السبت، 21 سبتمبر 2024

صوت وصورة

 

 

صوت وصورة

 

المشهد الوحيد                                                                                 ل/د

منزل بسيط

-المنزل هادئ تماماً، يتميز بالنظافة والأناقة رغم بساطة الأثاث الموجود،ودهان الجدران الذي تساقط في أماكن عدة.

تفتح الباب امرأة متوسطة العمر وتدخل حاملة أكياس بها بعض الفاكهة ومتطلبات المنزل، تضع الأكياس علي الطاولة، وتخلع عنها طرحتها وتهوي رقبتها ورأسها من الحر، طوال المشهد تخاطب زوجها الذي لا نراه حتي نكتشف حقيقته في النهاية.

المرأة:(مبتسمة)غيبت عليك يا بدر؟! حاكم أنا عارفاك ماتطيقش بعادي عند دقيقة، زي ما تقول كده نفسي هو اللي بياخد بنفسك، عموماً يا حبيبي دي مسافة السكة لحد السوبر الماركت علي آخر الشارع، (تلملم الأكياس وتدخل للمطبخ وتفرغ بعضها في الثلاجة وبعضها بجوار الحوض)  جايبين واد جديد عالكاشير لخمة قوي(بشفقة) وكل شوية يدعك ياعيني في عينه زي مايكون عيان، أكيد صاحب المكان هايمشيه ممكن أروح بكرة مالقاهوش! (بحزن) أصل خلاص ماعدش حد بيستحمل حد الأيام دي! (تفتح الحنفية فيطغي صوتها علي المشهد للحظات) أيوة طبعاً جبت لك معايا السجاير وولاعة سخان كمان أهي(تلقي له بالسجائر والولاعة، تضحك) إيه رأيك بقي في نشاني جم في إيدك تمام(مستنكرة) معقولة أنسي طلبات بدورتي حبيبي، هو أنا عندي كام بدر ياناس؟ (تغسل بعض الأكواب والأواني وهي تغني وتدندن) ليالي ليالي ليالي مافرقتش ثانية خيالي ليالي، بستني الفرحة وبستناك وبغني وأنا بحلم بلقاك الله علي لقي الحبيب بعد الغياب حلاوته بتخلي الهوي يرجع شباب الله لله(يسقط منها كوب زجاجي في الحوض ويجرح يدها فيختلط الدن بالماء ببقايا الطعام، تمسك يدها بألم وتنظر ناحية مكان الزوج) لا خليك يا حبيبي مفيش حاجة ده جرح بسيط ولا يهمك(تلتقط منديلاً وتكتم به الجرح وتلملم الزجاج المكسور) ياما دقت عالراس طبول، (تعود بسرعة لمرحها) برضه مش هاخلي حاجة تعكنن عليا(تعاود الدندنة والغناء وغسيل الأواني) ليالي ليالي ليالي ليالي(تصمت) عارف يابدر أحلي لحظة في اليوم واللي بعيش عشانها حياتي مستحملة قرف المشغل والمشاكل ووجع الدماغ، هي اللس باجي ألاقيك فيها، من غيرها أموت نفسي، أعيش لمين ولا أعيش ليه؟! بحس فيها إن كل شقا عمري اتبدل نعيم، مجرد تفكيري في عز زعلي إني هارجع وأشوفك بيهون عليا كل حاجة في الدنيا(تنهي عملها، وتدخل لحجرة النوم وتغير ثيابها بقميص نوم أبيض، ونسمع كلاكس سيارة يطغي علي المشهد) حاضر يا بدروتي هاطلع لك البيجامة( تخرج البيجامة من الدولاب وتضعها علي السرير بحرص واهتمام شديد، تعدل فيهل وتضبط مكانها وهي تتحسسها بحب وشغف، تخرج للصالة وتمد يدها ناحية لمكان الزوج علي الأريكة) يلا يا روحي عشان نخش نريح شوية جوة.

-نتفاجئ بأنها تقبض علي صورة كبيرة لزوجها الراحل، كانت تخاطبها طوال الوقت، تعود للحجرة وتضعها علي المخدة فوق البيجامة ثم تقبلها بحنان شديد، وتتمدد بجوارها، تلقي نظرة ملؤها العطف والاطمئنان علي الصورة، ثم تنام في سعادة بالغة نوماً هنيئاً

 

 

الثلاثاء، 10 سبتمبر 2024

الأطلال المحترقة

 

الأطلال المحترقة


 

لا يتذكر أهل المدينة متي بدأوا في التهام بعضهم... قبل عقود مضت حدثت مشاجرة في الشارع، فقفز الجاني علي الضحية وعض رقبته، ويبدو أن الطعم أعجبه، أو بالأحري الموقف نفسه، أن تضع إنساناً تحت رحمتك، تراه يتلوي، يبكي، يصرخ، يفرفر، يلفظ آخر أنفاسه، يتوسل بأصوات مبهمة كحيوان منحور لتتركه أو لتخفف عذابه وتقضي عليه، فاستمر الجاني وكان متوحشاً قاسياً يهابه أهل المدينة بنهش رقبة الضحية والجميع يشاهد، يشله الخوف وتلجمه الرهبة، ربما لو وجد أحد المتفرجين الشجاعة للدفع عن الرجل الذي تنطفئ لمعة الحياة من عينيه لأنقذ المدينة، وما أكل الناس بعضهم بعد ذلك.

أعجبت تلك الطريقة في القتل المجرمين وتبنوها- وكانوا وباء المدينة وبئر عفونتها وقذارتها- فأصبحت طريقتهم في التخلص من بعضهم ومن أعدائهم، ومع انتشار الكلام والأخبار عن تلك الحوادث، لم يعد الناس يتشاجرون باللسان والأيدي كالسابق، بل مع الغضب والرغبة الكامنة للفتك بمخلوق وانتهاك جسده كما يفعل غيرهم، يندفع الواحد منهم هائجاً لينقض علي رقبة الآخر.

وحدث أن قام رجل بفعل ذلك مع زوجته، حتي أكل رقبتها بالكامل وجزء من ثديها، وصرح في المحكمة أن ذلك أجمل طعم ذاقه في حياته، فقد عوضه عن عيشة المرار في هذه الدنيا منذ ولد. أصبحت وسيلة الانتقام أكل اللحم البشري، وهرج من نسل القتلة جيلاً أشد فتكاً وأكثر توحشاً. انقسمت المدينة  بين آكل ومأكول، فاتك ومفتوك به، عاضص ومعضوض، فتفشي الذعر والخوف في كل شبر، وخشي الجميع علي أولادهم وأنفسهم، فخلت الشوارع ونهبت المتاجر والحوانيت الصغيرة في الأزقة الجانبية وانهار النظام، وتسلح كل إنسان بما يجده للدفاع عن نفسه وممتلكاته ضد من سموهم"الأكالين" الذين يخرجون في جماعات وقد برزت أنيابهم يمزقون كل ما يرونه، ويمارسون الجنس في أي مكان، ويقضون حاجتهم في للشوارع علناً، مرتدين لحالة من الحيوانية، ومع ازدياد الدفاعات زادت شراشة المهاجمين وكثرت حيلهم وطوروا من أساليبهم في الهجوم، لذلك تنطلق كل يوم صيحات رهيبة من أحد المنازل، والغريب أنه لا أحد علي الإزلاق فكر في مساعدة الضحية، بل تجاهلوها ولما لم يعد التجاهل لائقاً سخروا من الضحايا لعجزهم عن حماية أنفسهم.

وفي  أحد الليالي... الصيحات تنطلق. الأنياب تنغرز في اللحم والعروق. الدم الأحمر ينساب بين الشفاه. عيون تتوهج بلهيب الاستمتاع الوحشي. عيون أخري تمتلئ بالدموع والألم، ظهرت سحابة ضخمة من الدخان الأسود، اختفي ورائها البدر وحجبت بسماكتها ضوء النجوم، وامتدت النيران لتلتهم المدينة كلها، لثلاث أيام حتي لم يعد هناك قلب ينبض.

بعد قرون مر بها أحد الصبية مع والده، في طريقهما للهرب من ثأر يتبعهما من مكان لمكان والشمس تقرر الرحيل، جذب الطفل يد أبيه وسأله مشيراً للأطلال المتفحمة:

-يا أبي لماذا أكلت النار تلك المدينة؟

فأجابه الأب وهما يقفان للحظات يتأملان المنظر الكئيب:

-إن الكون يتعلم من الإنسان ياولدي، وحين أكل الناس لحم بعضهم البعض، أعجبت النار الفكرة  فالتهمت الجميع الآكل مع المأكول، والظالم مع المظلوم.

واستمرا في طريقهما حتي اختفيا مع حلول الظلام الذي لف المدينة في صمت أبدي، لن يجرؤ أي كائن علي إزعاجه بعد اليوم