الأحد، 28 نوفمبر 2021

العصر المملوكي كما روته ريم بسيوني(1)

 

 

1-لحظة إلهام:

احتبس الإبداع الروائي لعدة سنوات لينطلق في لحظة بدت من الخارج عادية,لكنها محملة بفيض شعوري جارف,أثناء زيارة ريم بسيوني مؤلفة رواية أولاد الناس لمسجد السلطان حسن,اخترق المعمار الفني للمسجد روحها وتساءلت بفضول من هو السلطان حسن؟

وكانت نتيجة ذلك التساؤل رحلة بحث ودراسة عن عصر المماليك,أفرزت أحد أروع الأعمال التاريخية التي تفتقدها المكتبة العربية مهما تكاثرت الموضوعات التاريخية بين جنباتها ستظل متعطشة للمزيد,التاريخ المصري الضارب بجذوره إلي بداية الوعي الإنساني,كلما كشفنا عنه زادت مساحة جهلنا به,ولو كانت حياتنا الأدبية علي صورة مرضية,لكانت واكبت الكشوف التاريخية الحديثة وأثمرت عشرات المؤلفات الروائية سنوياً,حول التاريخ المصري المتشعب الذي كاد يضم تاريخ العالم بكل أجناسه وطوائفه.

عوامل عديدة أفسدت الوضع الثقافي المصري علي رأسها نهيار التعليم فلم يعد لدينا الكاتب القادر علي العمل والإنتاج,بعد انقضاء تكوينه العلمي والثقافي لأن ذلك التكوين ليس له وجود,وغياب القدرة علي التفكير المنطقي المؤدي إلي الازدهار الحضاري والاجتماعي,والنتيجة صخب الجهلاء ومدعي الثقافة المثير للتقزز حول تلك السلسلة اللامتناهية من القضايا التافهة ,والموضوعات الغثة التي استهلكت طاقتنا في الجدل العقيم حول توافه لا يليق بنا النقاش حولها بعد 7آلاف عام,كانت وحدها قادرة علي ترسيخ الحكمة في العقول والنفوس لكننا تجاهلنا التاريخ فانتقم منا الحاضر,ومن التاريخ استلهمت ريم بسيوني روايتها,لقد هزتها هذه اللحظة في جامع السلطان حسن,والتي تشابكت فيها العين الفاحصة مع الأذن المنصتة لمنشد يردد قصيدة نهج البردة للإمام البوصيري,صاحب الأبيات الثادقة في المديح النبوي التي رسمت صورة شعرية مؤثرة للعشق والرجاء والأمل,وتلك المعاني هي ما قامت عليه القصص الثلاث التي دونتها المؤلفة أثناء رحلتها التي اصطحبتنا فيها إلي عصر المماليك شهوداً علي تألقه وضعفه,متنقلة بنا بين رؤي تاريخية يعجز المؤرخون عادة عن تقديمها كما يقدمها الأدب...فمن هم المماليك؟رقيق أبيض تحكموا في مصر وقهروا أهلها بالسيف,وسلبوهم أرضهم كرهاً,وتعاملوا معهم بالخازوق والسوط؟أم بنائين عظام أصبحت مصر في عهدهم حاضنة للثقافة العربية بعد تدمير المغول لبغداد وفرار المقهورين من أقطار الدول الإسلامية لمصر,فأصبحت في عهدهم من أقوي الدول التي يهابها ملوك الأرض وخلفوا ورائهم عمائر تشي بالصنعة والمهارة؟أم هم أكثر من وقع عليهم الظلم في التاريخ بعد أن تم اختطافهم من بلدانهم الأصلية أو بيعهم بسبب الفقر المدقع,وانتزاعهم من حضن الأم ودفء البيت وسلبهم هويتهم,ليزج بهم في صراعات ومعارك في دول بعيدة لم يحلموا أن يروها يوماً؟

الحقائق تكمن في الأدب الجيد,والكاتبة تجيب عن هذه الأسئلة في طيات روايتها وتقدم المملوكي كإنسان أولاً وأخيراً,يحمل الخير والشر مثلنا جميعاً,وهذه الحقيقة غابت عن بعض مرتزقة التاريخ,الذين دونوا مؤلفاتهم في تبعاً للسياسات التي عاصروها,فمثلاً في زمن خلفاء محمد علي صاحب المذبحة,جاءت ممتلئة بالشر فقط متغافلين عن تراث ضخم لا يمكن معالجته بطريقة الأبيض والأسود الأحادية في البحث.

بطريقة ما أصبحت الكاتبة مضروبة بـ"السيرة المملوكية" إذا جاز لنا ضرب المثل بمن أولعوا بالسيرة الهلالية فسموا الضروبين بالسيرة,ومشوار بحثها لم يتوقف حتي اليوم,أتمني أن تنتج بموهبتها الظاهرة أعمالاً أخري تساهم في تغطية عورة الوضع الإبداعي الراهت,الهزيل في مضمونه رغم سيل الروايات المنشورة كل عام,فقلة منها هي ما يبقي في الذاكرة.

2-عصر المماليك:

قبل البدء في مناقشة الحكايات الثلاث أو الأربعة إذا أضفنا إليها قصة جوزفين وجدها,من الأنسب أن نعطي لمحة سريعة للزمن المملوكي,الذي يعود إلي أبعد مما نتخيل...

المماليك اسم يطلق علي الأرقاء من الذكور بيض البشرة,ممن تهيأوا للقتال والحرب بالتدريبات الشاقة,يتم الحصول عليهم بين أسري الحروب أو في سوق الرقيق أو بواسطة عصابات المجرمين الذين يخطفون الأطفال,وإذا كانوا يتجاوزون سن الطفولة سموا بالأجلاب,وهم من سيزداد عددهم في نهاية العصر المملوكي ليدفعوا به نحو نهايته,وقد أصبحوا أشبه بالمرتزقة عكس المملوكي الأصيل الذي تربي في مصر ولم يعد يذكر بلد غيرها,ونشأت بينه وبين أستاذه وخشداشيته علاقة قوية أشبه بالأسرة الواحدة.

يعود الاستعانة بالمماليك إلي زمن الدولة العباسية,وخاصة لفترة حكم المعتصم بعدما أدرك أن الاعتماد علي العنصر العربي في جيشه لا يحقق له السلطة الكاملة,لغلبة الولاء القبلي والعشائري علي الجنود والقادة,فاختار تكوين حيشاً من المماليك الأتراك يكنون له وحده الولاء دون شريك,مع الوقت أصبح هؤلاء المماليك هم القادة الفعليين,والخليفة العباسي مجرد واجهة يعملون من خلالها,ويقول عن ذلك المستشرق البريطاني ستانلي بول"وماهي إلا فترة من الزمن نظر بعدها الخلفاء إلي هؤلاء الحراس الأتراك,فوجدوهم قد أصبحوا السجانين"وهذا الوضع نتج عنه طمع الأمراء في أقاليم الدولة مما أضعف الخلافة حتي سقطت علي يد التتار عام 1258.

لم يكن المماليك ن العنصر التركي فحسب,فمع عصر الأيوبيين ومن تبعهم من سلاطين المماليك,كانت الأغلبية تأتي من شبه جزيرة القرم وبلاد القوقاز وآسيا الصغري وفارس وتركستان وبلاد ماوراء النهر,وكان منهم الغولي والصيني والأسباني والسلافي والألماني وغيرهم ممن جاءوا إلي مصر بصحبة تجار الرقيق.

البداية الفعلية للمماليك كسلطة معلنة في مصر كانت في زمن السلطنة الأيوبية,حيث اعتمد الحكام عليهم في مصر والشام في صراعهم مع بعضهم البعض,عقب الفوضي السياسية التي نشبت بعد وفاة صلاح الدين,وبسبب ازدياد أعدادهم في الجيوش توغل نفوذهم في الحياة السياسية,أما أكثر الأيوبين اهتماماً بالمماليك فهو الصالح نجم الدين أيوب,ويذكر ابن إياس أنه استكثر من شراء المماليك حتي ضاقت بهم القاهرة,وأصبحوا مصدر إزعاج للناس حتي إنهم أخذوا في نهب الدكاكين,وقال في ذلك أحد الشعراء:

الصالح المرتضي أيوب أكثر من     ترك دولته يا شر مجلوب

وقد أخذ الله أيوباً بفعلته                فالناس قد أصبحوا في ضر أيوب

فابتني لهم السلطان نجم الدين أيوب قلعة الروضة علي" بحر النيل",فاكتسبوا من موقع قلعتهم اسم المماليك البحرية,ومنهم الجيل القوي المؤسس كـ:سيف الدين قطز,ركن الدين بيبرس الذي رفعه الخيال الشعبي إلي بطل أسطوري له سيرة تحكي أمجاده,وكل من رفعته الفنون الشعبية ليحتل ركناً مميزاً في ذاكرتها لهو شخص اكتسب محبتهم وإعجابهم,المنصور سيف الدين قلاوون,الناصر محمد بن قلاوون,وتمتد فترة حكم المماليك البحرية من 1250إلي1382.

عند وفاة نجم الدين أيوب وتولية شجر الدر زوجته حكم مصر تبدأ فترة الحكم المملوكي المباشر,بحكم كونها أرمينية أو تركية الأصل,ثم شاركها عز الدين أيبك التركماني السلطة,وانتهت دولة الأيوبيين ومع ذلك لم يستتب الأمر للمماليك في البداية,ولم تخل مصر من ثورات علي هؤلاء الأجانب الأرقاء الذين تسلطنوا علي أهل مصر الأحرار,لكنهم تمكنوا من القضاء علي كافة صور التمرد ضد حكمهم,وزادهم رسوخاً انتصارهم علي الصليبيين والمغول,ما جعل الجرأة تنتشي علي لسان ابن مطروح في أبياته الشهيرة بعد هزيمة لويس التاسع علي يد المماليك,مهدداً بازدراء وتهكم:

وقل لهم إن أضمروا عودة       لأخذ ثأر أو لفعل قبيح

دار ابن لقمان علي حالها        والقيد باق والطواشي صبيح

وبعد الانتصار علي جيش المغول في عين جالوت 1260أكد المماليك قدرتهم الدفاعية,بعد سقوط مركز الحكم في بغداد بمقتل المستعصم,وبدأت صفة الغدر تستعلن في المماليك,بقتل بيبرس لقطز وهو عائد منتصراً علي المغول,والزينات في القاهرة أعدت للترحيب به,ليجلس القاتل محل القتيل ويعلن المبدأ المملوكي الدموي الذي سيتردد في روايتنا"الحكم لمن غلب",ورغم الصراعات والدسائس التي تميز البلاط المملوكي من أوله إلي آخره,إلا أنهم أمام الخطر الخارجي يتحدون علي قلب رجل واحد نابذين أي خلافات بينهم حتي يتم لهم النصر.

ولنلق نظرة علي الوضع الاجتماعي لدولة المماليك قبل الدخول في أولي حكاياتهم,لفهم طبيعة العلاقات الطبقية في المجتمع المصري حينئذ,وكيفيه تعاملها مع بعضها,لندرك بواعث سلوكيات أبطال القصص الثلاث.

اعتمد المماليك طوال فترة حكمهم علي سيف الجندي وعمامة الشيخ,والأول مسلط علي الرقبة,والثاني مسلط علي الضمير,وبتلك السياسة استمر نظام الإقطاع من عهد الأيوبيين,فقسمت الأرض الزراعية المصرية إلي 24قيراطاً,للسلطان 4قراريط,وللجند10,والعشرة الباقية من نصيب الأمراء,ومع أن هذه الإقطاعات عدل زامها أكثر من مرة فيما عرف باسم الروك,بقيت في كل الحالات ملكاً للسلطان والأمراء وليس للمصريين سوي زراعتها وتسليم خيرها للسادة,وهكذا نشأت الطبقية في عصر المماليك,فقسم ابن خلدون المجتمع إلي"سلطان ورعية"ورتبه تلميذه المقريزي كالآتي:أهل الدولة من الحكام المماليك,أهل اليسار من التجار الأثرياء,الباعة ومتوسطو الحال من التجار والسوقة,الفلاحين يتبعهم الفقراء من المتصوفة والدراويش,أرباب الصنائع والمهن,وأخيراً ذوي الحاجة والمسكنة,ويري قاسم عبده قاسم أن"المجتمع المصري في عصر المماليك كان مجتمعاً يقوم علي بناء طبقي حاد,فثمة طبقة من الحكام العسكريين لهم كل الحقوق والامتيازات,ويمتلك أفرادها الأرض الزراعية التي قام عليها اقتصاد البلاد,ولهم فقط حق الحكم والإدارة,وفي مقابل الرعية التي اقتصر دور ابنائها علي الإنتاج ودفع الضرائب والحضوع المتكرر لابتزاز المماليك,دون أن يكون من حقها المشاركة في مسئوليات الحكم.وقد انعكس هذا الوضع بطبيعة الحال,علي صورة الحياة المصرية آنذاك,ومن البديهي أنه كان هناك فوارق بين الشرائع الاجتماعية داخل كل كم هاتين الطبقين,بيد أن ذلك لا يغير من الحقيقة القائلة بأن المجتمع المصري في عصر سلاطي المماليك قد انقسم إلي طبقتين من الحكام والمحكومين.وإذا كان بعض الباحثين تصور وجود طبقة وسطي في هذا المجتمع فإن ذلك يرجع,في تقديرناً,إلي أن بعض فئات المصريين كانت علي قدر من الثراء بفضل التجارة أو غيرها"

3-الرواية التاريخية:

ميز أرسطو بين"التاريخ والشعر الدرامي"في أولي محاولات فض العلاقة الملتبسة بين الفنين,فالتاريخ في حد ذاته هو فن الرواية الأول بين الشعوب,يثير الفضول ويجذب الأسماع علي اختلاف الثقافات والعصور,لقد كان هيرودوت علي سبيل المثال يشبه القصاص الشعبي الذي يستمع إلي الحكايات الماضية,ويعيد صياغتها من جديد في مؤلفاته التي لم تعتمد علي المنطق العلمي لتمييز الخبر الصادق من المكذوب,وظل الخيال والهوي يتمازج مع "القصص"التاريخي حتي مجئ ابن خلدون في القرن الرابع عشر بمقدمته,التي وضع فيها قوانين كتابة التاريخ واستعمال العقل في الخبر لتمييز الوهمي المزيف من المنطقي الممكن,ويعتبر الأخوان فونكور"أن التاريخ هورواية ماكان,والرواية تاريخ ما كان يمكن أن يحدث".

اتحاد الأدب مع التاريخ يبعث الحرارة والعاطفة فيالحدث التاريخي,ويعود الماضي من جديد ليزور الحاضر والمستقبل,وتقوم الشخصيات تسعي في ذهن المتلقي,وتظهر الأماكن حية تموج بالبشر والمشاعر,وهذا الفن عرفته مصر منذ القرن التاسع عشر برواية علم الدين لعلي مبارك,مروراً بالأعمال التي أفرزها القرن العشرين وأخيراً أديبتنا ريم بسيوني,المشغولة بأسئلة الهوية,ربما بسبب صدمة الغربة التي عانت منها أثناء دراستها في بريطانيا,لتحصل علي الماجستين من جامعة أكسفورد في علم اللغويات ثم الدكتوراه في تحليل الخطاب السياسي من نفس الجامعة,فخروجها من حضن الوطن-مهما بلغت أشواكه وانغرزت أنيابه في الروح والجسد-أثار فيها شعور بالاغتراب وعدم الراحة,مما دفعها للبحث عن نفسها وهويتها,ولن يعرف الإنسان ذاته إلا إذا عرف تاريخه ومجتمعه بعيوبه وممزاته,نفس أزمة جوزفين في الجزء المعاصر من الثلاثية التاريخية,التي تستكمل البحث عن هويتها المفقودة,وجوزفين هنا نائبة عن المواطن المصري بداية القرن الواحد والعشرين,المصاب بقطيعة مع الصورة الكلية للتاريخ,فهو إما يعتبر العالم بدأ قبل 1400عام فقط مع البعثة المحمدية,ولا علاقة له بما سبق أو تلي ذلك محصوراً في الصحراء لا يمد بصره لما عداها,محروماً من زبدة الحضارة والفن والأدب,بل ومع التمازج البشري والفهم العلمي واللذين بدونهما لن يصل إلي الله مهما دفن رأسه في الرمال,أو من يبدأ تاريخه منذ القدم علي يد الآباء المؤسسين لقومية وادي النيل من حكماء وملوك مصر القديمة,حتي دخول العرب متجاهلاً مساحة شاسعة وحاسمة شكلت واقعنا الحالي,أو منقطع تماماً عن كل شئ وهم الأغلبية بفعل الانحدار التعليمي المؤلم وغياب دور الإعلام الذي تفرغ للفقاعات التافهة.

مع الكاتبة نرتحل في الزمان والمكان,متكتشفين جزء من تاريخنا المهمل,الصامد حتي اليوم بفعل آيات من فن العمارة,وقفت متحدية لتجعل المعاصرين يتقزمون ويخجلون كلما رأوا ذلك الإبداع المطل عبر القرون المبني بحرفية وهندسة حقيقية,تسخر من أبنيتنا الحالية المفتقدة لمعاير الجمال والإبداع,بعدما أضعنا فرصة ذهبية لفلسفة معمارية قليلة التكاليف وجميلة ومناسبة جاء برسالتها المبدع حسن فتحي,فكان جزاءه إهمال مشروعاته والتعمية علي خطته المعمارية,فانزرع القبح في العيون,نرجع إلي روايتنا والبنيةالمركزية في السرد الواقعة في جامع السلطان حسن أو كما يسمي هرم مصر الرابع...فإلي هناك لعلنا بالماضي نتعلم ونبني مستقبلنا

الحكاية الأولي:

1309ميلادياً,الفترة مابين سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثانية بعد تمرد بيبرس الجاشنكير واستيلاؤه علي الحكم,وسلطنته الثالثة والحقيقية التي دامت لأكثر من ثلاثة عقود كانت إحدي العصور الذهبية لمصر علي يد ذلك السلطان الذي لم يبشر في بدايته بأنه قادر علي مجرد الاستقرار في الحكم,فأصبح حكمه الطويل المزدهر نقطة تحول في العصر المملوكي,والنقطة الألمع في تاريخ أسرة قلاوون التي بدأ حكمها مع أبيه المنصور قلاوون.

تبدأ الرواية مباشرة دون استطراد لتضعنا في قلب الأزمة دون تمهيد"هذا الحدث الجلل كان يمثل سابقة خطيرة وغير مألوفة..."الحدث يتمثل في اعتداء أحمد ابن التاجر أبو بكر المقشعي علي أحد جنود الممماليك,لتعالي المملوك عليه فيؤخذ هو وابن عمه يوسف خطيب زينب ابنة أبي بكر إلي السجن,ولا تفلح شفاعة زينب عند الأمير محمد كي يعتقهما,بل ستسفر عن شئ لم يجر لأحد علي بال,ولا أفلح الشيخ عبد الكريم ولا العلماء ولا كبار التجار في الخلاص منه,مع الصفحات الأولي نتعرف علي الوجه القاسي للمماليك,الموقف الذي فجر التحولات الدرامية من أسرة تنتظر زفاف ابنتها علي ابن عمها إلي أسرة تنوح وتبكي علي غدر الزمان,تصوره ريم بسيوني بعد مشهد غرامي مبتور بين المحبين"-عيناي لا تريان غيرك.أمسكي بيدي مرة واحدة.

تردتت قليلاً ثم مدت يدها.فهم أن يمسك بهما,ولكنه سمع صوتاً عالياً خارج الخان,فالتف إلي أحمد وكان يتكلم في حدة مع جندي مملوكي.

اتجه إليه يوسف مسرعاً,وأحكمت هي الخمار حول وجهها,وتقهقرت داخل الخان وهي تتابع ما يحدث في الخارج.

قال أحمد في زهو:أنا ابن أبي بكر,لا يمكنك الكلام معي هكذا.إما أن تشتري الحرير وإما أن ترحل.

نظر له الجندي في ذهول وفزع,والتفت إلي زميله ويوسف يفتح فمه في خوف,ثم أمسك الجندي المملوكي بقطعة الحرير وأخرج سيفه وشطرها نصفين,ونظر إلي أحمد في تحد.التقت أعينهما وفار أحمد فورة الشباب,ودفع بالجندي فوقع علي الأرض,ثم صرخ فيه وأمره أن يرحل.

في هذه اللحظة توقف السوق عن الحركة,وتجمد العالم كله,وأصبح الجندي عشرة,التفوا حول الخان وزينب تشهق في فزع,وتمتمت لأخيها وهي تخرج من الخان:ماذا فعلت!

قال يوسف مسرعاً للجندي:اقبل أسفي.

ثم أمسك بقطعة حرير أمامه,وأعطاها له قائلاً في رجاء:خذها بلا مقابل وارحل.

قال الجندي وهو يقوم:ليس قبل موتك أنت وهذا البغل؟"

يلخص ذلك المشهد الديناميكي طبيعة الصلف المملوكي,ومدي خوف ورضوخ العامة لهم,رغم شعورهم الباطني بالأفضلية عليهم,فالأب يصف الأمير محمد الذي كان في السوق لحظة وقوع الحادث"هو أسوؤهم علي الإطلاق,فليحترق في نار جهنم.

تبادل الحضور النظرات في خوف,ثم قاموا جميعاً للانصراف,فقال أبو بكر في ترج للشيخ عبد الكريم:لا تتخل عني ياشيخ.

ربت عبد الكريم علي يده,وقال في هدوء:كلماتك أخافت الحضور.توخ الحذر يا أخي,لم أعهدك هكذا".

ولما يتقدم الأمير للزواج من ابنته مخالفاً عادات المماليك والمصريين في مقابل الإفراج عن أخيها وابن عمها,يرد علي الشيخ عبد الكريم"ولكنه مملوك,قراره ليس بيده,كان عبداً ثم أصبح أميراً,وربما لا يزال عبداً لا أعرف.غريب علي أرضنا,لا هو منا ولا هو يعرفنا,لا نعرف من أين أتي ولا من أهل بيته,مهما امتلك من جنود فهو مملوك وغريب وولاؤه ودينه مشكوك في أمرهما.لا نعرف حتي ماذا كان دينه في بلاده القديمة(...)ابنتي لن تتزوج من المماليك,سيقتلها.قسوتهم تبتر القلب يا أخي.نعرفها جميعاً.ياشيخ أهل مصر أحرار,لم يستعبدهم سلطان ولا خليفة,كيف لهم أن يتزوجوا من العبيد.

الشيخ عبد الكريم أحد الشخصيات التي ستظل حاضرة حتي النهاية,يتجسد حضورها في الذكريات التي سيتناقلها سلالته عبر الأجيال الثلاثة,فأمام كل مملوك هناك قاض وشيخ من حفدته يسانده حيناً ويواجهه حيناً يحمي كل منهما ظهر الآخر أو يطعنه,يمثلون طبقة الأنتجلنسيا في ذلك العهد,فهم العلماء ذوي المهابة لأنهم يحوزون توقير العامة,وفي نفس الوقت أحد أدوات السلطان في السيطرة علي مقاليد الحكم,وورغم نقائصهم كما عرضتها الراوية فهم يتسمون بالشجاعة في مواجهة الظلم,وسيدفعون ثمن ذلك غالياَ.

نتعرف علي الشيخ عبد الكريم في شبابه"كانت مشكلته غروره الخامد في داخله,لا يظهره ولا يتخلي عنه"وكعادة النابهين يتعرض للحسد والمضايقات,لأنه يفضح المديوكر وأنصاف المواهب,حتي يتسقر بجوار التاجر أبي بكر وعائلته ويقرر"عدم تكرار أخطائه القديمة وإظهار غروره الخامد,خبأ غروره ومعرفته وتظاهر بالرغبة في التعلم من الكبار وبمهادنة المماليك والسلاطين وكل أهل القاهرة"ذلك ملمح من النفاق الاجتماعي المجبرعليه المتفوقين في المجالات المتعددة,خاصة من يبرز في سن صغير,وسيرث منه ذلك قاضي قوص في الحكاية الثانية.

تضحي زينب بسعادتها كي تنقذ أخيها وابن عمها الخطيب التعس,وتدخل عش المماليك بكل ما فيه من دسائس وحذر,يصل إلي تجنب تناول الطعام والشراب خارج في قصور بعضهم البعض,خوفاً من وضع السم,وضرب الرقاب لمجرد الشك,وتحيا مع الأمير محمد ليال متقلبة المشاعر,ثم ينمو الحب بطريقة غير متوقعة,بعد المقت الذي كانت تكنه زينب داخلها,حتي وصفت حياتها الجنسية معه في البداية"هذه هي إذن حياة البغاء,هكذا تشعر بائعة الهوي,بلا شئ داخل النفس والجسد,ليس صعباً فصل الروح عن الجسد كما فهمت اليوم".

عندما كان بيبرس أميراً في سلطنة الناصر,اعتاد التضييق عليه وقمع مطالبه,فلم يكن راتبه يكفي لشراء ما يطيب له من طعام وهو سلطان مصر,وقد أراد أن يحتفل بسبوع ولده علي من زوجته أردكين,فطلب أن يستمر الاحتفال لسبعة أيام,لكن بيبرس رفض وأجبره علي الاكتفاء بيوم واحد,فحدث نتيجة تلك المعاملة السيئة نزاعاً جعل العامة يهتفون في وجه الأمراء"يا ناصر يا منصور"تأييداً للسلطان المحبوب الناصر قلاوون,وكاد أن يقع اقتتال يصل لحد المذبحة بين المماليك والعامة,فقرر الناصر الخروج من مصر فادعي أنه يريد تأدية مناسك الحد,لكنه استقر في الكرك يخطط لبسط سيطرته علي عرش مصر,وتحالف معه النحس وسوء الإدارة للجاشنكير,فانخفض منسوب النيل وارتفع سعر القمح,واحتكره الأمراء المماليك يبيعونه للعامة بالثمن الذي يرغبونه,وحلت الأوبئة والأمراض,وضاق الناس بأيامهم وزاد الكرب بإبطال الخمور,وكلف أحد أمراؤه ألا يدع بيتاً في مصر دون تفرقة للطبقة الاجتماعية إلا و"يكبسه"إذا تم الإبلاغ عن وجود خمر فيه,فيريق الخمر ويكسر أوانيها,فشاعت البلاغات الكيدية بين الناس,يرشدون كذباً أو صدقاً عن وجود الخمر في البيوت,فانتهز الجنود والعامة فرصة تفتيش المنازل,فنهبوا وسلبوا أشياء ثمينة حتي اغتنوا منها كما ذكر المقريزي,ولم يوقف تلك التفاتيش إلا وساطة الأمراء,فاستجاب الجاشنكير لهم وكعادة شعب هذه البلاد,بأغانيهم ومووايلهم يكتبون التاريخ النابض له,فألفوا أغنية تعبر عن حبهم للناصر وبغضهم لبيبرس ونائبه سلار:

سلطاننا ركين(قاصدين بذلك بيبرس لأن لقبه هو ركن الدين)

ونائبنا دقين(قاصدين سلار لأن لحيته لم يكن بها سوي بضع شعيرات)

يجيئنا الماء من أين

تجيبوا لنا الأعرج(قاصدين الناصر لأنه أصيب بالعرج في طفولته)

يجي الماء يتدحرج

تترجم الرواية غرق مصر في المفاسد علي لسان الشيخ عبد الكريم في حواره مع الأمير محمد,أثناء زيارة أهل "العروس"للزوجين في القصر"التفت الشيخ عبد الكريم حوله ثم أكمل:فكرت كثيراً في الكلام أو الصمت,ولكن لابد من قول كلمة الحق,ربما تشفع لنا عند السلطان بيبرس,أتمني هذا,رجاله تعيث في الأراضي,تغتصب الحقوق,وتسرق الطعام,وتفرض الضرائب,وتحابي الفاسدين,وتقبل الرشوة والمحسوبية بصدر رحب,وتفرضها أحياناً.بالأمس حرقوا عشرة منازل في حارتنا لأن أصحابها رفضوا إعطاءهم ما يريدون,وعلقوا رءوس التجار الشرفاء علي الأبواب عبرة لم تسول له نفسه ويقول"لا"في وجه الظلم والفساد.الأسعار أصبحت قاسية حتي علي الأغنياء.هذه البلاد كانت تعج بالخير,وأصبحت تئن من الظلم والفقر.كيف لبلاد هزمت التتار والصليبيين أن تئن من الظلم؟!ليس للعامة إلا طاعة ولي الأمر,ولكن عندما يهمس العامة من الشباب بالرغبة في الفناء أو الرحيل إلي بلاد أخري لابد من وقفة وكلام.

استمع له محمد في صبر ولم يقاطعه.

فأكمل الشيخ عبد الكريم:من السلطان الشرعي؟ومن السلطان المغتصب؟لا نعرف نحن العامة.تبقي هذه الأسرار بين المماليك,وحينما يختفي الناصر محمد ويتخلي عن واجبه وسلطته ويرحل إلي الكرك.ماذا نفعل نحن؟أعطيتني الأمان يا مولاي,ولو أردت قتلي أو تعذيبي فلن أبالي.فكرت كثيرا,ووجدت أن قول الحق يستحق المجازفة.ولو كان الظلم يقتصر علي عدد قليل ربما كنت أطلب الشفاعة,وأدعو إلي اللين,ولكنه غشي كل البلاد وخيم عليها.كم من المال في خزائن العامة الذين يعملون ليل نهار من أجل العيش في سلام,لا يتدخلون في شئ ولا يطلبون شيئاً.السلطان ندعو له كل يوم,ولكنني لا أستطيع الدعاء له وهو يحرق البيوت ويقتل الأطفال.أي مسلم يفعل هذا؟وأي عقل يفكر هكذا؟يثني عليه زملائي الشيوخ؛لأنه منع الخمر؟وإذا منعت الخمر ونشرت الفساد والظلم فكيف تحمي ديار المسلمين؟الخمر حرا لأنها تذهب العقل,وأفعل السلطان وأمرائه تذهب عقول أهل مصر يا أمير.إنه يفرض الإتاوات,أين هيبة الأمراء لو أخذوا المال عنوة من التجار؟هذا يذهب ريحهم وزمانهم.

قال الأمير محمد في حسم:أكتفي بسماع هذا يا عبد الكريم,لا تعب في المماليك في حضوري.

-أجنادنا وحكامنا,أنا أعيب في الفاسدين,وطلبت حمايتك.

-أفهم,وأعرف عما تتحدث.

تنفس عبد الكريم في ارتياح ثم قال:وماذا ستفعل؟

قال في وضوح:الدعاء للسلطان واجب,واحترام المماليك فرض,ولكنني لن أتخلي عنك.ألا يكفي أن تعرف هذا؟"

يحذر الأمير محمد الشيخ عبد الكريم من مغبة أقواله التي لابد وصلت إلي مسامع السلطان بيبرس,ويعرض عليه الهرب لكنه يرفض ويواجه مصيره بشجاعة.

في قصر السلطان بيبرس الجاشنكير,نتعرف من خلال الحوار والسرد علي طبيعة الخلاف بينه وبين الناصر,يقول بيبرس للأمير محمد"مقاتلون وجنود حاربنا معاً في مرج الصفر,وانتصرنا علي المغول كما فعل المماليك من قبل وأنا وأنت كنا من خشداشية السلطان قلاوون,تعرف يا محمد.والناصر مهما كان ابن سلطان وليس محارباً ولا جندياً مثلنا,لم يتدرب علي القتال منذ الصغر,ولم يقسم ولاءه لأستاذه مثلي ومثلك,هو من سلالة المماليك,ابن ناس وليس مملوكاً".

تميز الكاتبة علامات شخصية الناصر ونتعرف علي ماهية كلمة"ابن الناس"ذلك المفهوم الملتبس,التي نطلقها علي من نتوسم فيهم التربية الحسنة والأصل الطيب,لكنها اليوم طبقاً للتغيرات الاجتماعية التي أفرزت معان مختلفة للمصطلحات أصبحت تخص أبناء الأثرياء,فهي إحدي الموروثات اللغوية من عصر المماليك,كـ"مرضعة قلاوون"التي تطلق علي المرأة العجوز,فتأمل كيف تكتسب الألفاظ معان ودلالات متغيرة معمرور الزمن!البعض يحسب أن تلك الكلمة أطلقت علي المماليك أنفسهم لأنهم لم يعرف لهم أب ولا أم فنسبوا علي المشاع إلي الناس,بدون تحديد أبوين بالذات,ويتم اللمز بها والطعن في سلاطين المماليك"بعد سنوات حاول المدرسون تدريب ابن السلطان الناصر محمد بن المنصور قلاوون علي الحرب وفنونها,وكسر الناصر محمد قدمه,وصرخ وبكي,ولكنه لم يصبح خادماً,وبدا لمدربيه أنه لا يملك بنية المماليك,ولا قوة بيبرس ومحمد.ولم يستطع الأطباء مداواة قدمه,فأصبح يوصف بالأعرج بقية عمره,بل بالنسبة للماليك كان السلطان الأعرج وكان ابن ناس.

وكان لقب أولاد الناس مقصوراً علي أولاد المماليك,وليس للعامة,وليس للمماليك.فأولاد الناس ولدوا في مصر,ولكنهم ليسوا من العامة.أما المماليك فدائماً يأتون من بلاد بعيدة,ويتم تدريبهم منذ الصغر.المماليك لا يولدون في مصر ولا الشام أبداً.المماليك يخطفهم الجنود من بلاد غير مسلمة,ويتم تدريبهم علي يد أستاذهم,وولاؤهم للأستاذ والدين فقط,لا لبلد ولا عائلة,ولا أموال يرثونها من الآباء,أموالهم يكسبونها بعد انضمامهم للجيوش وهم في خشداشية الأستاذ.وكان السلاطين يفضلون دائماً تدريب المماليك وليس أولاد الناس,فالمملوك محارب,والمحارب لا يمكن أن يكون لديه ذيول,أموال وأشياء يخاف عليها,يأتي من الصغر ويقسم بولائه.وبقي الحال هكذا,المماليك يُخطفون وهم أطفال,ويدرسون الدين والفقه وكل فنون القتال,فيهم من يرتقي إلي أمير,وفيهم من يبقي جندياً,وفيهم من يغتصب الحكم ويصبح سلطاناً."بتلك الفقرة تكثف ريم بسيوني سلسال المماليك,وكينونتهم التاريخية,وتوضح الفرق بين المملوك وابن الناس,ويزداد استيعابنا لفكرة المعتصم لتكوين جيشه الخاص نهم,فهؤلاء لا يكنون الولاء لغير من رباهم وأنعم عليهم,لا تعصب قبلي,ولا مصالح عائلية ولا أموال تربطهم بشخص آخر...المماليك في أيدي السلاطين إنا ناراً تحرقهم أو تنير لهم الدرب.

بالتوازي مع الصراع السلطوي,يحضر صراع آخر علي الجسد بين الأمير محمد وزينب,يفوز به الأمير عقب خطته الناجحة لفتح حصونها,وأعتقد أن هذه اللحظة الحسية التي تشبع بها روح وقلب زينب تعتبر أول خيط الارتباط الوجداني بزوجها,فالجنس ليس كما يهرف من لا يعرف,فيوصف بالدنس وكل تلك الصفات السيئة,بل هو المعراج الروحي نحو المحبة والسلام الداخلي والخارجي,أشبه بطريق المتصوفة للاتحاد مع المحبوب,وليس عجباً أن يساهم في التحام روحين متنافرين,ألا تخبرنا حكايات الكتاب القصصي الأعظم في العالم"ألف ليلة وليلة"عن نساء وقعوا في العشق بعد المواقعة الجنسية,من رجال كن يكرههن كره بنت التاجر للأمير في روايتنا؟!

لغة الصراع بينهما تستعير ألفاظها من المعارك والسيوف وحركات الهجوم والدفاع,وعلي حد قراءاتي في الأدب,لم أقابل شخصية روائية توقعت منها الويل للبطل,ثم وجدها نعمة عليه وعلي القارئ كالأمير محمد,تحكي ريم بسيوني بأسلوب مؤثر عن عذابات وأحلام المماليك في شخص الأمير محمد,نستشف منها سبب ذلك الأسلوب الفظ في الزواج من زينب,فرجل تمت صياغته علي المنوال الآتي لا يفهم في الحياة غير قانون القوة...حتي يغلبه قانون الحب.

"الأمير محمد حكايته في بدايتها تشبه حكايات الكثير من أمراء المماليك,نشأ في بلاد الترك بين خمسة إخوة علي ما يتذكر في قرية صغيرة بين والديه,كانا يعملان معاً في الزراعة,ومرت أيامه الأولي في توقع وفهم.ذهبت به أمه مرة أو مرتين إلي أماكن عبادتم,يتذكر الأضواء والمقاعد الخشبية وبعض الطقوس المبهمة لديانته حينها.وعندما أتم عامه الثامن رأي الأطفال يجرون بكل ما لديهم من طاقة,ونظر حوله وهو لا يفهم سبب الجري ولا الهرب,حتي صاح أخوه الأكبر:اجر بأقصي سرعة وإلا خطفوك.

جري في خوف وقوة لم يكن يظن أنها بداخله,ول يكن يعرف في هذا الوقت أن من يجري أسرع هو من يريده الجنود ويبغون خطفه,تلاشي أخوه من أمامه,واهتزت الأرض,وقلبه علي مسمع منه ينبض,وكأنه وحش يري وقع فريسة ثعبان سام ويعرف نهايته وعمره الضائع.أمسكت به يد قوية,ضغطت علي بطنه,فحاول أن يزيحها ولم يستطع.صرخ وبكي ولا فائدة كان الضوء يهرب من أمامه والجري يفقده توازنه وقدرته علي الفهم والرؤية.أو ربما ظلت تلك اللحظة غير مكتملة في الذاكرة مبتورة كطفولته وقريته وذاكرته وأمه.

لم يتذكر سوي الرحلة الطويلة لبلاد غريبة,ووجوه مختلفة,وقلعة حصينة,وأولاد في عمره يتكلمون لغته ويربتون علي كتفه,وأولاد أكبر سناً يطمئنونه أن الحياة ستبدأ,وأن الأمل لم يزل موجوداً.

قال بين دموعه:أمي؟ستأتي؟

فقال من يكبره بالتركية:انسها,لن تراها من جديد,عادة يولد الإنسان ثم يحسب عمره,أما المماليك فتحسب أعمارهم من لحظة الوصول إلي الأستاذ,وحظك جميل,فأستاذك هو السلطان قلاوون نفسه,ومكانك هنا في الروضة.

بقي الطفل ساكناً لا يتقبل ولا يفهم,ويخطط للهرب السريع,والعودة إلي أراض يعرفها ويبتغيها.نظر حوله يبحث عن مخرج من هذا السجن الكبير,وأمه تلوح في الذاكرة بملابس قديمة,ورائحة دافئة,ويد قوية ممتلئة بالعروق من العمل الشاق.

استمر البحث عن مخرج مفتوح من السجن ولم يجد,ولكنه حاول في يأس,وجري إلي الباب بأقصي سرعة حتي شعر بمن يمسك رقبته في قوة ويصيح:تفعل هذا مرة أخري,أقطع رقبتك أمام الجميع.

استغاث في ألم وكل الأطفال ينظرون إليه في أسي,ثم قال الرجل:لو أطعت أوامري لأصبحت أميرا,ولو خالفتني لقطعت رأسك هنا الآن أمام الجميع,هنا الطاعة تجعلك أمير مئين,لو أردت لكان تحت يدك مئة رجل أو أكثر,وكل أهل مصر رهن إشارتك.

تمتم الطفل:أمي.

قال الرجل وهو يضرب ظهره:لا تتكلم كالنساء!اخترناك لأنك قوي,فلا تجعلنا نندم علي الاختيار ونقرر أن تصبح خادماً وليس مملوكاً,تفهم الفرق؟تريد أن تكون رجلاً أم لا؟الخادم نخصيه,والمملوك يصبح أميراً,وحوله كل النساء الجميلات,ماذا تختار أن تكون رجلاً أم لا؟

قال في خوف:أن أكون رجلاً

-وأميراً؟

-وأميراً.

-تطيع كل الأوامر,وتفهم كل الدروس.

قال في خوف وقد أقسم ألا يحاول الهرب مجدداً أبداً:أفهم كل الدروس.

-أين عائلتك؟

فكر الطفل قليلاً وهو يتخيل سكيناً تقطع رجولته,ثم قال في حسم:أهلي هنا,لا أهل لي سوي هنا.

-أهلك وغايتك السلطان.

ردد في تأكيد :السلطان.

-ولي نعمتك وأستاذك."

ينضم الأمير محمد لحلف السلطان الناصر,ويضع كلمة السر في استمرار المماليك,التي كان تخليهم عنها سبب هلاكهم النهائي في عهد محمد علي"تربينا معاً يا مولاي السلطان,كنت مملوك أبيك وأخاً لك,الإخلاص لابد أن يبقي بين المماليك ليستمروا"

تتحقق نبوءة زينب أن بيبرس لن يقف في وجه عودة السلطان محمد,وبالفعل لم يخرج لقتال الناصر فالتاريخ يحدثنا أنه اعتذر عن الذهاب مع الجيش متحججاً بأنه يكره الفتنة وسفك الدماء,وقصة خروجه من القلعة وهجوم الناس عليه توضح مدي سوء الحالة التي عاشوا فيه تحت سلطته,يتذكر الأمير الآن كلمات زوجته"ولم يصدق أن هذه الفتاة المصرية الصغيرة,تفهم كل السلاطين الأمراء,عقلها أكبر بكثير من عقول كل الرجال الذين عرفهم,لم يكن يحبها ويشتهيها فقط ولكن الاحترام لها كان يزداد بداخله يوماً بعد يوم"

يأتي الفرج علي مصر كلها,ومن ضمنهم الشيخ عبد الكريم,فك الناصر سجنه واحتفلت البلاد بعودة الناصر-سيعود لحبس أقسي وسيموت ميتة بشعة-ويعبر الأمير محمد عن حبه لزينب بتكليف الشيخ عبد الكريم بأن يخط مصحفاً ويرصعه بالذهب ويهب لها وقفاً كما يهب آخر لأولاده وثالث للشيخ عبد الكريم,وبينما بدا كل أبطال الرواية وقد استقروا في حياتهم,يقف يوسف وحيداً...من يتذكر يوسف الآن في خضم كل ما جري,لا يجد الخلاص عند الشيخ عبد الكريم,ولا زينب,ولا في أي مكان,فيقرر الترحال مع ابن بطوطة الرحالة الشهير الذي زار مصر في زمن الناصر,وكدأب المماليك يقتل الأمير محمد بسهم غادر,ويظل السهم يدور قرابة عامين حتي يستقر في قلب زينب فتموت كمداً علي رحيل حبيبها الوحيد,ولم يخل العمر من هموم ولا مصر من المشاكل حتي يجئ هادم اللذات ومفرق الجماعات,وتنتهي قصة الحب التي جعلت أبناء زينب لا يصدقون أن أمهم تزوجت أبيهم غصباً,ويظهر الجيل الثاني المتمثل في السلطان حسن ابن الناصر,ومحمد أصغر أبناء زينب... باني جامع السلطان حسن,الذي أعتبر هوسه ببناء الجامع وسيلة لاستعادة الأبوة والأمومة المفقودة,إذا اعتبرنا أن رمز المئذنة يرمز إلي الذكورة والقبة للأنوثة....يتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق