الثلاثاء، 10 سبتمبر 2024

الأطلال المحترقة

 

الأطلال المحترقة


 

لا يتذكر أهل المدينة متي بدأوا في التهام بعضهم... قبل عقود مضت حدثت مشاجرة في الشارع، فقفز الجاني علي الضحية وعض رقبته، ويبدو أن الطعم أعجبه، أو بالأحري الموقف نفسه، أن تضع إنساناً تحت رحمتك، تراه يتلوي، يبكي، يصرخ، يفرفر، يلفظ آخر أنفاسه، يتوسل بأصوات مبهمة كحيوان منحور لتتركه أو لتخفف عذابه وتقضي عليه، فاستمر الجاني وكان متوحشاً قاسياً يهابه أهل المدينة بنهش رقبة الضحية والجميع يشاهد، يشله الخوف وتلجمه الرهبة، ربما لو وجد أحد المتفرجين الشجاعة للدفع عن الرجل الذي تنطفئ لمعة الحياة من عينيه لأنقذ المدينة، وما أكل الناس بعضهم بعد ذلك.

أعجبت تلك الطريقة في القتل المجرمين وتبنوها- وكانوا وباء المدينة وبئر عفونتها وقذارتها- فأصبحت طريقتهم في التخلص من بعضهم ومن أعدائهم، ومع انتشار الكلام والأخبار عن تلك الحوادث، لم يعد الناس يتشاجرون باللسان والأيدي كالسابق، بل مع الغضب والرغبة الكامنة للفتك بمخلوق وانتهاك جسده كما يفعل غيرهم، يندفع الواحد منهم هائجاً لينقض علي رقبة الآخر.

وحدث أن قام رجل بفعل ذلك مع زوجته، حتي أكل رقبتها بالكامل وجزء من ثديها، وصرح في المحكمة أن ذلك أجمل طعم ذاقه في حياته، فقد عوضه عن عيشة المرار في هذه الدنيا منذ ولد. أصبحت وسيلة الانتقام أكل اللحم البشري، وهرج من نسل القتلة جيلاً أشد فتكاً وأكثر توحشاً. انقسمت المدينة  بين آكل ومأكول، فاتك ومفتوك به، عاضص ومعضوض، فتفشي الذعر والخوف في كل شبر، وخشي الجميع علي أولادهم وأنفسهم، فخلت الشوارع ونهبت المتاجر والحوانيت الصغيرة في الأزقة الجانبية وانهار النظام، وتسلح كل إنسان بما يجده للدفاع عن نفسه وممتلكاته ضد من سموهم"الأكالين" الذين يخرجون في جماعات وقد برزت أنيابهم يمزقون كل ما يرونه، ويمارسون الجنس في أي مكان، ويقضون حاجتهم في للشوارع علناً، مرتدين لحالة من الحيوانية، ومع ازدياد الدفاعات زادت شراشة المهاجمين وكثرت حيلهم وطوروا من أساليبهم في الهجوم، لذلك تنطلق كل يوم صيحات رهيبة من أحد المنازل، والغريب أنه لا أحد علي الإزلاق فكر في مساعدة الضحية، بل تجاهلوها ولما لم يعد التجاهل لائقاً سخروا من الضحايا لعجزهم عن حماية أنفسهم.

وفي  أحد الليالي... الصيحات تنطلق. الأنياب تنغرز في اللحم والعروق. الدم الأحمر ينساب بين الشفاه. عيون تتوهج بلهيب الاستمتاع الوحشي. عيون أخري تمتلئ بالدموع والألم، ظهرت سحابة ضخمة من الدخان الأسود، اختفي ورائها البدر وحجبت بسماكتها ضوء النجوم، وامتدت النيران لتلتهم المدينة كلها، لثلاث أيام حتي لم يعد هناك قلب ينبض.

بعد قرون مر بها أحد الصبية مع والده، في طريقهما للهرب من ثأر يتبعهما من مكان لمكان والشمس تقرر الرحيل، جذب الطفل يد أبيه وسأله مشيراً للأطلال المتفحمة:

-يا أبي لماذا أكلت النار تلك المدينة؟

فأجابه الأب وهما يقفان للحظات يتأملان المنظر الكئيب:

-إن الكون يتعلم من الإنسان ياولدي، وحين أكل الناس لحم بعضهم البعض، أعجبت النار الفكرة  فالتهمت الجميع الآكل مع المأكول، والظالم مع المظلوم.

واستمرا في طريقهما حتي اختفيا مع حلول الظلام الذي لف المدينة في صمت أبدي، لن يجرؤ أي كائن علي إزعاجه بعد اليوم