نصف روح معطوبة بقلم: محمود قدري | دنيا الرأي
- كل الأرواح تبحث عن ملجأ يا صديقي,فلا تظن نفسك أنك الوحيد العاري الخائف من الدنيا,ليس قلبك فقط هو من يعاني,لو أطلعت علي قلب أي حي علي الأرض لوجدته.....لوجدته.....أنا لا أعرف لكننا كلنا نعاني,أنا لست مثلك أقرأ في الكتب,وأبحث في الموضوعات.لا أعرف كيف أقول ما أفكر فيه,لكني كل ليلة لابد أن أبكي حتي تتبلل مخدتي,أبللها وأشعر ببللها,ذلك البلل يرطب قلبي المشتعل,لا تقلق يا صاحبي...ودعها لمن خلقها.
لم يستمع صاحبه لنصف ما قاله,هز رأسه موافقاً,ثم تراجع في كرسيه ليسند ظهره رأسه علي الحائط,أشعل سيجارة,ونظر في عينيه,أطال النظر,تأمل في العينين اللتين تتدعيان البكاء الليلي,كانت الدموع تكاد تنزلق علي خديه.
قام من مكانه ودخل حمام المقهي,ثم عاد وأطفأ السيجارة في المطفأة.
-في الستين يشعر الواحد منا باقتراب نهايته,يدنو أجلي وأنا لا أفهم ماذا حدث وإلي أين سأذهب,أنا مسلم وأنت مسيحي,هل سنتقابل في الآخرة,وصاحبنا الملحد الذي غادر اليوم مبكراً هل سنجده هناك,أم أن الأمر كما يقول أننا نموت لنفني ويأتي غيرنا,تلك هي حياة الإنسان,مكان فارغ فوق الأرض يحتله إلي حين البني آدم,ليذهب بعدها لمكان فارغ تحت الأرض....كنت دوماً قلق,لم أعش حياتي أبداً,دفنتها في الكتب والأوراق,وبعد كل تلك السنوات,لم أفهم الكتب ولم أستمتع بالحياة,ربما أعود مرة أخري للدنيا في جسد جديد,أو عند الله سأجد النعيم الذي أبغاه.
قال صاحبه مازحاً:
-نعيم الله لك ونعيم يسوع لي والقبر المظلم لابن الداعرة الملحد
لم يتمالكا نفسهما من الضحك,بينما كانا يفكران,ماذا لو كان الملحد علي حق؟!
في الطريق وحين كانت السيارة تسير ببطء,وهما يتأملان المارة,هؤلاء اللاهثون في الدنيا,اللاعبون في مارثوان قطع الأنفاس اليومي,تعرف واحد منها علي امرأة كهلة كانت يوماً فتاة جميلة,رآها في سيارة تسير بجواره كأنها تريد أن تصافح سيارتهما,كانت تجلس في المقعد الخلفي تداعب شعر شابة صغيرة,تأكد أنها ابنتها من الشبه العجيب بينهما,استدار بجسمه كله لصديقه"عندكم حور عين في جنتكم,لكن هل تعوض حب امرأة كان في الدنيا,حب حقيقي اشتعل له قلبانا وظننا أن يوم الفراق هو يوم الممات,هل تستطيع سبعين من الحور العين أن تنسيك أول دقة حب شعرت بها في قلبك,وأول دفقة مني تسربت من عضوك لفرج محبوبتك,وأنتما ملتحمان كجسد واحد,وشعرها الحريري ينساب علي وجهها المعروق,مغطياً نصف وجهها,لكنك تلمح في عيناها شبه المغمضتين,من اللذة,ذاتك أنت أن تكون ساكناً في عينيها,وهي تتلوي تحتك طالبة المزيد,متمنية أن لا تخرج منها للأبد,أن تحتفظ بك داخلها طوال حياتها,وأنت تغرقها من سوائل اللذة,هل هناك في الدنيا والآخرة,تعويضاً عن الحب,الحب....أجل,الحب,ربما لذلك نفكر في ما بعد الموت,ونحاول فهم الحياة,لأن الحب تلاشي من نفوسنا فأصبحنا فارغين,نريد أن نمتلئ حتي لو كانت الآلام والأحزان هي البديل.
التفت يمينه مرة أخري,وجد الحياة تسير,وضيوفنا من أهل العرب والطرب,ينعمون بالشراب من الزجاجات ومن نهود الصغيرات,في سيارة لم ير مثلها من قبل...في فيلم أمريكي ربما.
افترقا حين نزل بطرس لمنزله,وأكمل علي وحده الطريق.
تعرف ثلاثتهم علي بعض في عام النكسة,خطاهم المتعثر قادهم لمقهي لواحد,علي كان يجلس في الركن القصي يبكي بحرقة بجوار القهوجي,وبطرس ساهماً عند المدخل يتأمل الرائح والغادي,وسالم يدخن نارجيلة عملها لنفسه,ينفث دخانه ويتأمله وهو يخرج من فمه ليندثر...كان ذلك منظرهم لمن يمر عليهم,لكن لا أحد يهتم بثلاثة شباب حين بدأت حياتهم,كانت الهزيمة تنتظرهم,ولم يستشرف أحد أن جيل الهزيمة,ستظل الهزيمة عنوانه ولو انتصر بعد ذلك,لأن الانتصار سيكون بطعم الهزيمة,ولن يسمح لنفسه بالتمادي أكثر من ذلك,سيعقد الصلح ويتعاهد بالسلام الخائف,والأمان المرتعب.
سيتم تعريفهم فيما بعد باسم "جيل النكسة",الجيل الذي فقد نفسه,وكانت هزيمته (نكسة),فلم يتخطاها أبداً,لأنه لم يريد أن يعترف بها.كان سالم أجرأ الثلاثة,وسيصدمهم بإلحاده العصي علي أي كلام,هو لا يؤمن إلا بنفسه,إلهه نفسه,اقترب من بطرس أولاً وجلس إلي جواره,ثم نادي علي علي,وطلب منه الجلوس معهم,كان علي لا تزال ملابسه مبتلة بالدموع,وبطرس لا يعي ما حوله,فقط كان صوت المذيع أحمد سعيد يطن في أذنه بأكاذيبه التي آمن بها,وبكلماته التي كانت واقعاً يعيش فيه,بدأ سالم الحديث:"اليهود في توراتهم هزم جدهم الله وانتزع منه النبوة,والمسلمون ينتظروا آخر الزمان حين ينطق الحجر والشجر ليقتلوا أعدائهم"قاطعه بطرس بهمس أقرب إلي الهمهمة,"أنا مسيحي",استمر سالم يقول وهو يمسح زجاج نظارته بمنديل أخرجه من جيبه,"انهزمنا لأننا عشنا أوهام النصر وأمجاد القوة,قد لا تصدقاني,لكنني كنت أتوقع ذلك,بلد بلا حرية كانت ستنهزم في أقرب فرصة,ولو لم تجد من يهزمها ستهزم نفسها بنفسها"تحدث كثيراً لدرجة أن النقاش بينهم اشتعل لساعات وتواعدوا علي اللقاء غداً,دون أن يعرفوا أسماء بعضهم,اكتشفوا أنهم كانوا يحتاجون بعضهم,عرفوا أنهم سيصيروا أصدقاء إذا استمرت بهم الحياة,التفكير في الغد كان أمر لا يقوي عليه سوي الشجعان,الذين ينتظرونه ليواجهون يوماً آخر من المصيبة,الجيش انسحب,وعبد الناصر يريد أن يتنحي,واليهود في سيناء,والشعب مكسور مرارة الهزيمة انسته أي طعم آخر في الدنيا,لا يوجد سوي جرح عميق وواسع وسع الوطن المهزوم.
هزيمة 67صنعت جيل,والجيل صنع هزائم,والهزائم جعلت من البلد ما هي عليه الآن,وطن يبحث عن أبناءه وأبناء يبحثون عن وطنهم,والكل تائه في زحام الانفتاح.
اشتري علي السيارة التي يقودها الآن,من مال زوجته,ظلت تلح عليه أن يشتري ليرحمها هي وابنتها من الزحام وفظائعه,باعت مصاغها لتسدد ثمن"لادا"صغيرة,وأصر علي أن يكتبها باسمها,فكان يعتبر تلك السيارة عهدة يحافظ عليها مما جعلها عبء مضاف إلي أعباؤه.هل كان يحب فاطمة يوم تزوج منها؟هل يغير منها اليوم لتفوقها الفكري عليه وشهرتها التي أصبحت تتداول اليوم علي صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون؟أيام كان يكتب مذكراته,متخيلاً أنه يكتب شهادته علي زمنه قبل أن يكتشف,أن ما شاهده لا يمكن اعتباره إلا مشاهدة من بعيد فتوقف عن تدوين مذكراته:"بفستان عاري الكتفين,وشعر يسيح علي كتفيها رأيتها أول مرة,كان صالون ثقافي يقام كل شهر,أذكر أنه كان موضوع الشهر عن قصيدة النثر في عالم الحداثة الشعرية,كان الكلام مملاً ويكاد أن يكون معاداً ألف مرة من قبل,كان الناقد الكبير جابر معروف,هو من يتحدث,وكلما ذكر أمل دنقل-كان يذكره فقط ليعرفنا أنه كان صديقه-تحسس كرشه,وتدمع عيناه,ومن الأسئلة التي أبحث له عن إجابة حتي الآن,علاقة الكرش بالمشاعر الحزينة,وهل يحتوي كرش الإنسان علي ما يثيره جنسياً أيضاً,الكرش له آثار جنسية ضارة,فلو كنت صاحب كرش ضخم ستعاني في الإيلاج,كيف تولج بينما أمامك حاجز قد يسد المولج فيه...دعابة,دعابة!!!أحب أن أكون خفيف الظل حتي لو كانوا يقولوا عليّ عكس ذلك.
في منتصف الحديث,ومعروف يشرح ما لا يفهمه هو,كنت قمت واتجهت للباب للخروج,صمتت القاعة كلها,وسدد لي معروف نظرة نارية,شاهدتها من بين دخان سيجارته,شعرت أني أحرجته,وندمت علي قلة ذوقي,لكن لن أجلس ثانية واحدة هنا استمع للهراء الذي يقوله هؤلاء الناس,لقد شرح نجيب سرور الشعر في كلمات بسيطة وكان السلام ختام:"الشعر مش بس شعر لو كان مقفي وصحيح.الشعر لو هز قلبي وقلبك شعر بصحيح".
تجاهلت الكل واتجهت لباب الخروج...خرجت لفاطمة,كما خرج موسي من أرض مصر,خرجت أنا"علي بن ضياء حفيد حنفي"من حياتي السابقة لأولد من جديد في عيني فاطمة,آه لو لم أخرج,آه لو لم أرها,"وآه لو قابلتك من زمان كانت حياتي اتغيرت ولا كان جري كل اللي كان لكن دي قسمة اتغيرت",كما تغني وردة.وهي تصعد السلم عجيب التكوين,تعثرت ووقعت,أنا أعاني مع هذا السلم,يبدو أن أصحاب القصور الملكية كانوا يحملون ولا يصعدون علي أقدامهم,كيف لباشا بكرش! يرتدي طربوشه ويحمل عصاه الأنيقة,أن يصعد سلم دائري الشكل,درجاته "مزفلطة"ومتباعدة عن بعضها,المهم أن هذا السلم له الفضل في زواجي من "طمطم".
"أنتي بخير يا آنسة؟!"
جاء صوتها مكسوراً من صدمة وقوعها أمامي وإحراجها من ساقيها العاريتان,أخبرتها فيما بعد أني أول ما أحببت منها ملابسها الداخلية,المرأة لو كان لباسها الداخلي الذي لا تطلع عليه العيون-عادة-أنيقاً ونظيفاً,فاتبعها حتي آخر خطوة في الطريق,وفاطمة كانت تحمل في يدها رواية الطريق لنجيب محفوظ,إما أنها مثقفة,أو تحاول أن تكون مثقفة,وإما تريد أن تبدو مثقفة,الأكيد أنها حين نظرت إلي ونظرت لوجهها وهمست:
"رجليا..مش قادرة,آه"
كان قلبي يدق دقة لم يدقها من قبل,شعرت أن المتاهة في نهايتها,وأن تلك هي الملهمة التي كنت أبحث عنها طوال حياتي التي لم أنل فيها سوي الكمد والمزيد من الكمد,حتي وطنت نفسي علي الموت مبكراً,ووصيت سالم علي سبيل المداعبة,ألا يحضر جنازتي,هذا الملحد الذي سيجعل غضب الله يحل علي قبري لو وقف أمامه,وطلبت من بطرس أن لا يترك أمي وحدها طوال الطريق من المنزل إلي المدافن,ولدت في عينيها كما قلت,ومنحتني حياة إضافية,كنت أخاف أن يظهر أحد ويتجه نحونا,ويفرض نفسه علي المشهد الذي كنت بطله أمامها,فاستأذنت منها أن تستند علي "براحتها",فهناك صيدلية قريبة,سنتجه إليها للعلاج,كنت أعرف أن الأمر بسيط,لكن دلع المرأة سحرها..."
خيباتنا تلتهمنا حين نكون وحدنا,ولجرجس قلب لا يحتمل خيبة الأمل؛لذلك يفكر في الانتحار أو في الأسوأ..أن يتزوج من تؤنس وحدته,كانت الوحدة من قبل رفيقته وحبيبته,سوياً يصنعان الأحلام,معاً يهبان لكل مكان ويقابلان كل شخص.عشاء فاخر في قصره المطل علي البحر,مع مارلين مونرو,يستحمان سوياً,ثم......آه ما أكثر ما فعل في مارلين وجسد مارلين.
نجاح باهر-لا يعرف في أي شئ بالتحديد-يجعل الجميع يحقد عليه,لكنه كرجل ناجح وقوي لا يستسلم لتلك الأحقاد,أموال ليس لها نهاية,تتدفق عليه من كل اتجاه,وفي كل وقت.كانت لبطرس أحلام تشبه أحلامك,وآمن ببعضها وعمل لتحقيقه,قبل أن تتركه جينا,كخرقة مبللة بمياه المجاري لا يقترب منها أحد من قرفه منها.
لو سألته:ماذا حدث؟لن يجد ما يجيبك به,سيتمتم باقتضاب ساهم:"الدنيا",ثم يستعيد عينا جينا وهي تتابعه من الشباك,راسمة علامة صليب ليحرسه يسوع,تلك أبرز لمحة في علاقاتهما؛لأنه لم يفهم أبداً كيف تعطيه جسدها يعبث به كما يشاء,وهي بكل هذا التدين,"أليس الزنا حرام يا جينا؟"تساءل."الحرمان من الحب حرام أكثر",فهم تلك العبارة حين فقد الحب,ففقد حياته وإيمانه,وقلبه الذي أكسبه فقدانه طبع جعل معظم من يعرفونه ينفرون منه,قلة فقط كانت تعرفه جيداً,فكانت تعذره في غلظته,لو كنت فقدت حبيبتك بدون أن تعرف كيف,ولا تجد سبباً واضحاً,فأنت أيضاً ستعذره....حتي رآها في سيارة مجاورة وهو عائد للمنزل مع علي,فهاج عليه الذكري,والذكري حين تهيج لا تهدأ,ولأشياء عدو تحدث بلا سبب,في الصباح وجده رمزي خادمه وتوأم عمره منذ كانا طفلين,بطرس ابن كامل بيه,ورمزي ابن دميانة الشغالة.وجده رمزي راقداً بجنبه علي الأرض,يحدق في الفراغ,وعلي شفتيه شبح ابتسامة.
دفنه معارفه القلائل...كأنه لم يوجد,نزل في تابوته تحت الأرض,كأنه لم يكن,اختفي عن العيون.الموت يعيدنا لحقيقتنا الوحيدة,أننا لاشئ.لاشئ البتة.
*
كأنه كان ينافسه في شئ لا يعرف ماهيته..شعر سالم بالراحة لموت بطرس,لم يبح بالطبع بتلك الراحة لمخلوق,لكنه في داخله كأنه تخلص من عبء,في الكنيسة كان يرنو لتمثال المسيح مصلوباً,يتأمله وعلي رأسه تاج الشوك فوق جبينه,وذراعاه ممدودتان علي صليبه,علق بصره علي ملامحه,كان المسيح هادئاً مرتاحاً وهو في أشد لحظات عمره,ورغم الألم الظاهري,كانت السكينة تسكن وجهه,:"في ذروة ألمه تخلص من الألم بالألم,عجيب أمر ابن الانسان في كل زمان,يظن ساعات أنه فاهم ومكشوفة له كل الطرق,بصيرته نورها ساطع كاشف للمستقبل,وهو في الحقيقة مضحوك عليه,أوهامه هي الحقيقة الوحيدة في الدنيا,وليته يصدقها فيرتاح,يريد دوماً تغييرها وتبديلها...."
أخرجه من عالمه الداخلي صوت نشيج علي المرتفع,لا يمكن تصديق أن بطرس يموت هكذا,دون أن يخبره أنه سيرحل,دون أن يودعه,يجلسان سوياً يدخنان ويستمعا لأم كلثوم وأديث بياف,ويتحدثان عن السياسة وأخبارها وهما يتحسرا علي حال العرب,لا يمكن أن يرحل دون أن يأخذ منه ميعاد آخر,في أي مكان,المهم أن يتقابلا مرة أخري"كيف سأصل إليه في العالم الآخر؟...كيف؟!"
لم يترك بطرس شيئاً ذا قيمة,لكنه أخذ معه نصف روح علي,وتركه يعيش بالنصف الآخر المعطوب.
- كل الأرواح تبحث عن ملجأ يا صديقي,فلا تظن نفسك أنك الوحيد العاري الخائف من الدنيا,ليس قلبك فقط هو من يعاني,لو أطلعت علي قلب أي حي علي الأرض لوجدته.....لوجدته.....أنا لا أعرف لكننا كلنا نعاني,أنا لست مثلك أقرأ في الكتب,وأبحث في الموضوعات.لا أعرف كيف أقول ما أفكر فيه,لكني كل ليلة لابد أن أبكي حتي تتبلل مخدتي,أبللها وأشعر ببللها,ذلك البلل يرطب قلبي المشتعل,لا تقلق يا صاحبي...ودعها لمن خلقها.
لم يستمع صاحبه لنصف ما قاله,هز رأسه موافقاً,ثم تراجع في كرسيه ليسند ظهره رأسه علي الحائط,أشعل سيجارة,ونظر في عينيه,أطال النظر,تأمل في العينين اللتين تتدعيان البكاء الليلي,كانت الدموع تكاد تنزلق علي خديه.
قام من مكانه ودخل حمام المقهي,ثم عاد وأطفأ السيجارة في المطفأة.
-في الستين يشعر الواحد منا باقتراب نهايته,يدنو أجلي وأنا لا أفهم ماذا حدث وإلي أين سأذهب,أنا مسلم وأنت مسيحي,هل سنتقابل في الآخرة,وصاحبنا الملحد الذي غادر اليوم مبكراً هل سنجده هناك,أم أن الأمر كما يقول أننا نموت لنفني ويأتي غيرنا,تلك هي حياة الإنسان,مكان فارغ فوق الأرض يحتله إلي حين البني آدم,ليذهب بعدها لمكان فارغ تحت الأرض....كنت دوماً قلق,لم أعش حياتي أبداً,دفنتها في الكتب والأوراق,وبعد كل تلك السنوات,لم أفهم الكتب ولم أستمتع بالحياة,ربما أعود مرة أخري للدنيا في جسد جديد,أو عند الله سأجد النعيم الذي أبغاه.
قال صاحبه مازحاً:
-نعيم الله لك ونعيم يسوع لي والقبر المظلم لابن الداعرة الملحد
لم يتمالكا نفسهما من الضحك,بينما كانا يفكران,ماذا لو كان الملحد علي حق؟!
في الطريق وحين كانت السيارة تسير ببطء,وهما يتأملان المارة,هؤلاء اللاهثون في الدنيا,اللاعبون في مارثوان قطع الأنفاس اليومي,تعرف واحد منها علي امرأة كهلة كانت يوماً فتاة جميلة,رآها في سيارة تسير بجواره كأنها تريد أن تصافح سيارتهما,كانت تجلس في المقعد الخلفي تداعب شعر شابة صغيرة,تأكد أنها ابنتها من الشبه العجيب بينهما,استدار بجسمه كله لصديقه"عندكم حور عين في جنتكم,لكن هل تعوض حب امرأة كان في الدنيا,حب حقيقي اشتعل له قلبانا وظننا أن يوم الفراق هو يوم الممات,هل تستطيع سبعين من الحور العين أن تنسيك أول دقة حب شعرت بها في قلبك,وأول دفقة مني تسربت من عضوك لفرج محبوبتك,وأنتما ملتحمان كجسد واحد,وشعرها الحريري ينساب علي وجهها المعروق,مغطياً نصف وجهها,لكنك تلمح في عيناها شبه المغمضتين,من اللذة,ذاتك أنت أن تكون ساكناً في عينيها,وهي تتلوي تحتك طالبة المزيد,متمنية أن لا تخرج منها للأبد,أن تحتفظ بك داخلها طوال حياتها,وأنت تغرقها من سوائل اللذة,هل هناك في الدنيا والآخرة,تعويضاً عن الحب,الحب....أجل,الحب,ربما لذلك نفكر في ما بعد الموت,ونحاول فهم الحياة,لأن الحب تلاشي من نفوسنا فأصبحنا فارغين,نريد أن نمتلئ حتي لو كانت الآلام والأحزان هي البديل.
التفت يمينه مرة أخري,وجد الحياة تسير,وضيوفنا من أهل العرب والطرب,ينعمون بالشراب من الزجاجات ومن نهود الصغيرات,في سيارة لم ير مثلها من قبل...في فيلم أمريكي ربما.
افترقا حين نزل بطرس لمنزله,وأكمل علي وحده الطريق.
تعرف ثلاثتهم علي بعض في عام النكسة,خطاهم المتعثر قادهم لمقهي لواحد,علي كان يجلس في الركن القصي يبكي بحرقة بجوار القهوجي,وبطرس ساهماً عند المدخل يتأمل الرائح والغادي,وسالم يدخن نارجيلة عملها لنفسه,ينفث دخانه ويتأمله وهو يخرج من فمه ليندثر...كان ذلك منظرهم لمن يمر عليهم,لكن لا أحد يهتم بثلاثة شباب حين بدأت حياتهم,كانت الهزيمة تنتظرهم,ولم يستشرف أحد أن جيل الهزيمة,ستظل الهزيمة عنوانه ولو انتصر بعد ذلك,لأن الانتصار سيكون بطعم الهزيمة,ولن يسمح لنفسه بالتمادي أكثر من ذلك,سيعقد الصلح ويتعاهد بالسلام الخائف,والأمان المرتعب.
سيتم تعريفهم فيما بعد باسم "جيل النكسة",الجيل الذي فقد نفسه,وكانت هزيمته (نكسة),فلم يتخطاها أبداً,لأنه لم يريد أن يعترف بها.كان سالم أجرأ الثلاثة,وسيصدمهم بإلحاده العصي علي أي كلام,هو لا يؤمن إلا بنفسه,إلهه نفسه,اقترب من بطرس أولاً وجلس إلي جواره,ثم نادي علي علي,وطلب منه الجلوس معهم,كان علي لا تزال ملابسه مبتلة بالدموع,وبطرس لا يعي ما حوله,فقط كان صوت المذيع أحمد سعيد يطن في أذنه بأكاذيبه التي آمن بها,وبكلماته التي كانت واقعاً يعيش فيه,بدأ سالم الحديث:"اليهود في توراتهم هزم جدهم الله وانتزع منه النبوة,والمسلمون ينتظروا آخر الزمان حين ينطق الحجر والشجر ليقتلوا أعدائهم"قاطعه بطرس بهمس أقرب إلي الهمهمة,"أنا مسيحي",استمر سالم يقول وهو يمسح زجاج نظارته بمنديل أخرجه من جيبه,"انهزمنا لأننا عشنا أوهام النصر وأمجاد القوة,قد لا تصدقاني,لكنني كنت أتوقع ذلك,بلد بلا حرية كانت ستنهزم في أقرب فرصة,ولو لم تجد من يهزمها ستهزم نفسها بنفسها"تحدث كثيراً لدرجة أن النقاش بينهم اشتعل لساعات وتواعدوا علي اللقاء غداً,دون أن يعرفوا أسماء بعضهم,اكتشفوا أنهم كانوا يحتاجون بعضهم,عرفوا أنهم سيصيروا أصدقاء إذا استمرت بهم الحياة,التفكير في الغد كان أمر لا يقوي عليه سوي الشجعان,الذين ينتظرونه ليواجهون يوماً آخر من المصيبة,الجيش انسحب,وعبد الناصر يريد أن يتنحي,واليهود في سيناء,والشعب مكسور مرارة الهزيمة انسته أي طعم آخر في الدنيا,لا يوجد سوي جرح عميق وواسع وسع الوطن المهزوم.
هزيمة 67صنعت جيل,والجيل صنع هزائم,والهزائم جعلت من البلد ما هي عليه الآن,وطن يبحث عن أبناءه وأبناء يبحثون عن وطنهم,والكل تائه في زحام الانفتاح.
اشتري علي السيارة التي يقودها الآن,من مال زوجته,ظلت تلح عليه أن يشتري ليرحمها هي وابنتها من الزحام وفظائعه,باعت مصاغها لتسدد ثمن"لادا"صغيرة,وأصر علي أن يكتبها باسمها,فكان يعتبر تلك السيارة عهدة يحافظ عليها مما جعلها عبء مضاف إلي أعباؤه.هل كان يحب فاطمة يوم تزوج منها؟هل يغير منها اليوم لتفوقها الفكري عليه وشهرتها التي أصبحت تتداول اليوم علي صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون؟أيام كان يكتب مذكراته,متخيلاً أنه يكتب شهادته علي زمنه قبل أن يكتشف,أن ما شاهده لا يمكن اعتباره إلا مشاهدة من بعيد فتوقف عن تدوين مذكراته:"بفستان عاري الكتفين,وشعر يسيح علي كتفيها رأيتها أول مرة,كان صالون ثقافي يقام كل شهر,أذكر أنه كان موضوع الشهر عن قصيدة النثر في عالم الحداثة الشعرية,كان الكلام مملاً ويكاد أن يكون معاداً ألف مرة من قبل,كان الناقد الكبير جابر معروف,هو من يتحدث,وكلما ذكر أمل دنقل-كان يذكره فقط ليعرفنا أنه كان صديقه-تحسس كرشه,وتدمع عيناه,ومن الأسئلة التي أبحث له عن إجابة حتي الآن,علاقة الكرش بالمشاعر الحزينة,وهل يحتوي كرش الإنسان علي ما يثيره جنسياً أيضاً,الكرش له آثار جنسية ضارة,فلو كنت صاحب كرش ضخم ستعاني في الإيلاج,كيف تولج بينما أمامك حاجز قد يسد المولج فيه...دعابة,دعابة!!!أحب أن أكون خفيف الظل حتي لو كانوا يقولوا عليّ عكس ذلك.
في منتصف الحديث,ومعروف يشرح ما لا يفهمه هو,كنت قمت واتجهت للباب للخروج,صمتت القاعة كلها,وسدد لي معروف نظرة نارية,شاهدتها من بين دخان سيجارته,شعرت أني أحرجته,وندمت علي قلة ذوقي,لكن لن أجلس ثانية واحدة هنا استمع للهراء الذي يقوله هؤلاء الناس,لقد شرح نجيب سرور الشعر في كلمات بسيطة وكان السلام ختام:"الشعر مش بس شعر لو كان مقفي وصحيح.الشعر لو هز قلبي وقلبك شعر بصحيح".
تجاهلت الكل واتجهت لباب الخروج...خرجت لفاطمة,كما خرج موسي من أرض مصر,خرجت أنا"علي بن ضياء حفيد حنفي"من حياتي السابقة لأولد من جديد في عيني فاطمة,آه لو لم أخرج,آه لو لم أرها,"وآه لو قابلتك من زمان كانت حياتي اتغيرت ولا كان جري كل اللي كان لكن دي قسمة اتغيرت",كما تغني وردة.وهي تصعد السلم عجيب التكوين,تعثرت ووقعت,أنا أعاني مع هذا السلم,يبدو أن أصحاب القصور الملكية كانوا يحملون ولا يصعدون علي أقدامهم,كيف لباشا بكرش! يرتدي طربوشه ويحمل عصاه الأنيقة,أن يصعد سلم دائري الشكل,درجاته "مزفلطة"ومتباعدة عن بعضها,المهم أن هذا السلم له الفضل في زواجي من "طمطم".
"أنتي بخير يا آنسة؟!"
جاء صوتها مكسوراً من صدمة وقوعها أمامي وإحراجها من ساقيها العاريتان,أخبرتها فيما بعد أني أول ما أحببت منها ملابسها الداخلية,المرأة لو كان لباسها الداخلي الذي لا تطلع عليه العيون-عادة-أنيقاً ونظيفاً,فاتبعها حتي آخر خطوة في الطريق,وفاطمة كانت تحمل في يدها رواية الطريق لنجيب محفوظ,إما أنها مثقفة,أو تحاول أن تكون مثقفة,وإما تريد أن تبدو مثقفة,الأكيد أنها حين نظرت إلي ونظرت لوجهها وهمست:
"رجليا..مش قادرة,آه"
كان قلبي يدق دقة لم يدقها من قبل,شعرت أن المتاهة في نهايتها,وأن تلك هي الملهمة التي كنت أبحث عنها طوال حياتي التي لم أنل فيها سوي الكمد والمزيد من الكمد,حتي وطنت نفسي علي الموت مبكراً,ووصيت سالم علي سبيل المداعبة,ألا يحضر جنازتي,هذا الملحد الذي سيجعل غضب الله يحل علي قبري لو وقف أمامه,وطلبت من بطرس أن لا يترك أمي وحدها طوال الطريق من المنزل إلي المدافن,ولدت في عينيها كما قلت,ومنحتني حياة إضافية,كنت أخاف أن يظهر أحد ويتجه نحونا,ويفرض نفسه علي المشهد الذي كنت بطله أمامها,فاستأذنت منها أن تستند علي "براحتها",فهناك صيدلية قريبة,سنتجه إليها للعلاج,كنت أعرف أن الأمر بسيط,لكن دلع المرأة سحرها..."
خيباتنا تلتهمنا حين نكون وحدنا,ولجرجس قلب لا يحتمل خيبة الأمل؛لذلك يفكر في الانتحار أو في الأسوأ..أن يتزوج من تؤنس وحدته,كانت الوحدة من قبل رفيقته وحبيبته,سوياً يصنعان الأحلام,معاً يهبان لكل مكان ويقابلان كل شخص.عشاء فاخر في قصره المطل علي البحر,مع مارلين مونرو,يستحمان سوياً,ثم......آه ما أكثر ما فعل في مارلين وجسد مارلين.
نجاح باهر-لا يعرف في أي شئ بالتحديد-يجعل الجميع يحقد عليه,لكنه كرجل ناجح وقوي لا يستسلم لتلك الأحقاد,أموال ليس لها نهاية,تتدفق عليه من كل اتجاه,وفي كل وقت.كانت لبطرس أحلام تشبه أحلامك,وآمن ببعضها وعمل لتحقيقه,قبل أن تتركه جينا,كخرقة مبللة بمياه المجاري لا يقترب منها أحد من قرفه منها.
لو سألته:ماذا حدث؟لن يجد ما يجيبك به,سيتمتم باقتضاب ساهم:"الدنيا",ثم يستعيد عينا جينا وهي تتابعه من الشباك,راسمة علامة صليب ليحرسه يسوع,تلك أبرز لمحة في علاقاتهما؛لأنه لم يفهم أبداً كيف تعطيه جسدها يعبث به كما يشاء,وهي بكل هذا التدين,"أليس الزنا حرام يا جينا؟"تساءل."الحرمان من الحب حرام أكثر",فهم تلك العبارة حين فقد الحب,ففقد حياته وإيمانه,وقلبه الذي أكسبه فقدانه طبع جعل معظم من يعرفونه ينفرون منه,قلة فقط كانت تعرفه جيداً,فكانت تعذره في غلظته,لو كنت فقدت حبيبتك بدون أن تعرف كيف,ولا تجد سبباً واضحاً,فأنت أيضاً ستعذره....حتي رآها في سيارة مجاورة وهو عائد للمنزل مع علي,فهاج عليه الذكري,والذكري حين تهيج لا تهدأ,ولأشياء عدو تحدث بلا سبب,في الصباح وجده رمزي خادمه وتوأم عمره منذ كانا طفلين,بطرس ابن كامل بيه,ورمزي ابن دميانة الشغالة.وجده رمزي راقداً بجنبه علي الأرض,يحدق في الفراغ,وعلي شفتيه شبح ابتسامة.
دفنه معارفه القلائل...كأنه لم يوجد,نزل في تابوته تحت الأرض,كأنه لم يكن,اختفي عن العيون.الموت يعيدنا لحقيقتنا الوحيدة,أننا لاشئ.لاشئ البتة.
*
كأنه كان ينافسه في شئ لا يعرف ماهيته..شعر سالم بالراحة لموت بطرس,لم يبح بالطبع بتلك الراحة لمخلوق,لكنه في داخله كأنه تخلص من عبء,في الكنيسة كان يرنو لتمثال المسيح مصلوباً,يتأمله وعلي رأسه تاج الشوك فوق جبينه,وذراعاه ممدودتان علي صليبه,علق بصره علي ملامحه,كان المسيح هادئاً مرتاحاً وهو في أشد لحظات عمره,ورغم الألم الظاهري,كانت السكينة تسكن وجهه,:"في ذروة ألمه تخلص من الألم بالألم,عجيب أمر ابن الانسان في كل زمان,يظن ساعات أنه فاهم ومكشوفة له كل الطرق,بصيرته نورها ساطع كاشف للمستقبل,وهو في الحقيقة مضحوك عليه,أوهامه هي الحقيقة الوحيدة في الدنيا,وليته يصدقها فيرتاح,يريد دوماً تغييرها وتبديلها...."
أخرجه من عالمه الداخلي صوت نشيج علي المرتفع,لا يمكن تصديق أن بطرس يموت هكذا,دون أن يخبره أنه سيرحل,دون أن يودعه,يجلسان سوياً يدخنان ويستمعا لأم كلثوم وأديث بياف,ويتحدثان عن السياسة وأخبارها وهما يتحسرا علي حال العرب,لا يمكن أن يرحل دون أن يأخذ منه ميعاد آخر,في أي مكان,المهم أن يتقابلا مرة أخري"كيف سأصل إليه في العالم الآخر؟...كيف؟!"
لم يترك بطرس شيئاً ذا قيمة,لكنه أخذ معه نصف روح علي,وتركه يعيش بالنصف الآخر المعطوب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق