الاثنين، 1 يوليو 2024

دمنهور... حضن الشوارع

 

 

 

دمنهور... حضن الشوارع

 

عشت في مدينة دمنهور ٣٢عاماً منذ ولدت ١٩٩٢،وكلما خرجت منها شعرت بحنين يشدني إلي مسقط رأسي،وتدور في رأسي ذكريات شخصية وتاريخية عن المدينة ينصهرا في وجداني،ليشكلا معاً هويتي ورؤيتي للحياة،فكما نحن أبناء زمننا،أيضاً أبناء لمدننا،كأن المدينة والإنسان يتبادلان البناء بعضيهما،الفرد يبني المدينة ثم ترد المدينة الجميل بتشكيل شخصية الفرد واحتضان ذريته،ومدينتي متجذرة لآلاف السنين علي أرض مصر،فهي الحضن الذي استقبل حورس عندما خبأته أمه إيزيس من عمه ست الشرير،حتي يكبر وينتقم لأبيه،ومن حورس(هور) اتخذت المدينة اسم دمنهور أي مدينة حورس،وفي تلك البقعة التي شهدت انبثاق الحضارة المصرية وتأسيس الوعي العالمي للبشرية،بني فيها القطر الشمالي عاصمته قبل توحيد الملك مينا للقطرين ٣٢٠٠ق.م لتكون من أقدم التجمعات الحضارية في العالم،وما ورد في كتابات مانيتون دليل علي تقدم النظم السياسية والإدارية في دمنهور كعاصمة للشمال في ذلك العهد السحيق،عرفها اليونان باسم هرموبوليس الصغري،وترنم كهنة مصر القديمة في صلواتهم منشدين"يا تحوت ضعني في هرموبوليس... مدينتك التي يحلو العيش فيها"،وفي العصر المسيحي عاد لها اسمها القديم بنطق مختلف قليلاً"تمنهور"،واليوم هي دمنهور التي جري فيها الكثير من الحوادث منذ صراع حورس مع ست،ذكرها أفلاطون في محاورة فايدروس،ووردت في أساطير البطل اليوناني هرقل،بنيت فيها كنيسة الملاك ميخائيل اول كنيسة في مصر علي المذهب الأرثوذوكسي،والشاهد الحجري الباقي علي عصر الاستشهاد،واعتبرت دمنهور مفتاح دخول عمر بن العاص لمصر وفيها بني جامع التوبة ثاني مسجد عمره المؤمنون في القارة الإفريقية،اهتم بالتدوين عنها المؤرخون والرحالة،مثل ابن بطوطة الذي وصفها بأنها"أم مدن البحيرة"،وابن دقماق وتصويره لها بأنها"مدينة قديمة عامرة وبها جامع ومدارس وحمامات وفنادق ذو قياسر وغير ذلك،وهي قاعدة البحيرة وبها مقام نائب الوجه البحري ويطلق عليه ملك الأمراء"وقال علماء الحملة الفرنسية في موسوعتهم وصف مصر"حين قام المؤرخ المقدوني سترابون بمسح ميداني لأهم معالم العالم القديم(دمنهور وبوتو ونقراطيس وسايس)،لم يستطع تحديد المواقع علي وجه الدقة واخطأ في تحديدها جميعاً إلا مدسنة دمنهور،وذلك لاستمرارها وعدم انقطاع الحياة فيها"،في تلك المدينة فتحت عيني لنور الدنيا في إحدي حارات شارع صلاح الدين،سرت في دروبها آلاف الخطوات وامتلأ وجداني بمبانيها وأجوائها فلم أعرف في العالم مكانا اكثر منها،وكلما سافرت ينتابني شوق للعودة،وأشعر براحة نفسية لا تقدر بثمن حين وصولي لأطرافها ولو كنت قادماً من أجمل الأماكن،تبقي أسعد لحظة في السفرية كلها كامنة في دخولي لمدينتي.

يشكل شارع صلاح الدين جزء من منطقة كبيرة تعرف بدمنهور القديمة،تمييزاً لها عن دمنهور الجديدة التي ظهرت مبانيها في العقد الماضي،وتضم البلدة القديمة أحياء عدة مثل أبي عبد الله الذي ولد فيه المطرب كارم محمود،وأبو  الريش حيث يقع مسجد وضريح عطية أبو الريش صاحب المولد المشهور كل عام،وفي ذلك الحي عاش بطل رواية"أنا الشعب"لمحمد فريد أبوحديد،وهي واحدة من أجمل الأعمال الروائية في الأدب العربي،وتمثل جزء من سيرة أبو حديد حين كان يعيش في دمنهور،ومن خلالها نعرف حقيقة تاريخ مصر ودمنهور ومكانتها الصناعية في ذلك الوقت،والصاغة حيث ولد الأديب القهوجي عبد المعطي المسيري في حارة الزرقا هناك، والروضة حيث البيت الذي سكنه الفنان محمود الحديني قبل أن يقتحم عالم الشاشة مع الفنان محمود الجندي ابن مركز ابو المطامير بالبحيرة ،والقلعة والعبارة وغير ذلك من شوارع وأحياء.

أذكر كيف كنت أخرج من منزلي كل صباح بصحبة أمي لأصل لمدرسة المحبة بشارع عرابي أكثر شوارع المدينة زحاماً،ولا تنمحي من عقلي صورة الطرق والحواري الصغيرة والأزقة والمحلات،التي أمر بها في الصباحات الباردة والنوم مسيطر علي والهموم الصغيرة وقتئذ تلتهم قلبي،ومدرسة المحبة مدرسة قبطية تأسست ١٩٠١وهي نفس المدرسة التي درس بها البابا شنودة وكيرلس وتواضروس،وحين كبرت بدأت أستكشف عالمي الصغير،خرجت من الحارة للشارع الرئيسي صلاح الدين،حيث يقع مسجد المرادني الذي أمر ببنائه عام ١٣٠٠ الأمير طنبغاة أحد أهم أمراء السلطان الناصر محمد بن قلاوون من ماله الخاص،وأقامه في نفس مكان خلوة الشيخ محمد المرادني،ويقال أن أعمدة المسجد المصنوعة من الجرانيت تعود إلي العصر الفرعوني وهي من أطلال معبد حورس بدمنهور لكن تم تغطية نقوشها والاستعانة بها في بناء المسجد،جدده محمد علي باشا ١٨٢٤وتطالعني في مشاويري مئذنته الخشبية المبنية علي الطراز العثماني كما طلب الباشا،وكلما رأيتها ونظرت نحو المسجد أشعر أني أعود بالماضي في لمحة واحدة،ويلتهب خيالي بما جري بين بناء المسجد وإقامة المئذنة،وبجوار المرادني يقع مسجد  العارف بالله نقيب الأشراف عبد المتعال الخراشي المبني عام ١٨٨٢، وكان عبد المتعال الخراشي من أهل العلم ومقرباً من قلوب الناس وماتزال ذريته تسكن حول مسجده، ومن نفس السلسال الشيخ محمد الخراشي ابن قرية أبو خراش التابعة لمركز الرحمانية في محافظة البحيرة،المعروف بنصير المظلومين وأول من تولي مشيخة الأزهر الشريف ١٦٠١،وكان هذا الشيخ الشجاع يقف في وجه الظلم ويساند الضعفاء المستنجدين به مما زرعه في الوجدان المصري،فما يزال يتردد علي لسان أهل مصر حتي اليوم وربما للأبد العبارة الشهيرة"يا خراشي"كلما ألمت به أزمة أو سمع بوجود مشكلة كما كان ينادي جدادعم الشيخ الخراشي ليجئ  لنصرتهم علي المفترين عليهم،أو إذا وقعت علي رؤوسهم مصيبة،وحين اتسع عالمي أكثر مع مرور السنوات،بدأت أعي محيط محطة دمنهور،المبنية في عهد الخديوي إسماعيل،ومازالت ذكري تمثال أثري كان موجوداً بجوارها يسكن ذاكرتي،تمثال علي صورة أسد منحوت من الجرانيت الأسواني،وفي ذلك المحيط يقع جامع التوبة وسمي بذلك لأنه كان مقصد المذنبين والعاصين ليتطهروا من آثامهم،وكنيسة البشارة التي تعود لعام ١٨٧٥أول كنيسة للكاثوليك اللاتين في البحيرة،وينتصب وسط ميدان المحطة الإمام المجدد محمد عبده المولود بقرية محلة نصر مركز شبراخيت محافظة البحيرة،وسيستقبل نفس المركز بعد وفاة الشيخ ميلاد المطرب الشعبي محمد عبد المطلب،ويتفرع من ميدان المحطة شارع الخيري السوق ذائع الصيت في البحيرة كلها،العامر بكل ما يحتاجه البيت من مأكل وملبس ومشرب،المزدحم من الفجر حتي حلول الليل بأشتات من البشر القادمين من قري ومراكز البحيرة،و أهل المدينة أنفسهم بمختلف لهجاتهم وخلفياتهم،وتمتزج هناك خليط من الروائح عجيب لتعطي للسوق نفسه رائحة فريدة تثير في القلب الشعور بغموض العالم ولغز الحياة،أليست الحياة سوق كبير؟! وهناك يقع المحل الخاص بوالد المفكر الكبير عبد الوهاب المسيري الدمنهوري الذي تسربت المدينة لدمه وتلافيف مخه،وأطلق علي السوق اسم الخيري تكريماً لمدير البحيرة أحمد خيري باشا،كما كرم عبد السلام الشاذلي الذي شغل أيضاً منصب مدير البحيرة عام ١٩٢٩بإطلاق اسمه علي أهم وأطول شوارع المدينة وأكثرها رقياً الآن،ففي عهده دخلت دمنهور لمرحلة أكثر تطوراً،وستتكرر تجربة تطوير دمنهور والاستفادة من قدرات أبنائها مع وجيه أباظة أول محافظ للبحيرة بعد تحويلها من مديرية لمحافظة في الستينيات، وفي نهاية السوق شارع السوسي المتقاطع مع شارعي صلاح الدين و٢٣يوليو،وفي السوسي جزء من روح دمتهور القديمة وفي رمضان تتجلي تلك الروح وتصفو،ويقبع مسجد العارف بالله علي السوسي هناك منذ ١٦٩٣،وفي ٢٣ يوليو يقع مقهي المسيري التاريخي الذي أسسه الأديب القهوجي عبد المعطي المسيري بداية الثلاثينيات وكان اسمه في ذلك العصر شارع الأميرة فوقية،ومايزال عجائز المدينة يعرفون الشارع بهذا الاسم،ولد عبد المعطي المسيري ١٩٠٩ليكون بمثابة رئيس لجامعة شعبية ومركز ثقافي قل أن يوجد له نظير،وتوضح لنا شهادة  محمود البدوي الحالة التي صنعها مقهي المسيري في الحياة الثقافية"وذهبنا إلي مقهي المسيري وترك عبد المعطي إدارة القهوة لأحد عماله،وجلس معنا يرحب،ويقدم التحيات.. وسرعان ما جاء إلي القهوة أكثر من أديب دمنهوري.. وكانت دمنهور في ذلك الوقت خلية نحل نشطة دون سائر المديريات.. وكانوا جميعاً يتعاونون في صفاء ومودة وإخلاص علي طبع الكتب وإصدارها إحياء للأدب وانتعاشه دوماً"،أما يحيي حقي فيقول عن المدينة والمقهي ورصيفه عبارات حاسمة مكثفة كعادته"ذلك المثقف أو الأديب الذي يفكر في زيارة مدينة التاريخ القديم والتجار  الشطار لكي يتعرف إلي صور الحياة وعادات الناس هناك لابد من أن يجلس علي رصيف مقهي المسيري الذي يمثل ظاهرة مهمة عند أبناء المدينة المثقفين والأدباء والزجالين"،وكتب العميد طه حسين مقدمة كتابه" في القهوة والأدب" والإعجاب بالمسيري يطغي علي كيانه فيرسم له بورتريه ذهني يقرب شخصيته للقراء تحت عنوان" في تنظيم الثقافة المصرية" فيقول" كان ظريفاً ممتعاً هذا الفصل الذي نشرته الوادي مساء الأحد الماضي للكاتب الأديب عبد المعطي المسيري بدمنهور يجادلني فيه حول ما كتبه في نقد الشعراء،وفي ثقافة الأدباء وقرائهم،وأشهد أني قرأت هذا الفصل مرتين،قرأته قبل أن آذن بنشره ثم قرأته الآن قبل أن آخذ في كتابة هذا الفصل،ووجدت في قراءته مرتين لذة قوية،ومتاعاً خصبا.

وأحسست إعجاباً عظيماً بهذا الرجل الذي ثقف نفسه كما استطاع،لم يختلف إلي مدرسة ولم يجلس إلي أستاذ،ولم يستمع من معلم،وإنما تعلم القراءة والكتابة في السوق وأخذ يقرأ مايذاع في العامة من هذا الأدب العامي اليسير،ثم أخذ يرقي شيئاً فشيئاً حتي قرأ الكتاب المصريين المعاصرين ثم الأدباء القدماء من العرب ثم ما نقل إلي العربية من آثار الغربيين،وهو الآن علي كثرة عمله،وثقل أعباء الحياة عليه واتصال جده في سبيل الحياة بضع عشر ساعة لا يستطيع أن يستقبل النهار،ولا أن يستقبل الليل إلا قارئاً كاتباً،وناقدا مفكراً كل هذا خليق بالإعجاب،وكل هذا خليق أن يزيل اليأس من نفوس الذين يشفقون علي هذا الجيل أن يكون حظه من الرقي العقلي ضئيلاً،وكل هذا خليق أن يحملني علي أن أهنئ هذا الكاتب الأديب تهنئة صادقة بهذا الجهد الخصب المتصل،وبهذا التوفيق العظيم الذي أتيح له،علي أن أتمني أن أري كثيرين من بين أهل المدن والقري ينهجون نهجه ويسيرون سيرته وينتهون إلي مثل ما انتهي إليه من الفوز"واستمر العميد يتابع إنتاج عبد المعطي المسيري الذي وصول لـ٦٠٠قصة.

وبلغ أثر المسيري في المفكر الكبير محمود أمين العالم حد قوله" صاحب المقهي الأديب عبد المعطي المسيري استطاع في كتابه في القهوة والأدب الصادر ١٩٣٦أن ينتزع من رأسي فلسفة أفلاطون ومثالياته".

أمر علي المقهي وهو مغلق منذ سنوات،محاطاً بباعة الخضروات والفواكه،قد تجمعوا وفرشوا علي رصيفه التاريخي بضائعهم!ويعتصر الألم قلبي،وأهرب منه بالعودة لماضي المقهي الذهبي واجتماع افذاذ البحيرة ومصر لوضع خريطة لمستقبل الثقافة المصرية،فبداخله كتب توفيق الحكيم مسرحية أهل الكهف،وللمسيري قصة بعنوان" أصحاب الكهف"،يحكي فيها عن علاقته بتوفيق الحكيم مرة ككاتب هائم بين ميشيلينا وبريسكا بطلا مسرحية أهل الكهف،ومرة وهو وكيل نيابة يحقق معه،وأتذكر خيري شلبي ورائعته"وكالة عطية" الرواية التي فصصت دمنهور وأهلها وشوارعها وحواريها،وحين قرأتها لأول مرة أيام الصبا،خيل لي أني سأجد نفسي مذكوراً لفرط صدقها وحرفية تفاصيلها،وربما انتظر خيري شلبي مصيراً مختلفاً تماماً نحو عالم الجريمة بسبب الفقر،لولا المسيري ومقهاه ورواده الذين أحاطوه ورعوا موهبته وشجعوه،لذلك تحتل دمنهور في وجدان خيري شلبي مكانة شامخة أنتجت للرواية المصرية إحدي روائعها وفيها نعرف تاريخ دمنهور وطبيعتها عن طريق حكاية منسوجة بعبقرية لا تخرج إلا من عقل أديب قراري،وفي تصريحاته يذكر فضل عبد المعطي المسيري عليه وتشجيعه له"استقبلني بحفاوة كبيرة جداً،وأوسع لي مكاناً بجواره.. وشجعني بحب شديد وأعطاني الألفة والحميمية فأزال الغربة عني في الدقائق الأولي فكأني أعرفه منذ سنوات بعيدة.. وقد تعمقت صلتي بالأستاذ فعرفت فيه أباً ومعلماً وفيلسوفاً ترتاح له النفس وتطمئن وعرفت في المقهي بيتاً رحيباً آمناً يحتضن أحلامنا ويحولها إلي حقائق"وألمح وجوه لعشرات الاسماء اللامعة كانت من رواد المقهي أو زارته وجلست فيه لرؤية تلك التجربة الرائدة في العمل الثقافي،بداية من أحمد محرم شاعر العروبة مروراً بيحيي حقي ونجيب محفوظ والمفكرأحمد أمين ونظمي لوقا،وأمين يوسف غراب حتي الإذاعي عمر بطيشة والسيد إمام وفاروق جويدة و الفنان عبد العزيز مخيون،وسلسال طويل من أنبغ ابناء الأمة المصرية تلك الأمة التي أنجبت أمثالهم في الماضي،وكلي ثقة أنها ستنجب غيرهم في المستقبل... وستبزغ من دمنهور شمس جديدة في وقت آت قريب.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق