السبت، 30 نوفمبر 2019

الفلك والرياضيات


تجلت السماء للإنسان الأول قبل آلاف الأعوام كعالم غامض يمتلئ باللمع المتألقة والحركات المنتظمة,ووجد أن هذه الحركة الدائمة تؤثر في مسار حياته,بدء من انطلاق الضياء مع أشعة الشمس,وبداية العمل واكتشاف العالم من حوله والتأمل في القمر الذي يشق ثغرة مستديرة في الظلام من حوله,إلي توقيت الزراعة والحصاد المرتبطة بنجوم السماء وسير حركة الزمن العجيبة في سهمه المنطلق إلي الأمام,عارفاً أن بها يرتبط مصيره,شاعراً بنفس ذرات النجوم من حوله في جسده وروحه باعتباره أحد عناصر بقايا الانفجار العظيم حتي ولو لم يفهم ذلك.
وعلي الأرض في مصر وبابل والصين بدأت الرياضيات تأخذ شكلاً متطوراً,ساهم في حركتها الأولي رغبة الإنسان في فهم هذه اللغة السماوية وضبط حركاتها في إيقاع متناغم,ولأن العالم عدد ونغم علي حد قول فيثاغورس كانت الرياضيات هي النوتة الموسيقية التي من خلالها يستقرأ الإنسان الأنغام العلوية في الفلك الدوار,التي قيل أن سكان الأرض سمعوها يوماً عندما كانت هادئة والأسماع لم تصم بعد من صخب الحياة عن الإنصات لها!
مصر قامت بحساب موعد فيضان النيل مع ظهور نجم إيزيس (الشعري اليمانية)والمعروف حالياً باسم سيريوس يوم 18 يوليو من كل عام,والبابليون واليونانيون والرومان صاغوا تقويمهم بناء علي حركة نجم الدبران في كوكبة الثور,وبينما مصر تبتع التقويم الشمسي نجد البابليون يبنون تقويمهم علي أوجه القمر وبرعوا في توقع خسوفه,وبدأ ميلاد الزمن وتقسيم الأيام كما نعرفه اليوم,وبدون ملاحظة حركات الكواكب وحساب هذه النقلات ما كان لنا هذا المقياس الذي نفرق به بين الماضي والحاضر,وعبره ننتقل إلي المستقبل...كل هذا في وعينا نحن!!
لذلك ارتبطت الرياضيات بعلم الفلك منذ الحضارات الأولي التي أرست الركائز الأساسية للعقل البشري في التعامل مع الظواهر الطبيعية من حوله,وهي قصة تمتلئ بالطموح والتطلع لما فوق هامة البشر والنظر نحو الآفاق لفهم كنه ما تحت أقدامهم ومعرفة مكانهم في الفضاء الفسيح,وفي عالم العمارة فائقة التعقيد أبدية الخلود المستغلقة علي الأفهام حتي اليوم يبزغ الهرم,وعليه آثار علم الفلك الذي اتخذ من الرياضيات لساناً له يعبر عن نظرته في الارتباط بين السماء والأرض,فيواجه من الجنوب نجمة إيزيس وفي نفس الوقت من الجانب الآخر يواجه النجم القطبي وتتحد أشعتهما في الحجرة الملكية.
وفي الزمن اليوناني قسم أمونيوس الرياضيات إلي أربعة فروع:الأرثماطيقي والهندسة والفلك والموسيقي,أما بطليموس أشهر الفلكيين في العالم القديم,فكتابه عن الفلك يسمي"المجموع الرياضي"وباليونانية المجسطي,وظل هذا الكتاب مسيطراً علي التصور البشري للكون,حتي ظهور طلائع النهضة الأوروبية ككبرنيكوس وكبلر وجاليليو,وكانت المساهمة الفيثاغورثية في الفلك استحداث فكرة أن حساب حركة الشمس نتيجة لحركتين متداخلتين في بادرة للاقتراب من الحقائق الفلكية كما نعرفها اليوم.أما الفلك الأفلاطوني فقد رأي الكون مخلوقاً منظماً ولذلك يمكننا التعرف عليه من خلال الرياضيات وتوظيفها في سبيل إدراك الحقائق الملموسة فيه,وهيبارخوس اعتبر العالم السماوي أبدي وثابت ومحكوم بقوانين عقلية,والحركة الوحيدة الكاملة في جمالها وعقلانيتها هي الحركة الدائرية.
ثم يأتي البيروني الاسم العملاق في الثقافة العربية,الذي قيل أن تاريخ الفلك والرياضيات لا يكتمل إلا به,و يتمكن من حساب بعد مدينته عن خط الاستواء بمراقبة أقصي ارتفاع للشمس عن الأرض,وابن الشاطر,وابن يونس المصري الموصوف من قبل مؤرخ العلوم الشهير جورج سارتون بأنه أعظم فلكيي عصره ساهم في علم حساب المثلثات باكتشاف المعادلة الجدائية حتي أوتو نيو جبور وستيفن هوكنج وإنجازات إيلون ماسك في الفضاء اليوم,كان علم الفلك مقترناً بالرياضيات وعلماء الفلك أنفسهم كانوا علماء رياضيات من طراز رفيع في الغالب,وخلال العصور المختلفة اتخذ الفلك طرقاً لتغيير المفاهيم الرياضية,كظهور الهندسة اللاإقليدية بحساب المثلثات الكروي,وارتباط علم الميكانيك السماوي بالميكانيك الأرضي.
الرياضيات هي"يد الله"في بناء الكون المؤسس علي نظم هندسية بديعة التكوين,لها انسيابية الموسيقي وحركاتها السحرية,وبعد قرون عندما يتحقق حلم العلماء في أن يكون عدد البشر في الكواكب الأخري أكبر من الأرض ستظل الرياضيات هي الجسر الواصل لاستمرار الطموح البشري الخلاق في اكتشاف الكون,والخيط  الذي يقودنا للطريق المستخرج من أذهان رسمت له خريطة رياضية كآينشتاين الذي وصف الكون علي أوراقه بالأرقام.
ومع تطور علم الفلك من المعابد المصرية والبابلية حتي كمبيوترات وكالة ناسا ومحطاتها,ارتبط بعلوم أخري كالفيزياء والبصريات,وتولدت علوم الفيزياء الفلكية والكيمياء الفلكية,والطب الفلكي وعلم الآثار الفلكي والبيولوجيا الفلكية,في تشظي هائل للمعرفة الفلكية في زمننا الحديث التي أصبحت كلها موصولة وزاد تماسكها مع الرياضيات.وكانت مشاهد فيلم interstellar  أنشودة نولانية بالغة الرمزية تداخلت فيها الرياضيات والفيزياء مع الكون مع مستقبل الإنسان علي الأرض رابطاً الكل في واحد...استكشاف المجهول الذي نقف علي حافته.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق