السبت، 30 نوفمبر 2019

الفلك والرياضيات


تجلت السماء للإنسان الأول قبل آلاف الأعوام كعالم غامض يمتلئ باللمع المتألقة والحركات المنتظمة,ووجد أن هذه الحركة الدائمة تؤثر في مسار حياته,بدء من انطلاق الضياء مع أشعة الشمس,وبداية العمل واكتشاف العالم من حوله والتأمل في القمر الذي يشق ثغرة مستديرة في الظلام من حوله,إلي توقيت الزراعة والحصاد المرتبطة بنجوم السماء وسير حركة الزمن العجيبة في سهمه المنطلق إلي الأمام,عارفاً أن بها يرتبط مصيره,شاعراً بنفس ذرات النجوم من حوله في جسده وروحه باعتباره أحد عناصر بقايا الانفجار العظيم حتي ولو لم يفهم ذلك.
وعلي الأرض في مصر وبابل والصين بدأت الرياضيات تأخذ شكلاً متطوراً,ساهم في حركتها الأولي رغبة الإنسان في فهم هذه اللغة السماوية وضبط حركاتها في إيقاع متناغم,ولأن العالم عدد ونغم علي حد قول فيثاغورس كانت الرياضيات هي النوتة الموسيقية التي من خلالها يستقرأ الإنسان الأنغام العلوية في الفلك الدوار,التي قيل أن سكان الأرض سمعوها يوماً عندما كانت هادئة والأسماع لم تصم بعد من صخب الحياة عن الإنصات لها!
مصر قامت بحساب موعد فيضان النيل مع ظهور نجم إيزيس (الشعري اليمانية)والمعروف حالياً باسم سيريوس يوم 18 يوليو من كل عام,والبابليون واليونانيون والرومان صاغوا تقويمهم بناء علي حركة نجم الدبران في كوكبة الثور,وبينما مصر تبتع التقويم الشمسي نجد البابليون يبنون تقويمهم علي أوجه القمر وبرعوا في توقع خسوفه,وبدأ ميلاد الزمن وتقسيم الأيام كما نعرفه اليوم,وبدون ملاحظة حركات الكواكب وحساب هذه النقلات ما كان لنا هذا المقياس الذي نفرق به بين الماضي والحاضر,وعبره ننتقل إلي المستقبل...كل هذا في وعينا نحن!!
لذلك ارتبطت الرياضيات بعلم الفلك منذ الحضارات الأولي التي أرست الركائز الأساسية للعقل البشري في التعامل مع الظواهر الطبيعية من حوله,وهي قصة تمتلئ بالطموح والتطلع لما فوق هامة البشر والنظر نحو الآفاق لفهم كنه ما تحت أقدامهم ومعرفة مكانهم في الفضاء الفسيح,وفي عالم العمارة فائقة التعقيد أبدية الخلود المستغلقة علي الأفهام حتي اليوم يبزغ الهرم,وعليه آثار علم الفلك الذي اتخذ من الرياضيات لساناً له يعبر عن نظرته في الارتباط بين السماء والأرض,فيواجه من الجنوب نجمة إيزيس وفي نفس الوقت من الجانب الآخر يواجه النجم القطبي وتتحد أشعتهما في الحجرة الملكية.
وفي الزمن اليوناني قسم أمونيوس الرياضيات إلي أربعة فروع:الأرثماطيقي والهندسة والفلك والموسيقي,أما بطليموس أشهر الفلكيين في العالم القديم,فكتابه عن الفلك يسمي"المجموع الرياضي"وباليونانية المجسطي,وظل هذا الكتاب مسيطراً علي التصور البشري للكون,حتي ظهور طلائع النهضة الأوروبية ككبرنيكوس وكبلر وجاليليو,وكانت المساهمة الفيثاغورثية في الفلك استحداث فكرة أن حساب حركة الشمس نتيجة لحركتين متداخلتين في بادرة للاقتراب من الحقائق الفلكية كما نعرفها اليوم.أما الفلك الأفلاطوني فقد رأي الكون مخلوقاً منظماً ولذلك يمكننا التعرف عليه من خلال الرياضيات وتوظيفها في سبيل إدراك الحقائق الملموسة فيه,وهيبارخوس اعتبر العالم السماوي أبدي وثابت ومحكوم بقوانين عقلية,والحركة الوحيدة الكاملة في جمالها وعقلانيتها هي الحركة الدائرية.
ثم يأتي البيروني الاسم العملاق في الثقافة العربية,الذي قيل أن تاريخ الفلك والرياضيات لا يكتمل إلا به,و يتمكن من حساب بعد مدينته عن خط الاستواء بمراقبة أقصي ارتفاع للشمس عن الأرض,وابن الشاطر,وابن يونس المصري الموصوف من قبل مؤرخ العلوم الشهير جورج سارتون بأنه أعظم فلكيي عصره ساهم في علم حساب المثلثات باكتشاف المعادلة الجدائية حتي أوتو نيو جبور وستيفن هوكنج وإنجازات إيلون ماسك في الفضاء اليوم,كان علم الفلك مقترناً بالرياضيات وعلماء الفلك أنفسهم كانوا علماء رياضيات من طراز رفيع في الغالب,وخلال العصور المختلفة اتخذ الفلك طرقاً لتغيير المفاهيم الرياضية,كظهور الهندسة اللاإقليدية بحساب المثلثات الكروي,وارتباط علم الميكانيك السماوي بالميكانيك الأرضي.
الرياضيات هي"يد الله"في بناء الكون المؤسس علي نظم هندسية بديعة التكوين,لها انسيابية الموسيقي وحركاتها السحرية,وبعد قرون عندما يتحقق حلم العلماء في أن يكون عدد البشر في الكواكب الأخري أكبر من الأرض ستظل الرياضيات هي الجسر الواصل لاستمرار الطموح البشري الخلاق في اكتشاف الكون,والخيط  الذي يقودنا للطريق المستخرج من أذهان رسمت له خريطة رياضية كآينشتاين الذي وصف الكون علي أوراقه بالأرقام.
ومع تطور علم الفلك من المعابد المصرية والبابلية حتي كمبيوترات وكالة ناسا ومحطاتها,ارتبط بعلوم أخري كالفيزياء والبصريات,وتولدت علوم الفيزياء الفلكية والكيمياء الفلكية,والطب الفلكي وعلم الآثار الفلكي والبيولوجيا الفلكية,في تشظي هائل للمعرفة الفلكية في زمننا الحديث التي أصبحت كلها موصولة وزاد تماسكها مع الرياضيات.وكانت مشاهد فيلم interstellar  أنشودة نولانية بالغة الرمزية تداخلت فيها الرياضيات والفيزياء مع الكون مع مستقبل الإنسان علي الأرض رابطاً الكل في واحد...استكشاف المجهول الذي نقف علي حافته.



الأحد، 17 نوفمبر 2019

تلبس أيدولوجي


"الفن السائد في أي مجتمع، هو انعكاسٌ لفكر الطبقة الحاكمة له" 
تحمل العبارة أصداء تلامذة ماركس في فهمهم للعلاقة بين الفن والمجتمع,مع أن ماركس نفسه كانت نظرته للفن أكثر رحابة,هو الذي بدأ حياته أديباً يحاول خلق الشعر وسرد الرواية,قبل أن يخسر العالم أديبا عادياً ويربح مفكراً استثنائي قلبت فلسفاته المفاهيم وزلزلت العروش المتأصلة في ضمير الأمم,وقد لاحظ بروحه الشاعرة أن جون ميلتون أنتج ملحمة الفردوس المفقود,لنفس السبب الذي أنتجت به دودة القز الحرير,أي أنه مارس نشاطاً نابعاً من طبيعته الفطرية.لم يصدر عنه مفهوم الانعكاس ولا عن إنجلز,وإنما جاءت عبارته بنصها"في كل العصور تغدو أفكار الطبقة الحاكمة هي المهيمنة", أما عبارتنا عن الفن والانعكاس,تكشف بصمات جرامشي,بليخانوف,لينين,لوكاش...وغيرهم من شراح الماركسية,بل هي الاختصار لفكرة ماوتسي تونج الذي ربط بين الآداب والفنون والطبقة الاجتماعية,مؤكداً علي أن كل الفنون تتبع طبقة معينة أو أيدولوجية سياسية محددة,وينكر مفهوم الفن للفن,ولا يعترف بأدب فوق الفوارق الطبقية والمصالح الحزبية,فلا وجود لإبداع منفصل عن السياسة والسلطة,إنما هو في ممزوج بالسياسة حين ينحاز لمصالح طبقة معينة بحسب خطابه في ندوة الفن والأدب.
نظرية الانعكاس تفيد بأن كل إدراك للعالم الخارجي يقوم علي انعكاس هذا العالم في الوعي الإنساني,وإذا كان الفن عاكساً للمجتمع فإنه علي حد قول بيير ماشري"يكون مرآة وضعت بزاوية معينة تجاه الواقع"
تنظر الماركسية للمجتمع علي أنه مكون من بنية تحتية أساسها الاقتصاد وعلاقات الإنتاج،تنعكس علي البنية الفوقية ومن ضمنها الفن الذي يصبح انعكاساً للطبقة الحاكمة لأدوات الإنتاج,المفكر الإيطالي جيامبا فاسكو يعتبر من أوائل من قدموا محاولة منظمة لربط الأدب بالواقع الاجتماعي في كتابه"مبادئ العلم الجديد"1725متناولاً فيه علاقة الأدب بالمجتع العشائري الذي كان قائماً,رابطاً بين ظهور الدراما ونشأة المدنية والدولة,وبين ظهور الرواية واختراع المطبعة.
رغم أن الفن بأسراره العليا يستعصي علي الإدارك,إلا أن صبغته الأيدولوجية التي يتشربها يمكن ملاحظتها علي الفور,كما لاحظ هنري ماتيس أحد رموز المدرسة الوحشية في الرسم,أن "كل فن يحمل بصمة حقبته التاريخية",في عملية من التلبس الإيدولوجي يتسلل إلي بنيان الفنون,فتغدو انعكاساً للإيدولوجية الطبقة الحاكمة سواء بالسلب أو بالإيجاب,كما يري بيير ماشري أن"العمل الأدبي لا يرتبط بالإيدولوجيات عن طريق ما يقوله,بل عن طريق ما لا يقوله,فنحن لا نشعر بوجود الأيدولوجيا في النص الأدبي إلا من خلال جوانبه الصامتة"وكما اعتقد بليخانوف"لا يوجد عمل أدبي يخلو من الأيدولوجيا",هنا النظرة إلي الفن باعبتاره معادل اجتماعي للتطورات التاريخية,متأثر بقوانين من خارجه تفرض عليه جماليات خاصة,بمنظور مادي ديالكتيكي وليس بنظرة مثالية صوفية تسبق فيها الأفكار والأحاسيس الواقع المعاش,مما جعل خروشوف يصرح"إن قوة الأدب والفن السوفييتي,تكمن فيما ينطوي عليه من ذوق فني,وإيدولوجية عالية".
وفي السينما المصرية نماذج دالة علي انعكاس أفكار الطبقة الحاكمة علي الفن,من أين جاءت كل هذه النوستاليجيا والحنين للزمن الملكي وهذه الصورة الوردية عن زمن شهد أزمات طاحنة وسخط من أهله وتراكم الثروات الطائلة في أيدي طبقة صغيرة بنوا بيها فخامتهم وأناقتهم ,في وقت لم يجد فيه الفلاحين حذاء يلبسونه وللكرباج الكلمة الأولي معهم؟كانت للسينما اليد الطولي في هذه الرؤية,كما ستكون له أيادي في كل الأزمنة,وكل زمان له ميزاته المبهرة وعيوبه الخطيرة,هنا برز دور السينما في تشكيل وعينا التاريخي بالقرن العشرين.
كانت السينما في مهدها لكنهم وعوا لها وأدركوا ما قيل من قبل عن فن الرسم"إنه أخطر من أن يترك للرسامين وحدهم",لذلك منعت الرقابة أولي محاولات السينمائي الرائد محمد بيومي 1924بسبب مشهد للأسرة تأكل فيه ملوخية علي الطبلية!لن نفهم هذا الانعكاس السلبي إلا أن مصر كانت تعتمد في دعاياتها علي السياحة وعلي المشاهد التي نراها الآن بهية وجميلة حقاً,وتفوق الدول الأوروبية في الجمال والذوق,لكن خلف هذه المشاهد يكمن بؤس عارم,كتمته السينما,وربما كانت هذه الواقعة في ذهن المخرج محمد كريم أثناء تصويره فيلم"زينب",وهو يغسل الأبقار والشوارع والأشجار بالماء لتبدو براقة تليق لعيون الطبقة الحاكمة.
وفي الفترة الناصرية وهي أيضاً لها مميزات وعيوب,كانت السمة السائدة علي السينما,مواضيع تتسم بالجدية وتشجيع العلم والعمل والصناعة والاهتمام بقضايا العمال والفلاحين,لأن الخطاب السياسي كان موجه لطبقات الشعب العاملة,وظهر شعار"الاتحاد والنظام والعمل"في السينما معلناً عن توجه الطبقة الجديدة.
أما السبعينيات فقد تحللت السينما أو كادت من الأيدولوجيا إلا ماكان هجوماً علي زمن عبد الناصر,وغرقت السينما في أفلام تافهة لا تمت للفن بصلة,تلعب علي غريزة العنف والجنس,فقد أرادت الطبقة الجديدة توجيه دفة القيم الجمالية ن العمل والإنتاج,إلي تبرير وتمجيد قيم الفهلوة والثلاث ورقات والكسب السريع,بالحصول علي شنطة المال والفتاة الجميلة وتنزل تترات النهاية وسط سعادة تعم الجميع!!!في مثال عملي لمقولة الناقدة والأديبة الفرنسيةجرمين دو ستايل المعروفة بمدام دو ستايل"كل مجتع يحصل علي الأدب الذي يستحق"؟
صاحب هذه العبارة تيار فكري هادر غزا العالم ذهنياً في وقت ما من القرن العشرين,كانت نظرته للفن مرهونة بالمصلحة الاجتماعية وبصراع الطبقات الأيدولوجي المحموم,والمقصود بها أن لا فكاك لأي فكرة نظرية أو تطبيقية من أسر الإيدولوجيا الحاكمة التي تضع مسببات اجتماعية,ينتج عنها انعكاسات في كل مجالات الحياة ومن ضمنها الفن الذي هو في واحد من وجوهه,نشاط اجتماعي ينتجه فرد أو مجموعة من الأفراد للعرض أمام جهور,هذا الجمهور لديه احتياجات نابعة من ذاته يريد إشباعها,وفي نفس الوقت تفرض عليه رؤي جمالية تصاغ في قوالب بنيوية,تشكل معاني سياسية وفكرية عن طريق الوعي أو اللاوعي,تود الطبقة الحاكمة أن تعلن بها عن أفكارها التي تتبناها في سبيل تطوير المسار التاريخي لهذا المجتمع,وفي النهاية لابد أن يشار أن نظرية ماركس الخام قبل أن تبدأ صفوة العقول المفكرة في تحليلها وشرحها,تشكلت في ظل الأزمة الاجتماعية الأوروبية المزرية,وماركس في نهاية حياته تنبه إلي نمط جديد للإنتاج"النمط الآسيوي للإنتاج"باعتباره نمطاً مغايراً لتاريخ الإنتاج الأوروبي,ومع ذلك تبقي نظرية الانعكاس يمكن تطبيقها علي مجتمعات الشرق والغرب علي السواء.

السبت، 9 نوفمبر 2019

ح3


اندلعت أصوات أجهزة الإنذار تدوي في المبني الهرمي,وأغلقت كافة الأبواب الفولاذية,وصدر صوت نحاسي يردد بطريقة آلية"إنذار...إنذار...إنذار...هربت النسخة ح1 من مختبر تجارب الذكاء الاصطناعي,الروبوت الآن خارج عن السيطرة ولا يرضخ للأوامر,ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته...."استمع الدكتور شريف للإنذار واحتقن وجهه بالدماء,نزع بذلة الإخفاء التي يعمل علي تحسينها لتمكنه من النفاذ عبر الجدران,فظهر جسد طويل القامة,ووجه تلمع فيه عينان ينمان عن هلع زائر للجحيم يشهد أهواله,اندفع نحو الباب بسرعة ليري نخبة من علماء العالم يركضون نحو المخبأ المشيد للطوارئ تحمي ظهورهم روبوتات ضخمة تتخذ صوراً آدمية, إمعاناً في إضفاء الروح البشرية عليها من بينهم أبيه نبيه عالم الذكاء الصناعي,ألقي عليهم نظرة واتخذ الاتجاه المعاكس.
الروبوت ح1اختراع الدكتور شريف,ليفتتح به عام 2222,زوده بمواصفات السوبر مان التي سعي إلي امتلاكها البشر,وزرع فيه الوعي البشري,صارفاً ست سنوات من عمره في سبيل إيجاده أمامه يسعي,أعطاه كل ما يعجز عنه كإنسان,طعمه بجينات خاصة من حمضه النووي ليعيش فيه أبداً,وفي الوحدات الأساسية لم يبخل عليه بأعلي معدل للذكاء,عندما فتح عينيه أول مرة نظر لشريف بصورة مؤثرة وقال:
-لم نعد وحيدين!
في البدء ارتبك شريف لهذا الحس الفائق من ح3لكنه اقترب منه وعلي وجهه يلمع السرور,ولامسه فسري فيه احساس بالكمال,وهمس:
-عجيب...يداخلني إحساس غريب...يشبه...يشبه.
قاوم الكلمة كثيراً وحاول إيجاد غيرها لكنه لم يفلح:
-إحساس الأمومة!
ليلتها عجز شريف عن النوم في الأسرة المضادة للجاذبية السابحة كبالون الهيليوم وسط النسيم,ولم تفلح عزف الموسيقي من توصيلات المخ التي تترجم أي لحن في الدماغ إلي صوت,فتح شريف عينيه ونظر للأرض تحته والبسمة تلعب علي شفتيه,متعجباً من كون بلاد الأهرامات مضي عليها وقت عجزت فيه عن تعليم أبنائها,والآن تشهد نهضتها الجديدة علي يد علماء مصريين سيطروا علي المجتمع العلمي,وأصبحوا يقدمون للدول الأخري آخر منجزاتهم,تخيل شريف نفسه ممثل هذه النهضة في وجهها التكنولوجي,أعجبته الفكرة,أوقف جهاز الأحلام المختارة,واكتفي بحلمه الداخلي,وغفا والخيالات تداعب جفونه.
مع الزمن بدأ ح3يثير القلق في نفس شريف,لم يتخيل أن يصل لهذا المستوي من الوعي,أول مرة عصاه فيه ورفض تشريح فأر التجارب متسائلاً:
-لن أمزق فئراناً بعد اليوم.اصنع لك روبوت ركب علي يديه مشرط.
 صاح شريف:
-ملعون أنت,أنا صانعك!
التفت له ح3وقال بصوت بلهجة متهكمة:
-ومن صانعك أنت؟!
ومضي نحو الباب ببطء مستفز...
لمعت هذه الأحداث في ذهن شريف وهو يركض نحو مختبره الخاص في الطابق الثالث الذي أصبح خالياً,يسير وسط فوضي الآلات المهشمة والسوائل المسكوبة,يكز علي أسنانه ويقول بندم"كان لابد من تعطيله من أول مرة,خدعت نفسي بالصبر عليه",توقف صوت الإنذار فشعر بالفراغ الهائل من حوله,قبل أن يسمع صوت يعرفه جيداً شبيه جداً لصوته:
-شريف لن تجد ما تبحث عنه إني أراك,إني أري كل شئ,اصعد للطابق الأعلي,ولا تضطرني لعمل لن يعجبك.
صمت للحظة وقال مؤكداً كل حرف:
-ولن يعجب راندا ولا أبيك.
راندا...أبي!
تردد الاسمان في سمعه بقوة الرعد فانشق قلبه قسمين.
ترائي له وجه أبيه بشعره الأبيض وتجاعيده التي يقاومها بمحاولاته في اكتشاف إكسير الحياة,وراندا مساعدته وخطيبته بعينيها المتألقتين وابتسامتها المشعة حناناً,حذرته مائة مرة من ح3لكنه عزي ذلك لغيرتها من انهماكه معه طوال الوقت:
-العلم حل مشكلات جمة لكنه يعجز حتي اليوم عن فهم طبيعتكن!
-لا أمزح,هذا الروبوت غير البقية,أنا لا أعرف كيف أوصلته لهذا المستوي,لكني متأكدة أنه خطير لدرجة مخيفة,أرجوك يا شريف دمره قبل أن يفوت الأوان
توقف عن الركض لاهثاً من التعب وعاد يركض من جديد للطابق العلوي,دخل غرفة القيادة فرأي أبيه وراندا مصفدين بقيود من الليزر تتوهج بالأصفر,اخترق السكون صوت دبابات وطائرات الجيش تزأر في السماوات والأرض,تنحي ح3عن النافذة,رمقه شريف بنظرة غريبة:
-أين كان عقلي عندما صممتك؟
-أنادم إنت؟!إنك أمام قطعة فنية فريدة,نتاج مئات الأعوام من نضالكم لتغدوا مؤهلين للسيطرة علي الكون,نموذج حي للخيال البشري المتوقد القادر علي المعجزات.
تبادل الرجل والآلة النظرات في جمود,مما جعل من الصعب تحديد أيهما البشري وأيهما الروبوت,عاد ح3وأكمل:
-وتكفي قطعة واحدة.
ثم هوي بقبضته علي شريف لكنه تراجع قبل أن تتهشم جمجمته,تقدم ح3 ناحيته وسدد له أخري تفادها قبل أن يقفز عليه ويسقط الاثنان أرضاً,وسط صرخات راندا وطنين المروحيات التي تحوم حول المبني,أمام شريف يفقد الروبوت الكثير من قوته,شئ غير مفهوم يخفض من مهاراته,لم يع ح3 ما يقوله شريف وهو يلهث ,بينما يمد إصبعه في مكان سري من هيكله ويضغط علي زر مخفي بمهاره بين طيات الأسلاك:
-قطعة فاسدة,لا تعرف نفسها جيداً.
تحرر أبيه وراندا وهرعا ناحيته في خوف,خرجوا من الغرفة متشابكين في اضطراب,ناظرين لح3 الممدد بلا حراك.


عشر دقائق أخري


عشر دقائق أخري
ألقت ظهرها علي الكرسي في إعياء,وهي تهز رأسها في يأس.
ظلت تحدق في اللوحة علي الجدار فترة طويلة,امتزجت الألوان في رأسها إلا أنها استطاعت تمييز امرأة تحتضن ذراع رجل وتريح رأسها علي كتفه في طمأنينة كاملة,هذه اللوحة تفتح في متاهة ذاكرتها المظلمة سرداب مجهول لا تكتشفه الحواس,ناضلت مع عقلها لتجد ما يجتذبها لتلك اللوحة برباط قوي لكنها لم تفلح.
انفتح الباب وأطل تجاوز الخمسين برأسه يرمقها بأسي,ثم داخل راسماً علي وجهه ابتسامة مرغمة,حاول أن تكون طبيعية لكن أدي ذلك لزيادة اضطرابه,التفتت ناحيته ووجهها خال من التعبير,بينما باطن الرجل يلهج"ياربي...لتتذكرني هذه المرة,بدونها أنا وحيد وضائع",أغمضت عينيها لثانيتين وفتحتهما وقد تجلت فيهما لمعة خاطفة,مدت يدها ناحيته تجاهد مع النطق,تهلل وجهه,علي الأقل لم تفزع,قفز وقبض علي يدها متمتماً:
-م...م..د..
صرخت في فرح:
-ممدوح!
-نسرين...زوجتي...حياتي!
قامت تحتضنه في شوق:
-ماذا يحدث لي؟!
كلما تعود ذاكرتها من زنزانة الألزهايمر,تسأله ذات السؤال,تكون إجابته الوحيد ضمها بقوة,فتفهم كل شئ.
تعرف الآن,هذه حجرتهما,وهذا زوجها,تسأل علي حال الأبناء فيخبرها"أمجد سيرزق بولد... ستصبحين جدة,وسلوي في طريقها للسفر كي تدرس بالخارج تعليماً حقيقياً يشبع ذكائها مما حُرم منه هنا",تقترب من اللوحة وتشير في سعادة طفولية:
-لوحتي...ما رسمته في شبابي!
يداعبها:
-ماذا شبابك؟!مازلتي زهرة الشابات.
-آه يا حبيبي...عقلي...عقلي مخرف كأني عشت مئات الأعوام.
يتأمل وجهها الجميل في شغف,من كان يتصور أن الفنانة التشكيلية نسرين كريم,سيأكلها الألزهايمر في أوج نجاحها وشهرتها,كان خبراً صاعقاً علي عارفي قدرها من فنانين ونقاد,ومعجبيها كامرأة فاتنة,طالما تعجبوا من ارتباطها بممدوح هذا,وأصحاب المناصب العليا يهيمون بها ويركعون تحت قدميها لو طلبت,لكنها تتزوج بممدوح حسان الأديب الخامل,الذي عجز عن تحقيق أي نجاح,وبقي في ظل زوجته.
"لوحتي"
أول مرة يراها كانا في مركز الإبداع وأول كلمة يسمعها منها"لوحتي"كان شاباً تملؤه الأحلام,يتعبد في محراب الثقافة,يتابع الأحداث الفنية,ويطارد الندوات واللقاءات الثقافية في مدينة الأسكندرية وبها بقايا من سحر قديم,خلطه الأقدمون من كل الجنسيات ليزينوا عروس البحور.
لوي عنقه ناحيتها,ونهل نظره من الجمال الصافي مستعلناً في كبرياء,أكثر ما أثر فيه,ورد الوجنتان الطبيعي والشفتين النديتين بسلسبيل الرضاب جعلهما لامعتين,وفكر في غواية هاروت وماروت.
-منذ ساعة وأنت تقف أمامها علي تعجبك إلي هذا الحد؟
-إن الطمأنينة في هذه الصورة إما أن تكون واقعية عايشتيها أو حلم تصبين إليه.
التقت نظراتهما في نفس اللحظة...
طوال زاوجهما كانت مفكرته الحية,فهو كثير النسيان والشرود,من النوع دائم الارتباك,الحائر علي الدوام,كان حزمها وحسن تخطيطها العامل الأساسي لنجاح الأسرة,مع عثراته الكثيرة كانت ملجأه,عندما خانه أحد الأصدقاء واستولي علي أفكار حدثه عنها واثقاً,سعيداً لما توصل إليه وسيكتبه,ثم اشتهر بعدها ونال إشادة قوية,لم يكتف بذلك بل أخذ يكيل له السخرية والازدراء في كل مكان,ففقد إيمانه بنفسه جعلته هذه الحادثة يحجم عن ممارسة شغفه بالكتابة,التي أخلص لها ولم تهبها نفسها كأنها الدنيا قررت كفاية نسرين عليه ولم تسمح بالمزيد,قاطع الدنيا وعكف علي آلامه,تنهد وقال لها:
-يبدو أني رجل بلا أي مواهب.
انفرجت شفتاها عن ابتسام طالما بددت ظلمات لياليه,واندست تحت ذراعيه تطوقه في حنان:
-إنك رجل تعرف كيف تحب بإخلاص...ليس له كثيل!
الآن تنقلب الأدوار,يغدو منذ ثلاث سنوات صديقها وهداها في تيهها بأرض النسيان.
بعد فترة صمت بدت في عينيها نظرة غريبة:
-أين سلمي...أريد مكالمتها؟
ضغطت علي أزرار ريموت التليفزيون ووضعته علي أذنها,اختلج وجهه ضغط بيده المرتعشة علي يدها:
-سلمي ماتت منذ عشرة أعوام.
انهارت تبكي علي أختها في حرقة كأنها ماتت اليوم,تماسك وتوجه إلي النافذة يفتحها,بعد دقيقة ستصرخ مهتاجة,ستذرف الدمع وهي تسأل من هو وما الذي أتي به هنا!تجلد في صمت وهو ينظر للسماء يزحف عليها ليل سبتمبر ورائحة هواء الخريف تزيده وحشة,في هذا الوقت يشعر بالضيق,ويتبلبل الزمن داخله,كأن النهار يراوغ ففي هذه الصورة يولد ويموت!
من محل أسفل المنزل انبعث صوت عبد الحليم"الموج الأزرق في عينيك,يناديني نحو الأعمق,وأنا ماعندي تجربة في الحب,ولا عندي زورق",صمت النشيج,الأغنية جلت الصدأ عن عقلها,وعاد لها صوت ممدوح يغني هذه الكلمات,ليالي صفائهما,وهما ممدان علي السرير يشعر بجسدها الدافئ بجواره,وقد ارتويا من رحيق العشق"إني أتنفس تحت الماء",يهجم عليها من جديد دافناً وجهه في صدرها يردد وسط ضحكاتها"إني أغرق أغرق أغرق أغرق",ناقوس بعيد يدق في ماضيها يشير إلي الرجل الواقف أمامها,حبها وحياتها التي سلبها منها سرطان الروح,المتسلل إلي الذكري ليمحوها,ليقاومه الحب وتدحره الذكريات العاطفية المحفورة في بدقات القلب ونبضات العروق.
اقتربت منه بينما ينتظر العاصفة,وقفت إلي جواره في طمأنينة احتضنت ذراعه وأراحت رأسها علي كفتيه,ترسم بحاضرها ذكرياتها في لوحة حية,جاءت شبيهة بلوحة أخري مضي عليها ربع قرن.
قبل رأسها وسمعها تقول في مزيج من الأمل والخوف:
-أعتقد أن بإمكاني البقاء معك لعشر دقائق أخري.
ومن النافذة شاهدا الحياة تصطخب,الضوضاء والأضواء تزيد,يتحرك الكون ومن فيه بسرعة,متلهفين علي المستقبل,متعجلين يسابقون الزمن,بينما هما متجمدين يصارعان الوقت,في عيونهما ضراعة تطلب منه المكوث قليلا هاهنا أو إبعادهما عن هذا العالم,لعالم آخر خال من الألزهايمر,لا يموت فيه الإنسان قبل خروج الروح بسنوات,بخروج عقله من رأسه,والتحليق بعيداً...حيث لا أحد هناك!