الباقي من الحساب
لم يمض عليه في العمل إلا أسبوعاً واحداً، وأصبح يشك أن في إمكانه الاحتمال إسبوعاً آخر، تعلم كريم من خبرته الضئيلة في الحياة كشاب لم يتخط العشرين، أن الأماكن في حد ذاتها متساوية... جدران وأركان وأسقف لا يتمايز مكان عن غيره، أما ما يجعلها مريحة أو قاسية فهم ساكنوها، ابتسامة دافئة تذيب الأوجاع في كوخ حقير تجعلك سعيداً كملك، ونظرة حقد في قصر فخم تكسر قلبك كعبد تلهبه السياط، وأخدت رأسه تدور بعشرات الأفكار المضطربة، لم يشوش عليها الضجيج المتواصل طوال النهار، في الشارع الذي يقع فيه محل عمله كبائع في أحد الحوانيت المكتظة بكل ما يخص الاحتفال بسبوع المواليد، لكنه تنبه أخيراً علي صوت صاحب المحل الخشن صائحاً:
ـكريم... لأ... اصح لحالك أناديك وأنت في عالم آخر، هل جئت لتسرح في الملكوت أم لتجري علي أكل عيشك؟!
مد خطاه ناحيته وقال بلهجة اعتذار مبطنة بخضوع، أتقنها من كثرة تنقله بين الأعمال المختلفة، ورغبته في التشبث بها:
-سامحني يا أستاذ علي... أوامرك.
-هات لي علبة حمص مقشر من الرف الأعلي.
ـحاضر.
أدرك منذ زمن أن الجميع يحبون من يخضع لسلطتهم، وبما أنه ليس له سلطان علي أحد فعليه أداء دور الخاضع.
سحب السلم الخشبي الثقيل، وصعد بجسده النحيل، وناوله ما أراد، ثم قفز علي الأرض، وانشغلا بوزن الحمص علي الميزان، حتي مرت بهما امرأة مسنة يغطي العرق وجهها، وطلبت بصوت متهدج ولسان ثقيل السماح بجلوسها علي الرصيف أمامهما لإرهاقها من مشوار طويل، مست كلماتها قلب كريم، إنها خاضعة مثله تعتمد حياتها علي ما يجود به من حولها من عطف، تجاهلها علي ولم يرد عليها، لكن كريم تاملها فوجدها متعبة حقاً، تنتظر كلمة وبعدها ستستريح وتتأوه من آلام جسدها المتعددة، ووعي أن عليه أن يفعل شيئاً سيسير علي منواله في حياته للأبد، نظر لعي فوجده استدار بجسده كله وتشاغل في شئ ما، ووجد المرأة مازالت عينيها الغائرة من بين التجاعيد معلقة به، قال وهو يعلم جيداً ما ستترتب عليه كلماته:
-اجلسي يا حاجة فالرصيف ملكاً للجميع... حمداً لله لم يشتره أحد.
استطار الغضب من عين علي وبدت عينيه الخصراءـ التي يفتخر بهاـ مخيفة وقبل أن يتكلم، خلع كريم قميص المحل الأخضر، وارتدي قميصه، بينما المرأة تجلس كما تخيلها تماماً، هبطت بثقلها علي الرصيف وللحظة استرد أنفاسها المسروقة من صهد الحرارة واللهاث من أجل بضعة مئات من الجنيهات، ولسانها لا يتوقف عن الدعاء له، اقترب كريم منه في ثبات وقال بصوت واثق:
-حقي أجرة أسبوع.
مد علي يده في الدرج وأخرج له ٥٠٠جنيه، وزعق بشراسة:
-لن تفلح في أي مكان، ولو عدت مرة أخري هنا معتذراً، لن تدخل هذا المحل حتي ولو قبلت قدمي.
أولاه كريم ظهره وهو ينظر له بجرأة أخرسته عن الاسترسال، واتجه ناحية الباب، شاعراً أنه تخلص من عبء ثقيل تآكل تحته قلبه قبل كتفيه، وخرج للشارع المزدحم بعشرات المتعبين والمتعبات الساعين علي رزقهم بكل السبل المقبولة والمنفرة، وهو عازم أن يبدأ مشروعه الخاص وألا يعمل عند أياً كان بعد اليوم، وسرعان ما غاب عند أول معطف.
كتاب حتشبسوت المرأة الفرعون... التاريخ والأسطورة
عنوان الكتاب: حتشبسوت المرأة الفرعون
اسم المؤلفة: فوزية أسعد
اسم المترجم: ماهر جويجاتي
سنة النشر: ٢٠٠٣
عدد الصفحات: ٢٥٧
فوزية أسعد إحدي الكاتبات اللواتي سبحن في عوالم لغات أخري ليكتبوا بمدادها، ومع ذلك لم يتخلين عن جذورهن الممتدة في أرض وادي النيل، فجاءت كتاباتهن مزيج من دقة المنهجية العلمية الغربية، والقضايا المصرية حول الذات والهوية، صديقتها الكاتبة هالة البدري تحدثنا عنها في مقالة بعنوان" عن فوزية أسعد أكتب؛ رحلة صداقة وحوار وفكر وقراءة" منشورة في مجلة"أفكار" الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية، عدد ٤٢٠،فتعطينا خلفية وافية عن تلك مؤلفة هذا الكتاب، فنعرف منها أن فوزية أسعد مصرية تفكر بالعربية وتكتب بالفرنسية، ولدت بمدينة القاهرة في شهر يوليو عام ١٩٢٩،لأسرة إقطاعية مسيحية وشغل جدها منصب رئيس الوزراء، درست الفلسفة في جامعة القاهرة، ثم سافرت عقب الحرب العالمية الثانية لتحصل علي الماجستير والدكتوراة من جامعة السوربون الفرنسية في الفلسفة الغربية، نشرت بالعربية كتاباً واحداً عن فيلسوف الوجودية كيرجارد، ترجمته هي بنفسها بعد ذلك إلي الفرنسية، واشتغلت علي أعمال نيتشه بعد ملاحظة ذكية، إذ رأت أن من يكتب عن ذلك الفيلسوف الألماني الكبير يفسر فلسفته بحسب مرجعياته الثقافية، فقرت أن تقيس فلسفة نيتشه بنفس الميزان، فماذا وجدت وجعلها تنتقل إلي دراسة علم المصريات؟ وجدت نيتشه الذي تأثر به فلاسفة القرن العشرين متأثر بفلسفة مصر القديمة.
وكتابنا الذي نحن بصدده نتاج لتجربة أدبية خاضتها المؤلفة، في رواية"بيت الأقصر الكبير" التي نشرها المركز القومي للترجمة عام ٢٠٠٤،فبطلتها سوسن"اسم عربي جميل سشن بلغة قدماء المصريين هذا اللوتس الذي يتفتح عند طلوع النهار، كما لو كان يشارك في ولادة الشمس" هي نسخة معاصرة لحتشبسوت، فأثناء بحثها الروائي عن شخصية الملكة حتشبسوت تراكمت المادة العلمية، إلي درجة دفعتها لاستغلالها في عمل كتاب عن تلك المرأة الشهيرة في تاريخ مصر.
الكتاب من ترجمة ماهر جويجاتي أحد المترجمين الذين نقلوا للسان العربية أعمالاً ممتعة ومفيدة عن تاريخ الحضارة المصرية القديمة، قدم له أديبان رائعان أحدهما مصري والآخر فرنسي، أما المصري هو بهاء طاهر، وقلمه ليس غريباً عن عالم مصر القديمة، فقصة "محاكمة الكاهن كاي" في مجموعة "أنا الملك جئت، تستعرض مرحلة إخناتون الملتبسة، وفي تلك المقدمة التي افتتح بها الكتاب وعداً ضمنياً بقراءة عملاً ممتعاً، وتحفيزاً للقارئ علي الاطلاع عليه، فيقدم لنا الكاتبة علي أنها روائية ذات موهبة، وأستاذة فلسفة لها باع في مجالها، ويصف الكتاب بأنه عصي علي التصنيف، ويطلق طاهر اسئلته الخاصة التي أثارها الكتاب، رابطاً بين حتشبسوت ونفرتيتي لاشتراكهما في نهاية غامضة، إذ يسقطان من قمة المجد للاختفاء المريب، ولا جواب علي كل التساؤلات سوي بالظن والتخمين، فلا يوجد إجابة قاطعة تقدمها أوراق البردي أو نقوش الجدران، تهمس لأسماع التاريخ عن حقيقة ما جري للملكة التي حكمت مصر لأكثر من ٢٠عاماً، ويتمني أن تقوم الدكتورة فوزية باستخدام منهجها في الكشف عن دراما نفرتيتي التي حدثت بعد حتشبسوت، وستنفذ ذلك فعلاً في كتابها"الفراعنة المارقون" وسينشره المركز القومي للترجمة علي يد ماهر جويجاتي مترجمنا الذي يثني عليه بهاء طاهر، في ختام مقدمته.
النص الاصلية بالفرنسية قدمه الأديل ميشيل بوتور، بعين علي الدقة التاريخية وأخري علي الروح الفنية، عندما يستعير لسان حتتشبسوت من العالم الآخر من خلال تماثيلها المكتشفة بعد رحلة طويلة، لمعرفة الشخص الغامض علي نقوش الجدران المشار إليه بأفعال وأسماء مؤنثة.
الكتاب مقسم لتسعة عشر فصلاً، تتعدد فيه مستويات الكتابة-وذلك سبب استعصائه علي التصنيف في خانة محددة-فأحياناً نقرأ عن الأساطير المصرية المؤسسة لوعي المصري القديم، وتبحث الكاتبة عن السيرة الأسطورية لحتشبسوت، كما سجلتها في معبد الدير البحري أو جسر جسرو(قدس الأقداس) وارتباط تلك السيرة الأسطورية التي رسمتها حتشبسوت لشعبها وللأجيال القادمة، بطبيعة العقيدة الدينية للمصريين القدماء، الذين آمنوا بقيم حاكمة وأحداث تفسر طبيعة العالم وسلوكيات الحكم، سعت حتشبسوت للاندماج فيها، فهي ابنة الإله آمون ذاته كما تسرد قصة ولادتها الإلهية بعد تتويجها، واضعة نصب عينيها الرموز التي تشكل رؤية المصري القديم للعالم، وصاغت لنفسها حياة أخري علوية تتآلف فيها مع عالم الآلهة، وخاصة الأسطورة المصرية الكبري بأبطالها إيزيس وأوزوريس وحورس، التي تمثلها كل حكام مصر، فهو يمثل حورس المنتصر علي ست الشرير ليتربع علي عرش البلاد، وبذكاء شديد استغلت حتشبسوت ذلك لتصيغ لنفسها صورة الحاكم الفرعون، بعيدة عن كونها امرأة.
وعلي مستوي آخر نجد أنفسنا نتابع حتشبسوت الإنسانة، المنتمية لأسرة الملك أحمس العظيم، محرر البلاد من الهكسوس، جدتها الكبري تيتي شيري والدة سقنن رع تاعا الثاني الملقب بالشجاع الجسور، وقد حكمت البلاد بعد وفاة سقنن رع وكاموس أثناء كفاحهما ضد الهكسوس الغاصبين، ثم جاءت اعح حوتب اللاولي والدة أحمس، مارست سلطة الحكم وكان لها تقديرها الكبير في قلب ابنها والشعب المصري، تدلنا لوحة من عصر أحمس دون عليها قصيدة يلقيها أحمس البطل القومي العظيم، لتمجيد تلك الملكة المبجلة ويستحث الشعب لتمجيدها، لذلك ليس من المستغرب أن تكون نتيجة تلك السلالة ملكة حكمت البلاد بكفاءة لأكثر من عقدين كحتشبسوت:
"ارفعوا من شأن سيدة البلاد. سلطانة شطآن الـ"حاو نبوت".
التي ارتفع اسمها فوق جميع البلدان الجبلية(أو الأجنبية)
التي تتخذ القرارات من أجل الشعب
زوجة الملك، أخت الملك، له الحياة والصحة والقوة
ابنة الملك، والدة الملك المبجلة
التي علي دراية بكل شئون البلد، التي توحد مصر.
لقد جمعت الوجهاء والأعيان وكفلت تماسكهم وترابطهم
لقد أعادت الهاربين وجمعت المنشقين.
لقد أشاعت السلام في الوجه القبلي ودحرت المتمردين
زوجة الملك،"إعح حوتب" لها الحياة".
طبيعة تلك الفترة تدفع النساء إلي مجابهة صعاب الحكم، فالرجال في معمعة القتال ضد الهكسوس الغاصبين، فعلي النساء أن يتولين مقاليد السلطة، ثم جدتها المباشرة أحمس نفرتاري التي تزوجت أحمس محرر مصر، وشاركته في الحكم لربع قرن، وشغلت أيضاً منصب الكاهنة الثانية لآمون ثم والدة حتشبسوت أحمس-اسم أحمس أطلق علي الرجال والنساء ومعناه"ولد القمر".... وكان ينبغي علي المؤلفة ذكر أخريات حكمن مصر في سلام ولم يكن هدفاً لمطاردة ذكراهن، هن الملكة نيت إيفرت في نهاية الأسرة السادسة، والملكة سوبك نفرو آخر حكام الأسرة الثانية عشر، وملكة أخري حكايتها تكاد تتطابق مع حتشبسوت هي الملكة سات رع في نهاية الأسرة التاسعة عشر، والتي طوردت ذكراها علي يد ست نخت مؤسس الأسرة العشرين المولود من زوجة غير شرعية كتحتمس الثالث.
إنها الملكة التي ذكرها مانيتون (٤٨٤-٤٢٤ق.م) في سجلاته التاريخية عن مصر القديمة بطلب من بطليموس الثاني فيلادلفيوس، ورغم أن مدونانه لم يبق منها سوي شذرات متفرقة، إلا أنها مصدراً أساسياً لتاريخ مصر، وندين له بتحديد تتابع زمني وزع علي ٣١أسرة بشرية حكمت مصر، جاءت بعد حكم الآلهة للأرض، أشار لها مانيتون باسم" أمسيسيس" التي حكمت البلاد ٢١سنة وتسعة أشهر مع بداية الأسرة الثامنة عشر أولي أسرات الدولة الحديثة، حكمت مع أخيها تحتمس الثاني البلاد وكان ضعيفاً ومريضاً، مات وتركها وصية علي تحتمس الثالث الابن غير الشرعي للملك المتوفي، والذي سيصير أحد أعظم الملوك المحاربين في تاريخ العالم.
يقدر مانيتون حكم تحتمس الثاني بثلاثة عشر عاماً، وعلماء آخرون يراوحون بين سنتين أو ثلاثة، تولي الحكم وهو "صقر في العش" ذلك التعبير أطلقه المصريون علي الفرعون الذي يتولي مقاليد السلطة في سن صغيرة، وقام بثلاث حملات عسكرية الأولي في بلاد كوش(النوبة) عندما بلغه نبأ تمردهم، والثانية ضد بدو آسيا، والثالثة في سوريا.
الفصل الثاني من حياتها بطله بلا منازع هو سنن موت الذي كان قبل تتويج حتشبسوت رجلاً صاحب كفاءة رفيعة، انخرط في الجيش قبل توليها الحكم بفترة طويلة ومن ألقابه قبل حتشبسوت:أمير، نبيل، خازن ملك الوجه القبلي وسميره، مدير القصر والبيت الكبير وأهراء آمون، والمشرف علي كافة الشعائر الإلهية، منحدر من أسرة متواضعة تننمي لمدينة أرمنت القريبة من طيبة تقدس الإله مونتو وربما كان له زوجتين ولم يرزق بولد، لأننا نري أخويه يتصدران النقوش، أحدهما مين حوتب يقوم بدور الابن علي مقبرته الأولي والثاني إمن إم حات يؤدي الشعائر الجنائزية.
التصق سنن موت بحتشبسوت فكان بمثابة الرجل الثاني في المملكة ولم يتركان بعضهما حتي النهاية، بل وفي الحياة الأخري ظلا مع بعضهما، فقد ارتبط بحتشبسوت ومعبدها عن طريق مقبرته الثانية في الحرم المقدس لمعبد الدير البحري، حيث كان تخطيط مقبرتها ومقبرته واحد، يربطهما سرداب خفي تتقاطع حجرات ذات أربع زوايا، واسم حتشبسوت مذكور علي جميع جداران مقبرته، كما يظهر اسمه بحوار حتشبسوت أمام الإله، كل ذلك أشعل خيال الأجيال حول علاقة حتشبسوت بذلك الرجل العصامي الفريد، وللأسف لم تستفيض تلك المؤلفة في تحليل تلك العلاقة ولو فعلت لكان للكتاب وزن أكبر ذلك، إن تلك العلاقة هي المدخل لحكم وزمن حتشبسوت.
يعطينا الكتاب أيضاً لمحة عن دور حتشبسوت في إعلاء كهنة آمون، الذين ستتضخم ثروتهم وسلطتهم حتي زمن إخناتون الفرعون المارق، حين يحاربهم بكل أسلحته ويمحو كل ذكر لآمون لحساب إلهه الجديد آتون الذي جعله منفرداً بالعبادة، وعند وفاته سيعودون من جديد ويسترد الإله آمون مكانته والكهنة سلطتهم، فقد منحت الثروات والأراضي لكهنة آمون، ليساعدونها في الاستقرار علي العرش، ويرجع العلماء صعود كبير كهنة آمون لمكانته العالية في الحياة السياسية إلي عهد حتشبسوت فهي تصرح علانية" إنها تحب أباها آمون أكثر من سائر الآلهة إنها ابنته المولودة من صلبه، إن آمون يمنحها سنوات حكم مديدة".
وتتساءل المؤلفة سؤالاً هاماً، هل كان عهد حتشبسوت حقاً عهد مسالم لم تنجر فيه لمعركة؟ وتتبين وجود معارك وردت في تقوش ومخربشات( المخربشات مدونات محفورة أو مرسومة علي صخور الجبال أو شقف الفخار)، وربما أزال تحتمس الثالث تلك المعارك من الذاكرة حتي لا تنافسه الملكة المرأة في شهرته العسكرية الطاغية.
تستشف الكاتبة نهاية حتشبسوت الغامضة، فتؤكد أن الجيش قد فضل تحتمس الثالث عليها كما أن كهنة آمون لم يعودوا يساندونها، وبدأوا سياسة التقرب من تحتمس في الخفاء، والكاهن الثاني لآمون بو إم رع يمثل ذلك الاتجاه السري، والآراء المتناقضة حول ما إذا كان لتحتمس الثالث يداً في وفاتها أم لا، والشائعات الدائرة حول تدبيره لثورة في القصر ضدها أة دفعها للانتحار، لكن هناك حقيقة واحدة في علاقتها بتحتمس الثالث، رغبته المحمومة لمحو اسمها من ذاكرة البشر وسجلات الأحياء، وتقول" يمكن صياغة أسبابها السيكولوجية أو السياسية بأسلوب روائي. ولكن النصوص لا توفرها لنا" وهكذا يحرمنا تدمير الآثار بالسلب أو السرقة أو التدمير المتعمد أو بأي طريقة كانت من المعرفة والبناء الجديد علي تلك المعرفة، وتشير إلي حقيقة أن سلطان الكلمة في مصر القديمة كان عظيماً، ومن بين كل الكلمات يبقي للاسم قدرة البعث والإحياء، ولقد تضافرت كل الظروف لمحو اسم حتشبسوت وضياعه وبالتالي ضياع شخصيتها في تلك الحياة والحياة الآخرة، فما سلم من هجمة تحتمس الثاني علي تماثيلها، استخدمه الفلاحون كحجارة للرحي! وكان ذلك أيضاً نصيب سنن موت حيث لم ترحمه ضربات المطارق، والأيادي الممتدة للتشويه، وفي نفس تلك الرحلة التدميرية نصل إلي مخطة إخناتون المارق، عندما شن هجمته التاريخية علي معابد آتون بالمحو والتدمير، فاعتدي لي ذكري حتشبسوت معها كراعية للديانة وكهنتها.
وأحياناً نرتحل إلي الماضي القريب، نتتبع الأيادي التي ساهمت في بعث اسم حتشبسوت من جديد، رغم كل ما حدث ليتوه اسمها في الضياع الأبدي، بدءً من عام ١٨٢٨لما اكتشف العالم الفرنسي شامبليون، اسم حتشبسوت خلف آثار تم تهشيمها، وحيرته وبلبته الكبيرة أمام ذلك الاسم المشار له بالضمائر المؤنثة، وحكاية أسرة عبد الرسول الشهيرة الذين اكتشفوا خبيئة الدير البحري، علي عمق ١١متراً حيث تراصت توابيت لأشهر فراعنة الأسرة الثامنة عشر والتاسعة عشر، بالإضافة لتوابيت أحمس والتحامسة من الأول إلي الثالث، وسيتي الأول وإعح حوتب نفرتاري وملكتنا التي ندور حولها حتشبسوت، وأشادت المؤلفة بفيلم المومياء للفنان شادي عبد السلام، ولها الحق في ذكره والإشادة به فلا يمكن فصل هذه التحفة السينمائية عن الحادثة الأصلية لاكتشاف خبيئة الدير البحري، التي تعتبر فتحاً في علم الآثار، وتوالت إسهامات علماء الآثار، فمارييت باشا أزاح الركام من علي معبد الدير البحري، ثم واصل نافيل عمل مارييت بإعادة تشكيل أحد جدران المعبد، وفي الكرنك اكتشفت بعثة أثرية مسلتين تختبئان عن العيون خلف أحد الجدران عليهما اسم حتشبسوت، ومع بداية القرن الماضي ظهرت أحجار مقصورة استراحة المركب المقدس التي بنتها حتشبسوت لأجل مركب الإله آمون رع، وعندما حل شتاء ١٩٢٢-١٩٢٣أزال ويلتوك النفايات في منخفض طبيعي إلي الجنوب الصاعد للمعبد، وناحية الشمال من نفس الطريق وجد المقبرة الثانية لسنن موت، وفي شتاء آخر ١٩٣٦-١٩٣٧عثر ويلتوك علي تماثيل متنوعة الأحجام بدت فيها حتشبسوت بابتسامة دافئة"تبعث الحياة في البدن".
تتمثل لنا حتشبسوت من خلال تلك الأبعاد الثلاثة، فنراها بصورة بانورامية، ونكتشف مع فوزية أسعد جزء من التاريخ المصري القديم، تاريخنا الحي والنابض في الوجدان رغم آلاف السنين التي تفصلنا عنه، وأحد الأدلة ذلك الكتاب المدون باحترافية علمية ومشاعر فياضة، من امرأة مصرية معاصرة تجاه جدتها الملكة الفرعونية.... لقد استطاعت فوزية أسعد أن تقطع تذكرة في قارب التاريخ، وتصحبنا معها لنتجول بين المعابد المحطمة والتماثيل المهشمة، والنصوص القليلة الباقية، ومع ذلك شاهدنا الكثير في كتابها هذا، وتعلمنا الكثير عن الحضارة المصرية القديمة، وكنا شهوداً علي حكاية من أشهر وأخطر حكايات مصر التاريخية، حكاية ملكة اسمها حتشبسوت آمنت بنفسها وبقدرتها علي تولي حكم للإمراطورية المصرية في عالم يسوده الرجال، ومع ذلك استطاعت المكوث في الحكم لفترة طويلة، وحين أراد تحتمس محو ذكراها، انبعث من جديد أقوي وأظهر مما كان، واقترن اسماهما للأبد! بل أصبحت الذاكرة الشعبية المعاصرة تحفظ اسمها أكثر مما تحفظ اسمه، لقد سمعناها في أغنية شهيرة علي شاشة السينما المصرية، ويضرب بها المثل في القدم والعراقة...إنه كتاب ضروري لكل من يريد الاقتراب من الحضارة المصرية وهواة القصص التاريخية وكل من تهفو نفسه للعيش بعض الوقت مع أجدادنا القدماء.... يتأمل ويتعلم.
آخر حاجة لبعض
سيناريو وحوار: محمود قدري
الملخص: في خضم مشكلات وباء كورونا يستعيد زوجان شابان عاطفتيهما المفقودة رغم الضغوط المادية والنفسية
م/١ شقة أحمد (الصالون) ن/د
ـ شقة بسيطة صغيرة الحجم، ولكنها نظيفة ومرتبة تنم عن ذوق في الألوان والاثاث، جهاز مفتوح علي نشرة أخبار تتلو أخبار وتحذيرات مرض كورونا، علي خلفية الصورة الشهيرة لعداد الضحايا والمصابين المتزايد... أحد أيام الصيف الحارة.
-أحمد(٣٠عاماً)يجلس علي أريكة يتكلم في الموبايل.
أحمد( ملهوفاً) :آلو... أيوة ياحسين، عملت إيه؟
ص. حسين :كلمتلك المدير وقالي الدنيا مزنوقة معاه(معتذراً) معلش يا أحمد الشغل واقع والله أنا خايف يمشوني أنا كمان.
أحمد(مايزال متعلقاً بالأمل) :والنبي يا حسين تشوف لي أي شغل معاك، أنا بقالي اسبوع قاعد من ساعة المحل اللي كنت فيه ماصفي وصاحبه قفله.
ص. حسين: أنا مش عايز وصاية يا أحمد...هاتفرج بعون الله وتتعدل.
أحمد: كله علي الله... روح انت بقي مش عايز اعطلك، سلام.
-يفتح علبة السجائر فيجدها خالية، يسحقها بقبضته ويلقيها علي الأرض في غيظ.
ـ تخرج منة(٢٥عاماً) من ناحية المطبخ، وتتوجه لحجرة أخري، وهو يرمقها بنظرة جامدة، يكتم صوت التلفاز.
قطع
م/٢ المطبخ ن/د
ـالطعام المكون من أرز وخضار بدون لحم يشيط.
قطع
م/٣ الصالة ن/د
-أحمد يتمدد علي الأريكة في إحباط يمسح جبينه المتعرق من الحر، يتشمم الهواء ويقوم مفزوعاً ناحية المطبخ.
قطع
م/٤ حجرة النوم ن/د
ـ طفل رضيع ممدد علي السرير، وعلي الحائط صورة زفاف أحمد ومنة وهي تشع بنظرات الحب الصادق، منة بجوار الطفل نعد عدد الحفاضات القليلة المتبقية، ثم تفتح حقيبتها فلا تجد فيها سوي ٥٠جنيهاً،تمسكها بين أصابعها في هم وقلق، ثم تسمع صوت أحمد يصرخ في غضب.
ص. أحمد:منة! حرقتي الأكل!
قطع
م/٥ الصالة ن/د
ـأحمد يقف متحفزاً وسط الصالة، في غاية العصبية الغضب، لقد قرر أن يخرج غضبه من نفسه ومن الدنيا في منة.
أحمد:سيبتي الاكل عالنار وروحتي فين؟
منة:كنت بغير لآدم وسهيت جوه في الاوضة.
أحمد: يا سلام سهيتي؟! سهيتي يبقي يتحرق البيت، عايزة تولعي فينا؟!
منة: إيه الكلام ده يا أحمد!وإيه الطريقة دي!
أحمد: مش ده اللي حصل؟! مش شامة ريحة الشياط؟ (بغرور الضعيف) لولايا كان زمانا ضعنا.
منة(تنهار باكية) :وأنا اللي هاتضيعك مش كده! شايلة البيت كله علي دماغي، وبغزل برجل حمار عشان نعيش، حتي حزني علي أمي اللي لسه ميتة بقي لها تلات شهور كاتماه عشان مازودتش المواجع، تعبت، مابقاش عندي طاقة والله العظيم.
أحمد(ثائراً) :قصدك أني خلاص بقيت عبء عليكي!
منة: أناني... مش بتشوف غير نفسك وبس، أنا اشيلك فوق دماغي العمر كله، وماقولش الآه حتي بيني وبين نفسي، وانت عارف كده.
احمد يبدو عليه التأثر، ويحاول قول شئ ما لكن لا يجد ما يقوله.
منة(تضع وجهها بين كفيها) :كابوس... أنا حاسة أني في كابوس، مش عارفة هاصحي منه امتي؟
-نسمع صراخ الطفل الرضيع آدم، تقوم منة متحاملة علي نفسها، ينظر احمد لها نظرة حانية.
أحمد : رايحة فين؟
منة: هارضع الولد.
تذهب منة وتترك أحمد يقف وحيداً.
قطع
م/٦ المطبخ ن/د
-يزيح أحمد الطعام المحترق، ويبدأ في إعداد وجبة أخري، بحركات خرقاء لرجل لم يتعود التواجد في المطبخ كثيراً، يبحث عن الطعام في الأدراج، ويمسك الادوات بطريقة خاطئة، تدخل منة فتفاجأ بقيامه بإعداد الغداء، تبتسم ابتسامة خفيفة تغير من ملامح وجهها، يراها أحمد فيبتسم هو الآخر، ويكاد يوقع حلة بيده وهو يضعها علي الرف.
أحمد: قولت أخف أنانية شوية
منة: مكانش قصدي أنا
ـيقاطعها وقد عاد ألي رشده.
أحمد: منة أنا عارف أن الدنيا مهدودة كأننا بقينا عايشين في عالم تاني مختلف، ظروفنا متلغبطة وأيامنا بايظة، مفيش فلوس ولا شغل ولا طمأنينة، ولا عارفين بكرة هانصحي علي ايه....بس احنا آخر حاجة باقية ومش هاسمح إني أخسرك أو إنك تخسريني.
ـتحتضنه منة ويحيطها بذراعيه بحنان.... يرن جرس موبايل أحمد.
م/٧ الصالة ن/د
-أحمد يرد علي الموبايل.
أحمد: أيوة يا ابراهيم... بجد؟
-يشرق وجه أحمد.
أحمد(مناديا) :منة
ـتظهر منة وفي يدها كبشة غرف الطعام.
أحمد: لقيت شغل، إبراهيم جارنا لسه مكلمني.
منة(منة غير مصدقة من فرط الابتهاج) :بجد يا أحمد؟!
أحمد: أيوة ونازل له دلوقت قبل الحظر ما يبدأ.
-يتجه أحمد للباب ويفتحه، بلتفت لها باسماً.
أحمد(مازحا) : اوعي الاكل يتحرق!
منة: متخافش مش هاسهي عليه تاني
-يلوحان لبعضهما ويتبادلان الابتسام، يخرج أحمد ويغلق الباب خلفه، وتتجه منة للمطبخ في سرور وحماس، وتنتقل الكاميرا للتلفزيون ذو الصوت المكتوم لنراه يعرض مشاهد أنور وجدي وفيروز وهما يتجولان في الشوارع في استعراض معانا ريال.
النهاية
1-ما هو الحي الذي نشأ فيه آدم حنين؟
حي باب الشعرية.
2-ما الذي تعلمه آدم حنين من زيارة المتحف المصري؟
تعلم النظر إلي الأشياء، ووجدت عينه طريق الرؤية.
٣- كم عام عاش آدم حنين في قرية القرنة بالأقصر؟
عامين.
4- ما الذي ألهم آدم حنين لوحة البشارة؟
منزل ريفي بسيط رآه في قرية القرنة بالأقصر، علي واجهته غزالة معلقة.
٥-ماذا قالته الرسامة غابرييل مونتر، لآدم حنين، أثناء زيارتها للمعرض الذي أقامه في ميونيخ؟
إنه لن يجد في بيئة الغرب مايغني تجربته، وأنه من الأفضل ألا يتأثر بأعمال الأوروبيين.
٦- اذكر واحداً من الأعمال التي أنجزها آدم حنين أثناء تواجده في جزيرة "الفنتين"؟
رجل يشرب من القلة.
٧- ما هي أهم أعمال آدم حنين مع الشاعر صلاح جاهين؟
رسومات لمرافقة "رباعيات صلاح جاهين" في مجلة" صباح الخير".
8-من هو المهندس المعماري الذي صمم منزل آدم حنين بالحرانية؟
رمسيس ويصا واصف.
٩-في أي عام أقام آدم حنين معرضه في بيت السناري؟
عام ١٩٦٦.
١٠- ما هي أسباب سفر آدم حنين إلي باريس؟
نكسة ١٩٦٧،حينها كانت الأجواء مشحونة والناس كانت معبأة باليأس والهزيمة، فلم يستطع الاستمرار في هذا المناخ.
١١- كم عام مكث آدم حنين بفرنسا؟
٢٥عاماً.
١٢-في عام أنشئ سمبوزيوم أسوان الدولي للنحت؟
١٩٩٦.
١٣- متي بدأ ترميم تمثال أبو الهول؟
١٩٨٩.
١٤-متي بدأ تأسيس سمبزيوم أسوان الدولي لفن النحت؟
١٩٩٦.
١٥-متي بدأ آدم حنين في إنجاز مشروعه الشهير"السفينة"؟
٢٠٠٠.
١٦-متي بدأ إطلاق الدورة الأولي من جائزة آدم حنين لفن النحت؟
٢٠١٦
١٧- أي خامة يفضل آدم حنين استخدامها؟
الفحم والنسيج
١٨- هل يختار آدم حنين موضوعات أعماله بناء علي تأثير الفن المصري أم أن هذا التأثير يظهر بشكل غير مقصود؟
حضور الفن المصري في أعماله يأتي دون قصد، وبغير افتعال، لأن هذا الفن صار جزءً من تركيبته النفسية والشخصية.
١٩-كيف تؤثر الثقافة والخبرة الحياتية في رؤية الأشكال والتفاعل معها وفقاً لآدم حنين؟
يري آدم حنين أن الأشكال ترتبط في أذهاننا بكثير من الانفعالات الني نحس بها وتذكرنا بلحظة الرؤية، فكل إنسان يتذكر شيئاً مختلفاً عن الآخر، وكل شخص لديه تصوراته ورؤيته حسب ثقافته وخبرته.
٢٠- ما هو العمل الفني الناجح من وجهة نظر آدم حنين؟
العمل الذي يشبه لقاء جديداً بالجمال والإدراك الذي يثير الدهشة والرغبة في التأمل العميق.
٢١- ما هي الخصائص التي تجعل البومة كائناً منفرداً في نظر آدم حنين؟
يري آدم حنين البومة كائناً غريباً ومثيراً جداً، فرغم ما تثيره في نفس البعض من شعور بالتشاؤم إلا أنها شديدة التفرد، تظهر ليلاً وتختفي نهاراً ومعبرة عن العزلة بشكل ما.
٢٢- ما هما القطبان المتناقضان في جوهر الفن المصري؟
هما الكتلة والخفة، إن جوهر النحت المصري القديم هو المهابة والرقي وصلابة وخفة التمثال أو المنحوتة، وهاتان الصفتان هما اللتان أعطتا الفن المصري شكله الذي يبدو بسيطاً إنما سحيق وعميق الأغوار.
٢٣-ماذا كان دور صلاح مرعي في سمبوزيوم أسوان؟
كان مسئولاً عن ترتيب المنحوتات الجرانيتية المعاصرة المعروضة بالمتحف المفتوح بأسوان، وحافظ علي الطبيعة الجبلية للأماكن، مفضلاً جمال المناظر الطبيعية.
٢٤-ما الذي يجعل تجربة آدم مع البردي مثمرة؟
ورق البردي مادة مدهشة، مادة تجمع بين الحجر والخشب، فيها نوع من الدفء جعله مرتبطاً بها ارتباطاً عضوياً، كانت علاقته بمادة البردي مثمرة للغاية، لأنها كشفت عنده مخزون ثقافي وروابط ماض مازال يتحرك في داخله.
٢٥-في أي عام افتتح متحف آدم حنين؟
٢٠١٤
٢٦- في أي مجلة كانت تنشر رباعيات جاهين ولوحات حنين؟
مجلة روز اليوسف.
٢٧- من الذي نظم عرض أعمال آدم حنين بقاعة العرض الدائمة بمكتبة الأسكندرية؟
صلاح مرعي.
٢٨- ما الذي دفع آدم حنين لإطلاق مسابقة" آدم حنين لمراحل التعليم ما قبل الجامعي"؟
إيماناً منه بأهمية دعم وتشجيع النشء علي ممارسة الفن التشكيلي كوسيلة للتعبير عن النفس.
٢٩- في أي عام أطلقت مؤسسة آدم حنين مسابقة قريتي؟
٢٠٢٢
٣٠ – ما الذي يميز فن النحت من وجهة نظر آدم حنين؟
يري أن فن النحت أكثر ارتباطاً بالطبيعة، كما أن له علاقة مباشرة مع المتلقي، عكس الرسم أو التصوير، لكنه فن يحتاج إلي الصبر والتأني، فهو يجلس أمام العمل لساعات طويلة
أوبنهايمر... برومثيوس أم فرانكشتاين؟
كل فيلم لكريستوفر نولان بمثابة بئر عميق للأفكار الفلسفية المثيرة للنقاش، وتحفيز العقل علي التأمل، منذ انطلاقته الأولي بفيلم Follwing ذو الميزانية المنخفضة للغاية(٦٠٠٠دولار)1998،، حتي فيلم أوبنهايمر ٢٠٢٣ الذي تكلفت صناعته ١٠٠مليون دولار ومثلهم للتسويق والدعاية، إن رحلته السينمائية عبارة عن اسكتشاف للحياة والنفس، البحث عن نغمة الزمن الغامضة، في سيمفونية الكون العظمي.
في عام ٢٠٢٤فاز نولان لأول مرة بجائزة أوسكار أفضل مخرج عن فيلم أوبنهايمر، الذي توج بست جوائز إضافية من إجمالي ١٣جائزة رشح لها، نال منها جائزة أفضل فيلم وأفضل ممثل دور رئيسي لكيليان مورفي، عن أدائه لشخصية أوبنهايمر ليصبح أول أيرلندي يفوز بتلك الجائزة، وأفضل ممثل مساعد لروبرت داوني جونيور عن دور لويس شتراوس رئيس لجنة الطاقة الذرية الأمريكية بين عامي ١٩٥٣و١٩٥٨، وأيضاً أفضل مونتاج، أفضل تصوير سينمائي وأفضل موسيقي تصويرية.
قبل ذلك بأربع سنوات وتحديداً في شهر ديسمبر من عام ٢٠٢٠أعلنت شركة وارنر برذرز للإنتاج السينمائي، عن خطة لإصدار أفلامها في دور السينما وعلي منصة HBO بشكل متزامن، وكان نولان يتعاون مع تلك الشركة العريقة منذ فيلمه Insomina ٢٠٠٢،فانزعج بشدة من هذا القرار، لأنه من أكبر المدافعين عن السينما بشكلها التقليدي التاريخي، حيث يجلس المشاهد في دور العرض يكتنفه الظلام، وأمامه الشاشة العملاقة ليبدأ سفره الروحي في عالم الفن والأحلام، وأدي ذلك القرار لهجرته لشركة يونيفرسال لإنتاج وتوزيع الفيلم، بشروط خاصة فرضها نولان، فبالإضافة لبند الميزانية الضخم طلب عدم عرض أي فيلم جديد للشركة المنتجة لمدة ثلاث أسابيع قبل وبعد صدور الفيلم،وتم الموافقة علي كافة طلباته مما يعكس مدي أهمية نولان في صناعة السينما الأمريكية، بل أن بعض الممثلين الذين ظهروا في الفيلم خفضوا من أجورهم للعمل في الفيلم كروبرت داوني جونيور ومات ديمون وإيملي بلانت، فحصل كل منهم علي٤ملايين دولار، مقابل أجورهم المعهودة التي تترواح بين ١٠ و٢٠مليون دولار، والأغرب إن عملية اختيارهم كانت سرية للغاية، لدرجة أن منهم من لم يعرف أي دور سيؤديه بعدما وافقوا علي عقد الفيلم، لثقتهم الكاملة بمهارات وكفاءة كريستوفر نولان، الفنان القادر علي الانتصار لماهية السينما الحقيقية، في ظل مخاطر تكنولوجية رهيبة تقدم الزيف بدلاً من الصدق الفني، وآمن بالجمهور العاشق لذلك الفن، فلم يخذله وتوافد من كل أنحاء العالم علي قاعات العرض السينمائي مخصصاً جزء من يومه وروحه ووجدانه ليهبه للشاشة الفضية، لأن السينما كما يفهمها نولان وهو محق مائة بالمائة، تجربة سمعية وبصرية يتشربها وعي المشاهد ولا مكان لهذه التجربة سوي دور العرض وإمكانياتها المجهزة لذلك، وبعد وقت قصير أصبح أوبنهايمر جزء من الثقافة الشعبية في العالم
بدأ نولان كتابة الفيلم في بضعة أشهر، عقب انتهائه من العمل علي فيلمTenet ولم يكن ذلك الوقت القياسي مفاجئاً، فنولان يفكر في عمل فيلم عن أوبنهايمر منذ سنوات طويلة، فعندما كان في الحادية عشرة اندلعت احتجاجات ضد الأسلحة النووية، فعرف منذ طفولته خطورة السلاح النووي، وامتلأ قلبه بالخوف من احتمال نشوب حرب نووية تفني الجميع، وفي شبابه أصدر المغني البريطاني ستينغ أغنية عام ١٩٨٥تنتقد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ظلت كلماتها عالقة في ذهنه خاصة عبارة"كيف أنقذ ابني الصغير من لعبة أوبنهايمر المميتة؟!" ظلت تلك الأفكار تموج في طيات وعيه وبين تلافيف دماغه لعهد طويل من الزمن حتي ربطها بفيلمه الأخير، ويري نولان أن طببعة تتصورنا للسلاح النووي تغيرت مع مرور الوقت، لكن من المستحيل ألا نتوقف عن الخوف منها، واعتبر أن الغزو الروسي لأوكرانيا عام ٢٠٢٢جرس إنذار مخيف أعاد للبشرية الرعب من التهديدات النووية.
منذ المشاهد الأولي يجد المشاهد نفسه في خضم فوران حياة أوبنهايمر العاصفة، إنه يحاكم بطريقة ما وإن بدا الأمر غير ذلك، هو نفسه يحاكم نفسه كما تعبر عينا مورفي بعمق، يحاكم ذاته، ماضيه، علاقاته، ذنوبه، أو علي الأقل يبرر حياته كلها علي حد قول شتراوس، غريمه الذي أوقع به كي يتم سحب تصريحه الأمني بسبب ميوله الشيوعية، يشرح مونتاج رشيق ومباغت يعتمد علي تركيز المشاهد حياة أوبنهايمر، وبطريقة نولان في السرد غير الخطي الذي تميز بها، يستعرض عبر ٣ساعات ظروف مشروع مانهاتن الحاضن للقنبلة الذرية، وما جري بعده، بين وجهتي نظر أوبنهايمر-شتراوس،، الأمر الذي سيجعلنا نطرح أسئلة عديدة طوال الفيلم، كما يبتغي نولان بالضبط من أعماله"أنا لا أصنع أفلاماً لأبدي وجهة نظر، أصنعها لأطرح الأسئلة المثيرة وأقدم تجربة مشوقة للجمهور أتمني أن تبقي في ذاكراتهم" من تلك الأسئلة المطروحة وتاهت في خضم جدل جناية أوبنهايمر علي البشرية أو إنقاذها من مجازر قاسية كانت ستحدث لولا سلاحه الرادع، سؤال ماهي الحقيقة؟ إن شتراوس أبغض أوبنهايمر وسعي في النكاية به، لأنه" ظن"قيام أوبنهايمر بتأليب العلماء عليه، بدليل تجاهل أينشتاين له بعد لقاؤه بخصمه، وهو ما أثر في نفسيته بعمق، فشتراوس في المقام الأول مجرد موظف بيروقراطي يحيا بين ألمع عقول علم الفيزياء، وزاد من حقده غرور أوبنهايمر في حديثه معه، وسيتجلي في الختام أي وهم بني عليه شتراوس موقفه-ثنائية الخيال والحقيقة أحد عناصر فن نولان خاصة في فيلم prestige – فأينشتاين وأوبنهايمر أثناء وقفتهما بجانب البحيرة، لم يذكرا شتراوس قط، بل كان حديثهما حول الدمار والخراب المهيمن علي العالم بفعل السلاح الذري، ما جعل أينشتاين يغوص في أفكاره الداخلية، دون إحساس بوجود شتراوس، وقد ترك أوبنهايمر وحيداً حيراناً لا يدرك هو الآخر ماهي الحقيقة، هل ساهم في إنقاذ ملايين الأرواح أم رسم لها طريق الهلاك؟!
العلاقة بين أوبنهايمر وشتراوس استلهمها نولان، من علاقة موتسارت وسالييري كما صورها فيلم أماديوس للمخرج ميلوش فورمان ١٩٨٤، وتبين حقد الرجل المديوكر علي عملاق منحه الله موهبة لا تجاري، فيجد نفسه ازدادت صغراً ووضاعة، وتولدت فيها جراثيم الحقد والبغضاء، فتنسج السوداوية الحيل والمكائد للنيل من الرجل العظيم، الذي صفع كبرياؤه كاشفاً له عن حجمه الحقيقي، وهو يلقي بظله الممتد علي روحه فتتسسمم للأبد، ويسعي للانتقام المدمر كي يرضي روحه المنكسىة دون قصد علي الإطلاق، إلا مواجهتها بالحقيقة المريرة، وأي الرجال في عالمنا يحتمل لذعة مرارة الحقيقة؟!
يبدو أوبنهايمر في ذلك العمل شبيهاً بالطبيب فيكتور فرانكشتاين، خالق الوحش الذي يطارده طوال الرواية التي ألفتها ماري شيلي في القرن التاسع عشر، ويناديه"أبي" ويوصف أوبنهايمر أيضاً بأبو القنبلة الذرية، التي أصبحت هي الأخري وحشاً يطارده نفسياً، منذ بداية انطلاقها في رؤي من وحي خياله، من ضمنها المشهد المخيف لفتاة ينسلخ وجهها وهي تصفق له، هذه الفتاة هي فلورا ابنة كريستوفر نولان، في تلك اللقطة تداخلت الحياة الشخصية لنولان برؤيته الفنية، كأنه يريد القول أن خطر السلاح النووي يتهدد أبنائنا وكل ماهو عزيز علي قلوبنا.
لقد ارتبطت قوة أوبنهايمر في الفيلم بمنحني صناعة القنبلة، كي تصل أمريكا لصناعة القنبلة النووية قبل ألمانيا النازية بزعامة هتلر، وعند اكتمال جاهزيتها، تتلاشي قوته بالتدريج، بعد أن كان قائداً تكفي إشارة منه، الأكثر من ذلك أنه يصبح محل شك من قبل السلطات، وغير مرحب به علي الإطلاق في أروقتها، لدرجة أن الرئيس الأمريكي هاري ترومان كما جسده جاري أولدمان في مشهد واحد مؤثر وحقيقي لأبعد مدي، يمنع دخوله لمكتبه مرة أخري ويطلق عليه"البكّاء" بعدما تحكمت فيه عقدة الذنب ورأي الدماء تلطخ يده... الوحش يعذبه ويطارده، ويبلغ ذروة رعبه حين يري في المشهد الأخير كابوس تعرض الأرض لخراب نووي شامل، انفجارات في كل مكان ووهج القنابل يخفي تحته نهاية العالم.
الرغبة في تجربة القنبلة التي دافع عنها أوبنهايمر، إحدي مواقفه المتهورة كما أوضح الفيلم طبيعة سلوكه، عندما حاول تسميم أحد أساتذته، أم رغبة في إثبات الذات، أم فعلاً محاولة لدفع شر أكبر كان ليحدث لولاه؟... الأكيد أن في تلك اللحظة ساطعة البياض أثناء تجريب القنبلة في لوس ألاموس، أدرك أوبنهايمر أن سلاحه الجديد سيغير من شكل العالم للأبد، فكان أول ما طفي علي وعيه عبارة من كتاب الباهاغافاد غيتا الهندوسي"الآن أصبحت أنا الموت مدمر العوالم. لم يعرض نولان شخصية بطله بعين أحادية إما أبيض أو أسود بل فتح جراحه ليري مدي تعقد صراعه الداخلي، محاصراً بخيارات صعبة، ويتردد من جديد تساؤل شتراوس عن طبيعة أوبنهايمر كرجل وكعالم" العبقرية ليست ضماناً للحكمة، كيف يمكن لرجل عرف الكثير أن يكون أعمي لهذا الحد؟"، يعترف نولان"إن فكرت في أكثر الشخصيات غموضاً التي قدمتها، فبالتأكيد أوبنهايمر هو الأكثر غموضاً وازدواجية، ومع الأخذ في الاعتبار إنني مخرج ثلاثية باتمان فهذا يعني الكثير".
الملمح البارز للفيلم تركيزه علي الوجه البشري، فنحن لا نري معظم الوقت سوي وجوه ترتسم عليها مشاعر، وشفاه يخرج منها حوارات تشكل الركيزة الأساسية للبناء الدرامي كله، مما يعيد للأذهان تحفة سينمائية أخري بنيت علي الحوار بعنوان 12 angry menيطالعنا دوماً الوجه للبشري في كل مشهد، علماء وعسكريون وسياسيون، يعلق علي ذلك مدير تصوير الفيلم هويت فان هويتما"منذ البداية أدركت أن ذلك الفيلم سيكون عبارة عن وجوه، وذلك تحد كبير بالنسبة لنا، في الأفلام الأخري كنا نعتمد علي اللقطات الكبيرة، أما هذا الفيلم فهو يغوص للداخل حول المشاعر والتعبيرات والوجوه والذاتية" من بين تلك الوجوه والتعبيرات تتشكل مرحلة مصيرية من تاريخ البشرية، استغلها نولان جاعلاً من كل مشهد ذروة في حد ذاته، عن صراعات نفسية وعلمية وسياسية وأخلاقية صهرت مواقف ومصير أوبنهايمر.
سواء كان سليل برومثيوس سارق النار من الآلهة ليهبها لبني البشر كي تقوم عليها حضارتهم الجديدة وعاني من انتقامهم حيث وكل به نسر يأكل كبده، ثم ينبت له كبد جديد وهكذا، كما في الأسطورة اليونانية، ومعني اسمه"الفكر المتقدم" كما أشار الفيلم لذلك، أو فيكتور فرانكشتاين الهارب من وحش صنعه، يظل فيلم نولان عملاً إبداعياً يستحق التتويج بالجوائز، وأغلب الظن إنه سيصبح عتبة لهوليوود كي تقدم سير العلماء وما في حياتهم من دراما بطريقة مبتكرة، بعدما رأينا في فيلم أوبنهايمر ساحق النجاح حشد ضخم من علماء الفيزياء جذبوا جمهور السينما يتصدرهم أوبنهايمر ولعبته المميتة.
رمضان بالصوت والصورة
لهلال هذا الشهر هيئة مختلفة، إنه يبزغ في السماء كعلامة علي بداية أجواء جديدة، تقطع التسلسل العادي للحياة، وتدب في القري والمدن روح جديدة غير معهوده، إنه الزائر السنوي الذي يمد يده بالرحمة والبركات والبهجة، وسرعان ما يحمل عصاه ويرحل علي وعد بزيارة قادمة بعد ١٢ شهر بالتمام والكمال.
تتسامي الروح في ذلك الشهر الكريم ويبدو باب السماء قريباً للغاية من العالم الأرضي، ربما لأننا ننسي الدنيا إلي حد ما وننهمك في العبادات، فتمتلأ المساجد بالكبار والصغار، وتكثر الصدقات ويهنئ الكل بعضهم بحلول رمضان، وتبدأ تجربة بصرية-سمعية في غاية السرور والإمتاع، تشحن ساعات النهار أغنيات رمضان المعتقة بروح الماضي والفن الأصيل،وكلما بعد بها الزمن نكتشف كم هي رائعة، ومن المستحيل مجاراتها في إمكانياتها الإبداعية أو بما تثيره من شجون وذكريات، فأغنية"رمضان جانا" من ألحان محمود الشريف وكلمات الشاعر الغنائي حسين الطنطاوي وغناء محمد عبد المطلب المذاعة في عام ١٩٤٣،بمثابة البيان الشعبي لاستطلاع هلال رمضان وإشارة البدء بطقوس رمضان بمقدمتها الموسيقية العبقرية، والأداء الغنائي المتمكن، وكلماتها السهلة الممتنعة، فحين تسمع في البيوت والدروب، فالوقت قد حان لتعليق الزينة وشراء اللازم من خزين رمضان وحلوياته، وتستنير الشوارع بالأشرطة الملونة والأضواء، ويدعو الجو الكرنفالي الحميع للسعادة، وتكتمل المرحلة الغنائية بـ"وحوي يا وحوي" للمطرب أحمد عبد القادر، المقتبسة من التراث المصري القديم، وكما يتم استقبال رمضان بالغناء نودعه أيضاً بالغناء، عندما تعلن شريفة فاضل اقتراب عيد الفطر حين تشدو "تم البدر بدري والأيام بتجري" ثم تؤكد علي مفارقة يختص بها شهر رمضان ألا وهي كونه"هالل بفرحة ومفارق بفرحة" ولا أعرف شهر سواه يهب الفرحة في عند قبوله وإدباره إلا رمضان.
ونفس الشوارع التي كان يعمها الضجيج وتمتلأ بالزحام في النهار، تكاد تخلو مع أذان المغرب من الحركة، فالناس في بيوتهم يتهيأون لصلاة المغرب وتناول إفطارهم الذي يكون عادة دسماً يحوي من نعم الله الكثير، ومن لا يتسني له الإفطار في منزله وسط أهله لظروف عمل أو سفر، يحاول المحيطون به مساعدته وإكرامه، وبعد وهلة يعود الزحام وربما أكثر، فتمتلئ المتاجر والمقاهي، ويمرح الأطفال خارج البيوت حتي وقت متأخر من الليل لاطمئنان الأهالي ببركة رمضان وونسه، ومع لحظات الفجر الندية يسعي المصلون للمساجد بين الصحو واليقظة، يرجون رحمة ربهم لاجئين لحماه، ويملأون بيوته التي تبقي رحبة رغم امتلاء الناس بها، تختلط الأنفاس بالدعوات بالهمهمات، بصوت قراء القرآن كلاً منهم علي نغمة وآية مختلفة، كأن الشهوات خمدت وصفت الصدور والقلوب.
ويمتاز رمضان بموسم فني زاخر وفاخر، وتظل الأعمال القديمة في الإذاعة والتلفزيون لها رونقها ومتعتها التي لا تضاهي، رغم التطور التكنولوجي الفائق في صناعة الصوت والصورة، مازالت الأذن والعين تحن للأصوات المعبرة و الوجوه الأليفة القريبة من القلب لفنانين مصر الحقيقيين، الأذن ترقص طرباً حين تسمع ملكة الميكروفون زوزو نبيل وهي تهمس" بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد...." هنا نعيش بالوجدان في عالم من الخيال الجميل المستوحي من قصص ألف ليلة وليلة، كتبه للإذاعة طاهر أبوفاشا وأخرجه محمد محمود شعبان عام ١٩٥٥،مع أن ألف ليلة وليلة قدمت للدراما التليفزيونية مراراً إلا أن الأصل الإذاعي يمتاز ببصمة سحرية علي الوجدان لا تمحي، ويحتل مكان الصداراة في الأعمال المقتبسة عن ألف ليلة وليلة، فنحن نركب علي بصوت فناني ذلك الزمن علي بساط علاء الدين، ونطير بين الممالك والقصور نشارك أبطال القصص مغامراتهم، ولما ينطلق سيد مكاوي في "المسحراتي" يلهج بكلمات فؤاد حداد المقطرة بحب مصر والإنسانية والحياة، فالسحور قد حان وضوء الفجر يبحث عن طريقه، ومع الإقبال علي طعام السحور تتشبع قلوبنا بالأشعار والغناء مع اثنين من أجمل أبناء مصر ارتبطا بالشهر الكريم، يدعوان كل ليلة ليقظة الضمير والهمة كما يدعو مسحراتي الشارع ليقظة العيون" وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال، حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال، وكل شبر حتة من بلدي حتة من كبدي حتة من موال"، وسيد آخر هو سيد الملاح مع المبدعة سهير البابلي كونا ثنائياُ إذاعياً في منتصف السبعينيات ارتبط برمضان عن طريق مسلسل"سيد مع حرمه في رمضان" يقدمانه بأسمائهما الحقيقية، ويغنيان في بدايته أغنية في منتهي الظرف، ومن مشكلات سيد وحرمه لمشكلات أخري يواجهها" موهوب وسلامة" كما قدمهما فؤاد المهندس وعبد المنعم إبراهيم، ومع كل أمسية نستمع لرجاء موهوب بمنحه فرصة أخري ليبين قدراته التي يؤمن بها وحده، وهو يردد" ده أنا موهوب والله العظيم موهوب" فننتظر للغد لسماع موقف مضحك جديد، ومع صوت قراء القرآن الكريم نحلق في سماوات الله العلي القدير ونسمع كلماته بحناجر ازدانت بآيات كتاب الله، ونسمع بخشوع وطرب عمالقة مدرسة التلاوة المصرية وبخاصة الحصري والمنشاوي وعبد الباسط عبد الصمد ومصطفي إسماعيل، وكيف ينقلون معاني الكلمات بأدائهم الصوتي وإحساسهم العميق بالقرآن الكريم، ومع الابتهالات نخشع وندعو الله بقلوب رقت من فرط حلاوة الأصوات وصدقها، مستقبلين أيام الرحمات بابتهال النقشبندي"رمضان أهلاً مرحباً رمضان، الذكر فيك يطيب والقرآن" .... إن أثير الإذاعة سري في أيام وليالي رمضان، لينشر فيها ذكريات عصية علي السقوط في بحر النسيان.
ولم يختلف الأمر بالنسبة للتلفزيون بفوازير رمضان التي قدمها صلاح جاهين وفهمي عبد الحميد، فملآ الدنيا وشغلا الناس، وعلي الشاشة تألقت نيللي وشريهان بتلك النوعية من الأعمال، بينما اكتسح المواسم الرمضانية" ليالي الحلمية" بأجزائه الخمس من تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج إسماعيل عبد الحافظ ، فتابعهما الجمهور بشغف وتعلق وهما يرويان مع ما يقرب من ٣٠٠فنان حكاية مصر الحديثة، مجسدة في الصراع بين الباشا سليم البدري والعمدة سليمان غانم، علي مدار عشرات الحلقات دمجت المتعة بالتفكير، وبأسلوب طريف وراقي حاور فنان الكاريكاتير رمسيس زخاري نجوم مصر في الثمانينيات والتسعينيات خلال برنامج"يا تليفزيون يا" فاقتربنا من مبدعي مصر بشياكة وخفة علي القلب، وحين نتذكر هذا البرنامج وأمثاله نرثي لحالة الزعيق والكلام بـ"العين والحاجب" في البرامج الثرثارة المتسابقة نحو افتعال الجدال التافه، وحين يتربع الشعراوي علي كرسيه نجلس أمام لسان لبق يفسر الآيات القرآنية بأسلوب مبسط جعلته قريباً من رجل الشارع.
رمضان في مصر له خصوصية لا تجدها في أي مدينة في العالم، فذلك الشهر طوفان من المشاعر يتم التعبير عنها بطرق شتي، سواء في الروحانيات أو فرحة الاستقبال أو تزجية أوقات الصيام بمتابعة الأعمال الفنية، ولكل طريقة صوتها وصورتها، فيبدو رمضان كعالم خاص وجميل، ولكن ياللخسارة فهو كلل شئ بهيج يتلاشي سريعاً ويذوب في تتابع الليل والنهار، ولا يبقي منه سوي الذكري تؤنسنا حتي يعود من جديد.... وهكذا تمضي الأعوام.