ما هكذا تكلم ابن عربي!
كلما عدت للحياة من جديد بعد موتتي الصغري,وقبل أن أفتح عيني أسأل الله أن
يجعل الهرمنيوطيقا في عيني اليمني,والسميوطيقا في اليسري وفي قلبي العرفان وفي
عقلي البرهان,لعلني أستخلص أي معني أو أتأكد من أي شئ في هذه الدنيا التي وجدت
نفسي بلا رغبة مني جزءً منها,ومطالب أن أشارك فيها وأتفاعل معها,رغم أني أصلاً لا
أفهمها ولا أدرك اللازمة من هذا الكوكب الصغير في العالم اللامنتاهي الذي يقطنه
هذا الكائن المرعب المعقد المدعو الإنسان,مع إخوته من باقي الأحياء,أريد أن أفك أي
شفرة أو علامة أو نص قبل أن أموت,أود أن أتأكد من أي شئ قبل أن تنتهي رحلتي,كم
أحسد الدوجماطقيين والمتطرفين-باستثناء الحمقي العدوانيين-لأنهم صنعوا لأتفسهم
أرضاً صلبة,وأيضاً أحسد السذج من الناس,من تملأهم كلمة واحدة أو فعل واحد أو فكرة
واحدة فتسد في وجدانهم أي فجوة قد يتسرب لهم منها القلق والتفكير!
في متاهات القول سبحت-علي قدري اللاشيئي!-حتي غرقت,وفي دنيا الأحداث تأملت
حتي أصابني الدوار,أعتقد أن كل شئ في العالم يمكن تأويله علي قدر كل عقل,كل إنسان
يري ما لا يراه الآخر,كل قلب يحمل للأمر الواحد ما لا تجده في سواه,كل عين تري في
الشئ الواحد ما تعجز عنه العين الأخري,كل ما في الكون تأويله لامتناهي؛لأنه ببساطة
الكون لا متناهي,كل شئ يحمل ما لا يحصي من الأوجه وفيه ما لايمكن عده من الرموز
والشفرات,أنا مثلاً قد أكون غيري في كون موازي,ربما أنا في هذه اللحظة-لو كان
للزمان أي معني!!!-أقوم بأي شئ سوي أني أكتب هذا الكلام الآن,وتكون هويتي مختلفة
وحياتي مختلفة,إذن فـ"أنا "لست لي" كما يقول درويش,فمن هو الآخر؟!
الذي هو أنا؟! يبقي أنا من؟! وتلك نقطة لا تذكر من محيط لا حد له!!
يعاودني في لحظات هيامي الكوني,وشعوري أني في
حلم طويل ممتدد متداخل عبثي لا يحمل أي معني أو قيمة حديث"الناس نيام فإذا
ماتوا انتبهوا",إذن الانتباه واليقظة والمعرفة مرهونة بشئ واحد
فقط...الموت,يعني نحن في تلك المرحلة نيام ونحلم,والحلم يحتاج إلي تأويل,وأزمة
المجتمع العربي أنه يحلم لما يغمض عينه فقط ويذهب لشيوخ الأساطير باعة الأوهام
ليعمقوا أحلامه بينما العالم المتقدم يحلم وهو مفتوح العينين وتكون أحلامه معبرة
عن ما يجيش في عقله وباطنه فيخترع ويكتشف ويبتكر,ونحن نغمض أعيننا ونستهلك ما
يلقيه لنا من فضلات معرفية وعلمية.
الناس نيام وكل ما حولنا ليس إلا حلم,والفكرة قديمة قدم النفس البشرية,لكن
التعبير عنها بتلك العبارة"الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"يثير الأسي,ثم
تأتي الآية القرآنية"لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عند غطاءك فبصرك اليوم
حديد"يستيقظ الواحد منا لما تنحجب عن عينيه هذه الدنيا الخادعة ويستبدل حواسه
المخدوعة بالروح-ربما الروح-,فينكشف غطاؤه ويستقيظ فيري ما لا يراه الذي لم يأت
أجله.
وفي هذا الحلم تبرز اللغة كأهم أداة لتلقي الرموز والشفرات,اللغة فخ وكمين
لمن لا يري ما ورائها من معان,اللغة قد تنير الدرب وقد تهدمه كله,اللغة عاجزة
وقاصرة لو لم يكن للقارئ عقل وقلب يسدان الفراغان ويتلقيان الإشراقات في كل شئ,وستظل
عاجزة إلي الأبد ومع ذلك فهي عظيمة إلي الأبد,لكن كيف مثلاً تعبر ذات الأصوات التي
خرجت من الإنسان البدائي ليتفق مع زملاؤه الآخرين علي أشياء بسيطة,كأن يحذرهم
مثلاً:"احذروا نمر ورائكم"أو يخبر حبيبته"كم أنت جميلة اليوم,وكم
أشتيهك اللحظة....",عن الحقائق-لو كانت في الدنيا حقائق- التي أفني عمره في
سبيل استكشافها,واللغة العربية تتجلي رمزيتها الشديدة عن كبار المتصوفة من أمثال
ابن عربي....
أكون وأنا أقرأ ما دوّن من مشاهداته وتجلياته,كأني أتلقي شفرة لابد من
حلها,ويكون حالي كحال قائد عسكري أمريكي يحاول فك شفرات يابانية قبيل الهجوم علي
ميناء بيرل هاربر,يشك أن تلك الشفرات تعني الهجوم بعد ساعات لكنه يعجز عن
التأكد,فيحتار ويدور حول نفسه ويخشي من فضح ما يدور داخله كي لا يتعرض للسخرية أو
الازدراء من رؤسائه,طبعاً هذا في لحظات قليلة جداً,أما باقي الوقت فأنا لا أفهم ما
يريد قوله,ولا أستطيع أن أتصور أي معني لأي عبارة,رغم أني لم أقرأ الكثير أصلاً
لابن عربي!!
ابن عربي الذي تكسرت فيه الأقلام علي الأقلام,ما استطاع أحد أن يجزم أن هذا
ما قصده,لكني متأكد أن هذا ماقصده ابن عربي! هو يريد أن يظل سراً كأسراره التي
حاول أن يودعها فتوحاته كـ"سر الهرب من الحرب" الذي وردت فيه تلك
العبارة.
عجيب أمر الكلمة في هذا العالم,منها بدأ كل شئ كما ورد في المتون الدينية
وأسس الحضارات القديمة العجيبة,والقرآن الذي يعتبره الصوفيون ومن ضمنهم ابن عربي
كتابهم الأول,وصفه علي ابن ابي طالب بأنه"حمال أوجه"القرآن الذي وصف
نفسه صراحة بـ"بيان للناس"يعتبره الإمام علي حمال أوجه ومنطقه يكون علي
ألسنة الرجال فهو لا ينطق بذاته...التأويل! التأويل! التأويل!....لو كان التأويل
رجلاً لاتبعته لأقصي الأرض!
يقول كعب ابن زهير في البردة مُلخصاً الأمر الوحيد الذي يجتمع عليه سائر
البشر:
"كل ابن أنثي وإن طالت سلامته
يوماً علي آلة حدباء محمول"
لما مات الفيلسوف ابن رشد رأي ابن عربي مؤلفاته تعادله علي الدابة المحمول
عليها جثمانه من الجانب الآخر,فتأمل الموقف مآل كل حي,ومؤلفات الميت الفكرية
تعادله وهو جثة فجري علي لسانه:
"هذا الإمام وهذه أعماله
ياليت شعري هل أتت آماله"
كان هذا آخر لقاء له بابن الرشد الذي قابله أكثر من مرة,أول لقاء سأله
الفيلسوف:"كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي؟هل هو ما أعطاه النظر؟قلت
:نعم,لا, وبين نعم ولا تطير الأرواح من مواردها والأعناق من أجسادها"
ربما هذا مفتاح العلاقة بين ابن عربي المفكر وابن عربي الروحاني,طبعاً
العبارة شديدة الاستغلاق,الفيض كالنظر وليس الفيض كالنظر في آن,وبين إثباته ونفيه
تطير الأرواح والأعناق,فهل نأخذ نصوص ابن عربي بالعقل أم بالقلب؟ما تأويل كلامه
الرمزي الشاحب,كأنه لا يريد أن يبين عن ذاته إلا لمن يستحق؟
ونلحظ أن ابن عربي يعتبره"إمام"فهل كان له إماماً حقاً؟!يعني هل
يمكن أن نفسر ابن عربي تفسيراً عقلياً كابن رشد؟طبعاً لا يمكن؟! فما هو الإمام عند
ابن عربي؟ربما لو عرفنا إمامه لعرفنا مقصده بالضبط.
مكان هذا آخر عهد ابن رشد وابن عربي بالأندلس الأول بالموت والثاني
بالرحيل,وبعدهما راحت الأندلس حيث راحت!العقل والروح هما ضمان استمرار الحضارات
وبدونهما يحدث الحادث حالياً في بلادنا الملعونة بلعنة لن يحاربها إلا سحرة العلم
والمعرفة والثقافة,السحرة الحقيقيون في هذا العالم....لكن أين هؤلاء يا حسرة؟!
والأماكن المنوط بها صناعتهم لا تصدر للمجتمعات إلا الجهل والتخلف من يد كهنة
الجهل وعبدة التخلف في المدارس والجامعات.
هل أثرت محنة ابن رشد في تفكير ابن عربي وجعلته يلجأ للرمز الغامض زيادة
علي طبيعة اللغة الصوفية؟
نعي ابن عربي للفيلسوف نعي حزين وحائر,سؤال لم يجد إجابته,أطلقه ورحل!
اللغة وما أدراك ما اللغة وما يمكن أن تحدثه في تشكيل رؤية الكون
كله,وإبراز علاماته,اللغة هي العالم كله,بلا لغة لا أي شئ.
أزعم أني أتفهم واحد علي مليون من التجربة الصوفية؛لذلك أدرك أن لغتها
الرمزية المستغلقة علي أفهام العوام من أمثالي ضرورة لا غني عنها لطبيعة تلك
التجربة الروحية المتفردة,فالتجربة الصوفية والفنية وجهان للروح,زيادة علي ذلك أن
فلاسفة الصوفية منذ ظهورها كانوا بين مقتول ومصلوب ومطرود,فكانت اللغة- تقية لو صح
التعبير هنا- هرباً من السلاطين وفقهائهم,اللغة الصوفية عند ابن عربي ليست لغة
بقدر ما هي إشارات لا توضح المعني وإن كانت تؤدي إليه عند العارفين الآخرين,الذين
يضنوا علي من سواهم بالشرح والتوضيح حتي يبقي السر محفوظاً عند من يعرف قدره,وتلك
سمة ظاهرة بقوة عند الكبار في زمنهم فالغزالي يقول:
فكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
وقال الإمام علي ضارباً علي صدره:إن هاهنا علوم جمة,لو وجدت لها
حملة"وينسب للرضا حفيد علي:
"يا رب جوهر علم لو أبوح به
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي
يرون أقبح ما يأتونه حسناً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق