الاثنين، 15 نوفمبر 2021

حديث الصباح والمساء

 

"حديث الصباح والمساء"هي المحطة قبل الأخيرة في مسيرة نجيب محفوظ الروائية,بعد ذلك سيليها"قشتمر"آخر ما رواية يقدمها أديب نوبل لقرائه ومحبيه والعارفين بقدره,في روايتنا تلك عبر 67شخصية تمثل خمس أجيال لثلاث عائلات مصرية تربطها القرابة والجيرة والمصاهرة,يكثف محفوظ عالمه الأدبي الفريد المتوزع بين الحيرة الوجودية والتقلبات السياسية العاصفة وقسوة ضربات القدر,ويرتبها جبرياً بحسب الحروف الأبجدية,كأنه يتماهي مع النداء المصري القديم"انهض...فلن تفني...لقد نوديت باسمك...لقد بعثت",فلا المركز الاجتماعي ولا الثراء المادي ولا الأقدمية أو الأهمية في سير الأحداث لهم وزن في ترتيب الظهور في السرد الروائي,أول الأسماء"أحمد محمد إبراهيم"طفل يموت صغيراً,كدلالة علي افتتاح رؤية محفوظ للعالم بموت البراءة والحلم,وذلك ما سيترك أشد الأثر في نفس خاله قاسم"ولكن قلبه لم يبرد.وكلما تذكره بكي.وقيل إن حزنه عليه فاق حزن أمه نفسها..ولم يسل عن حزنه حتي تحطم واقعه وخلق خلقاً جديداً لم يجر لأحد علي بال",والخاتمة تكون مع المؤسس الأول للحكاية كلها"يزيد المصري"القادم من الإسكندرية قبل وصول الحملة الفرنسية بأيام,هرباً من وباء فتاك"امتد به العمر حتي شهد مولد أحفاده رشوانة وعمرو وسرور.وزاره سيدي نجم الدين في المنام وأمره أن يبني قبره بجوار ضريحه فصدع بما أمر,وشيد الحوش الذي دفن فيه,وما زال يستقبل الراحلين من ذريته المنتشرة في أنحاء القاهرة"....بين الطفل الذي لم ينل من الدنيا حظاً سوي سنوات قليلة إلي الرجل الذي عمر حتي رأي أحفاده تتابع الرؤية البانورامية كما سيرها القدر ورواها نجيب محفوظ.

لم يتوقف أديبنا الكبير عن التجديد والابتكار حتي آخر لحظة عبر فيها عما يعتلج في روحه العامرة بالفيوضات الإنسانية العميقة,فصاغ وهو في السبعينيات من عمره شكلاً فنياً صعباً,ليدون رواية أجيال تنتمي إلي نفس أعماله الملحمية الزاخرة بالأفكار والمعاني الكبري,كالحرافيش وأولاد حارتنا والثلاثية,لكنها تتماشي مع الجو الأدبي الجديد الذي شاع في العالم حينئذ,فلم يغرق في الوصف الخارجي ولا أسهب في التفاصيل اليومية مسجلاً أدق الأحداث والخواطر,ليغطي تاريخ مصر الحديث منذ مقدم نابوليون بحملته وابتداء البحث عن الهوية المصرية بعد تلك العاصفة الفكرية والثقافية التي ساقها الغرب إلي مصر الراكدة فكرياً تحت الاستبداد العثماني,حيث خيم علي العالم العربي ظلام معتم في مقابل ازدهار الحياة الفكرية والترف الحضاري والتقدم العلمي في زمن الأنوار الأوروبي,حتي بداية الانفتاح في عهد السادات الذي غير الكثير من التركيبة الاجتماعية والنفسية للشعب المصري,ومع ذلك يقدم ببراعته الفنية المعهودة تلك السنوات الحافلة بالثورات والحروب والتقلبات الحاسمة,مع إنها تجئ في إشارات عابرة إلا أنها تؤثر جذرياً في حياة الشخصيات فالتحول الأساسي في مصير "داود يزيد المصري" الذي جعله من كبار القوم مؤسساً لأسرة مجيدة, وكتب له ولأبناؤه حياة تختلف عن شقيقه عزيز ونسله تجئ كالآتي"وذات يوم والشقيقان يجولان بين الغورية والسكة الجديدة رأيا نفراً من رجال الشرطة,أما عزيز فبإلهام خفي هرب,وأما دواد فقد اعتقله رجال الشرطة وساقوه إلي المجهول.وتحدث الناس إلي بما رأوا,وعرفوا أن الوالي محمد علي يحمل أبناء الناس إلي ما وراء الأسوار ليلقنوا علوماً جديدة,إنه يحبسهم تحت الحراسة حتي لا يفروا من التعليم.وقال عزيز لأبيه:

-لولا العناية لسقطت في أيديهم"

هذا الحدث محمل بمفارقات مصيرية مدهشة لو كتبه محفوظ قبل مرحلته الرمزية,لاستفاض في التحليل والشرح وفاضت الفلسفة من عقله النشيط,لكن الفلسفة هنا تنبع من التأثير الأبدي الذي سيحدده ذلك الحدث فيما بعد.

يكشف محفوظ في خضم تلك الأحداث عن أساس الحياة البشرية عموماً المتمثلة في الميلاد والحب والموت,وللعجب كلها مفروضة علي الإنسان دون حرية اختيار في أي منها,فالشخصيات هنا يحكم سير حياتها قانوني الوراثة والتطور الاجتماعي,كل شخصية تخلقها بيئتها وزمنها في قالب لا فكاك منه,ثم يجئ قانون التغيير-القانون الوحيد الثابت في العالم-فيغير من معالم الشخصية الداخلية,ويفكك البنيان الاجتماعي والسياسي والأسري من حولها ليعيد تشكيلهم من جديد في مسار لا ينتهي أو بالأحري لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد,يحدوها في مسيرتها الزمن بقدراته الجبارة علي الهدم والبناء,وإلي ذلك يشير عنوان الرواية نفسه,فهي الحديث الذي يتخلق عن اختلاف الأيام والفصول والدوران الأرضي الأزلي في مساره المستبد الغير عابئ بأوجاع المتألمين الصارخة ولا ضحكات المنتشين المجلجلة...إنه حديث الصباح والمساء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق