الخميس، 1 أغسطس 2024

التاجر الذي حلم أنه فراشة... كيف تحكم المال في المسرح

 

 

التاجر الذي حلم أنه فراشة... كيف تحكم المال في المسرح؟

الأحلام المثالية في مقتبل العمر خيط نحيل واهٍ ينقطع في بداية احتكاكنا بالحياة العملية،وبعدها نتحول لأشخاص آخرين نقوم بما كنا نشمئز منه،ونفكر فيما كنا نزدريه،وهذا ما جري لي قبل حوالي ٨سنوات،عندما حصلت علي شهادة من إحدي الجامعات،والتعليم في بلادنا مهمته المقدسة منح الشهادات وتوزيع الألقاب ورسم البسمات علي شفاه البعض وسكب الدموع من البعض الآخر،ولا يجب لأي عاقل أن يسأل عن شئ آخر أو يبحث عن فائدة حقيقية للاستتزاف والانتهاك النفسي والمرمطة،سوي أن يصير مختوماً بختم رسمي يصنفه مدي الحياة،ومع ذلك عشقت السباحة في بحور العلم وتولهت في محراب الثقافة،ودفنت رأسي بين صفحات الكتب فلم ألحظ العالم من حولي ابتداء من فترة مراهقتي،وانغمست بصورة كاملة في عوالم الأدب والسينما والمسرح،وعبرت سراديب التاريخ من قاعات القصور،لأكواخ الحفاة الثائرين،المهم كي لا أستسلم لإغراء استعراض مسيرتي الثقافية والأعمال التي اطلعت عليها، يكفي أن أقول أني صنعت عالمي الخاص واهتديت لقيمي والتي تتلخص في مبادئ بسيطة،ومن فرط بداهتها ضاعت في تعقيد الحياة،فالحب هو أساس كل الفضائل،والعمل يعني التقدم والإنتاج ولا أعترف بغير ذلك،والإحسان للغير هو مفتاح الاستقامة،والمال وسيلة.... مجرد وسيلة!!

إنني اليوم أسخر من ذاتي القديمة،وأحترمها في نفس الوقت،وهو نفس شعوري تجاه الفارس الشجاع دون كيشوت دي لامنتشا الذي يتراوح بين السخرية والتبجيل،وأنا أراه يريد فرض قيمه النبيلة في عالم يحكمه الدنس،وأصابني نفس ما جري للفيلسوف الصيني جوانج زي عندما حكي عن حلمه العجائبي"رأيت أنا جوانج زي مرة في منامي إني فراشة ترفرف بجناحيها في هذا المكان أو ذاك،إني فراشة حقاً من جميع الوجوه،ولم أكن أدرك شيئاً أكثر من تتبعي لخيالاتي التي تشعرني بأني فراشة.أما ذاتيتي الإنسانية فلم أكن أدركها قط،ثم استيقظت علي حين غفلة وها أنذا منطرح علي الأرض رجلاً كما كنت،ولست أعرف الآن هل كنت في ذلك الوقت رجلاً يحلم بأنه فراشة،أو إنني فراشة تحلم بأنها رجل"لقد مررت بنفس الصدمة ضمن سلسلة صدمات متتالية في مسيرة حياتي التي أتاملها الآن وقد تخطيت الثلاثين،حين يحل الليل ويكتنفني سكون رهيب كأن العالم تلاشي،فأتحير بشدة وأتوه بين الوهم والواقع!

لقد استيقظت من عالم المثل والأخلاق والتسامي علي المادة التي تجر أقدامنا للأرض،بينما ينبغي لنا أن نهفو بالمعرفة نحو السماء!عندما افتتحت محلاً تجارياً كخيار أخير أيتعد به عن شبح البطالة القادر علي الانتقاص من قيمة الفرد،وإن كنت أعرف أن هناك الكثيرين من الناس لهم مهن اسمية وفي الحقيقة هم ينتمون لأهل البطالة المقنعة،وكما كانت أمي تقول"الناس مالهاش غير المظاهر"،وما كان أبعد ذلك عن خيالي،لقد آمنت دوماً أني خلقت لعالم الفن والإبداع،فإذا برأسي يقع فوقه جبلاً من الأرقام والحسابات،وأنا أصلاً أعاني مشكلات مع الأرقام والحسابات،إحدي العقد الكثيرة التي خرجت منها من مفرمة طحن العقول المعروفة رسمياً باسم" التعليم المدرسي والجامعي"اصابتني علي يد حفنة ممن لا يرتقون أبداً لرسالة التعليم،رجال ونساء شوهوا نفسياً فآلوا علي أنفسهم تشويه الجميع"ومفيش حد أحسن من حد"فأصبحت أزمتي مضاعفة،فلا أنا أجيد مراوغات التجارة ولا رأسي تتقبل ذلك السيل من الأرقام.... وعشت أيام العجب والمناهدة.

في البداية كنت أتحرج من الحديث عن المال والتدخل في الفصال،وأشعر بخجل طفولي شديد،فكيف أجادل مع الزبائن ومعظمهم من النساء والبنات حول المال وأفاصل في عشرة جنيه أو حتي مائة جنيه؟!وحدث لي ذات مرة في في أيامي الاولي من عملي الجديد،أن جاءت لي امرأة مع بنتها وخطيبها،وكانت الأم صغيرة السن إلي درجة يصعب معها تصديق أن تلك الفتاة ابنتها حقاً،وهي امرأة خبيثة أو لو شئت الصدق أنا من كنت خائباً وهي استغلت ذلك فكانت تفاصل باستماتة،حتي إنني شككت في نفسي فقلت متخاذلاً"معلش أصل احنا لسه فاتحين جديد"،ويبدو أني أعطيت لها كلمة السر،فتحولت لسيذة الموقف،وبدا أنها هي من تتصدق علي وتتنازل بالشراء مني،فازدادت وتيرة فصالها وقد كشفت لها عن سذاجتي وقلة درايتي،ولما طلبا منها بخجل زيادة عما دفعته دخلت ابنتها علي الخط،وقالت وكأني مثلاً مجنون فاقد للرشد"الحقي يا ماما ده عايز فلوس تاني"قالتها بسخرية واتهام مبطن وحملا أكياسهما والأم تؤنبني"كده تبقوا غاليين كده!"ولمحت في عين الشاب الذي كان يعمل عندي نظرة امتزج فيها اللوم والغيظ،فقد كان هذا الولد صاحب لسان صيغ ليكون بائعاً جيداً ومن خبرتي المحدودة في مجال البيع أقول أن من يجيد صياغة الكلام وتنميقه وبيعه لأذن وعقل وقلب الزبون يمكنه بيع أي شئ،ولف علي كبريات المحال في المدينة،اللوم سببه أني بعت تقريباً بخسارة،والغيظ لأنه يعتبر نفسه أجدر مني بهذا المكان،سمعته يردد لأحد أصدقه"ياااه نفسي في محل بس،واتفرج عاللي هاعمله"منذ فترة قريبة استأجر محلاً في شارع تجاري يمثل سرة المدينة التجارية،يفوق الشارع الذي أنا فيه بمراحل،ولم ينجح واضطر للتصفية،ومازلت أنا أعمل بصورة مقبولة،فلو كان الشطارة والذكاء هما سببا النجاح لوقع أناس من سابع سما إلي عفونة الطين،ولنهض من الحضيض أناس مختلفين ليرتقوا ذري الثراء ويلمع بريقهم ليغطي علي الكل.

مضت بي السنوات وأنا مازلت لا أقيم للمال وزناً،فأنا مستور وغير متزوج ولي دخل يكفيني،وهذا المشروع إنما فتحته كي أنجو من فراغ البطالة،ومع ذلك كنت مضطراً للفصال والفصال والمزيد من الفصال كل ساعة مع إني حين أشتري أخجل من الفصال،وأقصي ما أقوله"طاب شوف لي آخرها كام"، واعتدت القراءة في المحل،وربما كنت مندمجاً في موقف تاريخي حساس،أو قصيدة ملهمة،أو جالساً بين أبطال ملحمة قديمة،أو أسمع لهمسات وأنات شخصيات روائية،تكتنفني المشاعر النبيلة حتي لا أقوي علي كبح دموعي،وأفكر في الدنيا وطريق الخلاص والحياة الآخرة وأكاد ألمح فكرة تنبت في رأسي،حينها قد تدخل علي امرأة قادمة من السوق لا تمتلك قرشاً في جيبها لكنها غنية بوقت الفراغ،تريد أن تسأل عن كل شئ وتستفسر عن كل سعر،وتحكي لي مشاوريها وصعوبات الحياة وأتعاطف معها فأنا أدري أن الجميع يتألم وأعمل بقول عبد المطلب"يا حاسدين الناس مالكم ومال الناس،ده كل قلب في ألم ولكل واحد كاس"وينتهي الحوار مع هذه السيدة وشبيهاتها بسؤال واحد غريب يتكرر تقريباً بنفس ترتيب الجملة"انتوا بتفتحوا يوم الجمعة؟"فأجيب بالنفي فترتسم علي وجهها آثار الخيبة كأن أيام الأسبوع لا تنفع للشراء مني،وأني الملوم لإغلاقي المحل يوم العطلة الرسمية ولولا أني أمارس تلك العادة السيئة لجاءت واشترت نصف المحل علي الأقل،أو تدخل امرأة وتفاصل في جنيهات معدودة  حتي تنسيني ما كان يجول في خاطري من أفكار ومعان جليلة،ومع كل مرة أتذكر شوبنهاور وانزعاجه الهائل من قرقعة الكرباج في يد الحوذيين ويرثي ساخطاً كم الأفكار والاختراعات التي كانت لتخرج للنور وتفيد البشرية لولا قرقعة الكرباج اللعينة ويطالب بإنزال عقوبة الضرب الفوري علي من يرتكب تلك الجريمة،وأتمني أن أشرح وأورد ما قال شوبنهاور لكني أمسك نفسي عن ذلك لأن موضعه ليس هنا.

مع مرور الزمن والاحتكاك باشواك الحياة أكثر فأكثر،والخروج من شرنقة العالم الوهمي المزدهر في ضميري كيوتوبيا مبتغاة للجنس البشري،إلي لهيب الواقع المبكي وصخرته الأزلية المقامة لتحطيم سفن الأحلام،تغيرت نظرتي كثيراً للمال صحيح أني لم أعبده مع العابدين،فلقد رأيت من يأتمرون بأمره ويقيمون له الشعائر والطقوس ويعلونه علي كل ما في الوجود،ماحدث إني ادركت قيمته المصيرية في حياتي وأكبرت من شأن أبي وكافة الآباء لأنهم يضحون بأعمارهم ومجهودهم وأحلامهم لتوفير الاحتياجات المادية في معركة الحياة،فأنا الذي لا أحمل هم أحد سوي نفسي أصابتني فيها سهام تركت ندوباً لا تمحي،فما هو حال من يحمل في رأسه هم ثلاثة أو أربعة أرواح... يا الله.... ما أثقل مسئولية الأبوة،صدق الرجل المذكور في كتاب "البخلاء"للجاحظ لما قال"لو لم تعرفوا من كرامة الملائكة علي الله إلا أنه لم يبلهم بالنفقة،ولا بقول العيال:هات،لعرفتم حالهم ومنزلتهم".

حين أدركت قيمة المال لم أحرص عليه بل ازداد سخائي وعطفي،فربما مبلغ في حساباتي تافهاً لا أهمية له،ثروة عند غيري ليس في جيبه قرشاً،أو حبلاً ينقذ أسرة من ليلة بائسة يغرز خلالها الجوع أنيابه في أبنائها،ويلتهم أرواحهم قبل أمعائهم،وتراكمت لدي خبرة فأصبحت أميز من بين الزبائن الفتاة التي تحتاج فعلاً لاستكمال جهازها والأخري المعتقذة أن الفصال وبخس الناس أثمان بضائعهم شطارة وجدعنة وشئ يضاف لمميزاتها،وقد لاحظت أن المستور هو من يدفع بسهولة وسماحة ولا يلح في الفصال أو لا يفاصل علي الإطلاق،فأخفض له الثمن عن طيب خاطر،و بعض ذوي الدخول المرتفعة يدفعه الطمع والتمسك بالمال لطلب أي شئ حتي ولو كان أجرة الرجوع للمنزل كأني أنا المسئول عن مواصلاته!ويلح في ذلك وخمسون جنيهاً تطيح بعلاقة لو هددته بالاستيلاء عليها،وفعلاً"الدنيا مابتهونش غير عالغلبان"،ومن أستشعر أنه رقيق الحال فعلاً لا أسعي للكسب منه علي الإطلاق،وإذا لامني أحدهم لتفريطي في المكسب أردد بقلب يعني كل كلمة"مش كل الرزق فلوس،إنك تبقي سبب لمساعدة حد دي لوحدها كفاية،الواحد بياخد النفس ومش عارف هايطلعه تاني ولا لأ"،أحياناً تلوح لي ذكري فتاة زارتني منذ سنوات خجلة هامسة"أنا بتجهز وعايزاك تساعدني بأي حاجة" وإجابتي القاطعة لها"الله يسهل لك"، ولا أدري هل كانت تمثل عليّ أم أن روح التاجر تحكمت في ردة فعلي معها؟!

بسبب الفصال والمناهدة والأيمان التي أقسم بها ويقسم بها غيري،ضاق خلقي وتحرج صدري كثيراً،المضحك أنني كنت  قول قبل أن أبدأ ذلك العمل"أنا مش هاحلف أبداً كفاية كلمتي"!!أبتسم الآن متذكراً الفراشة التي تحلم الآن إنها تاجر،أو التاجر الذي حلم أنه فراشة،والشاب العشريني الذي كان يظن أنه سيقتحم مجال الأدب والفن قبل بلوغه الثلاثين،وسيصير نجيب محفوظ زمانه وتوفيق الحكيم عصره ويحيي حقي جيله،وسيحل كافة مشكلات وهموم الوسط الثقافي،جاهلاً إلي أين تسير خطواته ليصبح تاجراً ذي علاقة غريبة مع المال،ومفرداته حياته"الزبائن،الفواتير،البضاعة،الحساب،الخصم،المرتجع، الفكة،والفلوس،الفلوس،الفلوس"،شاب يحيا مع أغنيات ام كلثوم ويترنح من موسيقي هايدن وباخ وموتسرات،وتدغدغ روحه أنغام فرانز ليست،ويعيش بجوارحه مع حفلات أندريه ريو وكمانه السحري،لا يطيق المهرجانات أو حتي الأغاني الصاخبة،لرجل كلما سمع أغنية"كله بالفلوس"يهتز قلبه ويومئ برأسه موافقاً علي كل كلمة،فلا ينكر ذلك سوي أحمق"عيشة بالفلوس دفنة بالفلوس كله بالفلوس".

لم يقتصر تأثير التجارة علي سلوكي ونظرتي للحياة،الأعمال الأدبية والفنية أيضاً صرت أنظر لها نظرة لها أبعاد أخري،ولنأخذ علي سبيل المثال المسرح لأنه" ما الدنيا إلا مسرح كبير،وما كل الرجال والنساء إلا ممثلون،لهم لحظات يخرجون فيها،يدخلون فيها"،فلاحظت أن المال يحكم المسرح-الدنيا والخشبة-منذ القدم من عهد أريستوفانيس الكاتب اليوناني المولود ٤٤٦ق.م الذي صور حياة شعبه بصدق،حين قدم مسرحية بلوتوس،حين عرض مسرحية"بلوتوس"وبلوتوس هو إله الثروة عند الإغريق،الإله المغضوب عليه من زيوس رب الأرباب فأعماه،فجعله أعمي يوزع الثروة علي الآثمين ويترك الأتقياء يعانون الفقر،تبدأ المسرحية بخريميلوس وعبده كاريون،وهو رجل فقير يقدم نفسه بقوله"لقد كنت علي الدوام رجلاً فاضلاً يرعي للآلهة حقها،ومع ذلك يلازمني الفقر والعوز،بينما ناهبي المعابد وأصحاب الخطب الجوفاء والوشاة يزدادون غني وثراء"،يريد خريميلوس إنقاذ ابنه من مساوئ الفقر فيلجأ كعادة أهل اليونان لكاهنة في معبد أبولو فتنصحه باتباع أول رجل يراه،فيتبع رجلاً عجوزاً كفيفاً محني الظهر،ولم يكن ذلك الرجل سوي بلوتوس يأويه ويعالجه خريميلوس،مقابل منح هباته  وينشر في البلاد أن الغني قد حل عليهم فيبتهج الجميع،حتي تظهر آلهة الفقر ويدور حواراً عن حتمية الفقر في العالم،فمن سيعمل حين يصبح كل الناس أثرياء،يسمعون رنين الذهب صباح مساء،هل سيصبح للذهب نفسه قيمة،وتلك الفكرة طرأت لي قبل قراءة المسرحية وأنا أري انكباب الناس علي المال ومحاولة استخلاصه بكل السبل المشروعة وغير المشروعة،ربما هو أول شئ يفكرون فيه حين اسيقاظهم من أسرتهم،فهو ما يدفع أغني الرجال في العالم للعمل،وهو نفسه ما يحفز غطاس المجاري الذي بفضله تسير الحياة هنيئة،وعمال النظافة حراس الطبيعة كي يقوموا بعملهم،فلو أصبح كل الناس أغنياء سيقضي علي البشرية بالهلاك،فستغيب أعمال عديدة هامة وفي صميم الحياة لن يرضي عن تأديتها أحد،فمن سيغطس في ماسورة الصرف الصحي لو كان لديه خزنة ممتلئة بالمال؟! لكن آلهة الفقر تطرد من المسرح ويعالج بلوتوس،وحين يثري أهل اليونان تذوب في قلوبهم التقوي يمنعون الصلوات والقرابين،غير عابئين بقول آلهة الفقر،بأن الفقر وراء كل عمل علي الأرض وأساس الفضائل،ويسترون في غيهم متجاهلين السماء ومن فيها،حتي أن الإله هرمس يكاد يموت جوعاً فنزل للأرض كي يبحث عن قوت يومه،وتنقلب الحياة البشرية لأنها فقدت التوازن الضروري بين الغني والفقر،حياة بلون واحد تفقد معناها فلولا الحاجة للمال ما كانت في الدنيا حركة ولا مسار ارتقاء حضاري،علي لسان خريميلوس ورد عبارة يستحث بها رب المال وهو يقنعه أنه أفضل من الجميع بل إنه يفوق زيوس نفسه"بالنسبة لك يا إله الثروة لا أحد يكتفي من عطاءك،امنح أحدهم ثلاثة عشر تالنت وسيريد ستة عشر،ضع في جعبته ستة عشر وسيشكو لعدم قدرته علي العيش بذلك المبلغ"سيتردد صداها بعد ذلك في الحديث النبوي عن طمع ابن آدم المتاصل في جبلته"لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان،ولن يملأ فاه إلا التراب،ويتوب الله علي من تاب".

وتبقي شخصية البخيل للأبد مادة خصبة للإبداع،فسنقابل في المسرح اليوناني شخصية يوكيلو بطل مسرحية"جرة الذهب"لبلاوتوس الكاتب الذي لعب المال دوراً أساسياً في حياته،فقد ترك الجندية وأراد احتراف المسرح فلم يلق تشجيعاً،فانضم لقوافل التجار وجمع من التجارة مبلغاً كبيراً،وسعي ليكون من كبار رجال المال والأعمال في روما،لكنه فقد ثروته كلها واضطر وهو في الخامسة والأربعين للاشتغال في أعمال مرهقة كالمعمار وطحن الغلال،ثم اشتري طاحونة يدوية يدور بها في شوارع المدينة ويطحن لربات البيوت،استمر العمل يثقل عليه وهو يتقدم في السن ويضعف جسده،حتي قرر الاشتغال بالتأليف الدرامي،ومن بين كوميدياته التي تتصل بالمال بطريقة أو أخري،يبرز يوكيلو العجوز البخيل الذي يخفي كنزاً،ولأجل ذلك يعيش في قلق دائم ويرتاب في كل شخص،حتي أنه يشتبك مع ديك في صراع لظنه أنه مرسل كي ينبش عن كنزه،وحين يسرق منه الكنز يولول علي روحه التي فاضت مع ضياع جرة الذهب،وقد ضاع عقله وفقد كل معني في الحياة ويكشف عن حقيقة من حقائق المجتمع الروماني وكل المجتمعات في كل عصر"هلكت،انتهيت،قتلت،إلي أين أجري،إلي أين لا أجري،امسك،امسك،من يمسك من؟لا أعرف شيئاً،لا أري شيئاً،صرت أعمي إلي أين أذهب،أين أنا،من أكون؟لا أميز شيئاً مؤكداً في عقلي(يتجه نحو المشاهدين،يوجه حديثه إليهم(أرجوكم ساعدوني،أرجوكم،أتوسل إليكم،دلوني علي ذلك الشخص الذي سرقها،ماذا لم تضحكون؟أعرفكم جميعاً،أعرف أن بينكم لصوصاً كثيرين،من هؤلاء الذين يختبئون خلف الملابس والطباشير{كان الرومان يغسلون ملابسهم بالطباشير،والمقصود هنا أن اللصوص يخفون جرائمهم خلف أقنعة الطهارة}،(يشير لأحد المشاهدين)أنت ماذا تقول؟بالتأكيد سوف أصدقك،فأنا أعرفك شريفاً من ملامحك،ألم يأخذها أحد من هؤلاء؟قتلتوني أخبرني إذن من أخذها؟لا تعرف؟يالشقائي،لقد قضي علي بالشقاء،هلكت هلاكاً مميتاً،وقعت في كارثة مروعة،نحيب بلا حدود وحزن بلا نهاية،جلبهما علي هذا اليوم وجلب علي أيضاً الجوع والفقر.أنا أكثر الناس دماراً علي وجه الأرض،إذ ما قيمة الحياة إذا ما فقدت ذهباً ظللت أحرسه بحرص شديد،خدعت نفسي وقلبي ورغباتي والآن يستمتع الآخرون بشقائي ودماري،لم أعد أطيق ذلك(يخرج مهرولاً وقد سيطر عليه الحزن والجنون)"، نهاية المسرحية مفقودة وقد حاول الكثيرون تكلملتها وأفضل تكملة جاءت علي يد عالم اللغة الإيطالي أوركيو كوردو،وحين يجد الجرة في الختان يقول ليكونيديس زوج ابنته المستقبلي" كنت أعتقد دائماً الرغبة في الذهب هي أسوأ شئ للصبية والرجال ولكل أفراد البشر المسنين إن الفقر يدفع الصبية إلي ارتكاب الحماقات،ويدفع الرجال للسرقة،ويدفع الشيوخ ليصبحوا شحاذين.لكن الأسوأ هو-كما أري الآن-أن يكون لدينا ذهب يفوق حاجتنا الأساسية. وأسفااه! كم من ألوان الشقاء قاساها يوكيلو بسبب هذه الجرة التي كان قد فقدها".

المال عذاب البخيل وسبب شقائه فلا هو استمتع به،ولا ترك غيره يستمتع به،لذلك قد يتمني الابن موت أبيه البخيل كي يستمتع بما حرمه منه و"مال الكنزي للنزهي"كما يقولون.قابلت في مهنتي تلك بخلاء كثر الجنيه أبوهم وأمهم،أغلي عندهم من بناتهم بل من أنفسهم،وقد تري رجلاً يكنز الأموال ويمتلك عدداً من العقارات غالية الثمن،ويلف بالأيام كي يشتري جهاز ابنته بأرخص ثمن ممكن،ويختار لها أسوأ الخامات ليوفر علي جيبه المكتظ بالنقود،والمسكينة تتحايل علي أبيها مرة وعلي مرات لأخفض السعر،وأتذكر أحد الأثرياء كاد يتعارك معي لأنه اقترح سعراً مخفضاً،وحين راجعت الفواتير لأتخلص منه ومن إزعاجه المستمر وافقت،فضرب بقبضته علي المكتب ساخطاً ومغتاظاً"ولو كنت قلت ٩٠٠كنت قلت ماشي ياريتني ماكنت قلت حاجة"،وهكذا يجتمع البخل والطمع وبخس حقوق الآخرين في موقف واحد،وتلك الصفات تشكل قوام شخصية هرباغون أشهر بخيل دب علي المسرح،بل أشهر بخيل ظهر في الأدب كله،منذ ظهوره في مسرحية"البخيل" لموليير،وقد استوحي هذه المسرحية من مسرحية" جرة الذهب"فهرباغون هو الحفيد المباشر والنسخة المعاصرة من يوكيلو أعطاه موليير من روحه وأساليبه المسرحية البليغة،فهو مرتاب في كل شئ،فإذا نبح الكلب ظن أن غريباً اقتحم البيت ليسطو علي ماله،ولما سرقت منه فرانكاته،وسأله مفوض الشرطة عمن يشتبه فيهم أجاب"أتهم جميع الناس وأريد أن تصدر أمراً باعتقال المدينة والضواحي"وحين يجد ماله يلقي مونولوجاً يشبه بصورة كييرة ماقاله جده يوكيلو،ويوصف علي لسان لافليش خادم ابنه كليانت"لم أر في حياتي شراً من هذا العجوز وأظن أن إبليس يسكن في جسده"من فرط بخله وجشعه،وهو مرابٍ يشترط فائدة كبيرة جداً،تسحق عظام كل من يقع تحت ضرسه،وبسوء تفاهم وقف أمامه ابنه كليانت كي يستدين منه دون أن يعلم كليهما في البداية شخصية الآخر،ولم يصغ الابن لنصيحة خادمه الصادقة" وحقك يا سيدي إن الذين يستدينون هم أشقي الناس،ويجب علي من كان مثلك مضطراً إلي الوقوع بين أيدي المرابين أن يقاسي أشياء فظيعة،ويدور بينهما حواراً كاشفة عن آفة الربا المدمرة للفرد والمجتمع،وخطورة الإتجار في النقود وتوليد المال من مال،وهي واحدة من أكبر معاول الهدم في التاريخ،وسبباً من أسباب انهيار الاقتصاد وعولمة الفقر وابتزاز ثروات الغير،حذرت منها الأديان الثلاثة ففي التوراة ورد"وإذا افتقر أخوك وقصرت يده عندك فاعضده غريباً أو مستوطناً فيعيش معك،لا تأخذ منها ربا ولا مرابحة بل اخش إلهك،فضتك لا تعطه بالربا،وطعامك لا تعطه بالمرابحة"وذكر حزقيال صفات الإنسان البار"بذل خبزه لجوعان وكسا العريان ثوباً،ولم يعط بالربا ولم يأخذ مرابحة"وفي إنجيل لوقا سؤال استنكاري"إذا اقرضتم لمن تنتظرون منه المكافأة فأي فضل يعرف لكم؟ولكن افعلوا الخيرات واقرضوا غير منتظرين فائدتها،وإذن يكون ثوابكم جزيلاً"وحرم القرآن الربا في مواضع كثيرة منها"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين،فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون"،نبذ الربا يتفق فيه الاقتصاديون أصحاب الضمير،كجون مينارد كينز صاحب الأثر الكبير علي اقتصاد القرن العشرين،حيت اعتبر الفائدة بمثابة عائد احتكاري يمثل دخلاً غير مكتسب،بجهد ينتزعه الربويون من المجتمع نتيجة لوضع معين،ويضع من يحصلون علي نقود الغير في شكل فوائد في خانة من لا يؤدون وظيفة ضرورية للمجتمع الإنساني، من فرط بشاعة الربا يجعل موليير كل طرف يدين الآخر ويدين نفسه في نفس اللحظة"هرباغون: كيف يا أحمق أأنت الذي يسلك هذا المسلك المجرم؟

كليانت:ماذا يا والدي؟بل أنت الذي يسلك هذا المسلك المعيب.

هرباغون:أأنت الذي يريد أن يهدم نفسه بديون مجرمة؟

كليانت:أأنت الذي يبحث عن الغني من وراء الربا الشائن؟

هرباغون:أتجرؤ بعد أن تظهر أمامي؟

كليانت:أتجرؤ بعد أن تظهر أمام الناس؟

هرباغون:قل لي،ألا تخجل من الإلتجاء إلي هذه الوسائل المنحطة،ومن الانغماس في التبذير المخيف،وتبديد ثروة أهلك التي جنوها بعرق الجباه؟

كليانت:وأنت لا تخجل من تلويث سمعتك بالوسائل التي تلجأ إليها،والتضحية بالشرف لأجل الدرهم في سبيل ثروة تبنيها علي طرق من الإجحاف المعيب لم تخطر في مخيلة أشهر المرابين؟

هرباغون:اخرج من هنا يا أحمق!انخسف عن نظري!انخسف عن نظري!

كليانت:من تراه أشد جرماً،الذي يستدين مالاً هو بحاجة إليه،أم الذي يسرق مالاً لا يفيده؟

وبالنقود يصعد أناس قمة السلم الاجتماعي ويتدحرج من فوقه آخرون،كما جري في"بستان الكرز"آخر مسرحية كتبها الأديب الروسي الخالد أنطون تشيكوف،ورسم من خلالها خريطة لمستقبل الرأسمالية،فلم يكن لوباخين ابن أحد العبيد السابقين الذين كانوا يعملون من قبل عند العائلة المالكة  للبستان،شريراً ولا خبيثاً كما ظن بعض القراء والنقاد،بل رجلاً عصامياً شق طريقه في الحياة حتي اطاح بطبقة النبلاء المتحللة المنهارة بفأسه القوية،ولم تتحمل تلك الطبقة الضربة لأنها متدهورة بسبب عوامل عديدة ليس لوباخين جزء منها علي الإطلاق،فبعدما كان عبداً أصبح هو المالك بنقوده.

إن المال يحكم المسرح ويتحكم في رقاب أبطاله،وما يقال عن المسرح ينطبق دوماً علي الحياة،الماديات هي المعضلة الأبدية فيها الخير والشر، وقلوب الناس في كل زمان تردد مع أمير الصعاليك عروة ابن الورد:

ذريني للغني أسعي فإني   رأيت الناس شرهم الفقير

وأبغضهم وأهونهم عليهم   وإن أمسي له حسب وفير

ويقصيه الندي وتزدريه     حليلته وينهره الصغير

وتلقي ذا الغني وله جلال    يكاد فؤاد صاحبه يطير

قليل ذنبه والذنب جم         ولكن للغني رب غفور

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق