الأربعاء، 24 يوليو 2019

لقاء بعد انتظار


1
لقاء بعد انتظار
بانت له صورتها الباهرة عند حلقة السمك,تسير بوداعة ,مرتدية بلوزة وردية وبنطال أسود,وطرحتها المرخاة فوق رأسها يتدلي طرفاها فوق كتفيها,بريئة الملامح ريانة الجسد,ذات عينان تطلان علي الكون في سكون حالم,غير عابئة بالأوباش حولها,ولا ملتفتة لنظراتهم الوقحة من خلفها متفحصة جسدها العامر في إقباله وإدباره, رغم هذا تشعر بالأمان وسط أهل شارعها,فذاك أقصي ما يمكن أشقاهم فعله معها,من يتجرأ علي مضايقتها يتكفل به آخر يزجره,فالكل ضمن شارع صلاح الدين يعرف الكل ولا يتصورون أن منهم من يعتدي علي عرض جاره, تخرج النساء بملابس البيت في الشرفات  وقد بدا منهن الأذرع والنحور وربما جيوب النهود؛لتنظيفها أو نشر الملابس أو مناداة أولادهم, لو تجرأ أحد الصبية فضحك أو أشار لهن,ينهره أول من يسمعه,ولا يرفع رأسه لهن مرة ثانية.
مرة واحدة فقط ارتج عليها من عابر غريب قابلها علي دراجته,لما مر في مواجهتها تماماً نظر لها مباشرة وبصوت عال قال"آه...يا بخته عالسرير".
قليلة المعارف(في نفسها)خرجت من الدنيا بصديقة واحدة,عرفا بعضهما منذ الابتدائية والتحقا سوياً,بكلية الآداب قسم التاريخ,و خلال كل هذه المراحل ذاقا سوياً مرارة نظام التعليم العلقمي,كارثي النتائج معدوم الإنجازات,ظلت تحرث في بحر بحثاً عن المعرفة,فوجدت أكداساً من القمامة تتسرب رائحتها الكريهة فتزكم حياتها,وحياة الآخرين, النتيجة العفن المنتشر بجسد المجتمع,أُجبرت علي كل ما في حياتها,فقط لتستمر جزء من هذا الجسد الكسيح,تنعي إرادتها العاجزة لخلع الحجاب أحد أخطر نجاحات المتطرفين, العادة المدسوسة علي مصر,للتفريق بين سكان البيت الواحد,ورفع راية اتجاه مسموم يطلق سهماً ضد كل نتاج حضاري, كلما بحثت عن أصله تضاءل الوهم في عقلها الذي يتسع بمجهوداتها الذاتية,للسفر للخارج لتري ما يفكر فيه ويؤسس له العالم المتقدم لحصاده مستقبلاً في العلوم والفكر وأصول الحضارة,لتعود لدمنهور مدينة حورس المتأصلة في جذور التاريخ المتبنية لأول الثقافة الإنسانية,الفواحة بعبير التراث الكامن بنواحيها, قد تكتشف أصل الداء وتجد له حلاً,وكما بدأ منها نور(تحوت-هرمس مثلث العظمة)لينشر المعرفة والحكمة في الدنيا,تبدأ الحياة دورتها الجديدة مرة أخري,من بلاد أُرسيت أوتادها منذ الأزل ولن يُزعزع عمادها العواصف مهما زمجرت...فرصة أخري...فرصة أخيرة!
جالساً علي الرصيف يدخن في أسي, يري ابنته الكبري ووردة عمره قد ازدهرت, ,طرأ علي باله موضوع زواجها المرتقب,فهاله المبلغ الذي سيتكلفه لو قنع بأقل القليل,الأسعار تقطم الرقاب, عاد من العراق عقب الغزو الأمريكي لا يملك إلا الشقة المبنية من شقاه ومبلغ نشف في شقوق الطلبات, وحكايات عن ستر الله معه ونجاته من جحيم النيران,يختم حديثه"صاروخ كل أربع دقائق صوته يفتت الكبد,ينزل كيفما ينزل,يهزم الأرواح قبل أن تفكر العقول في المواجهة,انقطعت كل سبل الحياة,والحمد لله نجانا الله وعدنا"عمل بالأسبوعية مع أحد أغنياء المنطقة في محل بقالة كبير تحت منزله,و كلما انفرد بنفسه يتذكر محسوراً تلك الأيام التي مد فيها العراق بعرقه فأمده بأموال كفلت للبنات الأربع الحياة المريحة,وعوضته عن عذاب الغربة بهذه الأمنية التي سعي لها منذ أن علم بأن ذريته في الدنيا إناث وسط محيط يتوحش بلا رحمة, حمد الله وعمل  كالثور محتملاً ما فوق طاقته؛حتي لا تضطر واحدة منهن لمهانة العمل وهوان الحاجة,كان عدة رجال في واحد,في قرارة ذاته أراد الصبي,ذراع تضاف لذراعه وقوة إلي قوته,حين يراهن حوله متحلقات ساعة الغداء يداعب هذه ويشاكس تلك,ترد كل واحدة منهم بطريقتها,رنا الكبري تتلقي مداعباته بابتسامة عذبة,مني ترد عليه باللغة الإنجليزية بتباهِ فيقول"كلمينا بما نفهمه"نادية تصمت ولا تجيب خجلة,رحمة الصغري تعلق بما يفجر الضحكات من الجميع,وهو يضحك يشعر كم حمله ثقيل , محاط بأربع نقاط ضعف,أي لمسه لإحداهن تقتله,والسنون الخمسة والخمسين جاثمة علي ظهره,وماذا سيتبقي لهم بعده,وقد انتهب العراق وضاعت معه كل آماله العريضة التي نسجها من بحر خيره المبارك.
-كيف حالك يابابا؟
-بخير طالما الجميلة بخير.
التقت نظرتاهما فعرف أنها ترغب شيئاً.
ضحك  مخففاً للتوتر:
-طيب...خير؟
بصوت خافت كأنها تشي بما يخجل:
-أريد عشرون جنيهاً لأشتري شيئاً...حاجات بنات.
-انتظريني لحظة,سآتيك بالنقود من الداخل,لقد تركت المحفظة هناك.
وسط براميل المخلل وعلب الحلاوة والجبن,قعد الحاج يسري الجندي جلسته الخالدة محاطاً بسواتر الصمت يرقب الشارع في طمأنينته الأبدية,لم يخرجه منها حتي صياح ابن أخيه طالباً ميراثه,تكلم مع الوسطاء بهدوء يصل للبرود. مؤكداً أنه أعطاه حقه وزيادة,كان يظن أن مواجهته بالصدق كفيلة بصرفه,لكن الولد هاج وهدد وشتم والتم الناس يتفرجون أمام المحل وخلف النوافذ,المخدرات جعلت ابن أخيه غير واع,زاد زعيقه لما يقرب من نصف ساعة متواصلة حتي سئم وغادر.
دخل علي الحاج:
-ماتجيب عشرين جنيه من مرتبي ياحاج.
-مد يدك وخذ.
-بارك الله في يدك إنني...
-مد يدك في الدرج يا فضل,لولا ما أعرفه عنك من أمانة ما دخلت بيتي ولا شاركتني في عملي...المال مال الله.
-كفانا الله شر الحرام
-يا رب...وشر أولاد الحرام.
مد يده لها بالمال,فأخذته بيد ناعمة لم تذق طعم الشقاء,وصعدت السلم تحاذر الانزلاق من الماء المتسرب من الطابق الرابع وجدت أم أحمد محنية الظهر,التصقت ملابسها المبتلة بفخذيها, تدعك بهمة عتبة الباب,المعبق بروائح الأطعمة الغالية الشهية,ينبعث من الداخل ضجيج الأغاني الهابطة,يغطي علي صوتها فلم تسمع ندائها,حتي مست ظهرها مساً خفيفاً,هلعت له أم أحمد متوقعة المدلل فتح الباب يتحسسها كما حدث من قبل,لما رأتها تنهدت مرتاحة.
-أم أحمد...العشرين جنيه.
أدخلت يدها في جيب عباءتها ووضعت فيها المال,بكت المرأة وهي تدعو لها بابن الحلال والستر والرزق من كل اتجاه"رنا بنت فوزية كما فرجت أزمتي ومنعت طرد البنت من المدرسة",ورقة واحدة تفرج أزمة الإنسان,وتحرره,تشقيه وتسعده, انقبض قلبها للتعاسة الأبدية للمخلوق البشري.
أمام باب شقتها فتحت حقيبتها بحثاً عن المفتاح,سمعت صوت خطا من خلفها,عرفته قبل أن تستدير برأسها,انفرجت شفتاها هامسة:
-حسام.
.....
جندياً وحيداً قابعاً وسط صحراء دهشور يتحلي بأفارول مدرسة الرجال علي كتفه اليمني شارة علم بلاده,وعلي صدره ثبت اسمه"حسام الجالي".
السماء المفتوحة علي الأفق,لم يكن فيها شمساً تحترق ولا نجوماً تلمع,ليس فيها سواها, رياح الصحراء تغني باسمها في أذنيه,ونشيد الجيش حين يغنيه متحمساً,تصبح جزء من الوطن,بل هي معظمه,كله. وقت حراسته يشدو في ضجيج ذاته"أنا صاحي يا مصر أنا صاحي,سهران وفي حضني سلاحي,واللي يكسر عزيمتي واللي يقلل من قيمتي,يحرم عليه صباحي"تقفز هي من بين الكلمات,وسط صور تدور في رأسه عن أطفال ناموا علي صدر أمهاتهم يحفهم السلام علي حِسه,وبنات يفرحون بأعراسهم علي حسه,وعمال يشيدون المباني علي حسه,وصبي ينام متدفئاً علي فراشه يقيه هو البرد في وقفته الصلبة,وصبية تلهو مع أترابها هيأ لها فرصة اللعب بجديته ليالي خدمته...ورنا واقفة أمام المرآة ترتدي ثوباً, في المطبخ تعد كوباً من النعاع,في الحمام, في الشارع,أو أي مكان تمارس فيه حياتها عفيفة مرفوعة الرأس, تعرف أن سقفها ولقمتها ينتظرانها...مادام حصن الأمان صامداً ترفرف عليه رايات الفداء والوطنية.
عند نهاية خدمته تأكد من حبه لها,قارب علي الانتهاء جندياً والابتداء مواطناً,واستهلت أحلام المدنية مداعبة خياله,العمل والحب والزواج والاستقرار, الجيش وهبه ما لن يمنحه له أي مكان علي الأرض,تعمد من شعاع الشمس,وقدم قربان الشجاعة,وغدا رجلاً حقيقاً علي قدر المسئولية في الحرب والسلام, أقسم علي سلاحه لايتركه قط حتي يذوق الموت, سيظل يبر بقسمه حتي يحول همود جسده دون الدفاع عن تراب وطنه,ولا يكتمل الرجل إلا بامرأة,يتحد معها فيصبحان جسداً واحداً,وروحاً واحدة, إيقاعاً واحداً,في الصحة والمرض في الرخاء والشدة,في السعادة والحزن,وفي الفقر والغني.
خلال نومه المتقطع في العراء يحلم بها,يهاتفه صوتها الخافت في المنام,تحتضنه فيتعرق بدنه الراقد رغم برودة طوبة الأعجوبة,يحتضنها فيسري الدفء في كيانه,يلتهم شفتيها الورديتين فيحلي عسل رضابها ريقه المر,يشعر بثدييها ينغرزان به وبأنفاسها الحارة علي وجهه.يستيقظ لخدمته عز الليل والنور يتلألأ في عينيه,والظلام الكثيف من حوله يتلاشي.
يقف مع صاحبه مينا بسطوريوس, وقد علقا سلاحيهما علي صدريهما متقاطعين,خلا الكون من كل الموجودات حولهما,أمامهما سرفيس التعيين,يغمسان إدامه ويزدردان طعامهما:
-كيف عبر جنودنا صحراء سيناء مشياً علي أقدامهم بعد هزيمة 67؟
تساءل حسام وهو يرقب هرم سنفرو في عتوه علي الزمن وتباهيه أمام القرون,شق مينا قطعة من رغيفه ووضع داخلها باذنجانة:
-لو آمنوا أنهم هزموا لاستحالوا وليمة لذئاب الأرض وغربان السماء.
أسر له حسام له في جلستهما تلك, بحالته العاطفية الجديدة .
-الواحد منا لا يعرف معني الأشياء إلا إذا حرم منها,وانتبذت من بين يديه, وقتها يكون العادي أسطورياً.
عند لقائهما الأخير علي بوابة الوحدة وشهادات الجيش بإيديهما,ربت مينا علي كتفه:
-ارتبط بها...وعش إنسانا.

ولج القطار رصيف المحطة. منذ عام 1874 تدخل القطارات محطة دمنهور وتخرج,تبذر بشراً وتحصد آخرين,بين عودة ورحيل,هبط علي الرصيف وصعد سلالم عالية بارتفاع 15متراً,ليستقبله حي القلعة بضجيجه وزحامه,وقف يقلب الصحف الموضوعة علي رفوف كشك بجوار مدخل المحطة,كل مانشيت سوط يشوي البلاد الصابرة,الصراع بين الجماعات الإسلامية متسلحة بالعصاب الديني الهيستيري وجهل الشعب, والنظام متسلحاً ببطش الداخلية ومنهج التعذيب,الكلام الأجوف لجماعة الإخوان المسلمين سرطان بريطانيا المزروع في التراب المصري بسياسة"فرق تسد"عقب ثورة 1919,وتصريحات المسئولين الوقحة,الصراخ من انهيار نظام التعليم , وإعلانه قضية أمن قومي أمن الدولة,أفيشات أفلام تافهة المعني ضحلة المحتوي, محاولة نجمة انطفأت للعودة للأضواء,وطبعاً الطبق الدائم علي المائدة السياسية الخاص بالقضية الفلسطينية.
آثر المشي نحو المنزل,همست له كنيسة الملاك ميخائيل وجامع التوبة بإشارات روحانية يلتقطها من ألقي السمع وقلبه بالمحبة يفيض,مشي في سوق الخيري ,كتلة من البشر تعيش حياة كاملة بين دروبه الضيقة المتداخلة,طوال شارع 23يوليو وصلاح الدين , يحيي ويسلم ويحتضن ويقبل من يباركون له العودة السالمة من الجيش"ستقول كانت أحلي أيام فيما بعد","مرحباً يا بطل","حمد الله عالسلامة","هاه...رجالة!","كنت في أعظم مدرسة",وقع بصره علي والده وسط الزحام ممسكاً بقرطاس ورقي فارغ أمام طاسة الطعمية,تسحب حتي وقف بجانبه,فرد عليه ذراعه, تعلق أباه بعنقه فرحاً,رمي القرطاس وسحبه حتي حضن أمه التي بكت ودعت وقالت كلاماًغير مفهوماً وهي تطبطب عليه وتقبله,ثم تعود وتبكي وتقول كلاماً غير مرتب.
....
احتوت يدها كفه,ودار بين الأنامل حديث الجوي والاشتياق,ملأ عينيه منها واغترف من ملامحها,ناهلاً من رحيق الأنوثة والأمومة رشفات لذيذة.
نما حبها المكتوم له منذ الطفولة,رجلها الصغير الذي تتسند عليه لحظة القيام بعد سقطة وهي تقفز في الشارع,يقضي لها مهمامها الساذجة,يحملها علي كتفه طائفاً أنحاء المنزل في مظاهرة من اثنين طلباً لكعك العيد...ابن خالتها وجارها ورفيق حياتها... حبيبها,منذ تفتحت مشتيهة الحب ساقي الأرواح الظامئة موقد العروق تغلي في الأجساد راغبة في الرواء الجنسي, تروض الليالي منتظرة أن يخطو الخطوة الأولي,أن تري في عينيه ماتراه الآن, ذاك البريق الواشي بأسرار القلب.
استند حسام علي سور الشرفة,ورنا بجواره يقارب رأسها كتفه الأيسر,يرنوان إلي الأفق السماوي اللانهائي المتمدد أمامهما,والغيوم الداكنة تتعارك صامتة مع أشعة الشمس الهزيلة,تحوم حولها ثم تطبق عليها فجأة ثم تنسحب مفسحة النور والدفء,وصوت نشرة الأخبار من الداخل ممتلئة بالصراخ والعويل والبكاء.
- أبي عام2004أن يرحل إلا بخاتمة تسونامي الفاجعة!
- ظهور الحياة علي الأرض في حد ذاتها مأساة والباقي مجرد توابع.
مست شعرها بأطراف أصابعها حتي مؤخرة رأسها:
-أتظن أن لا أمل لرضا الإنسان وراحته؟
نضرة كزهرة كرز تشربت ندي صباح بهيج,لم يرد تكدير صفائها,ربت علي يدها:
-وأين ذهب الحب والعلم والفنون...ومتي افتقر العالم لقلب يغني وروح تشدو؟
-  يظلل كل يوم الفقر والمرض حياة البشر.
-"لسه الطيور بتفن,والنحلايات بتطن والطفل ضحكه يرن..."
- "مع إن...مش كل البشر فرحانين"
صوب عينيه في عينيها,تاه في بحارها السود,غطس لعمق لا قرار له,رأي لآلئ عصية علي المنال,فتش باطن قلبه عن هُداه,عن مفتاح,عن كلمة تقال,لم يجد سوي سلاسل تربط لسانه,القريب بعيد والجائز ممنوع,الحب مسئولية والتزام وأين ما يتسند عليه في رحلة الأيام معها, ثروات البلاد لا حد لها,وأهلها يحسبون عيشهم بالقرش,لأول مرة في حياته تصدمه الماديات التي عاش عمره يحتقرها,واستدعت ذاكرته"معك قرش تسوي قرش"دوماً حكمة الشعب عملية تظهر جواهر المعاني الدقيقة.
خرج للشارع بقلب مثقل بالأوهام المعذبة,شاعراً بقلة الحيلة وندرة الفرص أمامه,فاقداً الثقة في الغد مغتاظاً من الأمس,مشي علي حافة الرصيف يجلد نفسه بتخيل رنا لرجل آخر وهو يدور حول محوره بلا تقدم كثور قيد بساقية,لم يعِ ما حوله حتي تعثر وكاد يقع علي الأسفلت,استعاد توازنه راثياً ضآلة نفسه حتي طفرت ذرات الدموع من حدقتيه,كابر أن يسمحها وتركها لأول تيار هواء يمحوها,تواري من العيون ومشي من الحارات الخلفية متخفياً في زخم تفاصيلها الصغيرة وما تبقي من منازلها القديمة المتلاحمة في بعضها,بيوت شبه أثرية تحمل طابع زمن فخم انقضي,صُنعت فيه المساكن بمزاج فنان للعيش الآدمي المريح,ليست كتلك المنازل الحالية المعمولة لحل الأزمة وإيواء اللحم البشري كيفما اتفق,نبح كلب أعور ناحيته وحدق فيه  ثم حني رأسه وركض ليقبع بجوار كوم قمامة,استمر يمشي بلا مقصد حتي وجدها أمام أحد الأبواب تلبس عباءة منزلية ضيقة تنوء بما تحمل من جسد فائر أنهك أعصاب ومال رجال  تقلبت بينهم حتي جففت ينابيعهم المصبوبة عندها ليل نهار,هرعت نحوه تزغرد سعيدة وصدرها يترجج حراً بلا قيد,صائحة بتلقائيتها الصافية البريئة من الادعاء:
- بركة رجوعك بالسلامة ألف بركة...كيف حالك يا حسام؟كيف حالك يا حبيبي؟
سلمت عليه باليد والعين والضحكة تتألق في وجهها كله,تقريباً ذراعيها تحيط بجسده ودفء جسدها القريب يقيه من لسع البرودة-استثارت ذكورته, وقارنه بلقاء رنا المحسوب-ولدا في ليلة واحدة صراخ أمها يتجاوب مع تأوهات أمه,ذرعا الطرقات معاً سعياً للمدرسة حتي توقفت عند الابتدائية,دون أن تجيد قراءة اسمها, ظلا رفيقان لعب الشارع حتي كبرت رنا وشاركتهما حياتيهما الطفولية, ولما انبثق منها شذي الأنثي توقفت عن النزول من المنزل بغير حاجة,أما سمر لم تعرف يوماً معني الاستقرار بين أربع جدران:
-جاء في التليفزيون الأسبوع الماضي فيلم الرصاصة لا تزال في جيبي وتذكرتك...طب عارف...أنت فيك شبه من محمود ياسين!...يا سلام لو الدنيا حلوة كالأفلام!
لدي حضورها ينقلب همه ضحكاً مع كونها حكاية مأساوية,سلّت الدمع من عينيه عندما أنصت لها أثناء رجوعه متأخراً من عمله كنجار مسلح شهور أجازة آخر سنة من سني مهزلة التعليم, لم يكن يدري شيئاً عن مهنتها الجديدة وإن تعجب من المال والطعام الذي تدعوه ليأخذ منه,قرفصت بجوار الكلب الأعور توشوش له كأنه إنسان مدرك,فكمن خلفها يلتقط الكلم المتساقط من صوتها الأسيف.
-...ذاك اليوم البعيد...قبل ميلادك بسنوات طويلة...أين كنت حينها,بل أين كنت أنا؟!سبحانك يا رب!كيف تجري الأيام,يتحقق الغيب ,الصغير يكبر والمليان يفضي والفاضي يمتلئ!جريت مع حسام ورنا لمحل الحاج يسري,ملآ كيسهما حلويات من شتي الألوان,كنا يوم العيد الكبير,وخرجت أمي تدور علي الأبواب تلقط قطعة لحم وتتحايل لأجل حذاء أو طرحة,وكانا يلمعان من النظافة بالملابس الجديدة وأنا كحديدة مصدية,أفرغ حسام كل ما معه داخل حجري وأعطتني رنا مما معها,كنا أطفال لا نعرف للدنيا هماً, هذه اللحظة عرفتها أنا,تمنيت لو كان معي وأعطيتهما أنا الأخري,ولو حتة بسكوت,حين غفلا عني عدت مرة أخري للمحل,تسحبت نحو المحل مرة أخري ومددت يدي وخطفت باكو بسكوت ولما استدرت لأجري سمعت صوتً فتحي العامل عند الحاج يهدر"يا حرامية يا بنت الكلب"وقبضت علي رقبتي يده الغليظة,وضربني بشلوت انتفضت له ساقي ألماً,استسلمت ليده وهي تهوي علي خدي لتلطمني ,فجأة تعلقت في الهواء وعلي رأسي وائل ابن أخو الحاج وهو حينها شاب صغير يباركون له نجاحه في الثانوي,يصيح فيه"انتظر هل جننت؟بنت من هذه؟",فك يده عن رقبتي" بنت رضا الله يرحمه"تقلصت ملامحه من الغيظ لكمه علي كتفه"يا أخي...حرام عليك تضرب يتيمة وتسبها بأبيها الميت مهما كان السبب!" ملس علي  ضفائري وطبطب علي رقبتي وضمني ليوقف تشنجاتي الخائفة ودموعي تغرق وجهي"لا تبكي ياماما لا تخافي","اذهب من هنا "مشي فتحي وهو يدمدم,نزل علي ركبتيه وقبلني"تعالي معي"رفعني من إبطي ووضعني علي ثلاجة الجبن, ملأ لي كيساً علي حسابه ولم يتركني إلا وأنا أضحك...كان أطيب خلق الله,حتي ذاق السم الهاري الذي أغواه به أولاد الحرام ليستنزفوا ماله منهم لله البعدا...ليلة دفن أمي قبل عامين انصرف عني القلة الذين ستروا جثتها في جوف الأرض,وأصبحت وحيدة في المدافن وسط الموت والظلام الحالك,وعاودني إحساس قبضة يد فتحي تطبق علي زمارة رقبتي, مرة أخري كان أمامي يواسيني,رميت رأسي علي صدره غريبة في الحياة والموت,حية وسط الموتي وميتة بين الأحياء,أُخذ ولم يحرك ساكناً,كنت أنا من أضمه الآن وأملس علي ظهره وأبكي, القمر طبقاً من فضة يتوسط السماء والسكون حولنا مخيف وخيل لي أني رأيت عفريتاً,فزاد احتضاني له,رفع وجهي ناحيته,مسح دموعي وقبلني علي شفتي وخدي وأحكم ذراعيه علي وسطي ,فارت الحياة وسط الهلاك ,كان أول رجل أفعلها معه,بعد أن فرغنا وعدنا للواقع,كان وجهه ممتقعاً غير مصدق ما حدث,أنفاسه لاهثة ومضي وقت طويل قبل أن يعود لطبيعته قلت له"لاتخف من الله أبداً,فهو رحمة ولا تصدق من يصفه بغير هذا,العذاب يستحقه من آذي غيره... نحن لسنا منهم ولن نكون", همس "مع من فقدتي عذريتك؟" قلت وأنا أرتدي ملابسي "ذات مرة في الحمام وأنا أحك نفسي متلذذة من المتعة انغرز من غمرة هياجي إصبعي وسال خيط الدم,خفت ولم أخبر أحداً",التقطت من يده الممدودة مائة جنيه,عدت للحارة من جديد,بيوتها مقفلة والجو ثلج لا أنيس معي,لكن قلبي دافئ بالحب وجسدي نشوان وجيبي شبعان,أدركت حينها أني أحب وائل,تمحكت به رائحة وغادية وهو لا يعيرني التفاتة عابرة حتي,بدا نادماً وخجلاً,كلانا قمنا بذات الفعل وشتان في الأثر,رأيته حباً ورآه عاراً,تبخرت آمالي في الزواج به...أتدري لو كنت تزوجته لكانت حياة كلينا تغيرت....من يدري؟في حياة أخري أكون زوجة وأم أراعي شئون البيت,ولبقي كما عرفته رجلاً حنوناً وزوجاً وفياً,نربي سوياً آدم وحنان"آدم ضم الكون لحنان ظهر الأخضر في الألوان والإنسان أصبح إنسان"...وعشت كما يعيش خلق الله غير مضطرة للحديث مع كلب أعور...سامحني معلش يعني,ولكني إنسانة ومن المفروض أن يكون كلامي مع غيرك عليك,لا معك علي غيرك...لا,لا تلوي رقبتك وتشيح ببصرك عني,سامحني.هات بوسة آسفة!
الجاهل يضرب بعصاه الأمل
بدأ الليل يتدلي من السماء باسطاً جناحه الأسود علي صفحة المساء,تلك الساعة التي تخلط البدايات بالنهايات,الغروب المماثل للشروق,ونافورة الميدان أمام محلج بركات يندفع داخلها أعمدة الماء ثم تهبط في حركة رتيبة,انشغل حسام يراقبها أفكاره تغرق ذهنه,دهس السيجارة بقدمه وهم بالقيام,فلمح أخيه الصغير سامح يبكي بحرقة,عيناه ممتلئة بالدموع معمية عن رؤية الطريق,هرع نحوه مسرعاً في إشفاق الأخ الكبير-الأب الثاني-:
-مالك يا سامح؟
-المدرس ضربني.
كشف له عن ذراعين متورمين تحول لونهما للأزرق,صرخ حسام بصوت متهدج:
-أين ابن المومس ذاك؟
سدد إصبعه والقهر في عينيه,نحو شرفة تطل علي ميدان النافورة,تحتها مدخل مؤطر بصور وفاترينات استوديو تصوير,دخل حسام الشقة,مغتاظاً,متذكراً ذات القهر والعذاب النفسي والألم البدني الذي تعرض له علي أيدي فريق من الجهلة المشوهين نفسياً العاملين علي تدمير أي أمل يبرق في أي جيل,المسئولين مسئولية تامة عما وصل إليه حال المجتمع,فوجئ إنه نفس مدرسه القديم وسط مجموعة من التلامذة جالسين كأنهم معتقلون يعذبون,طالما حلا له السخرية والاستهزاء منه وسط زملاؤه, يتعمد جمع البنات مع الأولاد ليتمتع بتهزيقهم والحط من كرامتهم,كم موهبة وفكرة أُجهضت وتلاشت, بسبب واحد من فريق الخانكة المطلوق علي الأطفال,نظر له مباشرة وعينيه تلمع من الغضب,وقبل أن يفهم ما يدور,مسك حسام الخرزانة,ولسعه بها لسعات متتالية علي جسده السمين صائحاً:
-ألن تتوقفوا يا أبشع من خلق الله؟
تلقي المدرس الضربات مدهوشاً وسط ضحكات الأولاد حوله,لم يتوقف حسام حتي نفث من صدره كل الغيظ المسكون لسنوات,هذه الجدران شهدت تسوس بنيان أجيال,لابد من حرقها وإلا سيضرب العفن كل نفس!
ربت علي رأس أخيه وهما يرتشفان عصير قصب:
-هكذا أصبحنا من العالم الثالث...جاهل يضرب بعصاه زهور الغد,فتجمدنا في الأمس نتباحث حول هراء مرورث والعالم من حولنا يرفع رأسه نحو القمر يفكر في استعماره.
نظر له سامح نظرة خاوية بلا معني,وطأطأ رأسه صامتاً.
تتساند علي منزلهم شجرة عانقت جذورها الأرض,تسقي الناس والحيوانات راحة الظلال من لهب الشمس,زرعتها جدتهما نجاة أمام البيت ,كانت تفرش تحتها وتتربع مع ابنتيها وتقول"فضل هذه الشجرة الساكنة لا يساويه عمل بني آدم الجوال بكل اتجاه....من يمنح بلا مقابل ويعطي كأن عطاؤه سبب بقاؤه...كونوا مثل هذه الشجرة,وكلما وقع بصركم عليها اسألوا لي من ربي الرحمة لو كنت ميتة ولو كنت حية تمنوا لي الرضا".
شهدت علي حياتهم,سمعت ضحكاتهم ونحيبهم,شاركتهم الجلسات الصيفية أمام البيت,حملت مرجيحة رنا,وخبأوا فيها وجوههم يلعبون الاستغماية,حفرت فيها يده اسمه واسم رنا متجاورين,ركنت بحذائها سيارة فخمة عرفها حسام من بعيد,سيارة عمرو هشام,مزيج من كل تشوهات القرن الجديد,ثراء فاحش بلا عمل أو قيمة شخصية,متطرف علي طريقة بائعي الحسنات وقضاة الجنة والنار ,باستبدال الجوهر والمضمون الروحاني الحر"الطرائق إلي خالق بعدد أنفاس الخلائق",بتقاليد ومظاهر وحواديت مبتورة,وبرامج تليفزيونية ربحية,تقوم علي الأداء المفتعل والقبض بعد الدعاء علي كل من يخالفهم,نتاج التسعينيات بكل سمومها السارية في الألفية.
عاش صباه في حارات صلاح الدين وبعد جريان المال في يد أبيه,بالربا والقروض واستغلال مصائب الغير,,نبت من قلب دمنهور الجديدة برج يُقزم ما حوله,خرج للدنيا بلا هم,متعة حياته تكدير العاملين والمأسورين عند أبيه,يمارس عليهم سلطته ويستعرض أمامهم أهميته وعبقريته التجارية,حتي صدق نفسه أنه صاحب هذا المال وجالب الخير لبيوتهم,فزاد تكبره واتسع غروره حتي غدا جباراً عليهم,يُبكي رجالاً بكلماته وصراخه وتهديداته بخراب بيوتهم ثم يتوضأ ليصلي!يعوض نقصه ولا جدواه ويثبت وجوده بتحكماته وتسلطه عليهم,يبحث عن جنة الدنيا والآخرة بتفكيره السقيم وسلوكه المعوج.
"ماذا تبقي لعمرو هشام هنا؟!"سأل حسام نفسه مدهوشا,وخطرت له فكرة فانقبض قلبه,وارتجف.
قابله مع أمه وأبيه وهم خارجون من شقة رنا يودعهم زوج خالته,فاسودت الدنيا في وجهه وكز علي ضروسه حتي كادت تنكسر,مر بهم بلا سلام ولا تحية,رائحة عطورهم تخنقه....أهكذا إذن؟!
أغلق فضل الباب بينما يكبح انطلاق زغرودة من أمها بإشارة حاسمة من يده:
-ولا أي حاجة يا فوزية قبل معرفة رأيها!
بوغتت رنا من الموقف كله,ما بناه خيالها من أحلام الحب والرومانسية انهار الليلة,لم تتصور أن تتعرض لذلك الوضع,أن تكون بضاعة تحت العرض والطلب,يجيئ الراغب في المعاينة ويعرض ما يستطيع تقديمه مقابل فتح ساقيها له وتنظيف البيت وتربية الولد...ليست تائهة عن رغبات عمرو هشام,عرفت شخصيته من أول نظرة وكرهته وهو يضحك بثقة"يا سلام لو ترتدي الخمار وفي مرحلة متقدمة النقاب"...كيف وثق أن ما  يشتهيه بات ملك يديه؟
وجدها فضل في حجرتها متكئة علي مخدة مطوية ساهمة,في دنيا غير الدنيا,يدرك ما تفكر فيه, أشبه بناته به,في سنها كان يضطرم غراماً وصبابة,خاض بحار العشق وفي النهاية رست مرساته علي الشط العادي,امرأة يستأمنها علي عرضه,يتشاركان الحياة بحلوها ومرها,مشاعرهما خليط من الألفة والاطمئنان والثقة, وجد الحب معني مجرداً لا وجود له بخصوصيته المثالية المنحوتة في عقول الشباب,كالخير والجمال والسلام والصدق,وكل ما تلهفت عليه الروح البشرية.
تنام رنا ومني علي الأسرة,ونادية ورحمة علي أريكة الصالة في الصيف,عند قدوم الشتاء يتكدس الأربعة داخل الحجرة الصغيرة,تحتضنهن جميعاً رنا بجوارها,تضم السريرين معاً وبجينات الأمومة فيها تحدب عليهن من برد الشتاء القاسي,ترقد عند الجانب القصي عند الحائط لتصد عنهم بجسدها الرطوبة المشعة منه.
-لم أقدر علي منعهم من المجئ...طلب الرجل الزيارة وعرض علي الزواج,فرحبت بالأولي ولم أرد علي الثانية.
اعتدلت ونزعت الطرحة وألقتها علي السرير,فانسكب الشعر الحريري علي كتفيها:
-بابا...لماذا لا يرحم الناس بعضهم؟
برقت في رأسه ذكريات الحرب والدموع,واصطنع ضحكة ظاهرها السرور وباطنها الألم:
-وماذا تعرفين عن عذاب الناس؟...يا ابنتي بداخلنا وحش يرقد مع عصفور,ومشاعرنا قيد يكبح الوحش ويربط العصفور,منا من يطلق الوحش علي الآخرين,ومنا من يجعل العصفور يغرد باعثاً البهجة والسعادة...وأنا أعرف لمن يغني عصفورك,فللعواطف رائحة تشير لأصحابها.
جفلت وتضرج وجهها حمرة,وتابع أبوها:
-لا تخافي لست ممن يرتعبون من حب البنات ويعتبرونه يستحق التأديب,لكن حسام لن يتمكن إطعامك ولا إيوائك,و وفي هذه الحالة سرعان ما ستلفظينه,و ينفر منك لعجزه أمامك...بلادنا قاسية كل جميل فيها يموت!
انحدرت دمعتان ساخنتان علي وجنتيها الورديتين,تجلي الألم في عينيها:
-أهكذا تطوحنا الأقدار؟
-اسمعي يا حبيبتي...أنا لا أجبرك علي شئ,ولا أدفعك إلي ما تكرهينه عنه,الأمر لك وحدك,وكلي ثقة بعقلك الكبير وحكمك السليم.
بسط ذراعه علي كتفيها والتقمها في حضنه,قبلها وخرج.

ينقل قدميه بصعوبة يراها معجزة,عجوز هش تآكل أساسه, يقاوم جسده الضئيل الرياح القاسية,يدفع أمامه عربة يلملم فيها الكراتين الملقاة بأرجاء الشارع وأمام المحلات,يدور بها طوال النهار,ويستقر أمام محل عطارة البسيوني في شارع السوسي,يستعين بأي شخص علي تحريك العربة علي أرضه غير المستوية,شبر ناتئ وشبر غائر,يتذكر حينها ولده المتوفي,لم يكن يحتاج سني حياته لأي شخص,حتي اصطدم بالموتوسيكل وخر ميتاً في الحال,ونجا صاحبه,طوال الست سنوات كلما رأته زوجته يمر من الزقاق يتوكأ علي عكازه,تلسع حشاها ذكري وليدها ويتصاعد صراخها الهيستيري حتي تفقد وعيها.
أوقف العربة,حياه العطار وأخرج له الكرسي ولاحت علي وجهه علامات الراحة لمرآه,تنهد وقال:
- سمعنا ولا تبخل علينا ورحمة كريم يا عم متولي,ثواني وسأصنع لك كوب ينسون لن يجعلك ممن يتذكرون.
قهقه وقفز علي عتبة المحل برشاقة لا تتناسب مع سمنته الواضحة.
ألقي متولي عصاه,وعدل طاقيته الصوفية وملس علي لحيته الفضية,ولعلع صوت جهوري ذو رنة نحاسية,كأنه صوت فارس جسور ينادي جنوده وسط ضجيج المعركة,شجي حساس كفنان ضل طريقه عن خشبة المسرح,ورتل بأنفاس مبهورة رققها الحزن والتعب"والضحي والليل إذا سجي,ماودعك ربك وما قلي,وللآخرة خير لك من الأولي,ولسوف يعطيك ربك فترضي,ألم يجدك يتيماً فآوي,ووجدك ضالاً فهدي,ووجدك عائلا فأغني,فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر,وأما بنعمة ربك فحدث"
من النافذة المطلة علي الشارع وقف حسام في حجرة صديقه معتمد السلاموني,تهادت لهما الآيات يحملها الأثير فتتلقاها القلوب قبل الآذان,اهتز حسام وفاض قلبه ورعاً,لطالما تأرجح بين اليقين والشك,آمن بالدين خلقاً ورحمة ,تساوت عنده الصلوات والمسميات مادام الجوهر يرتقي بالروح الإنسانية,نحن لا ندرك الماهية فما علينا بالاسم,تلطخ صورة التاريخ الديني في ذهنه باللون الأحمر المسكوب من صفحات الحروب,ظل القهر والعذاب والأسر مقروناً بحجة حق شعب الله المختار أو حماية قبر المسيح أو نشر الرسالة المحمدية وفي مذاهب كل دين مبررات عبثية للاقتتال الداخلي والآلام الموجهة ضد المخالفين والمختلفين,وكل المعاول التي شقت قنوات الدم و الدموع لتوسيع سطوة الأديان,أتباع كل عقيدة يصوغون علي هواهم مايلائم أطماعهم وشهواتهم؛ليذوب الأصل الرحب ويتواري أمام جبروت الفروع الشائكة,لكن في لحظات كتلك ينسي كل ما سببه البشر بطغيانهم وعنتهم تحت أي راية,شاعراً بالخيط الواصل بين الوجود والواجد,تصفو نفسه مطمئنة بالروح العلوية مدبرة الخلق.
في المرآة المقابلة ارتسم وجه معتمد المحترق بغليان التهم معه رقبته وذراعه,من حلة ماء أوقعها علي نفسه من البوتاجاز طفلاً دون الخامسة,خاف منه الأطفال صغيراً وعافاه الناس شاباً,فانطوي علي أحزانه لا يربطه بخارج حجرته غير حسام الشخص الوحيد الذي وجد له مكاناً في نفسه,فغدت هذه الصداقة سلواه وونسه.
جلس  معتمد خلف بيانو اشتراه مستعملاً ,مازال يسدد أبوه ثمنه أقساطه,وضع عليه برواز كبير يحتوي صورة "فرانز ليست",ضبط البرواز علي الحافة متأملاً عينا الموسيقار الناظرتان لملائكة تتراقص علي السلم الموسيقي:
-إنني لا أدري من منا الأحق بلقب المعذب,من يحب بدون أمل, أم من لا يجد أملاً ليحب؟...علي الأقل أنت وثقت بنفسك وبجاذبيتك للبنات...أنا لم أحادث بنتاً طوال حياتي,ولو وقع بصر إحداهن علي تضطرب وتهرب بعينيها خائفة منزعجة...أقول لك هذا لو كان يخفف عنك.
لم يستطع حسام إنكار حقيقة أن وجهه مخيف حقاً,تمدد علي السرير منصتاً للسقف المكون من عروق الخشب والصفيح,تنقر عليه حبات المطر كأنه طبلة:
-ضع عذابك علي عذابي واضرب مطارق البيانو ليبكي الوتر.
-شغل في دماغك صوت"لارا فابيان", أغنية أداجيو التي سمعناها بالأمس علي الكمبيوتر,سأعزف لحن ألبينوني الخالد.
رمق الصورة باحترام وتمتم"لو أذنت لي يا أستاذ",انسابت النغمات من بين أصابعه تخترق النفس كقارب في الجندول امتلأ حباً وسلاماً,واختلطت بصوت عم متولي وهو يبتعد مغنياً ممتزجة دموعه بالمطر"حطيت عالقلب إيدي وأنا بودع وحيدي,وأقول يا عيني اسعفيني يا عين"
الشموع تتألق
تنحت الغيوم تاركة الجو يصفو, وتبدت الشمس في لباسها الأصفر الزاهي تكسي الأرض ببساط ذهبي يبعث الأمل والدفء في النفوس,محل الوحل والطين الزلق, جاءت يحملها النسيم تتبختر,ورقة بمائتي جنيه,ذات حفيف يرد روح صاحب الحاجة,وقفت بين قدمي حسام,انحني بجسده ثم فرده مضمومة في قبضته,مقرمشة الجوانب خرجت طازجة من البنك للتو,تلفت حوله يبحث بعينيه عن صاحبها:رجل يمشي بجواره زوجته تنفض بأصابعها التراب العالق بسترته,امرأة خمسينية تنادي علي بنتين لا تعرفهما؛ليساعدانها في حمل أكياس الخضار,أب يجذب ابنه من ياقة الجاكيت يزعق فيه ويصفعه بكفه الغليظ فيصرخ الطفل من الألم ويعوي منتحباً,بنت نضج ثدييها تقف فخورة بما لديها,شاب يعاكسها تدير وجهها الناحية الأخري,فلاحة علي رأسها قفص دجاج."لابد أنها أتت من بعيد"قال بصوت عال يحدث نفسه...كل ما يناله الإنسان أتاه من بعيد,لا سبب منطقي لحظوظ البشر,كل من لا يستحق تأتيه الدنيا تهبه نفسها ولهي في شبق,ومن كتب عليه الحرمان فليس له سوي العظام يلقاها في كل مكان!
المال في جيبه حمل ثقيل,بدأت الخيالات تعذبه,هل هذا ثمن دواء لفقير يندب الآن,أم أجرة طبيب لطفلة,أم ثمن طعام أسرة في شهر.......
دخل جامع المرادني بعد صلاة الظهر,السكون يخيم عليه والسكينة التي كان يجدها قبل سنوات في نفسه كلما دخل,تبدلت بشعور غامض يغلب عليه الفضول والتساؤل,أراح ظهره علي عامود الجامع بجانب الشيخ عبد الوهاب,وكان عجباً أن هذا الرجل له من سمات الشيوخ الحكماء ما لا يبلغه إلا أولو العزم,رباه التصوف وصفاه سعيه للخير فتكشفت الأنوار في جبينه بصورة تجبر الكل علي محبته وتبجيله,تبسم ضاحكاً من قدومه:
-والله زمان يا حسام,لم أرك هنا من رمضان عام 2000,يوم كنت تنتظر فناء العالم,وتبكي في ليلة القدر.
-لعله فني من دهور طويلة,وما نحن فيه خيال أو تجربة خبيثة.
-لا حول ولا قوة إلا بالله, إن كان قلبك يحدثك بذلك فلن يغير كلامي شيئاً...سيتقلب علي كل وجه حتي يهمد...خيراً؟
-وجدت مالاً ولم أجد صاحبه,سأعطيه لك تتصرف فيه بمعرفتك.
-خسره واحد ليفوز به آخر!...محتمل يعود لصاحبه الأصلي بطريق آخر...أرزاق يقسمها الرزاق.
الجلسة داخل الجامع تثير الذكري,تحفة من الإرث المملوكي,ضربها الإهمال وتعدي عليها الزمن,يقال أن أعمدتها كانت في الأصل لجدران معبد حورس بدمنهور,لسبعة قرون بقي مستقراً معبأ بملايين الصلوات والأدعية والنذور,شهد علي الأفراح والأحزان,انشرح صدره فيه وهو يصلي متخيلاً الله يرقبه في عطف يوصي به الملائكة تعينه في دنياه,أول مرة التقي فيه بالشيخ عبد الوهاب كان الشيب يستهل تسلله لشعره الناعم,وقف بجانبه بعد صلاة العصر, كبر حسام وبدأ في الفاتحة, همس في أذنه"لا سنة بعد العصر!"ومضي نحو المدخل الرئيسي.يخفت الإيمان بالمعاني كشمعة تذوي,ولا يبقي منها سوي خيط دخان يضطرب مجاهداً أن يبقي لأطول وقت ممكن,تغلي البواطن الخفية بمختلف الآمال ثم تتبخر ولا يترسب غير الحسرة والآلام.
نهض من مكانه تتبعه نظرات الشيخ المشفقة.
علي الرصيف المجاور تلقاه كمال متضعضعاً يصرخ في الهواء ويلطم وجهه بشدة,يخاطب أشباحه السوداء,في الإعدادية كان يشاركه التختة,تماهي مع النظام البليد وصاغ نفسه كما يراد له,فنال إعجاب شلة المرضي الفاسدين القائمين علي الجريمة الكاملة,ذات صباح سأله مدرس الرياضة كبير المجرمين في مسألة ضاع فيها حسام؛لنبرة التهكم والإرهاب في صوت مبروك وهو يتقمص دور آينشاين,أشار لكمال فقام وأجاب مع نظرات الخضوع للأستاذ التي يعشقها مبروك وتعوضه عن تفاهة شخصه,كساحر بدائي يتنبأ باحتقار قال لحسام"ليعطنا الله طول العمر ونري أين ستكون وأين سيكون من بجوارك"قاصداً بذاءة القمة والقاع,والطبيب وعامل النظافة,وكل أشكال العته العنصري البذرة الأولي لسقوط الحضارات وانهيارها المدوي, كلما تذكر حسام تلك اللحظة بتفاصيلها ,يتصور نفسه يقابل مبروك في الشارع ,يلسعه علي قفاه ,و يهينه كما أهانه, نصفه الطيني الذي لم يتخلص من الجزء الحيواني في تطوره,يرضي عن ذلك ونصفه الإنساني المهذب يتغاضي عن الماضي ويعتبر ما جري لا يستحق الذكري.
كمال من ضحايا العشق,خطب البنت التي أحبها قلبه,وعلق عليها حياته,حب كالأفلام العاطفية,امتلأ بالعقبات ونجح المحبان في الارتباط في النهاية,مقاييس الجمال المعروفة تجافي إنجي,سمينة لحد مفزع,داكنة اللون غليظة الشفاه رائحة العرق تدل عليها في الصيف والشتاء,مع ذلك أميرة قلبه ومنتهي مبتغاه في الحياة,أبواه مذهولان من إصراره العنيف,هدد بالنوم فوق قضبان القطار لو منع عنها,وبعد دموع وصراخ خطباها له,أصابها دور برد عادي,ثم ارتفعت حرارتها ليلتها وتخطت الأربعين,أمر الطبيب بنقلها للمستشفي وعقب دخولها فارقت الحياة...يقول النساء وهن يمصمصن شفاههن حزناً أنه بكي عليها في الحمام وصرخ وجدف بحق الله فلبسه جني كافر.
داخ به أبواه ينوحان, وأهل الشارع الطيبين علي الأطباء والشيوخ,كتفوه وضربوه ليخرج منه الجن,حقنوه لتهدأ أعصابه,رقاه الشيخ عبد الوهاب وتلطف معه حدثه عن القدر والموت,لم يجد مع شيئاً حتي يئسوا منه وتركوه يهيم كما شاء.
حملق فيه حسام مكتئبا,راقبه حتي انتهت النوبة,انسل من جموده,اقترب منه,أشار له كمال بطلب سيجارة,اشتري اثنتين أشعل له واحدة ولنفسه,قعد علي الرصيف معه صامتين,يتطلعان نحو المجهول.
تهادت في مشيتها ملفوفة بشال أحمر علي طريقة الساري الهندي,تقطر سحراً في كل خطوة,وبهاء مع كل لفتة,وجنتيها الورديتين تتوقدان تحت أشعة الشمس,وعينها اللازوردية تطفو فيها بريق أخذه من الزمان والمكان,توقفت أمامه في جفول متسائلة منزعجة:
-حسام!!...ما الذي أجلسك هكذا؟!
أطلق ضحكة عالية:
-لا تخافي...لم يحدث بعد.
رمقت كمال في خوف,ثم صرفت عينيها عنه وبدنها يقشعر:
-تعال...قم معي...هل أفطرت؟
انطلقا باتجاه محل عاصي,مرا ببنزايون وانحرفا نحو شارع  الخيش كادت تفرغ بطنها حين رأت متشرد يتمخط علي الأرض,وصلا لحي الصاغة, لاحت لهما لافتة"علي حسن عاصي", من عام1919يفتح أبوابه الفجر ويغلق في الثانية,أطياف الأيام الخالية تتشبث بجدرانه العتيقة,وعلي ألسنة قدامي العاملين به,حين يتمنون لكل زبون نهار سعيد,اشتريا الساندوتشات وتوقفا عند كورنيش ترعة المحمودية,جلسا علي دكة حجرية تشكلت كنصف دائرة,يظللهما الشجر تتخلل أوراقها الرياح فيسمعان حفيفها, وينساب الماء تحتهما يتلألأ شفافاً من تحته الأسماك الصغيرة تتخبط تائهة.
-أي هذه الساندوتشات فول وأيها طعمية...رنا ما حكاية عمرو هشام؟
تجمدت أصابعها فوق كيس الطعام, سمعت صوته في الجملة الأولي عادياً,ثم اندفع في الثانية كأنه يلقي حمل ثقيل عن صدره,اختلط العادي بالمصيري في لحظة واحدة,ابتلعت ريقها,وعضت علي شفتيها القرمزيتين:
-أكرهه!
-إذن؟
-إن...إن الموضوع بيديك أنت.
جري أمامهما ولدان يلعبان اصطدم السمين بقدم حسام ووقع أرضاً:
-حاسب يا ابني.
أنهضه واستمر يركض ليلحق بزميله.
-"الهوي هوايا,ابني لك قصر عالي,وأخطف نجم الليالي,واشغلك عقد غالي يضوي أحلي الصبايا"...هذا ما في يدي.
-لنتكلم جد.
-جد؟إذن لنتصارح,لن أقولها ولن أسمح لك بقولها,دعي الكلمة القدسية في سرها المكنون,أنتِ تدركين شعوري نحوك ومتأكد أن لك ذات الشعور تجاهي...وجهك حين أنظر إليه يملأني بقوة أظنها قادرة علي هدم الجبل وحفر البحر وشق الأرض,وحين أستدير أواجه الواقع أجدني مفتتاً لا حيل لي ولا حول,جيبي ليس به غير سيجارة,تري هل تدخل ضمن جهازك؟سامحيني علي السخرية لكنها سلاح العاجز في مواجهة المصاعب.
-وأنا حين أنظر إليك أري في عينيك المرفأ الذي استكين له...كل بنت في الدنيا لا هم لها غير الحب والارتباط ولو ادعت عكس ذلك,إنها غريزة البشر والخلود المنغرزة في أعماق أعماقنا...أنت الرجل الذي يرضيني رضاه عني...أتظن أن غسالة وتليفزيون أهم من ذلك...كسرة الخبز هذه تملأ معدتي ويداك بعطفهما تدفئاني,ولو طلبت عيني سأهديهما لك بلا تردد.
بدا السرور جلياً علي وجهه الأسمر الضامر وارتعشت ذقنه من الانفعال,قبض علي يديها في عزم:
- كنوزنا نادرة لدرجة استحالة التعامل بها,دعينا لا نبددها مع الحمقي...لم أكن أعلم أني بهذا الثراء.


الخميس، 11 يوليو 2019

غداً يكتمل ما كان


غداً يكتمل ما كان
امتلأت حفر الأرض بمياه الأمطار,صانعة مرايا كبيرة تعكس تلألؤ مصابيح   السيارات المارقة كطلقات الرصاص وسط الشارع الخالي من العابرين,الذين فضلوا دفء المنازل علي أي خيار آخر,وحدها جلست علي رصيف مطعم فاخر,طفلة صغيرة بالكاد بدأت الكلمات تعرف الطريق للسانها,انشغلت عنها أمها بالوقوف في الإشارة تستجدي العابرين بإلحاح مستفز,غير مبالية بابنتها المتجمدة برداً.
توقف يوسف أمامها متصلباً,مشاعر الرحمة التي فاضت من قلبه ثبتته مكانه لا يقدر علي تحريك قدميه,تطلع إلي تلك الكومة من الثياب الرثة الموحلة التي برز منها وجه صغير قذر,في وسطه عينان بريئتان يتطلع له في دهشة يمازجها شبح ابتسامة,ركع بجوارها حتي مس البالطو الرصيف,وقال مشفقاً:
-         مالك يا ماما, ماذا يجلسك هكذا؟
همست له من بين أسنانها مشيرة لقدميها الحافيتين:
-أريد صندلاً؟
-صندل؟!
- أمي أخبرتني  أنها ذهبت لتشتري لي صندلاً؟
خرج من باب المطعم,رجل تبدو عليه مظاهر الثراء,هذا الثراء السوقي المعلن عن  نفسه في فجاجة,في ساحباً في يده امرأة تتقد جمالاً وروعة,قائلاً في لا مبالاة:
-لا تتعب حالك أيها السيد,إنهم طفيليات.
أكمل غامزاً, والضحك يختنق في صدره:
-ها هي أمها تتسول حيناً,وحيناً...أنت تفهم طبعاً!
لم يستمع يوسف لكلماته,وقف مشدوهاً ناظراً للأرض يتعجب مع نفسه"إلهي...أتكون هي...لشد ما تغيرت!لابد أنها هي وإلا لم تقف هكذا تحملق في بدهشة"عاودت عيناه النظر لها من جديد,لو خدعه بصره فقلبه لن يفعلها...هي غادة,حبيبته الوحيدة اشتراها المال وأصبحت بالاسم زوجة وبالفعل دمية جنسية.
"سننجب ولداً وبنتاً ونملأ لهما المنزل بالدمي"
لم تدري إنها هي من ستتحول لدمية مكسوة بالمساحيق والفراء,طالما بحث عنها علي الإنترنت باسمها الحقيقة,يدرك الآن عبث مسعاه,لابد أنها تستخدم واحداً من تلك الألقاب فارغة المضمون.
خبط الرجل الثري رأسه بكفه:
-آه نسيت الموبايل,وهرول في الحال للداخل مجدداً.
توسطت الطفلة يوسف وغادة,وبدت غائبة في النوم,بدأت حوار سطحي ليخفي جيشان عواطفها:
-رأيت صور(كادت تقول:شقتنا)شقتك التي حولتها لملتقي ثقافي للأطفال.
لاحت منه نظرة للبنت النائمة:
-أحاول تأسيس تجارب ناجحة,لربما تقاوم السموم في كل مكان يُفترض به صياغتها,لا تربية ولا تعليم,فقط فرائس للجهل والضياع,من يدري؟قد يذكرني واحداً منهم وقد صار عالماً أو فناناً,شاكراً للأفق الذي فتحته له في طفولته.
لم يتغير, نفس كلامه القديم وإن كانت حماسته المحمومة خفتت كثيراً.مرت رياح باردة أطارت شعرها للخلف,وفجأة انهار سد الحاضر الوهمي الحاجز بينهما,وطغت مشاعرهما الدفينة:
-يوسف...لا تظلمني,أنت تعلم أن...
- أعرف جيداً مدي الضغط الذي كان عليك,أمثال هذه الضغوط,تصهر الفولاذ ليسيل وتحوله لمادة مختلفة. غادة...قلبي لكِ فيه مجري الدم ومآل الآمال.
-حتي اليوم؟
- وللأبد
برز كرش زوجها وتبعه بقية جسده,جذبها من يدها وتوقفا أمام سيارة فارهة,ركبا فيها وغابا عن عينه.
-أريد  صندلاً
انتزعه صوت البنت من ذكرايات ماضيه,غادة والجنة المفقودة,أحلام الحب وتتويج الكفاح بالسعادة,وكل ما توهمه من قبل؛ليعرف أن كل ما يحيط به ليس فاسداً فحسب,بل يعدي غيره بالفساد والتعفن,ليغدو مجتمعاً من الجراثيم,لا مكان فيه لإنسان يستحق هذا الوصف.
-غداً يجيئك ما تتمنين.
وضع كفه علي قدمها ليقيسها به,كانت باردة ورقيقة,انحرف للشارع الجانبي,ودخل حارة موحلة تصاعد فيها صياح النسوة وهن ينزحن الماء من فوق سطوح المنازل حتي لا تتسرب من السقوف للمساكن,لتنهمر فوق الأرض شلالات من المزاريب, وسطهن صوت أخته تضع همها كله في الزعيق,منذ طلقها زوجها لعجزها عن الإنجاب وهي تقضي طوال اليوم في مشاجرات,مثل هذه المناسبات تمنحها فرصة للتنفيس عن نفسها.
لما خلا لنفسه,هربت دمعة حبيسة,كأنها تحمل مفاتيح حدقتيه,تبعها خط من الدمع الساخن علي وجنتيه,بكاء قهر الرجال وقلة حيلتهم,بكاء من يري ذاته تستنجده وهو مكبل لا يقوي علي المقاومة,أخيراً النوم اخترقه لينفيه من عالمنا لعالم السكون والسكينة.
في الصباح اتجه نحو السوق واشتري صندلاً بني اللون يناسبها,ومشي إلي رصيف المطعم,تتبدل الأيام علي ناس يتبدل ناس علي الأيام,هو وهي من النوع الأول,وجدها كحالتها الأولي,فتحت جفنيها,فقامت ومدت يدها,وقالت في لهفة بصوت يرن بالسعادة والأمل:
-الصندل!
ألبسها إياه في قدمها الصغيرة,فمشت خطوتين ثم عادت وهي تضحك,نزلت من علي الرصيف ومشت فوق الطين لتتأكد أن قدمها محمية,فزاد ضحكها,وبدا لها غير موجود,انخرطت في شخصيتها الجديدة ذات الصندل,تركها وعاد للشقة,تبعه الأطفال كلهم يريد منه شيئاً,تشغيل الكمبيوتر,ورق رسم وألوان,قصة جيب أو كتاب كوميكس,دنا منه سمير بنظارته السميكة,يخشي الاصطدام بشئ لضعف بصره:
-يا عم يوسف...هل ستكمل لي يوم ما بدأناه أمس عن أبطال حرب أكتوبر العظيمة؟
-سنكمل يا بطل اليوم ما بدأناه بالأمس,وغداً تكملونه أنتم.