الجمعة، 16 أغسطس 2019

صوت أم كلثوم


صوت أم كلثوم لا يعرف الفيزياء,له قوانينه الخاصة,يحمله الهواء ليستقر في الوجدان,يحل القلب محل الأذن,يوقف عملها ويتصدي للسماع بأنانية المشتاق,ينساب إليه مثقلاً بعواطف صافية,مفارقة للعالم المادي المحسوس,لم أجده في أي مطربة أخري في الشرق أو الغرب,الصوت آلة موسيقية تشدو منفردة,فتتفح في الروح مساربها الهاربة في زحام الحياة والهموم اليومية الصغيرة,مع كل حرف أعيد اكتشاف ذاتي من جديد,في وجد صوفي ملتهب,تنفتح أمامي رؤي بديعة,طاقات منيرة أطل منها علي الكون وقد اكتسي حلة الفن.
تغني للحب فأصبح أرق من وردة نزل عليها ندي الفجر,تهتف بحياة وجلال الوطن,يشتعل دمي حماساً وألتهب فخراً ببلادي,تنادي علي أبا الزهراء أو تناجي الروح الإلهية فأحن للنقاء الديني...أسمعها في كل حالاتي فأغدو إنساناً وقد تخليت عن همومي وأطماعي وأزماتي,وتجردت في محراب هذه النعمة المسبغة عليّ.
حين يختلط صوتها مع صرخات الجماهير المعجبة,اسمع صوت آخر,صوت مصر يصدر من زمن آخر,كان بهياً بفنانين وأدباء عظام,تخفت أصوات الجماهير وتتجلي وتنطلق منها الكلمات,تخترق كياني وتداوي جراحاً وندوباً خلفها صخب المهرجين وزعيقهم المزعج"طاخ,طوخ,طيخ"هكذا أسمعهم يكيلون لذوقي الفني ضربات قاسية تصيبني بالدوار وأكاد أفرغ جوفي.
سمعتها وحدي في الصحراء تصدح من مكان بعيد,كأنها عادت من جديد تغني لي وحدي,وتصحبني في عزلتي,هل  شعرت بالدفء حقاً أم خيل لي لنزول دموعي ساخنة,لفني صوتها ودثرني حباً وحناناً.
فخور بهذا الصوت النابع من قرانا المصرية منجم المواهب والابتكارات,ولحظات كثيرة تمنيت لو كنت أحيا معه حقيقة,أتلقاه مباشرة دون وسيط؛لذلك لم أتعجب أبداً من جنون وتعابير أهل الحفلات,لقد سمعته بعد عقود طويلة وقبلت جهاز التسجيل في ولهّ فما لهم لا ينفعلون حتي ترتج  لهم الدنيا وهو يتلقونه لحظة ميلاده عالمين أنه لن يفني أبداً.

الثلاثاء، 6 أغسطس 2019

مصرية في أمريكا


مصرية في أمريكا
غادرت رضوي عاشور القاهرة في فجر 30أغسطس عام1973,وعمرها  27عاماً,قبل شهرين من حرب أكتوبر المجيدة,في حوزتها حقيبة صغيرة داخلها جواز سفر ومحفظة جلدية بها صورة عائلية,تتشابك "صورة"صلاح جاهين المرسومة بصوت عبد الحليم,وفي ذهنها صورة لرفاعة الطهطاوي الذي سافر من قبل لتحصيل المعارف.
قدمت نفسها لأول من تعرفت عليه في أمريكا وكانا فتاة بولندية وشاب اسرائيلي,تفاجأت بجنسيته ولم تعلق"أنا من مصر,اسمي رضوي عاشور".
بدأت الدخول إلي الحياة الأكاديمية الأمريكية لتنهي دراستها عن الأدب الأمريكي الأسود,تعرفت علي مايكل رئيس قسم الدراسات الأفرو أمريكية,فتحت له قلبها,حدثته عن أشجان الهزيمة وعبرت له عن شعورها بالغربة والاضطراب,وفي حجرتها وجدت زميلتها لويز,نشأت معها مشاكل العلاقة بالآخر المختلف,وتوجسات الدين والثقافة.
ينتابها الحنين لزوجها الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي,الذي تزوجت منه رغماً عن أسرتها,وعند نشوب الحرب يستغرقها نشاطها في الجامعة,تتعرض لمضايقات الطلاب الصهاينة وتناقش الطلبة العرب والأمريكان,وتبرز لنا صراع الهويات بوجوهها الكثيرة وذوبان إنسانية الفرد فيها.
تتعرض لحادثة سيارة نتيجة لركضها بدنياً,ركضاً موازياً لتطلعات نفسها وروحها,ثم تتماثل للشفاء يزوها زملائها,يداعبونها بعبارات من عينة"طبعاً لم تعتادي السير بين السيارات..الجمال لا تدهم المشاة"ومن هذه العبارات تتبين صورة العرب المشوهة عن الأجانب.
تفرحها قصائد زوجها عنها,تدخل الألفة روحها مع حياتها الجديدة,تأتي زميلة جديدة في السكن اسمها أنيتا,يرتاحان لبعضيهما وتحكي لها عن أصولها العربية,مما يقربهما أكثر,وفي قسم"ديبوا للدراسات الأفريقية"نسبة إلي"ديبوا" أبي الوحدة الأفريقية-كانت زوجته هي من ساعدت رضوي في بداية حياتها الجامعية-تلقي  الحب والاحتفاء,أليست من مصر؟!والأفارقة يجلون هذه البلاد العظيمة الواقعة في نفس قارتهم,التي اقتلعت منها جذورهم,ويعتزون بها وبحضارتها ومساندة عبد الناصر لحركة تحرره الوطني.
تسجل شعورها الأنثوي وهي تقود الدراجة,المحرمة علي معظم الفتيات في بلادها,وشعورها بأنها"منفية من تاريخ الأزهر كلما لمحت أفاريزه ومآذنه ولو في الخيال,وأنا الحبيسة في تاء التأنيث لم تخط قدماي العاريتان أبسطة المسجد الألفي إلا كزائرة غريبة".
مع قراءتها لخطاب السادات بجريدةالأهرام في المكتبة,بعد الحرب شعرت بالخوف,بدا إنها استشرفت سياسته العجيبة اللئيمة في التعامل مع الأوضاع الخارجية والداخلية,المسببة للكثير من الأزمات التي مازالت نارها الخبيثة حية تسعي!بعد خروحها سألها زميلها
"-هل أنت مريضة؟
-كنت أقرأ الأهرام.يقول ياخدوا عشرة كيلو من عندي!
-من الذي يقول؟
-السادات كنت أقرأ خطابه,إنه يتكلم عن الأرض كأنها ملكه الخاص يتصرف بها كما يحلو له"
تعيش رضوي وتجذبنا معها,في شكل من أشكال الاحتماء والتآزر,بالآخرين في الغربة,عند وصفها لأوقات مشاركة الطعام,شباب مغتربين من دول مختلفة يجدون في بقائهم معاُ ما يزيل وحشة الغربة.
تنغمس رضوي في الحياة العلمية,هناك علي الجانب الآخر حيث التعليم والثقافة مع "كولديرج,و"شيلي"والنظرية النقدية للكتاب المثاليين الألمان,وتنتهز فرصة لم تتوفر للكثيرين ربما لو وجدوها لعبّوا من العلم كرضوي,ولتحسنت حال البلاد بدلاً من هذا الصدأ الذي يعلوها بفعل غياب التعليم غياباً تاماً!
في الربيع تقضي يومين بمدينة بوسطن,تزور طريق الحرية الذي يمر بأهم المواقع الأثرية المرتبطة بأحداث الثورة الأمريكية,لم تثر هذه الثورة في نفس رضوي اهتماماً ولا خيالاً,عكس الثورة الفرنسية التي فتنتها تفاصيلها وتتملكها كأنها طفلة تنصت إلي حكايات ألف ليلة وليلة.
عندما تعلق صديقتها"اللا":
"-هنا قتل خمسة أشخاص علي أثر مناوشة بين الأهالي والعساكر الإنجليز في مارس 1770,وهذه الواقعة هي المعروفة بمذبحة بوسطن"
تقارن رضوي بين الخمسة قتلي والخمسة آلاف شخص الذين حشروا في ملعب رياضي بشيلي في مذبحة انقلاب بيونشيه,من بينهم المغني والشاعر والعازف فيكتور خارا,وقد قطعوا يده قبل اغتياله.
مع صديقتها زوجة ديبوا يعود حديث السادات من جديد,تعبر رضوي عن حالة القاهرة الصاخبة بالاحتجاجات,وتردي الأوضاع الاقتصادية وانحسار الحريات,فيكون رد صاحبتها الغريب كسياسة السادات!
"-عند تولي ذلك الرجل تصورت أنه سيكون امتداداً أصيلاً لعبد الناصر.إنه نصف أسود كما تعلمين,ولقد استبشرت بذلك خيراً!"
في عرس ترفرف عليه الروح الإفريقية,يتم الاحتفال بزواج مايكل"لماذا في  الغربة نتشبث بالجذور هكذا و نروح في كل محفل نؤكد هويتنا,وهل هو الخوف,أم الحنين,أم إنه الزهو بحكايتنا المغايرة".
قاربت علي الانتهاء من رسالتها وتترجم قصيدة لزوجها وفي نفس الوقت تنظم فاعليات مضادة للإمبريالية,في واحدة منها يتم الإعلان"سقط سايجون في يد الثوار"تشهد هزيمة أمريكا في فيتنام,ولا تنطلي عليها الدعاية الزائفة لتحسين صورة أمريكا السياسية.
يسافر لها زوجها مريد وتزدهر في قلبها زهرة الحب السحرية,يحدثها عن الوضع في مصر وعن وفاة أم كلثوم,ولا يجد في موت هذه الفنانة العظيمة سوي خوف السلطة من تكدس الجمهور في جنازتها!ورضوي تهتم بجانبها القومي.
تفاصيل المودة الصافية والتفاهم بين زوجين مثقفان يتبادلان الأفكار والتصورات عن العالم في ألفة,لوحة جميلة رسمتها رضوي لعلاقتها بزوجها,وفي متحف الفن تدور بينهما الستاؤلات حول الفن"وما يجعل الفن فناً يامريد".
يطعن مريد ورضوي في الحلم الأمريكي ويرتقبان لعنة أوديبية أقسي من التي حلت بطيبة,والعجب كل العجب لمن يطعن في أمريكا ويتغاضي عن عيوب بلاده,ففيها تضيع طاقات شباب محرومين من تعليم كتعليم أمريكا والبلادالمتقدمة,ولا يحصد في النهاية سوي لقب مزيف وعقل فارغ.
تؤثر السياسة التي انتهجها السادات في البيت المصري علي بيت رضوي,يقبض علي زوجها ويرحل خارج مصر"ورغم ثقتي التي بلغت حد الإيمان بأن الأمور لن تستمر علي ما هي عليه,فقد كنت أعرف أن الأيام القادمة فعلاً أيام صعبة".


الجمعة، 2 أغسطس 2019

المتنبي في مرآة طه حسين


المتنبي في مرآة طه حسين
برقة معهودة من طه حسين مع زوجته,يهدي لها هذا الكتاب"ففي ظل هذه المودة درست هذا الشاعر العظيم,وفي ذري هذه الرحمة أمليت هذه الفصول.وإن قلبي ليملؤه البر ويغمره الحنان حين أذكر ما كنت تبدئين وتعيدين فيه,أثناء ذلك,من حث لي علي الراحة,ورغبة إليّ في التروض,وإلحاح عليّ في الاستمتاع بنعيم الحياة وجمال الطبيعة في جبال الألب,وما كنت ألقي به عطفك من إباء وإعراض,وما كان يثور في نفسك من غضب مصدره الرحمة والإشفاق".
يسرد ظروف تأليف هذا الكتاب,أثناء رحلته للاستجمام والراحة في إحدي القري الفرنسية الواقعة عند جبال الألب,وقد توفرت له فرصة لا يجدها وسط مشاغله وهمومه في البيئة المصرية؛ليصطحب فيها المتنبي,مع أنه ليس أحب الشعراء إليه ولا آثرهم عنده,بل هو بعيد عن هذه المنزلة,إنما يحاول اكتشاف سر هذه المكانة العظيمة التي يحتلها المتنبي علي مر الزمان,فيرسل خواطره كيفما اتفق علي هواه,حائماً حول المتبني وحوادث حياته الجسيمة.
يقسم طه حسين حياة المتنبي إلي خمسة مراحل:
1-صبي المتنبي وشبابه:وفيه حديث عن  نسبه الملغز,والظروف العامة المحيطة بولادته,والفترة التي قضاها  في العراق والشام وتجربته بين جدران السجن.
2-في ظل الأمراء:بداية تبلور شخصية المتنبي الطامعة للسيادة والسلطة,مبتذلاً نفسه وشعره طمعاً في التقرب من الحكام والأمراء,كالأوراجي وابن بدر وابن طغج وأبي العشائر.
3-في ظل سيف الدولة:الرجل الأشهر في حياة المتنبي,تسع سنوات قضاها معه أخرج فيها مدائحه فيه,ورثي أقرباؤه,ووصف حروبه مع الروم,وارتجل فيها الأشعار ليلائم مزاج سيف الدولة في الحوادث الفجائية,ثم الكيد والإيقاع بينها ثم إزماع الرحيل.
4-في ظل كافور:يورد فيها طرفاً صعوبات الحياة التي لاقاها المتنبي فترة مكوثه في مصر,وعلاقته المضطربة بكافور الإخشيدي حاكم مصرالذكي,المدرك لطبيعة المتنبي,مبرزاُ فيها دور الثقافة المصرية في تطوير شعره,وفي النهاية فراره من مصر وهجاؤه لكافور,يري طه حسين أن المتنبي في قصته مع كافور كان صغيراُ إذ مدح وإذ هجا,لكننا لا نحب الشعراء لأنهم يمدحون فلاناً أو يهجونه,بل لإجادتهم إذا أخذوا في المدح وإتقانهم إذا ألقوا الهجاء.
5-غنيمة الإياب:المرحلة الأخيرة من حياة المتنبي حتي ملاقاة حتفه علي يد فاتك؛لسخريته وهجاؤه المقذع  لابن أخته أحد أتباع القرامطة,الذين كان لهم شأناً هاماً في حياة المتنبي حيث جاراهم ثم هاجمهم.
في كل هذه المراحل يقف طه حسين عند أبرز القصائد التي قالها المتنبي,يقف أمامها معجباً أو ناقداً,في الحالتين صادق مع نفسه لايبالي إن أرضي أصحاب المتنبي أو أغضبهم.
في كلمته"بعد الفراغ",يمتعنا بآراؤه النقدية:
"إنما أريد أن ألاحظ أن هذا الكتاب إن صور شيئاً,فهو خليق أن يصورني أنا في بعض لحظات الحياة,أثناء الصيف الماضي,أكثر مما يصور المتنبي,وإنه لمن الغرور أن يقرأ أحدنا شعر الشاعر أو نثر الناثر,حتي إذا امتلأت نفس بما قرأ,أو بالعواطف والخواطر  التي يثيرها فيها ما قرأ,فأملي هذا أو سجله في كتاب,ظن أنه صور الشاعر كما كان,أودرسه كما ينبغي أن يدرس,علي حين أنه لم يصور إلا نفسه,ولم يعرض علي الناس إلا ما اضطرب فيها من الخواطر والآراء".
"شعر المتنبي لا  يصور المتنبي,أن شعر الشعراء لا يصور الشعراء تصويرا كاملاً صادقاً يمكننا أن نأخذهم منه أخذاً مهما نبحث,ومهما نجد في التحقيق"
"ديوان المتنبي إن صور شيئاً فإنما يصور حياة المتنبي,لا أكثر ولا أقل,كما أن هذا الكتاب الذي بين يديك إن صور شيئاً فإنما يصور لحظات من حياتي أنا,لا أكثر ولا أقل"
"إن نقد الناقد إنما يصور لحظات من حياته قد شغل فيها بلحظات من حياة الشاعر والأديب الذي عني بدرسه"
"ما أحق فكرة اللحظات هذه بشئ من العناية وما أدر العناية بها أن تردّ النقاد والأدباء الباحثين إلي شئ من التواضع هم في حاجة إليه"
في الختام يتوجه بالشكر إلي مساعده فريد شحاتة,المُملي عليه,وصديقه عبد العزيز أحمد ناشر الكتاب.
وهكذا تنتهي الرحلة التي صحب فيها طه حسين المتنبي,هذا الشاعر الذي"ملأ الدنيا وشغل الناس"علي حد وصف ابن الرشيق القيرواني له..وسيظل يشغلهم مادام الشعر.

الخميس، 1 أغسطس 2019

الحرية والعشق بين يدي"سيدات القمر"


في شهر مايو الماضي أعلن فوز الكاتبة العمانية جوخة الحارثي بجائزة المان بوكر,عن روايتها"سيدات القمر"بعد أن ترجمتها الأمريكية مارلين بوث تحت عنون"أجرام  سماوية",لتصبح أول كاتبة عربية تحصل عليها,ملفتة أنظار العالم,لوجود مواهب عربية شابة تسعي لإبراز نفسها علي خريطة الأدب العالمي,حتي وإن كانت عن المراكز الثقافية العريقة في المنطقة.
في البداية أهنئ من كل قلبي هذه الأديبة عن فوزها المستحق تهنئة صادقة,بعيداً عن كل هذا الجدل العقيم حول أمور جانبية؛لإفساد بهجة إزدهار بقايا الأمل وسط انهيار مرعب للثقافة العربية ككل وعجزها عن عن مسايرة العالم,الذي ينطلق في اتجاه المستقبل ونتقهقر نحن لنغرق في العتمة القاتلة,وأشد علي يدها وانتظر منها أعمالاً أخري لتساهم في محاولة ترميم جدار الثقافة العربية الذي يكاد ينقض فوق رؤوسنا و لا يجد من يقيمه!
في عام2010نشرت جوخة روايتها"سيدات القمر"راصدة التحولات الاجتماعية,في قرية العوافي كنموذج مصغر لما مرت به عمان من أواخر القرن التاسع عشر,إلي بدايات الألفية الجديدة,ومع كل شخصية ظهرت نري أثر التغيرات الكبري للمجتمعات في تفاصيل حياة الفرد العادي,بدءً من عدم قدرة المرأة من الصراخ أثناء الولادة إلي تحرر العبيد بحكم القانون,وسعي الجميع رجالاً ونساء أحراراً ومستعبدين نحو آفاق الحرية برحابتها,التي تحتل محوراً هاماً في هذا العمل,وقد اعتبرتها الكاتبة العامل الأول في إبداعها"بلا حرية لن أكتب كلمة".
رسمت صورة صادقة للحياة العمانية وغاصت في أزماتها بعيون فاحصة تفتش عن الماضي,فجعلت من التاريخ قصة حية حين جدلت من حياة الأجيال الثلاثة في عائلة التاجر سليمان وعائلة عزان أنشودة عن الفقد والحب والحرية والرغبة في الانعتاق,متتبعة حياة سليمان  نخاس العبيد وقسوته,ثم ابنه عبد الله الذي عاش حياة بين الحرية والاستعباد ثم ابنه سالم وابنته لندن, صاحبة الاسم الغريب الذي أطلقته عليها أمها ميا,ذكري حبيبها المفقود الذي عاد من لندن ولم يعرف بحبها له,لتغدو ماثلة أمامها بصورة ابنتها,وباسم يردد صدي حبها الضائع,ومنطلقة من حياة الأخوات الثلاثة أبناء عزان وسالمة"ميا,أسما,خولة.
علي الرغم من قصر هذه الرواية-223صفحة- إلا أن لغتها المكثفة وجملها الموجزة الخالية من أي فائض لفظي,جاءت عامرة بمعاني لامست القلب الإنساني فتملكت القلب والعقل بصور كما صرحت رئيسة لجنة تحكيم المان بوكر,ومن أجمل المعاني التي ترق لها النفوس وتهفو لها الأحلام"الحرية",التي تعتبر الأزمة الحقيقية للشخصيات وتتجلي أوضح ما يكون في أسرة ظريفة عبدة سليمان وزوجها حبيب وابنها سنجر,صيحة"نحن أحرار أحرار"الميراث الوحيد الذي ورثه سنجر عن أبيه الهارب,ليعود إلي موطنه المفقود بعد أن خطف منه ليباع من سيد إلي سيد وتفرقت أسرته بطريقة مؤلمة"قبل أن يهرب قال لظريفة أن الأغاني هي الشئ الوحيد الذي ظال عالقاً بذاكرته من لغته",رغم سطوة التاجر سليمان لم يمنع اتقاد هذه الشعلة المقدسة نحو التحرر في صدر الوالد والولد,حاول كبتها في ولده فجاءت النتيجة علي لسان زوجة عمه"تربية أبوك المتسلط لك سحقت شخصيتك",نجد عبد الله يشعر أنه يتحول إلي صورة من أبيه,كأن الجينات تأبي إلا الاستعلان مهما تبدلت الأحوال,ويتماهي مع صورة أبيه, لما تأخر ابنه خارج المنزل وقد فعلها هو من قبل,مواجهاً أبيه النخاس"ولد فطوم...ولد فطوم..تكبر علي أنا..تخالفني أنا؟..ولد فطوم".
زمجر بكلام كثير,لكني قد فقدت الوعي حين هوت إحدي لكماته علي مكان ما في رأسي.تركني نازفاً عند الباب وحين أفقت كنت أسمع بكاء ظريفة ولا أراها.
صرخت:"أنا لم أعد ولداً,وسأخرج لأسهر مثل كل الشباب".
لكن صوتي كان أضعف من أن يسمع.
أكان علي خمسة وعشرين سنة أن تمر حتي أصرخ في سالم"سهران للآن؟... تخالفني أنا؟...؟
كان قد عاد في الثانية صباحاً وخيل إلي أنه سكران,أردت أن أصرخ في وجهه أكثر,لكني لم أتعرف الصوت الذي خرج مني.
لم يكن صوتي.
كان صوت أبي في عتمة باب بيته يلكم وجهي ورأسي.
تعود قضية وراثة سمات الأسلاف بوجهها الوضاح,مع الشيخ مسعود وحفيدته أسماء"كان ولداً ذكياً شغوفاُ بالعلم,حاول الالتحاق بالمدرسة السعيدية في مسقط وهو فتي,ثم رأي أبوه أن الحياة في مسقط خطرة علي سليل قبيلة مثله,تعلم الولد علي أيدي المشايخ وأئمة المساجد متنقلاُ بين المراكز العلمية آنذاك في نزوي والرستاق,ولكنه لم ينس حلمه القديم في المدارس العصرية.
حين كبر حاول مع آخرين أن يؤسس مدرسة جديدة عصرية في مدينة ساحلية مفتوحة,اختاروا مدينة صور,وبدأوا بالتخطيط والتجهيز للمدرسة,وضعوا أساس البنيان,لكن أوامر عليا صدرت لهم بالتوقف.في الأربعينيات كانت السلطة مذعورة من فكرة تعليم العمانيين,قال أحد المسؤولين الكبار, لحليفة الإنجليزي"هل نعلم العمانيين كما علمتم الهنود الحمر فثاروا عليكم,وعما قريب سيطردونكم"هكذا أجهض مشروع المدرسة في صور وعاد مسعود لكتبه المجلوبة من مصر والشام.
سالمة وهي تحكي لأسماء عن جدها,لم تعرف كيف تبرر دأب والدها علي التعلم,ولكن أسماء,التي أحست إحساسه نفسه,همست لأمها"التوق المحرق للعلم"فهذا التوق أحرقها كما أحرق جدها من قبل,رغم عشرات السنوات بينهما".
هنا عماد شخصية أسماء,فأبرز مافيها حبها للقراءة وشغفها بعالم الكتب,وهي كتب من التراث لم تجد سواها!"فهي لم تر مكتبات أخري في حياتها",ومع ذكر قضية التعليم ,يتهيج في داخلي الجرح الغائر في عقلي ووجداني مصر بعد أن خبرته وأدركت مدي قدرته علي ذبح العقول وتشويه الشخصيات,في الرواية كان المدرس المنوط به تعليم الأولاد من جيل عبد الله مصرياً,صحيح أنه لم يكن علي المستوي المطلوب هو أيضاً-كأنه إشارة للحاضر المرير-لكن لا يمكن الإنكار أن مصر كانت ملكة محيطها العربي وصاحبة ثروات بشرية جمة في مجال التعليم,قبل تجفف منابعها الفكرية والعلمية وإحلال مكانها برك آسنة يفوح منها الجهل والتفاهة...ولا حرية بغير تعليم,كما فعلت الهند.
عنوان الرواية يحيل في ذهني إلي قصيدة هايكو للشاعر الياباني باشو:
شيئان يسرقهما القمر
الضوء من سيقان الأشجار
ويوم من حياتي
ترتبط المرأة بالقمر منذ العصور الأمومية المبكرة في تاريخ البشرية,عندما كانت إيزيس وعشتار وإنانا سيدات الكون المتحكمات في الملكوت,القمر هو الزمن الذي يتشظي في السرد كفتات ينتظر إتمام القارئ للنص,ليخلقه من جديد في وعية,حينها تنه صورة الحب رهيفة المثال,مثقلة بأكداس من مر الواقع.
"ميا التي استغرقت ماكينة خياطتها السوداء ماركة الفراشة,استغرقت في العشق"من السطر الأول تلتمع كلمة العشق السحرية,"عشق صامت لكنه يهز بدنها النحيف كل ليلة في موجات من البكاء والتنهد"عشق الضني لا يخلف سوي الأحزان,إرهاص ينذر بتهاوي أحلام العشاق.وحدها أسماء مع زوجها خالد استطاعا العبور إلي مرفأ الزواج المستقر.
ميا لم تحب في حياتها سوي علي  بن خلف غير الشاعر بإحساسها نحوه,خوة انتظرت ابن عمها سنوات حين رحل لكندا وبعد زواجها منه وتكوين أسرة تركته راحلة عنه بسبب أشباح من بلاد هجرة زوجها,فكان حبها بين رحيلين.
نجية وعزان حبهما وفراقهما حكاية من عالم الواقعية السحرية,موشاة بأشعار عربية عن الحب في صورته البكر,عشقهما موصول لا ينفصم,ليس إلا السحر والنجوم ما يقطعه,وأعتقد أن عنوان"أجرام سماوية" في ترجمة مارلين بوث كان في وعيها وهي تصكه,هذا المعني الرابط بين العشق والأفلاك.
جوخة الحارثي...ألف مبروك!
محمود قدري