الاثنين، 9 يوليو 2018

"أصوات"سليمان فياض


"أصوات"سليمان فياض



تجسدت وصية الأديب الروسي العظيم أنطون تشيكوف في الإيجاز والحذف,في جمل سليمان فياض المركزة ذات الدلالات المتعددة,فعبر ما يقرب من مائة وعشرين صفحة يطلق سليمان الحكيم-كما كان يُلقب-سهمه في قلب عيوب الشخصية المصرية وأسباب تخلفها,التي استفحلت الآن وأصبحت أثقال تنوء بها البلاد,بروايته التي استلهمها عن قصة حقيقية حدثت في الريف المصري,فأعمل فيها موهبته وخياله وأنتج للأدب المصري واحدة من روائع الأعمال التي ناقشت جدلية الصراع بين الشرق والغرب,ومن خلالها يؤكد مقولة الشاعر الإنجليزي "كبلنج":"الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا"...للأسف تتأكد هذه المقولة يومياً!
بأسلوب مقطر من صفاء اللغة وينبعث منه عطر الموهبة  يحكي سليمان عن  قرية الدروايش(لاحظ دلالة الاسم)التي ترمز لمصر كلها,يبدأ الرواية بصوت المأمور وهو يسرد بدايات الحدث عن حامد وزوجته سيمون الفرنسية وعودتهما من الخارج,من الصفحة الأولي تكتشف أنك أمام روائي من درجة رفيعة,من طينة هؤلاء السحرة الذين يسلبونك الشعور بالزمان والمكان ويخطفونك لعوالمهم البعيدة في سماوات الفن,وينهيها بالمأمور مرة أخري كممثل للسلطة التي بين يديها تدور الأحداث وهو يسأل الطبيب رمز الوعي التائه أو الغياب الذي للأسف يمثل الوعي"الذي يعرف الموت معرفته بالحياة,قلت  له هامسا:
-قل لي ....ماسبب الموت الحقيقي؟
كان الطبيب شارداً,فقال باضطراب,والدهشة مرتسمة علي وجهه:
-نعم.آه...موتنا,أم موتها."
وبين البرقية الممهدة للعودة وهذه النهاية الأليمة لمقتل سيمون,يغوص فياض في عالم القرية المصرية,الحجر الرئيسي في بناء الوطن,التي كلما أهملناها تفاقمت مشكلات مصر وجفت منابع النوابغ والمبدعين وتهاوت آمال التقدم.
والأصوات متعددة في هذه الرواية سمعناها كلها إلا صوت سيمون؛لأنها هي "الآخر"في الرواية التي تمحورت حولها(أنا)كل الشخصيات,المجتمعة حول المجهول الغريب,هي الغرب بعلمه وتقدمه وعنفوان شبابه ,ونحن...من نحن؟أخشي أن أقلو أننا نتلخص في عالم الرواية في كتيبة الإعدام من النساء اللواتي تحفزن حين رأين شعر إبط سيمون الطويل فقررن تطهيرها وختانها!!!للأسف هذه العقلية التي كشفها فياض في السبعينيات,هي اليوم مركز الثقل والجاذبية التي تدور في فلكها الحياة اليومية  المصرية,حتي رؤيتهم للأجنبي هي هي لم تتغير,لا نلاحظ منه إلا الظاهر:ماذا يلبس كيف يأكل وما هي سلوكياته الشخصية؟وإذا ما خالفت ما وجدوا عليهم آبائهم أصبح هو السائر في الضلال!!!وليس أمامه إلا أن أن يصبح شبيههم أو لا مكان بينهم,وهذه هي بوادر التطرف والتعصب التي نمت في الشخصية المصرية وليست مقصورة فقط علي المصابين بالعصاب الدين والهوس بوهم  الأفضلية علي سائر الخلق,بل المواطن العادي هو أول من يمارس التمييز والتعصب ضد المرأة مثلاً أو المختلف معه في الدين أوالرأي السياسي ثم يكون هو أول ضحايا هذا التعصب وهو ما يظهر في شخصية المجرمة نفيسة وشريكاتها في جريمة الختان.
حتي محاولات من أرادوا محاكاة سيمون جاءت مضحكة فهم يبحثون عن "الشوكة"ليأكلوا بها مثلها ويراقبون طريقتها في الأكل ليفعلوا مثلها..المظاهر...المظاهر...المظاهر القاتلة هي من جنت علي سيمون وعلينا نحن أيضاً,مأساتنا" لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية"
بعيون الغريب وهو ليس دوماً أعمي ولو كان بصيراً كما يقول المثل,تتساءل سيمون عن سوء حال قرية الدراويش"لماذا يبدو المرض علي وجوه الناس؟لماذا يزرع الناس بدون ماكينات؟لماذا يمشي الأطفال حفاة؟
إن اسئلتها تقتلني وكنت أقول لنفسي:
"هذه هي بلادي.وهؤلاء هم قومي"
هكذا كانت إجابة زوجها حامد,أما محمود بن المنسي الذي يتقن لغتها ويحلم بالسفر إلي باريس؛للحصول علي الشهادات الحقيقية والعلم المنهجي بعيداً عن السبهللة  عندها حين  سألته:"لماذا لا تستخدمون الآلات في مزارعكم؟
فأجبتها بما استطعت عن الجهل,وكثرة السكان,وقلة رأس المال والاستعما الإنجليزي.
فعادت تعبر لي عن أسفها وتعتذر حين رأتني منفعلاً بما أقول,وكأنها هي السبب في كل ما حدث,وكأنها نكأت في قلبي جراحاً,قديمة ومنسية"
لم يحاول أحدهما وهما يمثلان المثقفين من الدروايش!-يالمفارقة الجملة-أن يبحث عن إجابة علمية صادقة لما طرحته من أسئلة وهكذا بصورة ما يشاركان فيقتل سيمون,فعلي عاتقهما تقع مهمة البحث والسعي نحو الارتقاء ولكن عجزهما الفاضح وقلة حيلتهما أما أسئلة سيمون,تفضح القدرة الحقيقية لمن نضمهم لفئة المتعلمين وهم في حقيقة الأمر لا يزيدون كثيراً عن غيرهم من العوام,وبهذا العجز أو الإهمال أو أيا كان ما تسميه يفتح حامد ومحمود الباب لنفيسة وزينب وأم أحمد وبقية العصابة في خاتمة الرواية التي صيغت بطريقة وحشية أجبرتني علي إغماض عيني وعلامات الألم مرسومة علي وجهي من البشاعة التي لاقتها سيمون علي أيديهن وهن يرتكبن جريمة الختان وفي دواخلهن الغيرة والحقد وربما الرغبة في الانتقام لأنوثتهن الضائعة بنفس الطريقة الهمجية.