خمس سنوات وخمسين جنيه
(مستوحاة من حادثة حقيقية)
لا تمتلك الحيوانات التي نعتبر أنفسنا أرقي منها,تلك الوحشية عند أبناء
آدم,البشر مزروع فيهم الشر والفساد منذ الجريمة الأولي,المساحيق التجميلية والكلام
الحلو..رتوش,فقط للتغطية علي القبح والفساد والقرف في النفس الإنسانية,الوحش في
داخلنا حين تطلقه الظروف الصعبة تمر لحظة علي القلب يهيئ نفسه فيها للتسامح,لحظة
واحدة! ينهيها تذكر الضحية,لابد من القصاص واسئتصال الجريمة بالقانون والمحاكم,في
مصر لا توجد عندنا مفاهيم فلا القانون قانون ولا المحاكمة محاكمة ولا أي شئ نفسه,الجريمة
هي هي,الجريمة هي لغة الظروف بكل معانيها,التي تدفع الأم لقتل ابنتها بعد تعذيبها
من أجل خمسين جنيهاً.
حين يكون الفقر موجوداً,تكون الحياة عقاب حتي الموت...لحظة...لا تمروا علي
كلمة"فقر"بسهولة,اعتدنا نحن علي ذلك المثلث الشهير,مثلث برمودا المصري
بالع ناسنا ووطننا في بطنه الأسود,الفقر والجهل والمرض,نمر عليهم كشئ اعتيادي وهو
فعلا اعتيادي جداً في مصر,عادي أن تري طفلاً صغيراً في ليلة باردة وأنت ساهر في
المقهي,يتقرب منك وهو ينفخ في يديه من البرد"عمو...حاجة لله"لو رحمته
ستعطيه جنيه,اثنين..ثلاثة,وسيمضي وستنساه مع أول كلام يقال,الفارق بينه وبين طفلك
النائم في فراشه الدافئ,ليقم في الصباح يتناول إفطاره ويذهب إلي
مدرسته,الظروف؛لذلك كلما مررت علي شئ سئ ووجدته عادي في قلبك,فخف علي إنسانيتك من
الزول,ستتعذب نعم وستعاني في كل وقت,لكنك ستبقي إنساناً مازال يشعر بالبشاعة اللامتناهية
حوله,وغير ذلك من حوادث يتعرض لها المصري منا طوال الوقت,حوادث هي نفسها حياتك
التعيسة في وطنك التعيس.
الفقر والحاجة لخمسين جنيه,دفعا الأم-هل من الممكن وصفها بالأم؟الحياة
القاسية تغير حتي أرقي المشاعر-لقتل وتعذيب ابنتها....
داخت زينات علي الخمسين جنيه التي وضعتها علي الكومودينو العاري من
الزجاج,والمكسور من الجانب,دورت في كل مكان,كان علي وهبة ومحمد في الشارع,كما هم
كل يوم,وحدها رضوي الصغيرة أم خمسة سنوات هي من بقت في المنزل,تراقب أمها بعين
خائفة وهي هائجة تبحث عن ما تسميه "فلوس الجمعية",أثناء هذيانها,الرجل
يسوق التوك توك طوال النهار وعند منتصف الليل يأكل وينكح,ويضربها للتنفيس عما يراه
من الزبائن,ثم ينام باللباس الداخلي ملتصقاً بها من الخلف عقب ضربات علي وجهها
لتعتدل له,ترك لها الخمسين جنيه ومضي,لتدفع فلوس الجمعية,وهاهي فلوس الجمعية لم
تعد موجودة,ضاعت,هل تقول له حين يعود أنها ضاعت,ربما قتلها,ربما ارتاحت!,لكن يظل
القتل أمراً يهرب منه كل ذي روح,البقاء في مواجهة الفناء عند الجد بلا فلسفة فارغة
هو من يكسب,من أخذها؟آخر مرة رأتها عند خروج الأولاد,ليس إلا الصغيرة,كلا ليست
صغيرة علي السرقة,هي تفهم كل شئ,ومعيشتها وسط هؤلاء الناس جعلتها وحش صغير,لا تنسي
إشاعة لم تنتشر عن أنها طلبت من الصغار نقوداً لتخلع لهم ملابسها التحتية,كما سمعت
من عواهر الشارع في حواديتهن الساقطة,لم تعط لتلك الإشاعة قيمة,نسيتها في
الزحمة,وحين خف الصخب بضياع الخمسين جنيه نادتها بصوت حاولت أن يكون طبيعياً:"رضوي....تعالي
يا ماما"جاءت وهي تمسك بعروسة قطنية قذرة"كان فيه هنا فلوس,عارفة
الفلوس؟ كانت هنا عالكومودينو راحت فين؟ماشوفتيهاش؟أخدتيها؟"
لم تستوعب رضوي الكلام وكان عقاب ذلك الفوري,صفعة أطاحت العروس التي
احتضنتها,وصراخ باك من الطفلة,وصوت زئير من زينات,بعد سباب وصفعات هيستيرية,بدأت
تخبط رأسها بالجدار,هنا بدأ الجيران ينتبهون,لكنهم اعتادوا علي الضرب والصراخ في
منازلهم وعند جيرانهم,الكل بضرب الكل,في الشارع لو لم يسح دم أحدهم يقولون أن ملاك
رحيم مر بنا اليوم,اللسان للشتائم واليد للضرب والمرأة للنكاح والطفل
للبكاء,والرجل للعمل وحمل الهموم,ارتطم رأسها الصغير بالجدار مرات عدة حتي نزف دم
وخرج بعضه من الأذن,الخمسون جنيه ضاعت,كل حياة زينات كانت في الخمسين جنيه,النقود
لم تجعلها تنتبه إلي ما تفعله,لابد أن تدل الطفلة علي النقود,من أخذها
سواها"فين الخمسين جنيه يا بنت الوسخة؟"كالمجنونة فتحت الفرن الساخن بعد
دقائق من طهي الطعام,ووضعت فيه رأس رضوي الصغير,وظلت تضرب وتصرخ وتموء كقطة,هنا
بدأ الجيران ينتبهون لما حدث,تعالي الدق علي الباب وفي النهاية كسروه,الوجوه
الشاحبة من الفقر,الملابس الداخلية الممزقة,والجلاليب الحريمي الرخيصة,الأطفال
القذرون,حشد ممن ينتظروهم دورهم كضحية....ضحية كرضوي القتيلة من أجل خمسين جنيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق