الخميس، 11 سبتمبر 2025

الباقي من الحساب

 الباقي من الحساب

لم يمض عليه في العمل إلا أسبوعاً واحداً، وأصبح يشك أن في إمكانه الاحتمال إسبوعاً آخر، تعلم كريم من خبرته الضئيلة في الحياة كشاب لم يتخط العشرين، أن الأماكن في حد ذاتها متساوية... جدران وأركان وأسقف لا يتمايز مكان عن غيره، أما ما يجعلها مريحة أو قاسية فهم ساكنوها، ابتسامة دافئة تذيب الأوجاع في كوخ حقير تجعلك سعيداً كملك، ونظرة حقد في قصر فخم تكسر قلبك كعبد تلهبه السياط، وأخدت رأسه تدور بعشرات الأفكار المضطربة، لم يشوش عليها الضجيج المتواصل طوال النهار، في الشارع الذي يقع فيه محل عمله كبائع في أحد الحوانيت المكتظة بكل ما يخص الاحتفال بسبوع المواليد، لكنه تنبه أخيراً علي صوت صاحب المحل الخشن صائحاً:

ـكريم... لأ... اصح لحالك أناديك وأنت في عالم آخر، هل جئت لتسرح في الملكوت أم لتجري علي أكل عيشك؟!

مد خطاه ناحيته وقال بلهجة اعتذار مبطنة بخضوع، أتقنها من كثرة تنقله بين الأعمال المختلفة، ورغبته في التشبث بها:

-سامحني يا أستاذ علي... أوامرك.

-هات لي علبة حمص مقشر من الرف الأعلي.

ـحاضر.

أدرك منذ زمن أن الجميع يحبون من يخضع لسلطتهم، وبما أنه ليس له سلطان علي أحد فعليه أداء دور الخاضع.

سحب السلم الخشبي الثقيل، وصعد بجسده النحيل، وناوله ما أراد، ثم قفز علي الأرض، وانشغلا بوزن الحمص علي الميزان، حتي مرت بهما امرأة مسنة يغطي العرق وجهها، وطلبت بصوت متهدج ولسان ثقيل السماح بجلوسها علي الرصيف أمامهما لإرهاقها من مشوار طويل، مست كلماتها قلب كريم، إنها خاضعة مثله تعتمد حياتها علي ما يجود به من حولها من عطف، تجاهلها علي ولم يرد عليها، لكن كريم تاملها فوجدها متعبة حقاً، تنتظر كلمة وبعدها ستستريح وتتأوه من آلام جسدها المتعددة، ووعي أن عليه أن يفعل شيئاً سيسير علي منواله في حياته للأبد، نظر لعي فوجده استدار بجسده كله وتشاغل في شئ ما، ووجد المرأة مازالت عينيها الغائرة من بين التجاعيد معلقة به، قال وهو يعلم جيداً ما ستترتب عليه كلماته:

-اجلسي يا حاجة فالرصيف ملكاً للجميع... حمداً لله لم يشتره أحد.

استطار الغضب من عين علي وبدت عينيه الخصراءـ التي يفتخر بهاـ مخيفة وقبل أن يتكلم، خلع كريم قميص المحل الأخضر، وارتدي قميصه، بينما المرأة تجلس كما تخيلها تماماً، هبطت بثقلها علي الرصيف وللحظة استرد أنفاسها المسروقة من صهد الحرارة واللهاث من أجل بضعة مئات من الجنيهات، ولسانها لا يتوقف عن الدعاء له، اقترب كريم منه في ثبات وقال بصوت واثق:

-حقي أجرة أسبوع.

مد علي يده في الدرج وأخرج له ٥٠٠جنيه، وزعق بشراسة:

-لن تفلح في أي مكان، ولو عدت مرة أخري هنا معتذراً، لن تدخل هذا المحل حتي ولو قبلت قدمي.

أولاه كريم ظهره وهو ينظر له بجرأة أخرسته عن الاسترسال، واتجه ناحية الباب، شاعراً أنه تخلص من عبء ثقيل تآكل تحته قلبه قبل كتفيه، وخرج للشارع المزدحم بعشرات المتعبين والمتعبات الساعين علي رزقهم بكل السبل المقبولة والمنفرة، وهو عازم أن يبدأ مشروعه الخاص وألا يعمل عند أياً كان بعد اليوم، وسرعان ما غاب عند أول معطف.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق