الجمعة، 31 يناير 2025

الخطط 36

 


اشتهرت الصين بالحكمة التي غطت كل جوانب معيشتها، فكما نتعلم فن الحياة من لاوتزو وفن السياسة والمعاملات من كونفوشيوس، من كتاب الخطط الست والثلاثين نستقي فن إدارة المعارك، ليست الحربية فحسب بل المعارك الاقتصادية والسياسية والإعلامية، لأن ذلك الكتاب كاشف للطبيعة البشرية، ونوازع وأهواء النفس الإنسانية رغم صفحاته المحدودة، ويعرض بالتلميح والإشارة لمواطن ضعفها وكيفية استغلالها لاقتحام أسوار الأعداء مهما تسلحت بالدفاعات لكتابة النصر النهائي أو الانسحاب دون خسائر، لقد ظهرت تلك الخطط خلال عصر الممالك المتحاربة، قبل ظهور قادة روما العسكريين، لتلخص خبرات طويلة في الصراعات بين جيش وجيش وعقل وعقل، إنها الخطط التي طبقها أفذاذ الحياة العسكرية كالإسكندر ونابليون، فلم تكن حروبهم مقتصرة علي السيف فقط، بل جاء السيف في مرحلة متأخرة بعد استخدام الحيل والمهارات والتكتيكات الحربية للتغلب علي الخصم وكشف معسكره وطريقة تفكير قواده... إنك بين صفحات هذا الكتاب ستتغلغل في رقعة شطرنج كبري، وتكتشف مفاتيح الفوز في معارك كثيرة إذا استوعبت كيف تلعب دورك جيداً، وماذا تحرك من قطعك وكيف تتفادي أفخاخ خصمك للإيقاع بك. 


ديوان المتنبي

 


صدق ابن الرشيق القيرواني عندما قال"ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس" وديوانه الذي حققه عبد الوهاب عزام-الذي قضي شطراً كبيراً من عمره في صحبة المتنبي- بتدقيق شديد مع الإشارة لما نسب للمتنبي أو ما غيره الشاعر نفسه فيما بعد، واختلاف نسخ المخطوطات فيما بينها، يملأ وجدان القارئ حتي اليوم وسيظل قابعاً في الثقافة العربية مادامت قائمة ثروة للاقتباس والقياس والعظة، نري فيه تطور الشاعر منذ صباه لأنه قد رتب القصائد تاريخياً من أول بيت قاله حتي ختام آخر قصيدة له، نسير مع قصائده لنهاية حياته، ويالها من حياة فريدة وشخصية نادرة، اصطدمت بالدنيا والناس ومع كل ارتطام نسمع دويه شعراً يتفجر من قريحته الملهمة من موهبة سماوية، ستقرأ هنا أحد روائع وآيات الأدب العربي القديم، تتعلم اللغة والحكمة وفن البياز ويدق قلبك في مواطن كثيرة وستتأمل وتفكر في الدنيا والناس في مواطن أكثر، فمن بين أبيات المديح والرثاء والهجاء والغزل، يعصر المتنبي من حشاشة نفسه ويصفي قطرات من روحه مثقلة بالحكم مواعظ التجارب مع الناس ودنياهم، ولا تندهش لو وجدت نفسك وعواطفك تتجلي في مرآة قصائده، فقد صدق أيضاً القاضي الفاضل أيضاً حين قال"إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس". 


التعريف بشكسبير

 


حينما يكتب العقاد في السير والتراجم، تفيض الأفكار والمعلومات من قلمه السيال، جامعاً كل الخيوط الذاتية والموضوعية لرسم صورة صادقة عن المترجم له، وهكذا فعل وهو يعرف بشكسبير فيدون للقارئ بطاقة شخصية مطولة عنه، يسطر فيها روح عصر شكسبير وخصوصية انجلترا في ذلك الوقت لعزلتها بين أمواج البحر، ويبين دور الأسرة والفارق بين تطلعاتها المحدودة وطموح أعظم شخص ولد فيها، بل أحد أعظم الأسماء في التاريخ، ويبرئه من تهمة الانتحال التي اتهم بها زوراً أو جهلاً، ويصور طبيعة شكسبير الكاتب المسرحي وشكسبير الشاعر، مسجلاً آراء الأدباء فيه كفولتير وتولستوي،وكيف يتم تطبيق النظريات النفسية الحديثة علي أبطاله، ولماذا تحول لأيقونة عالمية في مختلف الدول، حتي ولو كانت تعادي إنجلترا إلا أن أعمال شكسبير برونقها اللامع طغت علي أي خلاف سياسي أو عسكري، وكيف تلقفته الثقافة الشرقية، الكتاب يجيب علي العديد من الأسئلة حول واحد من أعظم أدباء بني البشر، الرجل الذي أدخل في اللغة الإنجليزية كلمات صكها وختم عليها لم تكن تعرفها من قبل، والعبقري الذي صور شخصيات حية أكثر من الأحياء أنفسهم كهاملت وعطيل والملك لير... إنه خير استفتاح لمن يقبل علي خشبة المسرح الشكسبيري لأول مرة ولا غني عنه للمهتمين بأعمال شكسبير وحياته، لأنه يلقي الضوء علي الكثير من الألغاز والمشكلات التي أحاطت بشخصيته، فلا تضيع الوقت واجلس مع العقاد ليقدم لك شكسبير الرجل والفنان. 


كتاب أبو نواس قصة حياته

 


رحلة في الزمان والمكان يصطحبنا فيها عبد الرحمن صدقي باقتدار، لنشاهد حياة أبو نواس، وترحاله من البصرة إلي الكوفة ثم لبغداد ومصر، ونري أثر من حوله فيه بدء من أمه التي تزوجت بعد أبيه وساءت سيرتها فقطع علاقته بها حتي مات، ووالبة بن الحباب الخليع أستاذه في التهتك والمجون، والبوابة التي دخل منها أبو نواس إلي عالم الشهوات بلا حد ثم حبيبته جنان وأثر فراقها عليه، واتصاله بهارون الرشيد وحبسه له ثم منادمة ابنه الأمين ثم وفاته في زمن مضطرب لم ينشغل بشئ فيه عن ملذاته وكأسه، حياة كاملة يصفها لنا المؤلف فيها المضحك وفيها المبكي، نستشف من سيرته صورة للحياة العربية الإسلامية في ختام العصر الأموي وبداية العصر العباسي، نمشي في ركاب أيامه ونسمع خطرات روح تمرغت في المجون والفسق ثم اعتصمت بالتقوي والزهد، ونتساءل ونحن نقرأ سيرة أبي نواس عن لغز النفس الإنسانية وما تحويه من عقد وخفايا لا يعلمها إلا خالقها... في ذلك الكتاب تاريخ وشعر ودراسة نفسية لشاعر بليغ قضي حياته بين الكأس والنغم وقضي نحبه طامعاً في عفو الكريم ورحمة خالقه رغم كل شئ. 


بيت بجوار المقابر

 بيت بجوار المقابر



سكن زحام النهار في رأسه ولم يعد هناك سوي صدي يدوي مثل دق ناقوس بعيد، يردد "علي أن أجده"... لم يمر من هذا المزلقان منذ فترة، لقد اعتاد في الآونة الأخيرة صعود الكوبري والتفرج علي شرفات المنازل الموازية له والمارة في الأسفل، وربما التقي بالقطار وهو يمر تحته كوحش حديدي يجري مصدراً أصواتاً محذرة وكأنه يقول"من يقف في طريقي فسآكله"، فيبتعد الجميع عنه في وجل وتقبض الأمهات بقوة علي أيدي صغارهن، وما أكثر تعساء الحظ الذين أكلهم الوحش في ذلك المكان.

مضي عامر يسير حتي اقترب من المزلقان، وحين لاحت منه التفاتة جانبية لمكان الكشك، توقف بغتة، إذ لم يره! لم يعد موجوداً اقتلع من الأرض وبقي مكانه خالياً، تجمد الزمن للحظات ورجع به عشر سنوات، حين كان شابا" في مقتبل الحياة يري الدنيا صغيرة في عينيه، وسهلة في وجدانه لا تقتات روحه علي شئ إلا الأمل، يتشرب الأدب والفن من كل مصدر يجده، ويردد لأصدقائه-حين كان يمتلك أصدقاء- غير عابئ بسخريتهم وضحكاتهم المستهزئة" أنا إسفنجة أتشرب كل الأشياء وأخلقها من جديد بصورة فنية"، وبقي ذلك الكشك تحت الكوبري من المصادر الأساسية للمعرفة، من خلاله كون قسماً كبيراً من مكتبته واشتري العديد من الصحف والمجلات، قبل أن يتوقف تماماً عن التعامل معه منذ مايقرب من خمس سنوات، حين فرمه وحش آخر اسمه واقع الحياة وتشظت روحه تحت شفرات متطلبات الدنيا، فتخلي عن أحلامه الأدبية وأهمل القراءة وتوقف عن الكتابة، وبدت أمانيه القديمة وإيمانه بها نكتة تثير الضحك حتي البكاء، في العشر سنوات انقلب فيهم العالم كله رأساً علي عقب، وهو أيضاً تبدل تماماً، كغدير ماء امتلأ يوماً بماء المطر، ولمعت علي صفحته أشعة الشمس الذهبية في منظر يبهج القلوب، ثم أصابه الجفاف فأصبح خراباً ومصب للقاذورات ومأوي ترتع فيه الحشرات والزواحف، وحده الكشك ظل قائماً كذكري تؤنسه، وتؤكد له أنه عاش تلك الحياة حقاً ولم تكن وهماً ولا خيالاً، صحيح أنه يتقادم ويتآكل حتي أغلق تماماً قبل عامين إلا أنه ظل موجوداً علامة علي سنوات خصبة ممتلئة بالأمل والطهارة، في زمن لم يعرف فيه كمائن الحياة الغادرة، أو يتعثر في الاحقاد والصراعات فتدمي عينيه من أشواكها ويفقد البوصلة وتتوه منه الطمأنينة.

صمم علي إيجاد عم كريم صاحب الكشك فتوجه للمقهي المجاور المزدحم بالجالسين، وسأل الصبي الذي هرول أمامه مسرعاً وهو يسخن حجر الشيشة لأحد الزبائن، وسأله علي أمل أن يكون الرجل مايزال علي قيد الحياة:

-إلي أين ذهب عم كريم؟

بدون أن ينظر له أجابه:

-عم كريم صاحب كشك الكتب والجرائد المقتلع من مكانه.

ألقي عليه الصبي نظرة سريعة:

-ما أعرفه عنه أنه لم يعد يغادر منزله.

-وأين يسكن؟

اتجه عامر إلي العنوان كما وصفه له صبي المقهي، فشاهد منزلاً متهالكاً امتلأت واجهته بالشقوق بجوار المقابر، وعلي طرفي بابه الحديدي الصدئ ربطت بنتاً صغيرة حبلاً ووضعت عليه مخدة حال لونها للسواد، صانعة بذلك أرجوحة تلهو بها، ولما شعرت به ورفعت وجهه له، وجدها آية للجمال والحسن، صبت في قالب ملائكي التكوين، ملاك صغير أبيض، فحنّ قلبه لمرآها، وسألها وقد ابتسم بصدق لأول مرة منذ عهد طويل جداً:

-هل عم كريم موجود؟

ابتسمت البنت، فأشرق وجهها وازدادت جمالاً وروعة:

-هل تريد جدي؟

أومأ برأسه، فجرت علي السلم يتبعها حتي وقف علي البسطة، كي لا يجرح من يفتح الباب لو كانت امرأة ودقت البنت الجرس، فتحت الباب امرأة عجوز علي وجهها نظارة سميكة تكاد تحجب عينيها، وسمعها تقول:

-ماذا تريدين يا سناء؟

فأشارت البنت نحوه:

-رجل يريد جدي.

أطلت العجوز من الباب فبادر:

-السلام عليكم يا حاجة، أنا آسف لإزعاجكم، ولكني جئت لزيارة عم كريم.

-أهلاً وسهلاً يا بني... ومن أنت كي أخبره؟

ارتبك عامر، وشك أن الرجل سيذكره:

-قولي له عامر، الشاب الذي كان يجيئك باستمرار ليشتري منك الكتب.

بدا علي العجوز أن كلامه لا يشير لشخصيته، فتجنبت إحراجه بسؤال جديد وهمت بالدخول:

-بعد إذنك سأدخل لأخبره. 

غابت في الداخل لفترة وجيزة، ثم عادت لتأذن له في الدخول، فوجد علي الأريكة عم كريم يبتسم له وقد عرفه، فمد يده وسلم عليه، فوجد الرجل لم يفتح فمه أو يمد يده، اكتفي أن يطأطئ في انهزام، فتدخلت زوجته العجوز بسرعة قائلة بصوت باكٍ:

-أصيب بجلطة أفقدته الحركة والنطق! 

تمتم عامر بألم:

-لا حول ولا قوة إلا بالله. 

وفهم سبب إزالة الكشك، ورنا بعينيه لسناء وهي مستندة علي الباب، فأكملت الزوجة وقد زادت نبرتها الباكية:

-إنها حفيدتنا، توفي أبوها وتزوجت أمها وليس لها أحد سوانا، عجوزان علي شفا الموت. 

تأثر عامر بما سمع، وشعر أن هناك باب جديد يفتح له، إن تلك البنت هي الناقوس الذي ناداه ليجد عم كريم، لطالما تاق لابنة يرعاها تعوض آلامه وانفصال زوجته عنه بسبب عقمه وعدم قدرته علي الإنجاب، ونظر ملياً للشقة، فرآها خالية مسوسة الأثاث تساقط الطلاء عن جدرانها، والمطبخ لا تنبعث منه أي رائحة كأنه لم يوقد فيه النار منذ وقت طويل، وقال لعم كريم:

-إنك رجل صاحب فضل...لطالما عاملتني بحنان، ووافقت علي تقسيط ثمن الكتب والمجلات بسرور، ولا أنس إني رأيت عندك اسمي مطبوعاً في صحيفة لأول مرة عندك، لقد قفزت في الهواء فرحاً وتلقتني بين ذراعيك، وكنت أشد سعادة من مني وفرحاً لفرحتي البريئة. 

فضحك عم كريم وزوجته وسناء لأن عامر مثل ما حكاه بدقة. 

من ذلك اليوم لم تنقطع زياراته المتكررة لذلك المنزل، وفي كل مرة يجلب معه الهدايا والمأكولات ويملأ يد المرأة بالمال، حتي أصبح يوم زيارته تحسب لها الأيام، وتغيرت حياتهم كلهم، رأي فيهم عامر الأسرة والصحب وأغدق حنانه علي سناء كأب رؤوف بل وبدأ يكتب روايته الأولي، ووجدوا فيه الأمل والسند أمام مصاعب الحياة، وفي مدخل البيت تقف أرجوحة حقيقية جميلة مزدانة بالرسوم تلهو بها سناء طوال النهار... يراها كل من يتجه للمقابر مشيعاً أو زائراً. 


 


الاثنين، 27 يناير 2025

البحث عن الطريق الأخضر

 


البحث عن الطريق الأخضر


للتقدم الصناعي وجوه سلبية متعددة أثرت علي النظام البيئي،و أوجبت علي المجتمع البشري المعاصر التفكير في سبل تفاديها قدر الإمكان، كي يقدر علي الاستمتاع بالرفاهية والراحة اللتين تقدمهما له الآلة، وفي نفس الوقت ليحافظ علي بيئته من الفساد. بعد الثورة الصناعية في بلاد الإنجليز في القرن الثامن عشر طنّت الماكينات في كل مكان، وذابت الأيدي العاملة وسط ذلك الطنين، مما أدي لظهور تحولات علمية وتقنية، وبدأت البيئة تتشكي من التلوث وإهدار مواردها وصمّ الإنسان أذنه عن شكواها، حتي جأرت بها عقب الحرب العالمية الثانية، ومع ازدياد المشكلات البيئية، التي واكبت سعي الإنسان لبناء الحضارة الحديثة، أصبحت أمراضها لا غني عن معالجتها بعدما شعر العالم في ثمانينيات القرن الماضي، يشعر بوجود خطر مصيري يتهدده لم تعرفه الأجيال السابقة، عندئذ ظهر مفهوم"التنمية المستدامة" لأول مرة في تقرير اللجنة العالمية للبيئة والتنمية برئاسة رئيسة الوزراء النرويجية في ذلك الحين جرو هارلم برونتلاند وقد حمل هذا التقرير المنشور عام ١٩٨٧ عنوان"مستقبلنا المشترك"، لتصبح التنمية مدرسة للتفكير والإدارة خاصة مع عقد قمة الأرض في البرازيل عام ١٩٩٢ بمشاركة ١٧٢دولة وحوالي ٢٤٠٠شخص يمثل منظمات غير حكومية.

مفهوم التنمية المستدامة وليد علمان هما الاقتصاد economy  والبيئة ecology ، العلمان مشتقان من نفس الأصل في اللغة اليونانية حيث يبدأ كلاً منهما بـeco  أي البيت فالـ economy  يعني إدارة مكونات البيت أما الـ ecology  دراسة مكونات البيت، وفي لغتنا العربية (استدام) من جذر (دوم) ومعناه طلب الدوام والتأني فيه مع المواظبة عليه انتظاراً لما يكون منه، ذلك المعني اللغوي مرتبط بالمعني الاصطلاحي، لأن عملية التنمية تحتاج لاستمرارية وديمومة مع الدأب والصبر كي تتجلي نتائجها البراقة.

للتنمية المستدامة عشرات التعريفات أبرزها ما أوردته اللجنة العالمية للبيئة والتنمية عام ١٩٨٧بأنها"التنمية التي تلبي حاجات الحاضر دون التضحية أو الإضرار بقدرة الأجيال المقبلة في تلبية احتياجاتهم" وعرفها قاموس وبيستر علي أنها"التنمية التي تستخدم الموارد الطبيعية دون أن تسمح باستنزافها أو تدميرها جزئياً أو كلياً" أما وليام رولكز هاوس مدير حماية البيئة الأمريكية قال عنها" العملية التي تقر بضرورة تحقيق نمو اقتصادي يتلاءم مع قدرات البيئة".

يمكن إجمال أهداف التنمية المستدامة في النقاط التالية:

1-تحقيق حياة أفضل لسكان دول العالم.

٢-احترام الطبيعة كحاضنة لكافة أشكال الحياة.

٣-رفع وعي الجماهير بالمشكلات البيئية المعاصرة وتقديم المعلومات الكافية له.

٤-الاستغلال العقلاني للموارد، دون إفراط أو تفريط.

5-استخدام ما أفرزه عالم التكنولوجيا لحماية البيئة وتحقيق أهداف المجتمع، وقد تنبه لتلك الإمكانيات التكنولوجية الحالية الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، بتأكيده أن الذكاء الاصطناعي يمثل فرصة تاريخية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، معلناً أن الأبحاث أثبتت أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد في تسريع تحقيق ما يقرب من 8٠٪منها. 

رغم أن التنمية المستدامة حلم لكل شعوب العالم، إلا أن الدول الكبري تسعي لتحقيق حاجيات شعبها علي حساب الشعوب النامية ما يخل بالتوازن العالمي، فالبيئة تجمع كل البشر لكن الأرض والحدود تفرقهم، فمع ازدياد الرقي والتقدم التكنولوجي المهول الذي دفع الإنسان لحلم السكن في الفضاء، ومحاولات تحقيق الخلود بالشباب الدائم والقفزة التاريخية لإمكانيات الذكاء الاصطناعي، مايزال عليه محاربة الجوع والاستغلال المريع والظلم الفاحش الواقع علي الضعفاء، وهكذا تغدو التنمية المستدامة ضرورة وسلاحاً في مواجهة نقص الموارد وتعميم الفائدة والخير علي كافة أهل الأرض.

للتنمية المستدامة ثلاث ركائز أساسية تمثل جوهر الحياة الفردية والاجتماعية هي الماء، الغذاء، الطاقة، أوجه الترابط بين تلك الركائز الثلاثة متداخلة وديناميكية، المياه والطاقة مدخلات أساسية لإنتاج الغذاء، ومن ناحية أخري يمكن استخدام المياه لإنتاج الطاقة الكهرومغناطيسية كما تعد الطاقة ضرورة لضخ المياه ومعالجتها، والغذاء ما يمد الجسد البشري بالقوة لاستخراج الطاقة، أي أن كل ركيزة منهما تعتمد علي الأخري.

تم صياغة مصطلح ترابط المياه والطاقة والغذاء من قبل منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة(الفاو)، في إطار ما أثير من جدل حول التنمية المستدامة التي تعترف بتضارب الأهداف والمصالح بين الجماهير والبيئة، وتسعي لتحقيق حل متوازن يساعد الإنسانية لتحقيق مراميها وفي نفس الوقت لا يخل بالتزاماتها حول البيئة.

كان لمصر سبق الريادة في مشاريع التنمية المستدامة في المنطقة، بالإعلان عن برنامج لمشروعات الترابط بين الماء والغذاء والطاقة(نوفي) عندما استضافت مصر مؤتمر المناخ co27  عام ٢٠٢٢، بمدينة شرم الشيخ لمواجهة التغيرات المناخية وما تتسبب فيه من عواقب وخيمة، يهدف البرنامج لتحسين مرونة الإنتاج الزراعي بتحديث الممارسات الزراعية ونظم الري، ونقل التجربة المصرية للدول النامية وتسهيل المشروعات والاستشارات الفنية، بالإضافة لما تتخذه مصر من إجراءات حثيثة في مجال التنمية المستدامة منذ سنوات،وفي منطقتنا أيضاً مشروعات كبري كمشروع نور للطاقة الشمسية في المغرب، أحد أكبر المحطات للطاقة الشمسية في العالم بعد المحطات الأمريكية الخمس ومحطة سولابين الأسبانية، حيث يساهم في إنتاج الكهرباء النظيفة والتقليل من الاعتماد علي الوقود الأحفوري، وذلك ضمن مشروع مجمع ورزازات للطاقة الشمسية المتجددة الذي يهدف أن يكون حديقة للطاقة الشمسية تنتج ٥٠٠ميجاوات،ومشروع نيوم في السعودية الذي يعد نموذجاً للمدن المستدامة فهو يعتمد بالكامل علي الطاقة المتجددة، ويقوم علي خمس محاور:التقنية، الطبيعة، المجتمع، الاستدامة، العيش الرغيد، تلك المشاريع تتضح أهميتها البالغة بالعلم أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعتبر من أكثر المناطق التي تعاني من الشح المائي في العالم، 5٠مليون شخص في البلاد العربية محرومون من إمدادات الطاقة، وحوالي ٧٣٣مليون شخص في العالم واجهوا الجوع عام ٢٠٢٤. 

الأرقام والإحصائيات المحزنة عن مدي البؤس الذي يقبع فيه ملايين البشر حول العالم، يجعل التنمية المستدامة ضرورة لا غني عنها للأجيال الحالية والمقبلة، فهي الطريق الأخطر الذي سينقذ الملايين مما يعانوه من فقر وجفاف وشح في الماء وندرة في الغذاء، عن طريق تدبير حكيم لبيتنا الكبير الذي نسكن فيه جميعاً أياً كان موقعنا علي الخريطة أو لون جلودنا أو لغات ألسنتنا، فما يحدث في أي مكان علي كوكبنا يتردد صداه في كل النواحي، وبالتنمية المستدامة ننهض سوياً لنلامس حياة أرقي وأكثر عدلاً وإنتاجية، وتتزايد المشروعات المبدعة المفيدة في كافة المجالات.


الثلاثاء، 21 يناير 2025

الصين اليوم... قراءة بعيون عربية

 الصين اليوم... قراءة بعيون عربية


في يناير عام ١٩٥٢ بالمنزل رقم ١٦ في زقاق داتساوتشانغ بالعاصمة الصينية بكين، صدرت باللغة الإنجليزية مجلة بناء الصين، والتي سيعرفها العالم بخمس لغات باسم الصين اليوم بدء من عام ١٩٩٠حتي الآن. أسست المجلة السيدة سونغ تشانغ لينغ زوجة القائد السياسي والمنظر الثوري صن يات سن، الذي كتب عنه الكاتب المصري عباس محمود العقاد كتاباً حول سيرته عنوانه"أبو الصين"، لتكون تلك المجلة رسالة الصين الجديدة بعد ثورتها لشعوب العالم، تخاطبهم بالصدق والمودة وتشرح لهم واقع الصين، لكسر الحصار الإعلامي ضد الجمهورية الوليدة من رحم سنوات من الكفاح والنضال.

في عام ١٩٦٤صدرت الطبعة العربية، لينفتح أمام الوعي العربي المعاصر باباً جديداً علي الحضارة الصينية، ومن ذلك الزقاق في ببكين بدأت مرحلة هامة بين الصين المتجذرة في التاريخ ٥٠٠٠آلاف عام، والحضارة العربية التي تمتد علاقاتها بالصين منذ عهد أسرة تانج، وتوجت في زمننا الحالي بالعديد من الصلات والزيارات المحورية، والمساندة من الشعب الصينية للشعوب العربية كافة لاسترداد حقوقها المهدورة، ومن أبرز تلك المواقف الثابتة تجاه المصير العربي مساندة رئيس الوزراء الصيني تشواين لاي لمصر أثناء حرب أكتوبر.

لقد غيرت مجلة الصين اليوم من حياة العرب وتفكيرهم، وفتحت لهم آفاقاً جديدة من المعارف والتجارب، ومازلت أتذكر وقلبي يمتلأ إيماناً بالإنسانية وروعة التواصل بين الشعوب تلك القصة المؤثرة عن الشاب السعودي، فبعد سنوات قليلة مز صدور الطبعة العربية، يزور ذلك الشاب الصين حاملاً معه معاناته من مرض شلل الإطفال، وفي يده يقبض علي الأمل المجسد في نسخة من مجلة الصين اليوم، ورد فيها أخباراً عن قدرة الطبيب الصيني تشن سي خه علي علاج مرضه الذي سجنه في كرسي متحرك طوال حياته، وجاء لبكين يتوق للحرية، فاستقبله العاملون في المطبعة وساعدوه في الوصول للطبيب الصيني، فأحاطه بعناية طبية فائقة، وعاد لبلاده معافياً أقوم مع كل عدد لمجلة الصين بالسفر لربوعها، فأجلس علي ضفة نهر اليانجستي وأسافر لشانغهاي، وأري ما فعلته المدن الصينية من معجزات كنينغبوه وأردوسي ومقاطعة شاندونغ  وشيتسانغ، فما كان ينشر علي صفحات المجلة قبل عقود مضت كأحلام وأماني، أصبح في الأعداد الحالية واقعاً حياً، أراه في القفزة العملاقة للصين التي ألهمت أبناء العالم الثالث، وجعلتهم يرغبون في اللحاق بها كنموذج مثالي، وها نحن نقرأ اليوم في المجلة عن مساهمة الصين في بناء مستقبل جديد لعالم يتهدده الضياع، بمشاريع عملاقة كالحزام والطريق ومجموعة البريكس، وأطلع بشغف علي القسم الثقافي لأستزيد من عمق الفلسفة الصيني، وأقف علي شاطئ بحر حكمتها مبهوراً، وأطالع أخبار نجوم السينما الصينية التي أدين لها بإضافة الكثير لوجداني ومشاعري ومتعتي البصرية، وكلما قرأت قسم"علي مقهي في الشارع الصيني" أبتسم ويرد علي خاطري باباً صحفياً شهيراً كان يكتبه الأديب المصري إحسان عبد القدوس تحت عنوان"علي مقهي في الشارع السياسي"، وخصصت المجلة للمسلمين الصينيين قسماً خاصاً بهم، يناقش حياتهم ويمد جسور الصداقة والتعايش بين الأديان.

القراءة عن الصين ودراسة تاريخها آدابها وفنونها متعة شخصية، فمن خلال ذلك أتثقف ذهنياُ وأنتشي روحياً وأتنور حياتياُ، لقد شعرت بنبض الصين منذ بان كو أول المخلوقات في المثيولوجيا الصينية، حتي الأعمال الأدبية ليو هوا ومويان، وأفلام جونج لي-ممثلتي الصينية المفضلة-  وسينما زانج ييمو المبدعة، وفي رحلتي مع الصين ترافقني علي الدوام مجلة الصين اليوم، أتابع علي صفحاتها ما ينشط عقلي، ويجعل الأمل ينبثق بداخلي، فنحن في النهاية أبناء الشرق أو علي حد تعبير المجلة"كلنا شرق" أعرف جيداً إننا إما ننهض سوياً أو نسقط فرادي، فما نجحت فيه الصين ويشرق علي صفحة مجلتها ولسانها في العالم أعتبره هدف يتجدد مع كل عدد لكل بلاد الشرق، وأسعد بما أراه وأعتبره نجاحاً شخصياً لي، فما بين النيل واليانجستي صلة تاريخية ومستقبل نري خطواته الأولي الزاهرة منذ سنوات، وأتمني أن أجده  قريباً يكتمل علي صفحة مجلة الصين اليوم. 


صوت أجدادي

 


صوت أجدادي


من خوف ضلوعي ناديت

وقولت يا مصر وفردت لها الدراعين

سمعت صدي جاي من بعيد فاهتديت

قالت إيزيس أنا هنا يا ابني

جات لي ومدت أيديها وطبطبت علي قلبي

وأنا قلبي مرعوش محتاج للمسة حنان

في غيابها يملا عقلي عويل

دي إيزيس اللي ملت من دموعها النيل

ولفت البلاد تبكي تدور عليك يا أوزوريس

وجهت الديابة والوشوش الكدابة

ومن صبرها نبت حورس ولد شديد

كافح الظلم ورفع راية المظلومين

ولما انتصر علي عمه ست

دفع التمن عين من عينيه

ناديت وقولت يا مينا يا موحد القطرين

سلمني تاجه"ده يا ابني أمانة بين إيديك

صون مصر يا ولدي وخليها فوق كل شئ"

ولما راح مينا ظهر خوفو

ماشي وجنبه حم إيونو

وسمعت حم إيونو بيقول "آدي الهرم يا ابن عمي"

ضحك خوفو وميل عليه بجنبه

"ده رمز المستحيل ده اللي هايعين الزمن له حارس"

وطلع قدامي أحمس الفارس

وسألته- وكنت قريت وقريت

وفي كل عصر في مصر عالورق لفيت-

" هو صحيح الهكسوس انطردوا"

بص لي بعينين كلها عزيمة واقتدار

"أنا طردت هكسوس امبارح

لكن هايفضل هكسوس يطلعوا مع كل نهار

وواجبك تحمي أرضك طول ما الفلك دوار"

وفجأة سمعت ضحك وصيحة انبهار

وبنات تقول" حتشبسوت صبحت ملكة

تحكم وتنهي وفي الليل تبات وعلي وش البلاد ضحكة

القمح يملا وش الأرض والعطور مع النسيم تسري"

ومن نخاشيشي يدخل لي العطر

يتسرب لمخي ومعاه مفاتيح بيبان الفهم

وقريت علي ورق البردي قصص وحواديت

عن إيمحوتب وماعت وحتحور وإمينموبي والبحار الغريق

وفوقت علي صوت همسه جميل

هادي كماء النيل

لقيت بلوتارك في حوار مع هيرودوت

" إيه العبارة يا خلق" نطق مانيتون

وبدأ الجدال وأنا اسمع واستفيد

يا سلام يا شعبي علي ماضيك

دقت طعم المجد والانكسار

عديت بلحظات فخر وانهزام

وفضلت كما الهرم بتتحدي الزمان

باقي في ملكوتك

وآدي الدليل

وادي النيل عمران

ولكل جد حفيد

ألف أدور في الوشوش

ده إخناتون راكب عالعجلة

ودي نفرتيتي شايلة كيس اللحمة

والمليان ده اللي ماشي عالكوبري

شبه تمثال شيخ البلد وعينه بصه دوغري

ودي الملكة تي بتحضن أعز الولد أحفادها

ودي جيناتنا منورة فوق تراب المحروسة

دي كيميت بتضوي قدام عينيا

وده صوت أجدادي

عليا بينادي

وأنا طول عمري قلبي في وداني



الجمعة، 3 يناير 2025

مالك الحزين... نظرة أخيرة لعالم ينهار

 مالك الحزين... نظرة أخيرة لعالم ينهار


في عام ١٩٧١ أرسل نجيب محفوظ خطاباً لوزارة الثقافة يزكي فيه الكاتب الشاب إبراهيم أصلان، ليحصل علي منحة كي يتفرغ لكتابة عمل أدبي جديد، وصفه محفوظ بقوله" هو فنان نابه، له مؤلفات مطبوعة أو منشورة في الصحف تقطع بموهبة جديدة فذة ومستقبل فريد، ولمثله نشأ مشروع التفرغ، وعند أمثاله يثمر ويزدهر "و حقق أصلان توقعات نجيب محفوظ عنه، فجاء عمله الثاني رواية"مالك الحزين"عام  ١٩٨٣، بعد صدور مجموعته القصصية الأولي"بحيرة المساء"، لتصبح علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي تؤسس لمرحلة فنية جديدة جوهرها رصد الهامش والعابر بذاكرة بصرية دقيقة وروح أدبية رقيقة،  وتحتل المركز الواحد وأربعين ضمن قائمة أفضل ١٠٠رواية عربية، وتنال ثناء القراء والنقاد وتحوز النجاح الجماهيري والنقدي معاً الذي يحتاج لمعادلة حساسة للغاية، سيحققها أيضاً فيلم "الكيت كات" للمخرج داوود عبد السيد المقتبس عن الرواية عام ١٩٩١.

حبكة الرواية المكونة من واحد وعشرين مقطعاً يتراوح بين القصير والطويل، تدور في ليلة السابع عشر من يناير عام ١٩٧٧، وذلك ليس إلا أحد الخيوط السردية في الرواية التي تمتد في الماضي، لاسترجاع تاريخ منطقة إمبابة وما يحيط بها منذ سنة ١٧٩٨، حيث انتهت علي أبوابها معركة الأهرام بين نابليون بونابرت والمماليك أثناء الحملة الفرنسية، وبما أن الفن الروائي يكتسب مادته من الحياتي والمعاش، يسرد أصلان وقائع انهيار عالم قديم يتلاشي بشخصياته وذكرياته لحساب عالم جديد تم تشكيله عقب هزيمة ٦٧ وبداية عقد السبعينيات بظروفه المختلفة وحساباته المستجدة علي الشخصية المصرية.

يكتب إبراهيم أصلان عن شخصيات حقيقية عايشها ودون إحساسه بها عبر فنه الروائي، بنسيجها اللغوي ومفرداتها الطبيعية، لتخلد في الضمير الأدبي وتنساب لوعي كل قارئ، كالشيخ حسني الأعمي الذي باع بيته للهرم تاجر المخدرات مقابل قطع الحشيش، مما يسهل عملية بيعه مع المقهي المفتوح أسفله لرجل سيهدمهما معا، وفي ذلك المقهي تتقاطع حيوات الشخصيات التي تزيد عن التسعين شخصية وتضم ثلاثة أجيال، قطر أصلان عصارتها في ١٧٠صفحة، كلها شخوص تعيش في جزر منعزلة، رغم كونها ظاهرياً قريبة من بعضها، فعم عمران صوت المعرفة والتاريخ رجل ولي زمنه، وصديقه عم مجاهد بائع الفول يموت وحيداً في دكانه دون أن يشعر به أحد،ويوسف النجار المثقف المكبوت والشخصية الرئيسية في الرواية يوصف بأنه" يبدو غريبا عن إمبابة مع أنه من أبنائها"، الأسطي قدري الإنجليزي يعيش في دنيا بناها من أوهامه، يسيطر عليها أبطال شكسبير المتغلغلين في وجدانه ويحفظ كلماتهم عن ظهر قلب، مما يجعله يحيا في شكوك وأوهام بعيدة عن الواقع، أما سليمان الصغير تهرب منه زوجته دون أن يجرؤ علي إخبار أحد ولو علي سبيل الفضفضة والبحث عن ملاذ نفسي، بل أنه حين يذهب لأم زوجته يعرفها بنفسه، والأمير عوض الله ابن مؤسس المقهي يتحسر من قلبه علي الحال والمآل، عندما يدرك أن البيع صار حقيقة فيقول برثاء"الحبل قد انقطع، والمقهي ضاع، وعوض الله ضاع، واليوم فقط يموت أبوك"، بينما عبد الله القهوجي العامل في المقهي، أكثر الشخصيات المتعلقة بالمكان، فبدون المقهي هو لا شئ، حياته ودنياه تتمركز حوله، تبقي شخصيات كفاطمة وشوقي وفاروق دلالة علي نتاج الزمن الجديد حيث التحايل علي الحياة لاقتناص متع حرموا منها، مع مسحة من الانحلال الأخلاقي تغلف سلوكياتهم، في المجمل الرواية يصعب تلخيصها لعدم وجود حدث بالمعني الكلاسيكي، إنما هو مأزق تتعثر فيه الشخصيات بين الزمان والمكان، والكل يثقل عليه وقع الذكريات.

من الناحية الأسلوبية تأثر أصلان بمدرسة "النظرة"، التي تجعل من الأشياء لا الأشخاص موضوعاً لها، ومع ذلك لم تتوار الشخصيات في ظلال المكان، و إن كانت مرسومة دون اهتمام بالملامح الشكلية والوصف الجسماني، ويمكن تقسيمهم لشخصيات هروبية كالشيخ حسني وفاروق وشوقي، وشخصيات متأملة كيوسف النجار والأسطي قدري والأمير عوض الله، وشخصيات فاعلة كفاطمة وعبد الله والهرم، بالإضافة لتأثره بأسلوب بالأديب الأمريكي إرنست هيمنجواي ويحيي حقي. 

في مالك الحزين استخدم أصلان لغة وصفية تقريرية متقشفة خالية من البلاغة الطنانة، ولا مكان فيها للاستعارات والكنايات والتشبيهات، فخرجت نبرته محايدة خالية من الانحياز لأي طرف،كأنه كاميرا تصور المشهد كما هو، واستعان في السرد بتقنية تعدد الأصوات. 

في كل أعماله يمتلك فضاء روائي ثابت لا يتغير،حدوده حي الكيت كات وشارع قطر الندي وفضل الله عثمان والشوارع المجاورة التي عاش فيها منذ رحل مع أسرته من طنطا للقاهرة، مع التقدم في العمر سيتقلص ذلك المكان ليصبح"حجرتان وصالة" عمله الأخير،لذلك سنجد جذور بعض شخصيات الرواية في مجموعة بحيرة المساء، وسيستعيد مصير الشخصيات الحقيقية التي صاغها في قالبه الروائي المميز في كتاب"شئ من هذا القبيل" فالمكان هو البطل عند أصلان فيه يتنفس ويعيش وعنه يكتب أعماله.

مع السطر الأخير" كانت الليلة تنقضي، والهدوء يتراجع،

كما تتراجع الأحلام" نكتشف أن شعور الحزن هو المسيطر علي الرواية، والأسي بكافة أشكاله يعشش في قلوب الشخصيات، وندرك سبب تسمية الرواية بمالك الحزين، ذلك الطائر الذي يحيا علي ضفاف الأنهار والبحيرات، يعتبر نفسه مالكها فلا يفارق مكانه علي الإطلاق، ويصيبه حزن شديد إذا جفت مياهه التي يعيش بجوارها، ويطأطئ رأسه كما يفعل الإنسان حين تخترق قلبه الآلام والأحزان ولا يجد مفراً ولا باباً للفرج، فاكتسب ذلك الطائر من صفاته اسمه المركب مالك الحزين فهو يمثل التشبث بالمكان رغم حرقة العذاب، وهكذا يشير إبراهيم أصلان لأبطال روايته العاجزة عن التعامل مع الظروف الجديدة ويضنيها الفقد والحنين... وربما لنفسه أيضاً.