الاثنين، 6 أبريل 2020

الوباء


في أواخر عام 2019والصين علي موعد مع بداية أعياد رأس السنة القمرية,شهدت المستشفيات في مقاطعة هوبي وتحديداً في عاصمتها ووهان,ظهور حالات تعاني من الالتهاب الرئوي الشديد,مع استمرار تزايد عدد المصابين,أدرك المسئولون وجود فيروس غامض يصيب الجهاز التنفسي,وتتبعوا مصدره حتي وصلوا إلي سوق مزدحم بووهان,تتجاور فيه الحيوانات مع البشر,أطلقت عليه منظمة الصحة العالمية COVID-19 المعروف عالمياً باسم سلالته التي انحدر منها"كورونا" المشتق اسمها من اللاتينية ومعناه "تاج" لأنها بياناتها الجينية مكونة من شريط الحمض النووي الريبي المفرد RNAوليس المزدوج DNAكالفيروسات الأخري المسببة للإنفلونزا ,يحيط به غشاء مرصع بالبروتينات,يبدو تحت المجهر كأنه تاج ملكي, كلمة virusذاتها معناها "سم"كما أطلق عليها مارتينو بيجرينك(1851-1931),وللسير بيتر ميدابورا عالم المناعة وصف له ينطبق علي ما نشهده الآن"نبأ سئ مغلف بالبروتين".
 عائلة فيروس كورونا لها تاريخ قديم في الانتقال من الحيوانات إلي البشر كمرض "سارس" الذي انتقل من قط الزباد,و"ميرس"المنتقل من الجمال,أما العضو الأخير فقد انتقل من الخفاش للإنسان...وهكذا حل الإسبوع الأول من شهر إبريل وقد جاوز عدد مصابي هذا الفيروس شديد الانتشار المليون,مليون جسد مستوطن بالكورونا,ولكل شخص منهم حكاية,أصبحت الأرض موبوءة بالمعني الحرفي,ونتج عن ذلك تعقيدات ستستفحل مستقبلاً لو استمر الوضع في الانحدار,فنحن الآن نري صورة حية من عبارات ويل ديورانت في قصة الحضارة"الإنسان حيوان منافس مادام يخشي الخطر أو يذكر افتقاره إلي الأمن.كذلك حال الجماعات والطبقات والأمم والأجناس التي تفتقد شعور الأمن.فهي تتنافس بذات الحرص الذي يتنافس به الأفراد المؤلفة منهم,وبعنف أشد,لأنها أقل تقيداً بالقانون,وتمتعاً بالحماية,إن الطبيعة تدعو جميع الكائنات الحية إلي العراك"
 من هذا حذر الرجل ذو القامة السامقة بيل جيتس قبل سنوات,تحدث كزرقاء اليمامة وأخبر عن ضرورة التدابير لمصارعة وباء فتاك قادم,وللدهشة في التطابق بين الواقع المعاش والفني علي شاشة السينما يُذكر فيلم contagionالملئ بالمشاهد التي نراها الآن في العالم,عالم غريب تعود فيه الغرائز الحيوانية الكامنة فينا للظهور بوحشية بهدف النجاة ولو علي حساب الغير,بل والإضرار بالغير لو أمكن بنشر الفيروس!!حزين والله ومحبط,قبل شهور كنا نتحدث عن مستقبل الذكاء الصناعي وهندسة الجينات والرحيل إلي المريخ,واليوم مسدودة كافة منافذ الحياة ودخل البشر في مساكنهم يحتمون في جدرناها بسبب الجائحة هبت من الصين لتغزو العالم في عصر العولمة والانتقال بالطائرة في ساعات لأي مكان في العالم مما ساعد علي انتشاره في كافة أنحاء الكوكب الأربعة.
إيطاليا بلد الجمال والسينما الراقية والكوميديا الإلهية وأيضاً الأوبئة التي استوطنتها علي مر التاريخ حتي أن لفظة quarantineبمعني الحجر الصحي مأخوذة من الكلمة الإيطالية quarantena التي تعني أربعين يوماً وهي المدة التي كان يقضيها البحارة علي سفنهم لتأكد من خلوهم من الطاعون الذي اجتاح أوروبا في القرن الرابع عشر,تئن الآن وحيدة مخذولة تنزف أرواح مواطنيها في ظل تخلي الاتحاد الأوروبي عنها وقد تفشي فيها الوباء بصورة شديدة لأنها مزار ديني وسياحي يتكدس في شوارعها المزدحمة الآلاف الذين يجيئون لزيارة الأماكن الدينية أو السياحية,نفس الأزمة مع إيران التي تعاني هي أيضاً بشدة لنفس السبب يزيد عليهم إصرار الشيعة ورجال الدين دفاعاً عن رزقهم وسبوبتهم في العيش ووضعهم الاجتماعي, علي الاستمرار في الالتحام في الأماكن الشيعية المقدسة,مما مهد للفيروس بيئة خصبة للانتشار,فالأجواء الدينية عموماً تشعر الإنسان بحماية كاذبة وتزرع فيه الأوهام المقدسة التي تتنافي أصلاً مع الهدف من الدين,فقد تبرز أمامه الحقيقة لكنه يعمي عنها من فرط الحماس الساخن.
الميكروبات عموماً كانت شاهدة علي ظهورنا وتطورنا,وجدت علي كوكب الأرض منذ ما يقرب من ثلاث مليارات عام,إلا أن الإنسان لم يتعرف عليها إلا في أواخر القرن التاسع عشر,مع ترسخ النظرية الجرثومية علي يد لويس باستير وروبرت كوخ,حيث أكدت أبحاثهما أن الجراثيم هي المسببة للأمراض المعدية وانهارت نظرية المياسما أو الهواء الفاسد, مما جعلهما عن حق الأبوين الموسسين لعلم الميكروبولوجيا,أما الفيروسات فلم نتحقق من وجودها ونتعرف عليها إلا عند اختراع المجهر الإليكتروني عام 1929 عندها استبان أنها فصيلة متفردة من الميكروبات,فهي ليست خلايا وإنما هي جسيمات تتكون من غطاء بروتيني يحيط بمادتها الوراثية ويحميها,داخل هذا الغلاف توجد المادة الوراثية وهي إما rna أو dnaحسب نوع الفيروس,الطفرات التي تحدث للأول أكبر بكثير من التي تصيب الثانية,حيث من الممكن أن يظهر فيروس مختلف بحيث لا يمكن للجهاز المناعي أن يتعرف عليها الفيروسات الجديدة التي تصيب البشر ليست جديدة بالمعني الكلي فهي إما فيروسات أصابتها طفرات أو أعادت تشكيل نفسها في صورة يصعب علي الجهاز المناعي معرفتها, وعددها في العالم يفوق جميع أشكال الحيوات, حتي إنا لو وضعنا فيروسات الأرض في صف واحد لشكلت خطاً طوله مائتان ووخمسون سنة ضوئية, وقد وصف مدي خبثها عالم الفيروسات جورج كلاين"أغبي فيروس يفوق ذكاؤه أذكي عالم فيروسات ,تحدثت لنا في رواية كايرك ناتال سيرة فيروس التي تحكي عن فيروس ذكي يسمي بوب يتزعم مؤامرة ضد البشر هدفها سرقتهم والتحكم في عقولهم"نحن بدائيون...نحن قدماء...لسنا بالأحياء ولا بالأموات نحن علي قدر من البساطة,نحن وحوش قناصة نعرف كيف نزرع الموت والخراب أينما مررنا".ومن البكتريا والفيروسات تظهر الأوبئة وتعريفها"عدوي تحدث بمعدل تكرار أعلي من المعتاد,وقد تتفاقم متحولة إلي جائحة في آن واحد"وقد كان الجدري هو أكبر قاتل فيروسي فتك بالبشر.
للأسف في كل جولة مع الوباء كانت البشرية تدفع أثماناً عزيزة من النفوس سواء كانوا مرضي أو أطباء سقطوا صرعي الإجهاد من فرط مقاومتهم الباسلة للمرض كما حدث للدكتور محيي الدين التطاوي عام 1937وهو يطبب مصابي الكوليرا في المستشفي العمومي,وهو نفسه الباحث الذي اكتشف ابن النفيس من جديد أثناء دراسته في ألمانيا,في أوروبا كان الطاعون يجعل الرسامين يرون الموت يرقص فظهرت لوحات عديدة بهذا المعني,كان الموت يخيم علي الدول الأوروبية بصورة مفزعة استدعاها المخرج العظيم أنجريد بريجمان في فيلم الختم السابع أحد علاماته الفنية المحتشدة بالفلسفة الرمزية المكثفة وختمه بالمشهد الشهير للموت يقود رتل من الأشخاص نحو حتفهم.
في زمن الوباء يتراءي للناس نذر فناء العالم وتعود المرويات القديمة للظهور,وعلي وجه التحقيق تبدأ حقبة جديدة وتغلق أخري في ميلاد جديد للعالم,كما أشارت الحلقات الأخيرة لمسلسل world without endالذي رسم صورة درامية للطاعون حين ضرب إنجلترا وصراع العلم مع خرافات وقذارات رجال الدين في أوروبا قبل النهضة الكبري,وكانت تلك الجائحة إيذاناً بانتهاء عصر الإقطاع وسيطرة الكنيسة وبزوغ زمن دافنشي وديكارت,لكن الهوس بالموت ونبوءات الخراب والدمار تجعل فرويد يتمدد في قبره سعيداً لثبات نظرياته حول غريزة الموت في الإنسان وطغيان روح أبوكاليبس الوسواسية في عقول البعض,ومن ناحية أخري تستنهض همم العلماء والفنانين للدفاع عن الحق في الحياة الإنسانية,وفي الحق أنا لا أدري هل استمرار الجنس البشري أمر سيئ أم خير؟!
وإذا كانت الرؤي الثلاث تتمثل في الأطباء والمثقفين ورجال الدين,فيجب إسقاط الثالثة لأن كل الأديان تسعي للحفاظ علي روح البشر,بينما من يسمون برجال الدين لهم آراء ومواقف مقززة في الغالب,وإذا لم تكن تلك الأزمة بداية لإزاحتهم من تصدرهم للحياة العامة فمتي سيسقطون من الحسابات لأنهم وبرغم خلوهم من فائدة واضحة للمجتمعات,إلا أنهم عباقرة في إرباك أي حسابات والتشويش علي أي خطط حقيقية,ويجب وجود تعليم حقيقي في مصر والقضاء علي ذلك النظام المتخلف الذي يخرج مجموعة من فارغي العقول المحملين بألقاب أكثر فراغاً, لاستبدالهم بقادة رأي من علماء ومثقفين وفنانين ذوي وعي وعلي قدر من المسئولية تجاه أوطانهم,فنحن الآن كأطفال مذعورين في انتظار قيام العالم المتقدم بتصنيع اللقاح الشافي,ولكننا لا نكتفي بذلك بل ننجر للقاع بالتقليل منهم والسخرية بالضبط كما نسخر ونقلل من بعضنا البعض ونطالب المجتمعات الأخري بتقديرنا!!بدعوي أنهم دون أخلاق ومنهارين بسبب الوباء,إنهم في بلوي ولا قدر الله لا قدر الله لا قدر الله لو كانت أعدادنا هنا نصفهم لرأينا أضعاف من ذلك الذي نشمئز منه,فما زلنا في مرحلة معتدلة وإذا بالناس يخزنون الطعام وإذا بالأسعار مرتفعة والصدور ضيقة من بعضها والسلوكيات تنم عن جهل وعن جشع وعن تجارة في الأزمة واستغلال المصائب واحتكار البضائع والمواد الطبية.
يبدأ تاريخ الطب بأبو الطب أبقراط اليوناني أول من كتب في علم الطب الذي بدأ وانتشر في مصر القديمة,لكن أعماله هي ما بقيت في حوزة التاريخ, وحرره من الشعوذة الدينية,وصاحب كتاب"إبيذيميا" الذي شرحه جالينوس وترجمه حنين ابن اسحاق وهي الكلمة التي تحورت في الإنجليزية إلي epidemic بمعني الوباء"وتأويل ذلك(الوافدة)وهو المرض الواحد الذي يعرض لجماعة كثيرة في وقت واحد"