الخميس، 31 أغسطس 2017

قربان للحور

قربان للحور
علامات الزمن علي وجهه في الصورة التلفزيونية لم تحُل دون معرفته,تلك العينان القلقتان بنظراتهما الهيستيريا طالما قابلته في طفولته, يتذكره بصراخ وسباب أمه ودعائها عليه وهو يزعق فيها مطالباً بالمال,يصعد الطيبون من أهل الشارع محاولين ترضيته رأفة بالأم المحزونة.يسمع من شقته في الطابق الأسفل الأصوات متداخلة متشابكة لا تكاد تتميز,ينشق عنها صوت جهوري"لا أريد منها هذه المرة مالاً,أريدها أن تخطب لي نجوي ابنة علي البقال"...هذا جاره القديم الصبي المدمن المعربد فؤاد خميس...مفجر ابنته لأشلاء تناثرت أمامه علي الأسفلت.
عيد ميلادها التاسع الشهر القادم,أول عيد ميلاد سيحتفل به مع لوحتها التي يرسمها بدأب,محاولاً استعادة الحقيقة بصورة فنية,استبدال المحسوس الواقعي بالخيال الفني,خلق الله  هذا العالم بالشكل واللون والأبعاد كصورة لعالم آخر,العالم الذي تحيا فيه ابنته الآن.
-سأسميها "موناليزا"ليكون لها سحر وجاذبية عمل دافنشي العظيم.
قالت أمينة وهي تغالب آلام الشهور الأخيرة للحمل:
-موناليزا حسام بدر...جميل.
صاح حسام بفرح محدثاً نفسه:
-أسابيع وتجئ لك الموناليزا بنفسها!
كدكتور جيكل ومستر هايد,عاش حسام حياتين مختلفتين,حتي خاف علي نفسه الشيزوفرينيا,منذ الصباح وحتي وقت متأخر من المساء,يعمل في محل ملابس في حي شعبي صاخب لو زاره موتسارت لنسي مقطوعاته من ضوضاء الورش ونداءات الباعة وردح النساء وعراك الرجال,يتجلد أمام قنزحة سعيد ابن صاحب المحل وطلباته التي لا تقف عند حد,وأسلوبه المتفرعن,ومجادلة الزبائن وطول بالها في الفصال,اللحظة التي ينهار أمامها داخلياً حين تخرج من السماعات المعلقة علي الحائط الأغاني السوقية البشعة من هاتف سعيد يشعر بالغثيان والدوار وتصبح أعصابه حساسة لدرجة أن هذا الفنان الرقيق يفكر في إحراق المحل كله بمن فيه, يراقب الساعات والأيام التي يستنزفها الزمن من حياته بعيداً عن حياته الفنية بأسي وإحباط,لكن لأجل الموناليزا وضمان حياة كريمة لها ليأتي الزمان بما شاء, سيجده كأبي الهول راسخاً في مواجهة المحن,ناظراً في اتجاه الشمس بصبر واحتمال ورثه من جده الذي رفع أحجار الهرم العملاقة علي كتفيه.
في الساعات المتبقية من الليل حين يعود للمنزل,ممنياً نفسه بأحضان أمينة التي تسعه في حنان,يتقلبان سوياً علي جمرات الحب اللذيذة!يستمتعان بنشوة الوجود الأولي وذروة الاتحاد بين جسدين ليصيرا في لحظة معينة واحد لا يشعر أحدهما بنفسه قدر ما يشعر بالآخر,في الليل يخلو للحب والفن,يمتع أذنه بعزف أندريه ريو وجورج زامفير محلقاً مع سيمفونيات بيتهوفن وشتراوس وفاجنر,وعينه بمشاهدة اللوحات الفنية ,ويديه بالخلق الجديد علي لوحة بيضاء كأمنياته للإنسانية!
يُقال أن العذاب الشديد الذي هدد سليمان به الهدهد وضعه مع طيور من فصيلة أخري!الوسط الذي عاش فيه حسام طوال عمره كان عاجزاً عن فهمه أو التواصل معه,ذنبه وعقابه كان ثوران العقل وعنفوان التفكير وحساسية القلب,بين السخرية والحقد والاستهزاء عاش حياته في المجتمع المصري,ملاحظاً أنه كلما زادت وسائل المعرفة وتعدد طرق الانفتاح علي العالم,زاد انغلاق العقول وضربت التفاهة و الاستسهال كل شئ,نجا نفسه من نظام تخريب العقول في المدارس مبكراً,لم يطق صبراً بعد الثانوية العامة-أكبر مرحلة في النظام الإجرامي,وخرج متقززاً مما جربه ورآه,مدرسون جاهلون متخلفون يتجرع منهم الأطفال نفس الجهل والتخلف,وبدون وجه حق وعن طريق الدروس الخصوصية وحفظ القوالب والكليشيهات وسكبها في ورق الامتحانات,يتحصلون علي شهادات وألقاب,يتبرأ منها العالم المتقدم ولا يعترف بها,بينما في مصر هي معبودة الأسر البسيطة ومسعاها,من يتمنون في الدنيا رؤية ابنائهم وقد حملوا الشهادات كما يحمل الحمار الأسفار.
عاش حسام لا يري في الدنيا جمالاً ولا لذة ولا روح,إلا في المرأة والحب؛لذلك امتلأت حجرته رسومات لوجوه وأجساد متخيلة أو مستلهمة من شخصيات نسائية شهيرة من التاريخ والسينما,درة أعماله لوحة لنفرتيتي تستحم وسط وصيفاتها,وقد اغمضت عينها في استسلام,أثناء عمله علي هذه اللوحة شعر بدخول زميله المستهزئ به غيظاً من موهبته التي يتمني لو حاز ربعها رغم محاولاته:
-هل هذا هو الرسم؟!
تلاقت عيناهما فنظر له صفوان شذراً من الغيظ,وأكمل بلهجة متعالية:
-لا والله,يبدو أن هذا الشئ الساذج لا يخلو من جمال ما!كمل...كمل من هذه المرأة العارية قليلة الحياء؟
عقل صفوان الضيق صاغه وشكله حسام بكلامه وشروحاته لتصير مداركه أوسع,كان بالنسبة له مجرد أذن تسمع وتسمع,وحسام يتكلم ويتكلم,مع ذلك لا يلقي منه سوي الازدراء علي طريقة الإعلاء الوهمي للذات باحتقار الآخر,وهذه الشخصيات نبتت في أرض المديوكر,الكثيرون منهم لا يرقي حتي ليصير مديوكر محترماً,لا يجدوا قيمتهم ولا ذاتيتهم,إلا بتشويه الآخر والتقليل منهم ليغدوا أمام أنفسهم في المقام اللائق,كان حسام وصفوان جليسا تختة واحدة أيام المدرسة,صفوان استعبد عقله نظام التعليم فأصبح مثله سطحياً تافهاً لا يري أبعد من قدميه,ذات يوم وحسام سارح في عبقرية الحياة وألغازها,أوقفه المدرس الأحمق وسأله"ماذا كنت أقول الآن"وقف حسام متلجلجاً محرجاً يود لو قال"بالتأكيد كلام تافه لا أريد سماعه",رفع صفوان يده ليجيب,أمر الأحمق الحمقي أن يصفقوا له,وقال ساخراً"ليعطينا الله طول العمر لنري أين ستكون أنت وأين سيكون من بجانبك"بكي حسام مجروحاً بمرارة,وعزم لحظتها أن يخرج من هذا العالم المدمر.
خرج من دنيا المدرسة لدنيا العمل,فوجد أن كل ما حوله لا ينتج شخصاً سوياً علي الإطلاق,عاني المعاناة التي كانت من المفترض أن تصيب هدهد سليمان,وكما أُنقذ الهدهد أنقذته أمينة,شاهدها فحدثها فأحبها فكانت روحه الضائعه وشريكته التي انتظرها طوال العمر.
رفضت نجوي فؤاد فزاد جنوناً علي جنون,هدد وشتم ثار,في اليوم الذي أبكي فيه المدرس الأحمق حسام,انضم فؤاد لجماعة متطرفة ضمه واحد منهم رافقه في السجن, جعلته يعبد الحور العين,أصبح الله عنده مجرد وسيلة لوصال الحور,امتلأ دماغه الذي هده الحشيش والخمور,بأحاديث عن جسدها ورائحتها واستقبالها,فسكر من النشوة,وأصبح يستمني يومياً من فرط الشهوة,زملاؤه كانوا مثله متيمون بالحور,يتمنون الموت حتي ينالوهن وينكحوهن,متخيلين كافة الأوضاع المثيرة التي سيكونون فيها, لأجل الحور هانت الحياة عليهم وهان من فيها,كل شئ يرخص لامرأة لو بصقت في البحر جعلته عذباً!منهم من هاجر لسوريا المنكوبة,هدفهم الخفي الاستعباد الجنسي للنساء والعربدة الشهوانية,والحصول علي أكبر كمية من جوراي وغلمان الخلافة كالأيام الخوالي ضماناً لمتعة الدنيا...الأمر في الآخرة محسوم طبعاً!
-بابا أريدك أن ترسمني.
-يوماً ما سأرسمك وستكونين أجمل لوحاتي.
-ستكون أنت وماما معي.
-وهل نقدر علي فراقك؟
رضي بجنته الصغيرة الحلوة هذه,واحة يستظل بها في صحراء حياته القاسية,صحراء حقيقية لا يمكن أن تنبت وردة,أو يرفرف فيها عصفور,رغم حرمانهم من ماديات الدنيا عاشوا في سعادة,قبلة من موناليزا وابتسامة من أمينة,بالدنيا وما فيها,حمد الله علي نعمته وسأله الدوام,وتذكر قول أبيه ذات يوم"السعادة الحقيقية في الحياة السعادة الأسرية,زوجتك وبنيك حولك,تتشاركون الحياة بحلوها ومرها,والحب الحقيقي هو الذي يسع العيوب ويحتمل الصعاب,لو اهتز أو تنكر لها,فلم يكن حباً وإنما صفقة خسرت انهها وأنت الكسبان".
بات ليال كثيرة خاوي البطن ليوفر لهما الطعام الكافي,ولم يكن يشعر بالجوع أبداً,وانما بالامتنان,بل وربما بلغت به السعادة ليغني مع أمينة بصوتها العذب مثلما غني ليلة التفجير,وهم مبتهجين بلا سبب إلا أنهم مجتمعين"حبيبي لولا السهر ما حد شاف القمر,ولولا جرح الهوي ما كان له طعم الهوي,وأشوفك يا عيون حبيبي تحلي لي نار الهوي"
ناموا في سلام,وسهر فؤاد خميس يعد نفسه لينفجر غداً عند حلول الليل,متلقياً التهاني بزفاف بالجنة 72حورية,يأكل ويشرب الخمر جزاء للموت في سبيل الله.
لا يتوقف إلحاح البنت علي شراء العروسة الكبيرة في واجهة المحل المقابل,تلقاه بنظرات حزينة لا يحتملها قلبه,وصوتها الضارع يهزه"بابا العروسة",تحاول أمينة صرف انتباهها عن العروسة ,كلما وقفت في البلكونة ورأتها تدخل باكية"بابا متي ستشتري لي العروسة؟"
-غداً ستكون العروسة للعروسة.

في الصباح استلف مائتي جنيه من صفوان فقد غدا مدرساً ذاعت شهرته وكثرت أمواله لقوة عصاه في ضرب الصغار وتكدير حياتهم بعقابه المؤذي الشرير,نظام تربية يلقي قبولاً في حظيرة المواشي, فملك واحدة كبيرة جداً بها مئات الصغار يخرجون من عنده باكين متألمين كارهين للقراءة والمعرفة والكتب, والأهالي في حبور مطمئنين علي مستقبل أولادهم لعبقرية هذا المدرس .
حملت النقود في جيبها وجرت علي السلم تقفز فرحة بالعروسة"هيه...هيه"ونادت علي صاحبتها في البيت المجاور بأعلي صوت"يا ندي سأشتري العروسة",أخيراً نالت سعادتها الصغيرة وحلمها الضئيل,لكن حتي أحلام طفولية كهذه تحتاج لكسر نفس الآباء وتحملهم الدين وذل الحاجة.
استقبلت موناليزا العروسة في أحضانها,ولم تصبر علي الرجوع للبيت,فكت الكيس في سعادة وضمتها لها في حنان أمومي متأصل,وكلمتها"اليوم سنتعشي سوياً,ماما اليوم طبخت......"صوت قنبلة ارتج لها الشارع,هرول حسام وخلفه أمينة صارخة نحو محل اللعب,رائحة البارود والدم تملأه,تمزقت الدمي واحترقت,وعلي الأرض استلقت عروسة كبيرة متشبثة بها ذراع صغيرة,وعلي بعد خطوات جثة غير مكتملة لصاحبتها.
يوم عيد الميلاد التاسع,أنهي حسام لوحته,الموناليزا الصغيرة مبتسمة في براءة تحمل عروستها وفي الخلفية جنة خضراء واسعة,تمنح شعوراً بالطمأنينة والسلام,من خلفه سمع نشيج أمينة المكتوم,ودقات قلبها المحترق,بالكاد سمعها تهمس:
-حسام...ضمني لابنتي في اللوحة.


















الأحد، 13 أغسطس 2017

يونج ضد فرويد

الشغف المشترك والإعجاب المتبادل وحده هو القادر علي إطلاق الحديث بين شخصين,لحوالي ثلاثة عشر ساعة متواصلة بلا انقطاع,فقط كلام ونقاش وتقليب المواضيع لتتضح أبعادها وتنضج معانيها...هكذا كان لقاء يونج المحلل النفسي الشاب,بأبو التحليل النفسي فرويد الشهير "من حل اللغز الذائع الصيت,وكان أشد الرجل اقتداراً"قول سوفوكلس الذي نقش علي ميدالية أهداها له تلامذته في عيد ميلاده,طبعت ليها صورة أوديب وهو أمام أبي الهول يحل اللغز وينقذ المدينة ويعيد لها الاستقرار,بفضل التفكير واستخلاص نتيجة علمية كان من شأنها قتل الوحش!
هكذا ينظر لفرويد من قبل تلاميذه"الفرويدين"حيث يجلونه بشدة ويأخذون كلامه مقدساً ويدافعون عنه بكل الطرق,مسحورين بإنجازه وسحر اسمه وسعة تأثيره,حتي جاء من اعتبره فرويد خليفته في مجال التحليل النفسي ومثار إعجابه وتقديره كان يسميه أحياناً ابنه ووريثه, وكان يعتبره هو المفكر الأصيل بين تلاميذه الرجل الذي سيخوض بالبشرية في دنيا التحليل النفسي علي غرار عيسي بعد بينما فرويد سينظر لها فقط من بعيد كموسي!جاء يونج لينبذ الكثير من آراء فرويد ويتبني رؤاه الخاصة بالنفس البشرية,متحدياً بذلك سلطة الأب محاولاً قتله والتمرد عليه بحسب نظرية فرويد!!!
قد أُعجب يونج بفرويد منذ أن تعرف عليه عن طريق القراءة والمراسلات وحين قابله اعتبره أهم شخص عرفه قدر فطتنه وذكاؤه اللتان ليس لهما نظير,لكنه كان كأرسطو مع أفلاطون حين قال الأول"إني أحب أفلاطون ولكني أحب الحقيقة أكثر"وكألفريد آدلر خرج يونج عن عباءة فرويد,باحثاً عن هويته وهوية الإنسان,واليوم يدين العالم لفرويد ويونج لتأسيسهما مدرسة التحليل النفسي وبلورة اتجاهها المعروف الآن,حيث بدأ الغوص في أعماقه لتحديد عواطفه ودوافعه مخاوفه وطموحه تاريخه النفسي ومستقبله في عالم يثير الجنون والانتحار,كان لكل واحد منهما رؤيته الخاصة,مما أثري الحياة العقلية في مجال التحليل النفسي"لولا اختلاف الرأي يا محترم . لولا الزلطتين ما لوقود انضرم"بهذه الطريقة يتم دفع ركاب الحضارة والتقدم,بالجدل والنقاشات واستقلال الرأي والثقة في الذات والجهر بالاعتقاد الشخصي المبرأ من الهوي القائم علي أسس علمية,ليس  بالتبعية وتقديس ما لا يقدس واعتبار أن ليس في الإمكان أبدع مما كان,أو كما أرسل يونج لفرويد مقتبساً قول نيتشه"المعلم السيئ يكون جزاءه أن يظل المرء مجرد تلميذ,لماذا,إذن ينبغي أن لا تتجرأ علي مقامي؟أنت تبجلني,لكن ماذا لو سقط موضع تبجيلك واحترامك يوماً؟إحذر حينها ألا يضربك الصنم الساقط من عل ضربته القاضية!أنت لا تبحث عن ذاتك حينما تجدني,ككل الأتباع أتمني أن تخسرني لتجد ذاتك,فقط حينما تنفيني من داخلك يمكنني العودة إليك"
اختلف يونج مع فرويد في
1-اعتبر فرويد أن اللاوعي هو مركز الأفكار المكبوتة,والذكريات,وأن محركه الأساسي الجنس والعدوانية,رآه مخزناَ,لرغباتنا الجنسية,وينتج عنه الهيستيريا,والهيستيريا كانت مصطلحا شهيراً في زمن فرويد,نعرفه الآن باسم المرض النفسي.
ثم جاء تقسيمه للنفس الإنسانية لثلاثة أجزاء"الهو,الأنا,الأنا الأعلي"الهو يشكل دوافعنا ورغباتنا اللاواعية وعلي رأسها الجنس,غير مقيد بأي مانع من أخلاق أو حضارة أو دين أو ضمير,هو فقط يسعي لإشباع شهواته,الأنا هو إدراكنا الواعي,ذكرياتنا وأفكارنا التي تتيح لنا التفاعل مع الواقع المعاش,الأنا الأعلي وهو الضمير الرقيب علي التصرفات,الذي يمثل الأخلاق الاجتماعية المقبولة.
يونج أيضاً قسم النفس لثلاثة أجزاء بالإضافة إلي تقسيم اللاوعي داخل الهو,للاوعي الفردي واللاوعي الجمعي,بالنسبة إلي يونج يتضمن الوعي الفردي كلاً من الذكريات المكبوتة والحرة,واللا وعي الجمعي هو وعاء خبراتنا ومعارفنا التي ولدنا بها.
كان لاهتمام يونج بتاريخ الأديان والروحانيات تأثير كبير علي فهمه للنفس الإنسانية,فظهرت مفاهيمه للمندالا والصور الذهنية الأولية.
-2تأثير فرويد الشهير لتفسير أحلام الفرد ومن خلالها يمكن تحليل رغباته ودوافعه ومخاوفه وآلياته الدفاعية قلقه واضطرابه,شق به طريقاً ملكياً للوصول إلي نفس وعقل الإنسان,حيث يتيقظ في النوم ما كبته وأخفاه طوال النهار,يتحرر من الأنا والأنا الأعلي وينطلق حراً,معبراً عن أعماق الإنسان,ووظيفة المحلل النفسي هي رد هذه الرموز التي ترد في الحلم إلي معناها الصحيح.
الأحلام عند يونج تعتبر النافذة السحرية علي اللاوعي,وعلي عكس فرويد لم يكن يري أن كل محتويات الأحلام بالضرورة عبارة عن رموز جنسية متنكرة تنتظر تأويلها,فمثلاً العصا هي القضيب والفرو أو الطريق الزلق الناعم هو المهبل,وصف يونج الأحلام كمركز لصورنا الذهنية الرمزية,ويمكن تفسير الأحلام طبقاً لتجربة الحالم نفسه.
رفض يونج فكرة"قاموس الأحلام "حيث يتم تفسير الأحلام حسب قواعد ثابتة,فالأحلام تهمس لنا بلغة مختلفة مكونة من رموز وصور و مجازات,تشكل عالم الفرد الخارجي كالشخصيات والأماكن التي يراها الفرد والداخلي كالمشاعر والرغبات والاعتقادات.
وافق يونج علي أن الأحلام تعكس الكثير من أحداث الطفولة كما أكد فرويد في تفسير الأحلام لكنه رآها أيضاً مصدراً للتنبؤات ومصدر فذ للإبداع.
3-الجنس واحد من أكبر النزاعات بين فرويد ويونج إن لم يكن هو الأكبر علي الإطلاق,ففي حين تعتبر الرغبات الجنسية هي كل شئ عند فرويد حيث هو الدافع الخفي خلف كل سلوك,شارحاً لهذا المفهوم من خلال استعانته بالتراجيديا اليونانية من خلال عقدة أوديب وإليكترا,حيث تعتبر الرغبة في المحارم هي الرغبة المكبوتة لدي الطفل ثم تتطور فيما بعد عبر حياته الجنسية وتتجه لنساء أخريات
رفض يونج عقدة أوديب واعتبر أن العلاقة بين الطفل وأمه تقوم علي الرعاية والاهتمام وليس الرغبة الجنسية,واعتبر أن فرويد بالغ كثيراً في تقديره لأهمية الجنس,أن الجنس ليس سوي مظهر واحد من مظاهر القوي الدافعة للإنسان.
4-ككارل ماركس اعتبر فرويد أن الدين طريقاً للهرب عند الناس,وأنه استمراراً لحاجة الطفل لأب يحميه فجاءت فكرة الدين؛لتظلل حياة الإنسان طوال عمره بالحماية والرشاد وأنه يجب أن يحد.
اعتبر يونج الدين جزءً محورياً من حياة الإنسان,وعرض طريقة للتواصل اللاواعي بين البشر,فالرموز الدينية حاضرة في كافة الأديات وتُأول بمعني واحد.
5-الباراسيكولوجي
تشكك فرويد في هذه الخوارق دوماً,والمشهد في فيلم"طريقة خطرة"يوضح جيداً حاثة تصدع المكتبة عندما ربط يونج حدوثها بارتفاع درجة حرارة حجابه الحاجز وتنبأ بأن صوت الطقطقة سيحدث مرة أخري.
ظل يونج طوال عمره مؤمناً بالتزامن والخوارق في اللاشعور,وربما ورث هذا الإيمان من أمه التي كانت لها سابق تجارب في عالم الماورا ئيات,واهتمامه بتحضير الأرواحفي طفولته وحوادث كثيرة في تجاربه مع العلاج النفسي تظهر لنا دور المصادفات والخوارق في هيكلة ذهنه.

 وظهر مبكراً في اهتمامه بتحضير الأرواح في طفولته وحوادث كثيرة في تجاربه مع العلاج النفسي تظهر لنا دور المصادفات والخوارق في هيكلة ذهنه.


الخميس، 10 أغسطس 2017

ماذا تبقي للمسرح المصري؟


كلما شاهدت التهريج المبتذل المُشوه لصورة المسرح المقدسة في الأذهان,يتوغل في أعماق الجمهور,فيرتبط عندهم اسم المسرح بهذا الهراء الهزلي الذي يبث معاني السطحية والاستسهال باسم أبو الفنون,فكرت في داخلي من من الكوادر علي قيد الحياة في إمكانها بعث المسرح الجديد المصري,المسرح الذي أعرفه بتوفيق الحكيم ألفريد فرج علي سالم محمود دياب ميخائيل رومان صلاح عبد الصبور نجيب سرور أعمال البرنامج الثقافي المُلهمة العظيمة,محمود مرسي سميحة أيوب كرم مطاوع سناء جميل سهير المرشدي وعشرات الأسماء والأسماء في قائمة شرف المسرحي,يقفز في ذهني جلال الشرقاوي ومحفوظ عبد الرحمن-شفاه الله فشجرة الثقافة المصرية العارية لا تحتمل ورقة أخري تسقط -وفاروق جويدة.
وبنص فاروق جويدة ورؤية جلال الشرقاوي وبطولة محمود يس,سميحة أيوب,مدحت مرسي,أشرف عبد الغفور,قدم المسرح المصري واحدة من روائعه"الخديوي"قبل أن يخربه عيال النفط الباحثين الفارغين الباحثين عن الضحكة الرخيصة,والإثارة الجنسية والرقصة المبتذلة والقصة الساذجة,فتنزاح عظمة المسرح جانباً لصالح من يأتون طمعاً في سهرة ماجنة وليلة بين أحضان حسناء,أراها الآن متحسراً علي ما أصاب"مسرح مصر"من ضربة قاضية جعلت المهرج فناناً والفنان عاطلاً!
ألفت صوت سميحة أيوب من المسرحيات الإذاعية,أراها بأذني عبر صوتها وأطرب لها حين تفرح وأحزن حين تبكي,تهزني كسناء جميل وأمينة رزق,حين تتتجليان في الفصحي جلالاً وعظمة,ويقدمان أشهر الشخصيات المسرحية العالمية,وتزداد ألقاً صورة وصوتاً في دور أزهار حبيبة الخديوي القديمة المحبة لوطنها المتنبئة له بالسقوط والمدافعة عنه بالكلمة والحماسة حين يهوي بفعل  السفلة والأوغاد الذين تعجب صلاح عبد الصبور كيف ترعرع هذا الكم منهم في وادينا الطيب!
محمود يس في دور الخديوي...كيف كل هذا الرسوخ علي أرضية المسرح والخفة في تحليق الروح؟!هذا الصوت"الكلثومي"كما وُصِف يخترق السمع,فنعيش مع الخديوي حالماً في عالمه الوردي,بينما الشعب يئن من الجوع والحرمان,يحلم بالأوبرا في وطن يحلم بالرغيف,وبدار الكتب وعصا السلطة الغليظة تدق علي رأس الشعب,وبجنينة الحيوانات والوحوش نهبوا المنازل وقطعوا الطرقات,فكان لابد من السقوط والتعري في المزاد وسط السماسرة والتجار الحقراء,أهل الغرب السارق والشرق الغافل,أصحاب اللحي والبهلوانات,وككل الناس للخديوي نقاط ضعف فهو ككل الرجال يهوي النساء ويتاح له فرصة ارتشاف رحيقهن علي هواه,وككل الحكام تعميه السلطة فيقتل "صديق"صديق العمر الذي رفض أن يصبح كبش فداء,ظن أن المال هو الحل,هو النهضة,هو الجالب للأمان والازدهار,ونسي أهم مشروع...الإنسان.جري نحو القروض ولو اتجه نحو الارتقاء بالتعليم ورعاية أهل الفن والأدب وتخطيط جيد للسياحة لكنا أعظم الشعوب وسالت الأموال بقوتنا الناعمة,بدلاً من مد اليد وإتاحة الفرصة للدخلاء ليحكموا ويسيطروا سواء لبسوا بذلة أو عقال.

كلما عشت مع أثراً فنياً وتركت واقعي البغيض,حين أفيق من نشوة الفن وأري القبح حولي ملء السمع والبصر,أشعر بالغثيان وربما أردد مع الخديوي الذي ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعاً"ماذا تبقي لي؟...ماذا تبقي لي؟"

الخميس، 3 أغسطس 2017

العلاج علي فراش فرويد

كانت طريقة التداعي الحر التي تبناها فرويد بمثابة إعادة الحياة للذكريات والمشاعر والرغبات المكبوتة في عقل الإنسان,أشياء انطمرت بفعل الزمن القادر علي تبديد وتغيير الجميل والقبيح في حياة الفرد,وبعد تجارب عدة تبلورت علي يده في شكلها الأخير المعروف:يستلقي المأزوم نفسياً علي الأريكة في وضع الاستعداد للنوم,حيث يكون العقل متحرراً من الكوابح البغيضة في عالم اليقظة,ويستسلم للحكي والكلام,ومن خلال الكلام يتجلي للمعالج النفسي ما يعاني منه صاحب النفس القلقة.
هذه هي الطريقة التي جعلتنا نكتشف عالم "نورا كامل",الفتاة الوحيدة المقيدة في مجتمع فسد منذ زمن,وكلما شكي أحدهم من عفونة الجو حوله حولوه لهدف لإطلاق طاقة العنف والوقاحة التي أصبحت جزء من الحياة المصرية اليومية.
تحكي نورا علي بروح"شهرزادية"للمحلل النفسي فرويد كل ليلة قبل النوم جزءً من معاناتها مع نفسها والعالم المحيط بها,لجأت للتفسير العقلي المنظم وهربت للفضفضة الحرة مع أحد أهم علماء القرن الماضي,في إشارة إلي أن المنجي الوحيد لأزمات الإنسان هو العلم والمنهج العلمي القائم علي أسس ودلائل علمية,ففرويد كما أخبرها-في خيالها-ليس حاكماً عليها أو ناقداً أخلاقياً عليها أن تخجل منه,بل هو ممثل لروح المنهجية التي تسعي للفهم والمعرفة,وهما أصعب بمراحل من الحكم الفوري.
تسرد نورا لفرويد وهي علي فراشها الذي نسبته له ماضيها وذكرياتها,بصورة صادقة.الصدق هو سبب الإعجاب الأول بهذه الرواية صدق المشاعر وصدق التعبيرات,تحكي له عن وجهها الآخر صديقتها مريم,عشقها لأحضان رجل بعيد عنها يكتفي منها بمكالمات جنسية تؤجج مشاعرها وتترك شهوتها ملتهبة,حتي تطفئها بصورة غير اعتيادية مع أول رجل يتلقاها في أحضانه,وبالصدق مع الذات وعدم إخفاء تفاصيل ألمها تجد الحب الحقيقي الذي يتفهم ويتقبل ويسامح,وهما الفضيلتان المنسيتان في المجتمع المصري,فالكل ينكر ويحاكم ويقتل ,الكل خائف لا يثق في نفسه يتهرب من مسئولية الشراكة وثمن الصدق,رغم أن مريم مارست الجنس في اتجاه مختلف لا يؤدي إلي فقد العذرية,إلا أنها تشعر أنها فقدت عذريتها يوم أن تاهت في الطريق وأصبحت تسعي في لهفة لأول سراب يقابلها في صحراء الحياة,فقدت عذريتها الداخلية التي تجعل المرأة تهب نفسها للحبيب ليصيرا شخصاً واحداً مكتملاً في لحظات النشوة حيث يجربان لذة الإنسان الأولي ومتعته التي يصبو إليها,لكن مريم تهب نفسها في ظروف شاذة بلا روح ولا عاطفة غير إطفاء شهوة عند الرجل وتعويض حرمان عند الأنثي,ممارسة آلية تفقد العذرية من اللحظة الأولي,علي عكس الهبة العاطفية بتجدد العذرية مع كل مرة كأنها أول مرة.
أما نورا فهي مزيج من عُقد المجتمع المصري التي تتوالد بصورة مخيفة,حيث تصبح مثار اشتباه لمجرد كونها أنثي,فيفرض عليها الحجاب الظاهرة الاجتماعية المستحدثة في المجتمع,لإخفاء أزمته الكبري المتمثلة في المرأة والجنس,وكلما أنكر أو حاول الإخفاء تستفحل الأزمة,وتتفجر لو أظهرت الأنثي ساقاً أو أبرزت نهداً أو ردفاً,تجد كل من يحاول وأدها علي الطريقة الحديثة بالحجب والحجر,يتولّه ويشتعل رغبة,فتزيد حالات التحرش والاغتصاب بصورة لم يعرفها المجتمع من قبل,ولو ناقش الأدب ظاهرة الجنس بثوب إيروتيكي فني,يصبح كمن يضغط للمريض علي مكمن ألمه فيصرخ منادياً بالمنع والكف متفادياً الكشف عن نقطة ضعفه,وما يحسب لنهلة كرم هي مناقشتها للجنس بأسلوب جرئ,سبقته لها كتب التراث بصورة أكثر جرأة وتحرراً...طبعاً لم تكن توصف هذه الأعمال وقتها بالجرأة والتحرر,فقد كان للناس شغلاً أهم من مكافحة رغبة أساسية في حياة الإنسان.

تضغط الحياة اليومية علي نورا فتهجر حلمها في الكتابة,وترتدي قناع يرضي الأم والأب وبلدها والمجتمع والناس,مجرد فتاة عادية تعمل لكسب الرزق بلا روح أو رغبة أو تفكير عملها هو تقسيم الناس لفئات حسب مستواهم الاجتماعي والمادي في إحدي شركات التسويق,لكنها هي نفسها لا تدري كطبقة وسطي مجهولة الملامح -نسأل الله لها الرحمة والسلوان-لأي فئة تنتمي كما لا تدري أهي أنثي كما يخبرها جسدها أم طفلة كما يصمم أهلها,مسلوبة الهوية والإرادة تسير وسط زحام الحياة,خطوتها التالية انتظار العريس ثم إنجاب الأطفال وزيادة عدد أشقياء الإنسانية علي حسب شطارتها,حتي تقابل من يعيد لها حلمها كما أعاد فرويد لها ذكرياتها,الشاب الوسيم المثقف المتفتح زياد,لكن المفارقة أنه عقيم لا ينجب,بصورة تدعو للتشاؤم من زيادة أعداد أمثاله ممن يرون الحياة بمنظار مختلف,بدلاً من منظار القطيع الذي أضلنا إلي السبيل المعوج...علاقة نورا بزياد ربما يفهمها تلميذ فرويد المنشق عنه كارل يونج,فهو المؤيد لعلم نفس التخاطر والظواهر العجيبة في علم النفس التي نشأت بين الاثنين,في إشارات تدل علي أن العالم أكثر تعقيداً وغموضاً من أن يوضع كله في كفة التحليل العقلي,تنتهي الرواية بزياد مرفوضاً من أهل نورا لعقمه وبنورا وقد تجرأت علي نشر روايتها باسمها الحقيقي,ناظرة للسماء لتعطي إشارة لزياد علي سلوكها طريق آخر غير طريق الضعف الذي أضاعه من يدها بعد أن وجدت نفسها,جاءت النهاية سريعة ومفاجئة وكان الأجمل بعض التفاصيل قبل البتر بهذه الطريقة المتسرعة...نهلة كرم سردت أحلام وانهيارات وطريقة خلاص جيل مفقود من السجلات,جرت كل حياته في سرعة عجيبة حتي أصبح الزمان فجأة خلفه بعد أن كان أمامه يحلم به,جيل دُفع به في صخب الحياة وهو لا يحمل سلاح من تعليم أو تربية أو ثقافة وهو الآن مطالب بإصلاح سفينة الوطن,وهي مهمة لن تتحقق إلا بأن يواجه عيوبه الخطيرة ومشاعره المكبوتة المخيفة بفعل تدمير ممنهج منذ عقود لتصير هذه اللحظة الحرجة بكل إحراجها وقذراتها وفشلها الفظيع واقعاً مراً...وليس له تحلية سوي العلم والعمل والفن كمعرض مريم والأدب كروايتي نورا المفترضة ونهلة الواقعية,التي كسرت ما يسمي بالتابوهات,ومن قرر هذه التابوهات في العقول يسلب من الإنسان أهم مشاعره ويحولها لأعماق ذاته فتزيد ظلاماً وإرباكاً ولا تنطلق إلا علي فراش فرويد...