الاثنين، 1 يوليو 2024

دموع علي الطاولة

 

دموع علي الطاولة

 

قبل الظهيرة تخرج أمه بالعباءة السمراء التي لم تتخل عنها حداداً علي والده المتوفي قبل عام،وتصحبه في يدها مودعان لظل البيت الآمن،ثم تستقبلهما أشعة الشمس الملتهبة وصهد الصيف المنبعث من أتون السماء،ويمضيان سوياً في طريقهما نحو الكافيه الذي عينت فيه الأرملة بمبلغ زهيد،كي تنظفه يومياً قبل قدوم الرواد،وتوصيه يومياً:

-يا علي إياك أن تلمس شيئاً،الأشياء هناك غالية جداً يا ولدي وقابلة للكسر بسهولة،ولا يمكنني دفع ثمن أياً منها ولو عملت لسنة كاملة دون أجر.

يهز علي ذو العشر سنوات رأسه ويمسح عرقه المتصبب علي عينيه،ويظل يحدق في ركاب السيارات المكيفة حتي يصلان،وهناك يلتقي مع صديقه أحمد الثلاثيني،ويسلمان علي بعضما بحرارة،ما جمعهما بسرعة وربطهما بقوة،أن أحمد يري في علي ماضيه فقد عاش نفس ظروفه،وبطريقة ما بري علي مستقبله في أحمد،كدح في سبيل أساسيات العيش ولا وقت للراحة.

انشغلت الأم بمسح الأرضية ذات المساحة الشاسعة،وقد أحنت ظهرها وهي تكتم تأوهها من آلام العمود الفقري،وللمرة الألف يري أحمد في عين الطفل توقاً شديداً لركن الألعاب في الكافيه،لم يعد يحتمل تلك النظرة الجائعة،أخذه من يده وتوجها لهناك،فتح الباب الزجاجي ودون أن يشعر أحد انسلا نحو الداخل،حمله أحمد فوق الأرجوحة الصغيرة،ولأول مرة يشعر علي بالسعادة منذ زمن،طالما شاهد الأولاد يلعبون في سعادة غامرة مع آبائهم وهو اليتيم المنبوذ لا حق له إلا في المشاهدة من خلف الزجاج.

عبرت في خاطره الأخضر ذكريات عديدة ذاق فيها طعم الفرح،حينما كان يصحبه أبويه لحديقة الحيوانات،ويشاهدون ثلاثتهم شتي الحيوانات في أقفاصها،ثم يتناولون طعام الغداء ومع حلول المغيب يرجعان إلي بيتهم صغير،في تلك الأيام كانت الشمس أحنّ عليه وكف أمه أنعم بكثير من الآن حين يجري علي خده،وتذكر رفاقه في العمل الذي التحق به ليوم واحد،ولم يعد له لأن الأسطي صفعه حين أوقع من يده دلو الطلاء بعدما كاد يمزق يديه الصغيرتين ثقله الهائل عليهما،وأشفق عليهم لأن أمه رحمته من ذلك الشخص القاسي بينما هم يعانين منه حتي اللحظة ومن صفعاته ولكماته لأهون سبب،إن ما يعزيه قليلاً أنه ليس وحده الذي يحيا في الشقاء،فعند الأسطي أطفال آخرين،وبالتأكيد في هذه الدنيا أطفالاً مثله فقدوا الأب ويعيشون علي حافة الحياة محرومين،تقطر عليهم الدنيا معنوياُ ومادياً،وأمهات من نور الملائكة مثل أمه الشابة دفنوا أحلامهن،وقدموا أرواحهن كل يوم كتضحية لوحوش الحياة كي يطعمن اطفالهن،ورجال كأحمد يتعاطفن مع غيرهم... وهكذا تمضي الحياة.

الآن هو يلعب صحيح في الظلام دون أن يشعر به أحد كاتماً صيحات البهجة،لكنه يشعر أن قلبه يرتوي من نبع الحياة،واستمر يتأرجح ويقفز ويتزحلق ماراً علي العديد من الألعاب حتي نسي نفسه ولم يفق إلا عندما سمع صوت العجوز صاحب المكان وهو يصيح غاضباً لأمر،اعتادوا جميعاً  صياحه المسعور،وهو يذكرهم أنه يدفع مائة ألف جنيه في الشهر الواحد"يعني لابد أن يسير كل شئ كالساعة كي لا تفقدوا جميعاً وظائفكم وتتسولون علي قارعة الطريق"، قفز علي من الأرجوحة واضطرب أحمد وهما يسمعانه يصيح في الأرملة الخائفة"والله إن لم أر وجهي في الحوائط والطاولات ليكونن هذا اليوم آخر يوم لك في هذا المكان،ولتبحثس عمن يرضي أن تعمل معه امرأة مريضة مثلك مثقلة بطفل شقي يصحبها يومياً" لحظات مر بهما العجوز ورأي أحمد يمسح يقف ساكناً أمام ركن الألعاب منشغلاً بتنظيف الزجاج،وعلي يمسح إحدي الطاولات ولم يلحظ أن السائل اللامع في فوطته ليس منظفاً أو ماء،بل دموع قهر وحرمان انسابت علي الطاولة كي تصير لامعة لتستقبل بعد قليل ضحكات وبسمات أطفال ليسوا مثله.

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق