهم أو يغيره؛لأن الأندلس ليس بدار عصائب ولا قبائل كما سنذكره واستمر لهم ذلك,كما قال ابن شرف

مما يزهدني في أرض أندلس          أسماء معتصم فيها ومعتضد

ألقاب مملكة في غير موضعها        كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد

فاستظهروا أمرهم بالموالي والمصطنعين والطراء علي الأندلس من أهل العدوة من قبائل البربر وزناتة وغيرهم,اقتداء بالدولة في آخر أمرها في الاستظهار بهم حين ضعفت عصبية العرب واستبد ابن أبي عامر علي الدولة.فكان لهم دول عظيمة استبدت كل واحدة منها بجانب من الأندلس وحظ كبير من الملك علي نسبة الدولة التي اقتسموها,ولم يزالوا في سلطانهم ذاك حتي جاز إليهم البحر المرابطون أهل العصبية القوية من لمتونة فاستبدلوا بهم وأزالوهم عن مراكزهم ومحو آثارهم,ولم يقدروا علي مدافعتهم لفقدان العصبية لديهم"[22].

يؤكد علي أهمية العواصم والمراكز السياسية للدولة,فتلك المدن هي القادرة علي حفظ الدولة حتي وسط أشد الأزمات فإذا سقطت تداعت أركان الدولة,وإذا ثبتت كان الأمل باقياً لأهلها,كالقلب يبعث الروح في الجسد فإذا تهالك وعطب يتم إعلان الوفاة"وانظر هذا في الدولة الفارسية:كان مركزها المدائن؛فلما غلب المسلمون علي المدائن انقرض أمر فارس أجمع,ولم ينفع يزدجر ما بقي بيده من أطراف ممالكه.

وبالعكس من ذلك الدولة الرومية بالشام,لما كان مركزها القسطنطينية وغلبهم المسلمون بالشام تحيزوا إلي مركزهم بالقسطنطينية ولم يضرهم انتزاع الشام من أيديهم,فلم يزل ملكهم متصلاً بها إلي أن تأذن الله بانقراضهم"[23]

يقيم مدي قوة واتساع الدولة بما تخلفه من آثار,لا بما يتشدق به الأدعياء ممن يحاولون تضخيم أمة من الأمم,بلا أثر يذكر ولا مزارات تكشف عن عمق حضاراته,منتقداً الأوهام الفنتازية المنتشرة عن كيفية بناء تلك الأبنية,والخيالات حول ضخامة بناؤوها,قبل 600سنة ينتقد ابن خلدون بصرامة تلك التصورات,ومع ذلك نجدها تحيا في خيالات العامة إلي اليوم في عصر انفجرت فيه المعرفة في كل مكان,وأصبحت المعلومات تفيض بضغطة زر"والسبب في ذلك أن الآثار إنما تحدث عن القوة التي بها كانت أولاً,وعلي قدرها يكون الأثر.فمن ذلك مباني الدولة وهياكلها العظيمة:فإنما تكون علي نسبة قوة الدولة في أصلها؛لأنها لا تتم إلا بكثرة الفعلة واجتماع الأيدي علي العمل والتعاون فيه:فإذا كانت الدولة عظيمة فسيحة الجوانب كثيرة الممالك والرعايا,كان الفعلة كثيرين جداً وحشروا من آفاق الدولة وأقطارها,فتم العمل علي أعظم هياكله.

ألا تري إلي مصانع قوم عاد وثمود وما قصه القرآن عنهما,وانظر بالمشاهدة إيوان كسري وما اقتدر فيه الفرس حتي أنه عزم الرشيد علي هدمه وتخريبه فتكاءد عنه وشرع فيه ثم أدركه العجز,وقصة استشارته ليحيي ابن خالد في شأنه معروفة.فانظر كيف تقتدر دولة علي بناء لا تستطيع أخري علي هدمه مع بون ما بين الهدم والبناء في السهولة تعرف من ذلك بون ما بين الدولتين,وانظر إلي بلاط الوليد بدمشق وجامع بني أمية بقرطبة والقنطرة التي علي واديها وكذلك بناء الحنايا لجلب الماء إلي قرطاجنة في القناة الراكبة عليها,وآثار شرشال بالمغرب,والأهرام بمصر,وكثير من هذه الآثار الماثلة للعيان,تعلم منه اتختلاف الدول في القوة والضعف.

واعلم أن تلك الأفعال للأقدمين إنما كانت بالهندام واجتماع الفعلة وكثرة الأيدي عليها؛فبذلك شيدت تلك الهياكل والمصانع.ولا تتوهم ماتتوهمه العامة أن ذلك لعظم أجسام الأقدمين علي أجسامنا في أطرافها وأقطارها؛فليس بين البشر في ذلك كبير بون,كما تجد الهياكل والآثار.ولقد ولع القصاص بذلك وتغالوا فيه,وسطروا عن عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخباراً عريقة في الكذب,ومن أغربها ما يحكون عن عوج بن عناق رجل من العمالقة الذي قاتلهم بنو إسرائيل في الشام؛زعموا أنه كان لطوله يتناول السمك من البحر ويشويه إلي الشمس.ويزيدون علي جهلهم بأحوال البشر الجهل بأحوال الكواكب لما اعتقدوا أن للشمس حرارة وأنها شديدة فيما قرب منها؛ولا يعلمون أن الحر هو الضوء؛فيما قرب من الأرض أكثر لانعكاس الأشعة من سطح الأرض بمقابلة الأضواء,فتتضاعف الحرارة هنا لأجل ذلك,وإذا جاوزت مطارح الأشعة المنعكسة فلا حر هنالك,بل يكون فيه البرد حيث مجاري السحاب؛وأن الشمس في نفسها لا حارة ولا باردة وإنما جسم بسيط مضئ لامزاج له(العلم الحديث يثبت أن الشمس تلتهب بالحرارة التي تتناقص تدريجياً عكس ما ذهب إليه ابن خلدون).وكذلك عوج بن عناق هو فيما ذكروه من العمالقة أو من الكنعانيين الذي كانوا فريسة بني إسرائيل عند فتحهم الشا,وأطوال بني إسرائيل وجسمانهم لذلك العهد قريبة من هياكلنا.يشهد لذلك أبواب بيت المقدس؛فإنها وإن خرجت وجددت لم تزل محافظة علي أشكالها ومقادير أبوابها.وكيف يكون التفاوت بين عوج وبين أهل عصره بهذا المقدار.وإنما مثار غلطهم في هذا أنهم استعظموا آثار الأمم ولم يفهموا حال الدول في الاجتماع والتعاون,وما يحصل بذلك وبالهندام من الآثار العظيمة فصرفوه إلي قوة الأجسام وشدتها بعظم هياكلها ,وليس الأمر كذلك"[24].

بقوة الحجة يعيد ابن خلدون صياغة التراث من جديد,غير هياب ولا وجل,يستخدم التاريخ لتطويعه للمنهج العلمي والحقيقة,ولا يسمح للنصوص لمجرد قدمها أو إحاطتها بهالة ما أن تصوغ عقله علي منوالها ليتقبل كل ما كتب من ترهات في تاريخ البشرية.

يعقب علي الطور الثاني من حياة الدولة عندما تدخل في مرحلة الاستبداد بالملك,بأن الملك قد يرتد عن قومه وعصبيته وربما يصبحون أعداؤه"فإذا جاء الطور الثاني وظهر الاستبداد عنهم,والانفراد بالمجد,ودافعهم بالراح,صاروا في حقيقة الأمر من بعض أعدائه,واحتاج في مدافعتهم عن الأمر وصدهم عن المشاركة في أولياء آخرين من غير جلدتهم يستظهر بهم عليهم.ويتولاهم دونهم,فيكونون أقرب إليه من سائرهم,وأخص به قرباً واصطناعاً,وأولي إيثاراً وجاهاً,لما أنهم مستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر الذي كان لهم والرتبة التي ألفوها ومشاركتهم؛فيستخلصهم صاحب الدولة حينئذ,ويخصهم بمزيد التكرمة والإيثار,ويقسم لهم مثل ما للكثير من قومه,ويقلدهم جليل الأعمال,ويخصهم بمزيد من التكرمة والإيثار,ويقسم لهم مثل ما للكثير من قومه ويقلدهم جليل الأعمال والولايات من الوزارة والقيادة والجباية وما يختص به لنفسه وتكون خاصة له دون قومه من ألقاب المملكة,لأنه حينئذ أولياؤه الأقربون ونصحاؤه المخلصون.وذلك حينئذ مؤذن باهتضام الدولة وعلامة علي المرض المزمن فيها؛لفساد العصبية التي كان بناء الغلب عليها,ومرض قلوب أهل الدولة حينئذ من الامتهان وعداوة السلطان,فيضطغنون عليه,ويتربصون به الدوائر,ويعود وبال ذلك علي الدولة ولا يطمع في برئها من هذا الداء,لأن ما مضي يتأكد في الأعقاب إلي أن يذهب رسمها.

واعتبر ذلك في دولة بني أمية كيف كانوا إنما يستظهرون في حروبهم وولاية أعمالهم برجال العرب مثل عر بن سعد بن أبي وقاص,وعبيد الله بن زياد بن أبي سفيان,والحجاج بن يوسف,والمهلب بن أبي صفرة,وخالد بن عبد الله القسري,وابن هبيرة,وموسي بن نصير,وبلال بن أبي بردة بن أبي موسي الأشعري,ونصر بن سيار,وأمثالهم من رجالات العرب.وكذا صدر من دولة بني العباس كان الاستظهار فيها أيضاً برجالات العرب.فلما صارت الدولة للانفراد بالمجد وكبح العرب عن التطاول للولايات,وصارت الوزارة للعجم والصنائع من البرامكة وبني سهل بن نوبخت وبني طاهر,ثم بني بويه وموالي الترك مثل بغا ووصيف وأنامش وباكناك وابن طولون وأبنائهم وغير هؤلاء من موالي العجم,فتكون الدولة لغير من مهدها والعز لغير من اجتلبه"[25]

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

4

أثر ابن خلدون في علم الاجتماع,وامتداد فكره إلي الغرب

 

يعتبر ابن خلدون علمه الجديد"وكأن هذا علم مستقل بنفسه:فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني,وذو مسائل,وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخري,وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أو عقلياً.

واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة,غريب النزعة,غزير الفائدة أعثر عليه البحث,وأدي إليه الغوص,وليس من علم الخطابة الذي هو أحد العلوم المنطقية,فإن موضوع الخطابة إنما هو الأقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلي رأي أو صدهم عنه,ولا هو أيضاً من علم السياسة المدنية؛إذا السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضي الأخلاق والحكمة ليحمل الجمهور علي منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه.فقد خالف موضوعه هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه.

وكأنه علم مستنبط النشأة,ولعمري لم أقف علي الكلام في منحاه لأحد من الخليقة.وما أدري ألغفلتهم عن ذلك؟وليس الظن بهم,أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا؛فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون"[26].

ابن خلدون يعلم جيداً ما سيقوم به في مقدمته من اكتشافات,فيذيع مباشرة تأسيس علم جديد يختص بالعمران البشري والاجتماع الإنساني,يميزه عن علمي الخطابة والسياسة كي لا يظن القارئ في عصره أنه لن يمد حدوده خارج هذين المجالين المعروفين في تلك الفترة,ويبدي دهشته الصادقة لغفلة العلماء عنه ثم يراجع نفسه,إذ ربما دونوا وكتبوا وكم من مؤلفات عظيمة لم تصلنا,وكم من آراء صيغت من الماس والذهب ولم نسمع عنها وتاهت في خضم الحياة البشرية.

"وكذلك أيضاً يقع إلينا القليل من مسائله في كلمات متفرقة لحكماء الخليقة,لكنهم لم يستوفوه,فمن كلام الموبذان بهرام بن بهرام في حكاية البوم التي نقلها المسعودي:"أيها الملك إن المُلك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته,والتصرف تحت أمره ونهيه؛ولا قوام للشريعة إلا بالملك,ولا عز للملك إلا بالرجال,ولا قوام للرجال إلا بالمال؛ولا سبيل إلي المال إلا بالعمارة؛ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل؛والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرب وجعله قيماً وهو الملك"._ومن كلام أنوشروان في هذا المعني بعينه؛"الملك بالجند والجند بالمال؛والمال بالخراج؛والخراج بالعمارة؛والعارة بالعدل؛والعدل بإصلاح العمال؛وإصلاح العمال باستقامة الوزراء؛ورأس الكل بافتقاد الملك حال رعيته بنفسه واقتداره علي تأديبها حتي يملكها ولا تملكه"_وفي الكتاب المنسوب لأرسطو في السياسة,المتداول بين الناس,جزء صالح منه إلا أنه غير مستوف ولا معطي حقه من البراهين ومختلط بغيره؛وقد أشار في ذلك الكتاب إلي هذه الكلمات التي نقلناها من الموبذان وأنوشروان,وجعلها في الدائرة القريبة التي أعظم القول فيها,وهو قوله"العالم بستان سياجه الدوله؛الدولة سلطان تحيا به السنة,السنة سياسة يسوسها الملك؛الملك نظام يعضده الجند؛الجند أعوان يكفلهم المال؛المال رزق تجمعه الرعية؛الرعية عبيد يكنفهم العدل؛العدل مألوف وبه قوام العالم؛العالم بستان..."ثم ترجع إلي أول الكلام؛فهذه ثمان كلمات حكمية سياسية ارتبط بعضها ببعض,وارتدت أعجازها علي صدورها,واتصلت في دائرة لا يتعين طرفها,فخر بعثوره عليها,وعظم فوائدها,وأنت تأملت في كلامنا في فصل الدول والملك,وأعطيته حقه من التصفح والتفهم,عثرت في أثنائه علي تفسير هذه الكلمات وتفصيل إجمالها مستوفي بيناً بأوعب بيان وأوضح دليل وبرهان؛أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان,وكذلك تجد في كلام ابن المقفع,وما يستطرد في رسائله من ذكر السياسات,والكثير من مسائل كتابنا هذا غير مبرهنة كما برهناه؛إنما يجليها في الذكر علي منحي الخطابة في أسلوب الترسل وبلاغة الكلام_وكذلك حو القاضي أبو بكر الطرطوشي في كتاب"سراج الملوك"وبوبه علي أبواب تقرب من أبواب كتابنا هذا ومسائله,لكنه لم يصادف فيه الرمية ولا أصاب الشاكلة,ولا استوفي المسائل,ولا أوضح الأدلة,إنما يبوب الباب للمسألة,ثم يستكثر من الأحاديث والآثار,وينقل كلمات متفرقة لحكماء الفرس مثل بزرجمهر والموبذان وحكماء الهند والمأثور عن دانيال وهرمس وغيرهم من أكابر الخليقة,ولا يكشف عن التحقيق قناعاً,ولا يرفع بالبراهين الطبيعية حجاباً إنما هو نقل وتركيب شبيه بالمواعظ؛وكأنه حوم علي الغرض ولم يصادفه,ولا تحقق قصده,واستوفي مسائله.

ونحن ألهمنا الله ذلك إلي ذلك إلهاماً؛وأعثرنا علي علم جعلنا سن بكره وجهينة خبره.فإن كنت استوفيت مسائله,وميزت سائر الصنائع أنظاره وأنحاءه,فتوفيق من الله وهداية,وإن فاتني شئ في إحصائه,واشتبهت بغيره مسائله,فللناظر المحقق إصلاحه,ولي الفضل لأني نهجت له السبيل,وأوضحت له الطريق,والله يهدي بنوره من يشاء"[27].

بمسحة سريعة يلمح ابن خلدون لمن تصدوا أو حوموا للحديث في علم العمران والحق إنهم قلة فالمؤلفات التي اهتمت بفلسفة التاريخ والاجتماع قبل ابن خلدون:الجمهورية لأفلاطون والسياسة لأرسطو و كليهما في القرن الرابع قبل الميلاد,ثم ظهر كتاب مدينة الله للقديس أوغسطين في القرن الرابع الميلادي.

وبعد ابن خلدون تعددت الكتب والمؤلفات فمنها:الأمير لماكيافللي (1520),الجمهورية لجان بودن (1557),الحكومة المدنية لجون لوك(1690),روح القوانين لمونتسيكو (1748),طبائع الأمم وفلسفة التاريخ لفولتير(1756).

ابن خلدون هو البداية الحقيقية لعلم الاجتماع و فلسفة التاريخ,أول من نادي باعتبار الاجتماع الإنساني علماً مستقلاً عن غيره,ورأي أن الأحوال الاجتماعية تتأتي برباط العلة والسبب وهذه العلل والأسباب ترجع لظروف وملابسات علم الاجتماع الإنساني,ويخصص أجزاء كاملة لإثبات مبادئه تلك ففي الباب الأول يدور كلام عام عن علم الاجتماع,والثاني والثالث بحوث في الياسة,والرابع في المجتمع الحضري,والخامس في علم الاجتماع الاقتصادي,والسادس في علاقة الأدب وعلم الاجتماع,وعلي ذلك يصبح ابن خلدون هو الأب الروحي لعلم الاجتماع بصورته العصرية الأكثر دقة وتنظيماً,قبل ظهور فيكو وأوجست كونت.

أوروبا تشهد علي ذلك بنفسها,عند قدوم القرن الثامن عشر بدأ الاهتمام الحقيقي بمقدمة ابن خلدون,وأول خطوات الاكتشاف لابن خلدون بصورته الكاملة"بيد أن النقد الغربي أكثر اهتماماً بفلسفة ابن خلدون الإجتماعية.وقد لقي ابن خلدون من هذه الناحية ذروة الإعجاب والتقدير,وعني كثير من علماء الاجتماع المعاصرين بتحليل نظرياته الاجتماعية ومقارنتها بنظريات أقطاب الإجتماع المحدثين.

ومن هؤلاء النقدة العلامة الاجتماعي لدفيج جمبلوفتش,فهو يخصص لابن خلدون في مباحثه الاجتماعية فصلاً كبيراً,ويصفه بأنه اجتماعي أو من علماء الاجتماع,ويتناول طائفة من آرائه الاجتماعية بالتحليل والمقارنة,ويبين أنه قد سبق في كثير من هذه الآراء أقطاب الاجتماع المحدثين.فهو مثلاً قد اهتدي لنظرية الأجيال الثلاثة الخاصة بنهوض الأسر وانحلالها قبل أن يعرضها أوتكار لورنتس في أواخر القرن التاسع عشر.ويقول جمبلوفتش إن ابن خلدون يرتفع إلي ذروة البحث الاجتماعي حينما يعرض ملاحظاته عن تفاعل الجماعات الإجتماعية,وكيف أن هذه الجماعات نفسها إنما هي ثمرة الوسط,وآراؤه في هذا المقام عن الأجناس الغالبة في منتهي الأهمية.وفي أقواله عن الوسط ومؤثراته ما يدل علي أنه عرف"قانون التشبه بالوسط"قبل أن يعرفه داروين بخمسة قرون؛وفيما يقوله عن تشبيه الإنسان بالحيوان في الخضوع للقوانين الإجتماعية العامة,ما يدل علي أنه عرف مبدأ"وحدة المادة"قبل أن يعرفه هيكيل.ومن المدهش أن نري كم تتفق الإجراءات التي ينصح ابن خلدون باتخاذها للفاتحين الظافرين لكي يؤيدوا سلطانهم,مع النظم الحربية التي أثبت البحث التاريخي أن مؤسسي الدول الأوروبية في العصور الوسطي قد اتخذوها,بل إن فضل السبق يرجع بحق إلي العلامة الاجتماعي العربي(ابن خلدون)فيما يتعلق بهذه النصائح التي أسداها مكيافيللي بعد ذلك بقرن إلي الحكام في كتابه"الأمير"وحتي في هذه الطريقة الجافة لبحث المسائل وفي صبغتها الوقعية الخشنة,كان من المستطاع أن يكون نموذجاً للإيطالي البارع الذي لم يعرفه لا ريب.هذا وقد استطاع ابن خلدون أن يقرر منذ خمسة قرون أصل السلطتين الروحية والزمنية,كما يقررها أساتذة القانون السياسي والقانون الكنسي.

وأخيراً يقول جمبلوفتش:"لقد أردنا أن ندلل علي أنه قبل أوجست كونت,بل قبل فيكو الذي أراد الإيطاليون أن يجعلوا منه أول اجتماعي أوروبي,جاء مسلي تقي فدرس الظواهر الاجتماعية بعقل متزن,وأتي في هذا الموضوع بآراء عميقة,وما كتبه هو مانسميه اليوم:علم الاجتماع"

وفي نفس الوقت الذي أدلي فيه جمبلوفتش بهذه الآراء تناول تفكير ابن خلدون باحث اجتماعي إيطالي هو فريرو,فأيد وصف جمبلوفتش لابن خلدون بأنه"اجتماعي"ونوه بطرافة ابن خلدون وسبقه في هذا الميدان.ويوافقهما علي ذلك الكاتب الاجتماعي الروسي ليفين فيعتبر ابن خلدون فيلسوفاً"اجتماعياً".....وقد عني العلماء الإسبان بنوع خاص,بدراسة مقدمة ابن خلدون ونظرياته التاريخية والاجتماعية.وكان في مقدمة من أشاد منهم بأهمية المقدمة وقيمتها,العلامة المستشرق بونس بويجس,فهو يقول في فاتحة ترجمته لابن خلدون:

"ظهر ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي,كتحليل ومختصر للحضارة الإسلامية في عصره,وكشخصية من أعظم ممثلي التاريخ الفلسفي البعيد المدي.وهو قد ولد حقاً بتونس.ولكنه يرجع إلي أصل أندلسي(أسباني),وقد درس علي ابن الخطيب وغيره من علماء غرناطة,ومن ثم ففي وسعنا أن نقول من الأستاذ ربيرا"إن الوطن الإسباني يستطيع بحق أن ينتسب إليه أعظم إنتاج تاريخي في العلوم الإسلامية".

وتلاه العلامة المؤرخ رافائيل ألتاميرا,فوضع بحثه الشهير عن نظرية ابن خلدون التاريخية وهو البحث الذي ترجم إلي لغات كثيرة,واقتبس منه معظم الباحثين في هذا الميدان.وبالرغم من أن ألتاميرا ينتقد آراء ابن خلدون في بعض المواطن,فإنه مع ذلك يشيد بتفكيره وتراثه,ويعتبر المقدمة"موسوعة حقة في العلوم الإجتماعية,ويري فيما يتعلق بنظرية ابن خلدون في نقد التاريخ,إنها تقوم علي قاعدتين:الأولي مأخوذة من وحدة النفس الاجتماعية,التي تحدث جوهراً دائماً في كل الأمم والعصور,وتسمح بتكوين بعض مبادئ منطقية بالنسبة للأعمال البشرية يمكن وفقاً لها أن نحكم باحتمال أو إمكان حادث منسوب إلي شخص أو أمة ما.والثانية تعترف في ظل هذه الوحدة,بإمكان الاختلاف الضروري أو المحتوم.أجل إن ابن خلدون لا يستخرج ن هذا المبدأ كل النتائج التي يتضمنها,والتي تتميز بأهميتها بالنسبة لفكرة التاريخ.بيد أنه متي تأملنا العمق الذي تنساب إليه,فإن الأمر يبدو محققاً,إذا نحن أحذنا بدقة الكلامات التي صيغ فيها.

ويري ألتاميرا بعد ذلك أن"المقدمة هي من الناحية الإجتماعية"نظرية للحضارة"حقيقية وكاملة جداً,تدرس فيها العناصر التي تؤثر في إنتاج وتوسعة هذا الحدث الاجتماعي,وتطوراته التاريخية,واتجاهاته الجوهرية,والقوانين التي تحكم حياته(النشأة والتقدم والانحلال),ولا سيما عامل السكان,وبعض تيارات مثالية أخري,يري ابن خلدون أنها تحكم بطريقة ما,سائر الحركة الحضارية ويختم ألتاميرا بحثه المذكور بقوله"كفي أنه في التاريخ في القرن الرابع عشر,حينما كانت دراسة التاريخ الأوروبي في منتهي النقص,ومنتهي البعد عن آراء كالتي يعرضها ابن خلدون,ويدافع عنها,قد كتب كتاب كالمقدمة درست فيه أو افترضت كل المسائل,التي غدت فيما بعد,علي تفهمها بمختلف الصور,هي المهمة الجوهرية  للمؤرخين المحدثين.....وأما من الناحية الاجتماعية,فإن الأستاذ شميت يري مع معظم النقدة أن ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع,ويري بالأخص مع جمبلوفتش أن الاجتماع وجد قبل أوجست كونت بعصور طويلة,وأن ابن خلدون ذهب في تفكيره إلي حدود لم يذهب إليها كونت,وأنه فيما عالج من خواص العادة والإقليم,والأرض,والغذاء,قد سبق مونتسيكو وبكل وسبنسر وغيرهم.

هذا,وقد كتب العلامة المؤرخ المعاصر الأستاذ أرنولد توينبي,عن ابن خلدون ومقدمته فصلاً ضمن دراساته التاريخية المشهورة عن"نمو الحضارة",وهو يعتبره سابع سبعة من النجوم المؤرخين هم:توكوتيدوس(ثيوديد),ويوسيفوس,ومكيافيللي,وبولبيبوس,ولورد كلارندون,وابن خلدون.

وهو يعتبر ابن خلدون عبقرية يمكن أن يقارن عملها بعمل توكوتيدوس أو مكيافيللي من حيث عمق الأفق واتساعه,ومن حيث القوة العقلية المحضة,ويري أن نجم ابن خلدون يبدو أكثر تألقاً إزاء كثافة الظلام التي سطعت أمامه.ذلك أنه بينما نجد توكوتيدوس ومكيافيللي وكلارندون,كلهم نماذج ساطعة لأوقات ساطعة,إذا بابن خلدون,يبدو حده نقطة الضوء الوحيدة في ذلك الأفق.وإنه ليبدو أنه لم يستوح أحداُ من أسلافة,ولم يجد أقراناً بين معاصريه,كما أنه لم يشعل شرارة إلهام مجاوبة في أحد من خلفائه.ومعئذلك,فإنه في المقدمة التي وضعها لتاريخه العام,"قدرألهم وصاغ فلسفة للتاريخ,هي بلا ريب أعظم عمل من نوعه,ابتكره أي عقل,في أي عصر أو في أي بلد"[28].

تلك الآراء تفيد في تشكيل صورة للمكانة التي يبلغها ابن خلدون في عيون أساطين التفكير الاجتماعي الحديث في الغرب,يظهر علي مرآتهم عبقرياً من طراز فكري لا يمكن تكراره,وصاحب عمل مؤثر في تاريخ العلوم,فقد ابتدع براديجم علمي جديد لدراسة الظواهر الاجتماعية,كصاحب نظرية فلسفية دمجت عدة فروع علمية لينصب علي خدمة علم الاجتماع.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخاتمة

ما يزال حقل الدراسات الخلدونية شاسعاً,فتلك فلقد قدم ذلك الباحث العربي عصارة تفكيره وعلوم عصره,بطريقة منهجية تهدف إلي إعادة قراءة التاريخ بحس عقلي قادر علي تحليل المعطيات للوصول إلي نتائج منطقية,علي اعتبار أن النصوص تخضع للتأويل والتفكيك دون أخذها من أفواه القائلين دون إعمال العقل في الخبر,دون مراعاة للعوامل الاجتماعية والنفسية والذهنية التي اقتضت ظهور تلك الأحداث,فالعالم الأرضي كما أثبت نيوتن يخضع لنفس القوانين التي تتحكم في الأجرام السماوية,والعلوم الإنسانية هي الأخري تخضع لقوانين معينة يكمن الإبداع في اكتشافها ورصدها,وهكذا فعل ابن خلدون في مقدمته التي فتحت عيون العالم علي معان تتجدد مع الزمن,"المجتمع"له معان توحي بالتعاون والتقدم والعيش المشترك والسعي المتواصل الدءوب في إحلال السلام والازدهار,والدفع بالفنون والصناعات للصدارة فهي العنوان علي مدي جودة المجتمعات البشرية.

لقد استفاد العالم كله بابن خلدون,مقدمته ترجمت لكل اللغات الحية تقريباً,فحين نري التقدم الأوروبي و الآسيوي والأمريكي,يجب أن نضم جهود ابن خلدون لجهود علماء ومفكرين تلك البلاد الذين قدروه وتبنوه واستصفوا منه تجربته الواسعة وآرائه كما سجلها في أبوابها وفصولها,ونحن نمتلك الأصل بلغتنا العربية,لأجل رسم خريطة للتقدم يجب أن نهتم بتعريف النشء في بلداننا العربية بقيمة فتي بني خلدون المحب للعلم والمعرفة,الصبي الذي قارف اليتم والوباء والأحداث الصعبة في حياته وتغلب عليها,وتفوق في ميدان المعرفة حتي بات مؤسساً ورمزاً علي علم الاجتماع,ذلك العلم الذي يضم فطاحل المفكرين والعلماء,كلهم تأثروا بابن خلدون وأخذوا منه وطوروا أفكاره,الأمل الحقيقي يكمن في اليافعين اليوم,علينا أن نقرب لهم أمثال ذلك العالم,بدلاً من أبطال التفاهة والفنون الهابطة الذين يتصدرون الوعي العام بإلحاح يثير الغثيان,يقوم بذلك الفنانون الحقيقيون أصحاب الرسالة الراقية للفن كرسل للمعرفة والعلم والجمال وتصدير المعاني الكبري للجمهور,والمثقفون الذين يناضلون وحيدين في ميادين الفكر والبحث....وأرجو أن أكون قطعت ولو خطوة بسيطة قصيرة في هذا السبيل.

 

 

 

 

 

 

 

 

ملخص البحث:

ابن خلدون واحد من ألمع الأسماء في تاريخ الحضارة العربية,وسيرة حياته وفلسفته ورؤيته الكلية للتاريخ والاجتماع,تحتاج إلي عشرات بل مئات المحاور لتغطيتها لكن هذا البحث المبسطاعتمد البحث علي أربعة محاور:

1-الواقع العربي في كتابات ابن خلدون:وفيه حاولت الربط بين حياة ابن خلدون وظروف عصره التي شكلت نفسيته الطامحة للسلطة,وتقلباته بين المغرب العربي والأندلس ومصر,وظروف حياته في كل قطر منهم,ومشاهداته علي الوقائع التي عاينها بدءً من الطاعون في صباه حتي غزو تيمور لنك للشام في شيخوخته.

2-الفكر الاستشرافي في فلسفة ابن خلدون:تبيان لبعد النظر عند ابن خلدون,وقدرته علي قراءة المستقبل وتحذيراته وتنبيهاته من الخطر الذي رآه يقترب علي الأمة العربية,وقدرته علي استشراف النفس الإنسانية ومكامن انقيادها وضعفها,ونظرته الثاقبة في الضرائب المفروضة علي الشعوب,وهو ما استفاد من الرئيس الأمريكي دونالد ريجان في الثمانينيات.

3-قراءة تحليلية لمقدمة ابن خلدون:ركزت فيها علي علم التاريخ عند ابن خلدون,وتشكيكه في المرويات وتحليلها ورفضه للخرافات والحكايات الغير معقولة,استناداً علي منهجية عقلية منظمة ولماحة استطاعت تمييز الحق من الباطل.

4-أثر ابن خلدون في علم الاجتماع وامتداد فكره إلي الغرب:تحديد مكانة ابن خلدون في علم الاجتماع كمؤسس لذلك العلم باعتراف الغرب الذي تبني ابن خلدون ومقدمته,وبني عليه فلسفته في التاريخ والاجتماع,وفيه عرض سريع لآراء العلماء لابن خلدون وتقديرهم البالغ لعبقريته المتميزة.

من تلك المحاور الأربعة يمكننا نسج بضع خيوط من مسيرة ابن خلدون الحياتية والعلمية,وتسليط الضوء علي أهم أحداث حياته التي عاصرها,وأبرز الأفكار المعروضة في مقدمته,فابن خلدون بحر متلاطم من الأحداث التي جرت في بلاط الملوك والأمراء,وفي الوقائع الحربية والمؤامرات السياسية,والأفكار التي تنوعت بين علم التاريخ والاجتماع والفلسفة وعلم النفس.

واعتمدت في البحث علي المنهج التحليلي,كمحاولة متواضعة للغاية في سبيل تفكيك العناصر الأساسية لرسم صورة حية بقدر الإمكان للفيلسوف العربي الكبير ابن خلدون.

 

 

 

 

 

المصادر:

1-التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً,ابن خلدون,دار الكتاب اللبناني 1979.

2- دارسات في مقدمة ابن خلدون,ساطع الحصري,دار المعارف بمصر 1953.

3-ابن خلدون حياته وتراثه الفكري,محمد عبد الله عنان,دار الكتب والوثائق القومية2006.

4-مقدمة ابن خلدون,جـ1,تحقيق علي عبد الواحد وافي,دار نهضة مصر 2014.

5-  مقدمة ابن خلدون,جـ2,تحقيق علي عبد الواحد وافي,دار نهضة مصر 2014.

 

 

  

 

 



[1] التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً,ابن خلدون,دار الكتاب اللبناني 1979,ص17-56

[2] دارسات في مقدمة ابن خلدون,ساطع الحصري,دار المعارف بمصر 1953,ص56

[3] التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً,ابن خلدون,دار الكتاب اللبناني 1979,ص57

 

[4] ابن خلدون حياته وتراثه الفكري,محمد عبد الله عنان,دار الكتب والوثائق القومية2006,ص23

[5] مقدمة ابن خلدون,جـ1,تحقيق علي عبد الواحد وافي,دار نهضة مصر 2014ص52

[6] ابن خلدون حياته وتراثه الفكري,محمد عبد الله عنان,دار الكتب والوثائق القومية2006,ص35-36

 

[7]  التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً,ابن خلدون,دار الكتاب اللبناني 1979,ص10-12

 

[8] المصدر السابق,ص264-266

 

[9] المصدر السابق, ص345-346

[10] المصدر السابق ,ص406-408

[11]  مقدمة ابن خلدون,جـ1,تحقيق علي عبد الواحد وافي,دار نهضة مصر 2014,ص410-412

 

[12]  مقدمة ابن خلدون,جـ2,تحقيق علي عبد الواحد وافي,دار نهضة مصر 2014,ص505

 

[13] مصدر سابق,ص891

[14] مصدر سابق,ص897

[15] مصدر,سابق,ص688

[16] مقدمة ابن خلدون,جـ1,تحقيق علي عبد الواحد وافي,دار نهضة مصر 2014,ص282-283

[17] مصدر سابق,ص282-285

[18] مصدر سابق,ص285

[19] مصدر سابق,ص342

[20] مصدر سابق,ص396

[21]  مقدمة ابن خلدون,جـ2,تحقيق علي عبد الواحد وافي,دار نهضة مصر 2014,ص504

[22] مصدر سابق,ص515-516

[23] مصدر سابق,ص525

[24] مصدر سابق,545-546

[25] مصدر سابق,ص553-554

[26] مقدمة ابن خلدون,جـ1,تحقيق علي عبد الواحد وافي,دار نهضة مصر 2014,ص332-ص333

[27] مصدر سابق,ص334-336

[28] ابن خلدون حياته وتراثه الفكري,محمد عبد الله عنان,دار الكتب والوثائق القومية2006,ص178-191