مالك الحزين... نظرة أخيرة لعالم ينهار
في عام ١٩٧١ أرسل نجيب محفوظ خطاباً لوزارة الثقافة يزكي فيه الكاتب الشاب إبراهيم أصلان، ليحصل علي منحة كي يتفرغ لكتابة عمل أدبي جديد، وصفه محفوظ بقوله" هو فنان نابه، له مؤلفات مطبوعة أو منشورة في الصحف تقطع بموهبة جديدة فذة ومستقبل فريد، ولمثله نشأ مشروع التفرغ، وعند أمثاله يثمر ويزدهر "و حقق أصلان توقعات نجيب محفوظ عنه، فجاء عمله الثاني رواية"مالك الحزين"عام ١٩٨٣، بعد صدور مجموعته القصصية الأولي"بحيرة المساء"، لتصبح علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي تؤسس لمرحلة فنية جديدة جوهرها رصد الهامش والعابر بذاكرة بصرية دقيقة وروح أدبية رقيقة، وتحتل المركز الواحد وأربعين ضمن قائمة أفضل ١٠٠رواية عربية، وتنال ثناء القراء والنقاد وتحوز النجاح الجماهيري والنقدي معاً الذي يحتاج لمعادلة حساسة للغاية، سيحققها أيضاً فيلم "الكيت كات" للمخرج داوود عبد السيد المقتبس عن الرواية عام ١٩٩١.
حبكة الرواية المكونة من واحد وعشرين مقطعاً يتراوح بين القصير والطويل، تدور في ليلة السابع عشر من يناير عام ١٩٧٧، وذلك ليس إلا أحد الخيوط السردية في الرواية التي تمتد في الماضي، لاسترجاع تاريخ منطقة إمبابة وما يحيط بها منذ سنة ١٧٩٨، حيث انتهت علي أبوابها معركة الأهرام بين نابليون بونابرت والمماليك أثناء الحملة الفرنسية، وبما أن الفن الروائي يكتسب مادته من الحياتي والمعاش، يسرد أصلان وقائع انهيار عالم قديم يتلاشي بشخصياته وذكرياته لحساب عالم جديد تم تشكيله عقب هزيمة ٦٧ وبداية عقد السبعينيات بظروفه المختلفة وحساباته المستجدة علي الشخصية المصرية.
يكتب إبراهيم أصلان عن شخصيات حقيقية عايشها ودون إحساسه بها عبر فنه الروائي، بنسيجها اللغوي ومفرداتها الطبيعية، لتخلد في الضمير الأدبي وتنساب لوعي كل قارئ، كالشيخ حسني الأعمي الذي باع بيته للهرم تاجر المخدرات مقابل قطع الحشيش، مما يسهل عملية بيعه مع المقهي المفتوح أسفله لرجل سيهدمهما معا، وفي ذلك المقهي تتقاطع حيوات الشخصيات التي تزيد عن التسعين شخصية وتضم ثلاثة أجيال، قطر أصلان عصارتها في ١٧٠صفحة، كلها شخوص تعيش في جزر منعزلة، رغم كونها ظاهرياً قريبة من بعضها، فعم عمران صوت المعرفة والتاريخ رجل ولي زمنه، وصديقه عم مجاهد بائع الفول يموت وحيداً في دكانه دون أن يشعر به أحد،ويوسف النجار المثقف المكبوت والشخصية الرئيسية في الرواية يوصف بأنه" يبدو غريبا عن إمبابة مع أنه من أبنائها"، الأسطي قدري الإنجليزي يعيش في دنيا بناها من أوهامه، يسيطر عليها أبطال شكسبير المتغلغلين في وجدانه ويحفظ كلماتهم عن ظهر قلب، مما يجعله يحيا في شكوك وأوهام بعيدة عن الواقع، أما سليمان الصغير تهرب منه زوجته دون أن يجرؤ علي إخبار أحد ولو علي سبيل الفضفضة والبحث عن ملاذ نفسي، بل أنه حين يذهب لأم زوجته يعرفها بنفسه، والأمير عوض الله ابن مؤسس المقهي يتحسر من قلبه علي الحال والمآل، عندما يدرك أن البيع صار حقيقة فيقول برثاء"الحبل قد انقطع، والمقهي ضاع، وعوض الله ضاع، واليوم فقط يموت أبوك"، بينما عبد الله القهوجي العامل في المقهي، أكثر الشخصيات المتعلقة بالمكان، فبدون المقهي هو لا شئ، حياته ودنياه تتمركز حوله، تبقي شخصيات كفاطمة وشوقي وفاروق دلالة علي نتاج الزمن الجديد حيث التحايل علي الحياة لاقتناص متع حرموا منها، مع مسحة من الانحلال الأخلاقي تغلف سلوكياتهم، في المجمل الرواية يصعب تلخيصها لعدم وجود حدث بالمعني الكلاسيكي، إنما هو مأزق تتعثر فيه الشخصيات بين الزمان والمكان، والكل يثقل عليه وقع الذكريات.
من الناحية الأسلوبية تأثر أصلان بمدرسة "النظرة"، التي تجعل من الأشياء لا الأشخاص موضوعاً لها، ومع ذلك لم تتوار الشخصيات في ظلال المكان، و إن كانت مرسومة دون اهتمام بالملامح الشكلية والوصف الجسماني، ويمكن تقسيمهم لشخصيات هروبية كالشيخ حسني وفاروق وشوقي، وشخصيات متأملة كيوسف النجار والأسطي قدري والأمير عوض الله، وشخصيات فاعلة كفاطمة وعبد الله والهرم، بالإضافة لتأثره بأسلوب بالأديب الأمريكي إرنست هيمنجواي ويحيي حقي.
في مالك الحزين استخدم أصلان لغة وصفية تقريرية متقشفة خالية من البلاغة الطنانة، ولا مكان فيها للاستعارات والكنايات والتشبيهات، فخرجت نبرته محايدة خالية من الانحياز لأي طرف،كأنه كاميرا تصور المشهد كما هو، واستعان في السرد بتقنية تعدد الأصوات.
في كل أعماله يمتلك فضاء روائي ثابت لا يتغير،حدوده حي الكيت كات وشارع قطر الندي وفضل الله عثمان والشوارع المجاورة التي عاش فيها منذ رحل مع أسرته من طنطا للقاهرة، مع التقدم في العمر سيتقلص ذلك المكان ليصبح"حجرتان وصالة" عمله الأخير،لذلك سنجد جذور بعض شخصيات الرواية في مجموعة بحيرة المساء، وسيستعيد مصير الشخصيات الحقيقية التي صاغها في قالبه الروائي المميز في كتاب"شئ من هذا القبيل" فالمكان هو البطل عند أصلان فيه يتنفس ويعيش وعنه يكتب أعماله.
مع السطر الأخير" كانت الليلة تنقضي، والهدوء يتراجع،
كما تتراجع الأحلام" نكتشف أن شعور الحزن هو المسيطر علي الرواية، والأسي بكافة أشكاله يعشش في قلوب الشخصيات، وندرك سبب تسمية الرواية بمالك الحزين، ذلك الطائر الذي يحيا علي ضفاف الأنهار والبحيرات، يعتبر نفسه مالكها فلا يفارق مكانه علي الإطلاق، ويصيبه حزن شديد إذا جفت مياهه التي يعيش بجوارها، ويطأطئ رأسه كما يفعل الإنسان حين تخترق قلبه الآلام والأحزان ولا يجد مفراً ولا باباً للفرج، فاكتسب ذلك الطائر من صفاته اسمه المركب مالك الحزين فهو يمثل التشبث بالمكان رغم حرقة العذاب، وهكذا يشير إبراهيم أصلان لأبطال روايته العاجزة عن التعامل مع الظروف الجديدة ويضنيها الفقد والحنين... وربما لنفسه أيضاً.