بيت بجوار المقابر
سكن زحام النهار في رأسه ولم يعد هناك سوي صدي يدوي مثل دق ناقوس بعيد، يردد "علي أن أجده"... لم يمر من هذا المزلقان منذ فترة، لقد اعتاد في الآونة الأخيرة صعود الكوبري والتفرج علي شرفات المنازل الموازية له والمارة في الأسفل، وربما التقي بالقطار وهو يمر تحته كوحش حديدي يجري مصدراً أصواتاً محذرة وكأنه يقول"من يقف في طريقي فسآكله"، فيبتعد الجميع عنه في وجل وتقبض الأمهات بقوة علي أيدي صغارهن، وما أكثر تعساء الحظ الذين أكلهم الوحش في ذلك المكان.
مضي عامر يسير حتي اقترب من المزلقان، وحين لاحت منه التفاتة جانبية لمكان الكشك، توقف بغتة، إذ لم يره! لم يعد موجوداً اقتلع من الأرض وبقي مكانه خالياً، تجمد الزمن للحظات ورجع به عشر سنوات، حين كان شابا" في مقتبل الحياة يري الدنيا صغيرة في عينيه، وسهلة في وجدانه لا تقتات روحه علي شئ إلا الأمل، يتشرب الأدب والفن من كل مصدر يجده، ويردد لأصدقائه-حين كان يمتلك أصدقاء- غير عابئ بسخريتهم وضحكاتهم المستهزئة" أنا إسفنجة أتشرب كل الأشياء وأخلقها من جديد بصورة فنية"، وبقي ذلك الكشك تحت الكوبري من المصادر الأساسية للمعرفة، من خلاله كون قسماً كبيراً من مكتبته واشتري العديد من الصحف والمجلات، قبل أن يتوقف تماماً عن التعامل معه منذ مايقرب من خمس سنوات، حين فرمه وحش آخر اسمه واقع الحياة وتشظت روحه تحت شفرات متطلبات الدنيا، فتخلي عن أحلامه الأدبية وأهمل القراءة وتوقف عن الكتابة، وبدت أمانيه القديمة وإيمانه بها نكتة تثير الضحك حتي البكاء، في العشر سنوات انقلب فيهم العالم كله رأساً علي عقب، وهو أيضاً تبدل تماماً، كغدير ماء امتلأ يوماً بماء المطر، ولمعت علي صفحته أشعة الشمس الذهبية في منظر يبهج القلوب، ثم أصابه الجفاف فأصبح خراباً ومصب للقاذورات ومأوي ترتع فيه الحشرات والزواحف، وحده الكشك ظل قائماً كذكري تؤنسه، وتؤكد له أنه عاش تلك الحياة حقاً ولم تكن وهماً ولا خيالاً، صحيح أنه يتقادم ويتآكل حتي أغلق تماماً قبل عامين إلا أنه ظل موجوداً علامة علي سنوات خصبة ممتلئة بالأمل والطهارة، في زمن لم يعرف فيه كمائن الحياة الغادرة، أو يتعثر في الاحقاد والصراعات فتدمي عينيه من أشواكها ويفقد البوصلة وتتوه منه الطمأنينة.
صمم علي إيجاد عم كريم صاحب الكشك فتوجه للمقهي المجاور المزدحم بالجالسين، وسأل الصبي الذي هرول أمامه مسرعاً وهو يسخن حجر الشيشة لأحد الزبائن، وسأله علي أمل أن يكون الرجل مايزال علي قيد الحياة:
-إلي أين ذهب عم كريم؟
بدون أن ينظر له أجابه:
-عم كريم صاحب كشك الكتب والجرائد المقتلع من مكانه.
ألقي عليه الصبي نظرة سريعة:
-ما أعرفه عنه أنه لم يعد يغادر منزله.
-وأين يسكن؟
اتجه عامر إلي العنوان كما وصفه له صبي المقهي، فشاهد منزلاً متهالكاً امتلأت واجهته بالشقوق بجوار المقابر، وعلي طرفي بابه الحديدي الصدئ ربطت بنتاً صغيرة حبلاً ووضعت عليه مخدة حال لونها للسواد، صانعة بذلك أرجوحة تلهو بها، ولما شعرت به ورفعت وجهه له، وجدها آية للجمال والحسن، صبت في قالب ملائكي التكوين، ملاك صغير أبيض، فحنّ قلبه لمرآها، وسألها وقد ابتسم بصدق لأول مرة منذ عهد طويل جداً:
-هل عم كريم موجود؟
ابتسمت البنت، فأشرق وجهها وازدادت جمالاً وروعة:
-هل تريد جدي؟
أومأ برأسه، فجرت علي السلم يتبعها حتي وقف علي البسطة، كي لا يجرح من يفتح الباب لو كانت امرأة ودقت البنت الجرس، فتحت الباب امرأة عجوز علي وجهها نظارة سميكة تكاد تحجب عينيها، وسمعها تقول:
-ماذا تريدين يا سناء؟
فأشارت البنت نحوه:
-رجل يريد جدي.
أطلت العجوز من الباب فبادر:
-السلام عليكم يا حاجة، أنا آسف لإزعاجكم، ولكني جئت لزيارة عم كريم.
-أهلاً وسهلاً يا بني... ومن أنت كي أخبره؟
ارتبك عامر، وشك أن الرجل سيذكره:
-قولي له عامر، الشاب الذي كان يجيئك باستمرار ليشتري منك الكتب.
بدا علي العجوز أن كلامه لا يشير لشخصيته، فتجنبت إحراجه بسؤال جديد وهمت بالدخول:
-بعد إذنك سأدخل لأخبره.
غابت في الداخل لفترة وجيزة، ثم عادت لتأذن له في الدخول، فوجد علي الأريكة عم كريم يبتسم له وقد عرفه، فمد يده وسلم عليه، فوجد الرجل لم يفتح فمه أو يمد يده، اكتفي أن يطأطئ في انهزام، فتدخلت زوجته العجوز بسرعة قائلة بصوت باكٍ:
-أصيب بجلطة أفقدته الحركة والنطق!
تمتم عامر بألم:
-لا حول ولا قوة إلا بالله.
وفهم سبب إزالة الكشك، ورنا بعينيه لسناء وهي مستندة علي الباب، فأكملت الزوجة وقد زادت نبرتها الباكية:
-إنها حفيدتنا، توفي أبوها وتزوجت أمها وليس لها أحد سوانا، عجوزان علي شفا الموت.
تأثر عامر بما سمع، وشعر أن هناك باب جديد يفتح له، إن تلك البنت هي الناقوس الذي ناداه ليجد عم كريم، لطالما تاق لابنة يرعاها تعوض آلامه وانفصال زوجته عنه بسبب عقمه وعدم قدرته علي الإنجاب، ونظر ملياً للشقة، فرآها خالية مسوسة الأثاث تساقط الطلاء عن جدرانها، والمطبخ لا تنبعث منه أي رائحة كأنه لم يوقد فيه النار منذ وقت طويل، وقال لعم كريم:
-إنك رجل صاحب فضل...لطالما عاملتني بحنان، ووافقت علي تقسيط ثمن الكتب والمجلات بسرور، ولا أنس إني رأيت عندك اسمي مطبوعاً في صحيفة لأول مرة عندك، لقد قفزت في الهواء فرحاً وتلقتني بين ذراعيك، وكنت أشد سعادة من مني وفرحاً لفرحتي البريئة.
فضحك عم كريم وزوجته وسناء لأن عامر مثل ما حكاه بدقة.
من ذلك اليوم لم تنقطع زياراته المتكررة لذلك المنزل، وفي كل مرة يجلب معه الهدايا والمأكولات ويملأ يد المرأة بالمال، حتي أصبح يوم زيارته تحسب لها الأيام، وتغيرت حياتهم كلهم، رأي فيهم عامر الأسرة والصحب وأغدق حنانه علي سناء كأب رؤوف بل وبدأ يكتب روايته الأولي، ووجدوا فيه الأمل والسند أمام مصاعب الحياة، وفي مدخل البيت تقف أرجوحة حقيقية جميلة مزدانة بالرسوم تلهو بها سناء طوال النهار... يراها كل من يتجه للمقابر مشيعاً أو زائراً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق