الاثنين، 15 نوفمبر 2021

إنها تنتظر...وأنا كذلك

 

 

 

يبدو أن الأمر حقيقي هذه المرة...

عشرات التحذيرات أطلقتها ناسا في السنوات الأخيرة عن اصطدام النيازك بكوكب الأرض,ومن فرط تلك التحذيرات لم يعد أحد يأبه,لكن ما يجري في العالم الآن يوضح أن هذه المرة الأمر جدي...لا أعرف هل تنجو مذكراتي من تلك الكارثة لتبقي بعدي أم ستفني,علي العموم بقيت عدة صفحات لا ضير من ملؤها ببعض الكلمات,فعلي أن أؤدي واجبي نحو التاريخ...التاريخ,الحضارة,الفن,المعرفة...ما الذي تمثله تلك المعاني والبشرية علي حافة النهاية؟!

ربما سيغيرون التقويم-في حالة نجا القليل-ليبدأ من العام الأول بعد النيزك,وتصبح حضارتنا كما نعرفها اليوم مجرد ذكري باهتة تلوح في آثار غامضة يختلف في تأويلها العلماء,مثلما يختلفون في زمننا حول تصاوير وكلمات بقيت من حضارات أخري اندثرت مع أنها بلغت من المعارف ما نعجز نحن عن إدراك ماهيتها.

بدأت الكارثة كإشاعات علي الإنترنت,علماء فلك سربوا معلومات عن قرب نهاية العالم عندما يصطدم أبوفيس بالكوكب,ظهر هذا النيزك أول مرة عام2004وحامت حوله التكهنات بأنه ماحي الحياة علي الأرض,الاختلاف الوحيد كان في التوقيت!وسمي أبوفيس نسبة إلي الثعبان الشرير في الأساطير المصرية القديمة,عدو الخير الذي يحاول علي الدوام ابتلاع الشمس وزحزحة العالم نحو الفوضي والظلام.

موعدنا مع النيزك غداَ في خلال 24ساعة,الشوارع مكتظة علي آخرها,من نافذتي أري رجلين أحدهما يبكي وينحني علي قدم الآخر يطلب منه المغفرة,رجل يصفع زوجته بالتأكيد اعترفت له بسر خطير,البنك في العمارة المجاورة مفتوح علي مصراعيه,ولا أحد يدنو منه أري الأموال تتطاير مع الرياح وبالكاد يلحظها الناس,شاب وفتاة تحت العمارة يتبادلان القبل ويبدآن في ممارسة الجنس علناً دون خجل,في هذه اللحظة لابد دور العبادة حول العالم ممتلئة بالمصلين,والبارات تزدحم بالسكاري,والمواخير تفيض بالزبائن,فالكل الآن يظهر علي حقيقته دون مواربة أو خجل,الكثير كان يعربد طوال حياته لكن في داخله يؤمن بالحياة الأخري وله جانب روحاني خفي,هم الآن من يصلون بحرارة,وغيرهم كانوا يترددون علي دور العبادة بشكل يومي لكن حقيقتهم تختلف عما يضمرونه من أمنيات وأفكار مكبوتة,هم الآن رواد البارات والمواخير.

أما عني فقد قررت المكوث في المنزل...لطالما أحببت المنزل ربما لأنه لم يكن لي مكان آخر أذهب إليه,الآن فقط وردت علي بالي تلك الفكرة,فقد عشت حياتي دون أصدقاء حقيقيون أو امرأة دافئة تحرك في داخلي الرغبة بالاندماج في العالم دون قيود,فمهما قسي علي سيكون دواء جراحي في ملاذي الأخير بين ذراعيها...زوجتي صارحتني أنها لم تكن تطيقني وأن لها عشيقاً ستذهب له لقضي آخر أيامها بجواره,ولدهشتي لم يستول علي الغضب أو يهدني الحزن,لقد أصبحت تلك المشاعر من الماضي,لقد طغي علي الجميع شعور واحد,هو أول المشاعر وأقواها عند البشر...الخوف.

.....

هذا هو اليوم الأخير,الفوضي في كل مكان,انقطعت كافة وسائل الإعلام عن العمل ولم يعد أحد يدري ماذا يحدث بالضبط,نزلت من البيت لأشعر لأودع الحياة وألقي علي ماحولي نظرة وداع,لمسات الهواء كانت كافية لإشعاري بجمال الدنيا,كل شئ يبدو جديداً علي,إنني لم أر عصفوراً من قبل,ولا شجرة,ولا بحر ولا زهرة,نظرت لملايين الأشياء لكني لم أرها,لم أكتشف الجمال الكامن في ما حولي إلا بعض فوات الأوان,جلست علي مقعد خشبي وبكيت بمرارة,لم أتوقف إلا عندما سمعت صوت حذاء ذو كعب عال يدق الأرض,ولامست يد حانية كتفي تربت عليه,رفعت رأسي من بين كفي,فوجدت أمامي امرأة تشبه الحلم الجميل وتمنيت لحظتها ألا أصحو أبداً,فاتنة كاللواتي قرأت عنهن ولم أعرفهن,عيناها لهما بريق يهز الأعصاب,يتألقان مع بياض وجهها وملامحها الأنثوية المغوية,جلست بجواري ونظرت حولها,أفصحت عن الخلجات التي تعتمل آثارها علي وجهها الجميل:

-ماذا يجري في الدنيا؟

ظننت أن سؤالها استنكاري,لكن نظرتها الحائرة المستفهمة جعلتني أكتشف أنها لا تعرف حقاً ماذا يجري.

أكملت خجلة:

-لقد كنت محجوزة في مستشفي الأمراض النفسية,وهذا الصباح انفتحت كل الأبواب أخذت حاجياتي وخرجت,ووجدت الناس تتصرف كأن نهاية العالم غداً.

-الحقيقة أنها اليوم...نيزك عملاق سيضرب الأرض.

-وكيف عرفتم بأمر ذلك النيزك؟

-هكذا قال العلماء.

-أولا يمكن أن يكون العلماء مخطئين؟

لم أفكر من قبل في هذه النقطة,لكن منطقها بدا لي قوياً إلي حد ما,لقد قدم العلم للبشرية معجزات كثيرة,وبين كل معجزة وأخري خذلها مرات عديدة,لو كان علمنا مكتملاً لحافظنا علي أنفسنا ضد أي خطر خارجي,لكننا مجرد كائنات تسعي للفهم والمعرفة ومن المستحيل أن تصل إليهما,سر عظمتنا ليس نجاحنا أو خطواتنا السديدة, إنما محاولتنا الدءوبة للفهم والاقتراب من نار الحقيقة الوهاجة,نبوءات هائلة العدد حول نهاية العالم أثبت الزمن كذبها,شعب المايا تنبأ بـ31ديسمبر 2012,والعالمان جون جريبين وستيفن بلاجمان في السبعينيات أصدروا كتاباً بعنوان"تأثير المشتري"حدد نهاية العالم 1982 وأثار الكتاب موجة عارمة من الذعر,ولم يتعظ أحد من الخزي الذي تعرضا له بعد مرور العام بسلا,فوضع خبير علم الأعداد ديفيد ميد كتاب"الكوكب المجهول"زاعماً نهاية العالم في 23سبتمبر2017سيصطدم كوكب خفي لم يرصده العلماء من قبل سيدمر الحياة علي الأرض وسماه"نيبيرو",وعندما كانت العالم ينتظر الألفية الثالثة ظهرت نبوءة تؤكد أن الأول من يناير 2000هو اليوم الموعود,حيث ستتوقف الكمبيوترات في أنحاء العالم عن العمل واستندت الفكرة أن الحواسيب تم برمجتها علي فهم التواريخ بالأرقام والأصفار الثلاثة ستفتح أبواب الجحيم,وعندئذ سيختل عملها فتتحطم الطائرات وستتعطل المفاعلات النويية والأجهزة الطبية,وعقل فذ كإسحق نيوتن يبدو شقه المظلم البعيد عن عالم الفيزياء كما نعرفه,بإيمانه بالغيبيات والسيمياء,فبتحليله للكتاب المقدس علي أساس حسابات فلكية ولغوية فيلعن عام 2060يوم الدينونة...إن العالم فعلاً ينتهي بالنسبة لنا كل يوم,فكل يوم يحمل جديداً ووتتشكل فيه روابط فردية واجتماعية جديدة,ومع كل حرب أو مرض أو كارثة ينتهي الشكل القديم الذي نعرف به الحياة,إن حياتي أنا الشخصية انتهت حوالي أربع مرات,كل عقد من عمري شهد حوادث قضت علي الشخص القديم في داخلي,ربما مبعث هذه النبوءات هي الشعور النفسي بفساد العالم ورغبة الإنسان في التخلص من الشر والفساد,متغافلاً عن وجود الخير,صحيح حالته يرثي له ومتواري بحياء أمام توحش الشرور واستعلان الأذي,بل أن هناك من يفتخر بغرور أنه مؤذ ولا يقدر علي أحد,ويهدد من حوله بشروره,لكنه في النهاية موجود وبفضله مازلنا علي قيد الحياة حتي اليوم.

أخرجتني من أفكاري بقولها:

-قلبي يحدثني أن الأمر كله غير صحيح,عندما ينتهي العالم لن نعرف ذلك أبداً,لن يحذرنا عالم أو رجل دين أو فيلسوف,بل ستجئ الكارثة والكل في حالته الطبيعية,في يوم عادي جداً يكاد الملل يقتل سكان الأرض,والسخط علي الحياة هو مايعبرون عنه وليس الخوف من فقدانها,سيجئ الفناء مبتسماً ولن يستمع حتي لصرخات الضحايا.

-إن نظرتك تبدو لي منطقية.

مرت لحظة صمت تبادلنا فيه النظرات,غرست عينيها في للأرض محرجة وتمتمت بصوت خافت:

-إني أشعر بجوع شديد هل لديك طعام؟

اصطحبتها إلي منزلي وقدمت لها ما وجدته في الثلاجة,وجلست معها,أكلنا بشهية مفتوحة ونحن نتحدث عن تفاصيل تافهة,لكننا كنا في غاية الاستمتاع والتلذذ بالحديث وللحظات نسيت كل ما يخص النيزك, ومن النافذة كانت الشمس توشك علي المغيب,راقبتها بإمعان بدت كهالة تتوج كيان العالم السماوي,هل سأرها مرة أخري؟!وقفت أرقب المشهد في صمت,قامت ووقفت بجواري وأمسكت يدي,أحسست براحتها الناعمة تحتوي قلبي وكياني,انتقل لي تفاؤلها كالعدوي,بدأت أصدق أني سأعيش علي الأقل حتي الغد,وأن الحياة ستستمر,إنها ترقبني الآن بابتسامة مطمئنة وعينين ناعستين وأنا أدون تلك الكلمات,مرض هذه المرأة النفسي قد يكون سببه أنها أكثر العقلاء حكمة أو أشد المجانين خطورة,بشكل ما تلاشي الخوف في داخلي وحل محله حب جارف وأمل متوقد.

إنها تنتظر...وأنا كذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق