الأحد، 11 يوليو 2021

واحة الغروب ١

  الأعمال الفنية الكبري تدفعنا للبحث والدراسة،فبذلك تشتمل علي متعتين معا:المتعة الروحية بالاستمتاع بالعمل الفني،والثانية المتعة العقلية بتشغيل الدماغ،ومسلسل واحة الغروب المقتبس عن رواية بنفس الاسم للكاتب الأستاذ بهاء طاهر-أحد الروائيين المصريين الذين تتنفس أعمالهم عذوبة لا تجدها سوي عند أصحاب العقول البهية والقلوب الطاهرة-ضمن تلك الأعمال التي تثبت أن الروح المصرية خالدة لا تموت،ينهار التعليم تماما ويصبح مسار لإخراج عقول فارغة،ويتلوث الفن بالأدعياء والمتملقين،وتتهاوي صروح القوة الناعمة تبعا لأمثال تلك العوامل فننوح ونندب،لكن عندما تقدم كاملة أبو ذكري كمخرجة عمل كواحد الغروب،كتب له السيناريو والحوار مريم نعوم وهالة الزغندي ومديرة تصويره نانسي عبد الفتاح وتقوم ببطولته منة شلبي،يحق لنا أن نفرح ونبتهج بالمرأة المصرية وقدراتها الفنية المدهشة،هكذا أحب الحديث عن بنات إيزيس،في موضوعات كتلك،بعيدة عن كم القذارة والبشاعات التي تثار ليل نهار عن أمور إما تافهة أو مقززة،إني لا أريد في هذا العمل أن اسير سير النقاد،بل إني مشاهد يتوق للاحتفاء بعمل أسعده أخيرا بعد سنوات من هيستيريا الفارس التعيس والميلودراما المتهافتة والضحك علي الذقون، ومواطن شغوف بالتاريخ المصري طالما أرقته سيرة الثورة العرابية،هزني في بداية تعرفي عليها عن طريق القراءة،سيرة البطل محمد عبيد،وشخصية عرابي الذي تعرض للخيانة من الجميع كأنه شخصية من التراجيديا اليونانية،تواجه القدر الغاشم وغدر الأقربين،وابرع طرق الخيانة والغدر لا تجئ إلي من الأقربين. تبدأ أحداث المسلسل بيوم من أصعب الأيام التي شهدتها مدينة الأسكندرية في العصر الحديث ١١يوليو ١٨٨٢،عندما ضرب الأسطول الإنجليزي مدينة الأسكندرية،بحجة أن عرابي يقوم بتحصينات في حصون المدينة وطالب قائد الأسطول تسليم بطاريات المدافع المنصوبة في رأس التين وعلي الشط الجنوبي،يرفض الجيش الباسل طلبات القائد الإنجليزي،فتقصف المدينة حتي غروب الشمس!!!وتذكر الصحف الأجنبية حجم الدمار المهول الذي لحق بالمدينة،فطلقات البوارج المحمومة لم تفرق بين مصري وأجنبي ووصف أديب إسحاق ومحمد عبده الفاجعة التي أصابت المدينة،واحتج الشرفاء الإنجليز علي المذبحة واستقال بعض المسئولين،والواقع أن ضرب الأسكندرية في ذلك اليوم حلقة من سلسلة طويلة في الصراع بين الشرق والغرب. نقلت أحداث ذلك اليوم الأسود في تاريخ مصر كاملة أبو ذكري،وصورت مع نانسي عبد الفتاح لوحات تشكيلية غاية في الجمال،وكالعادة أداء متمكن ينساب من خالد النبوي(محمود عبد الظاهر) الذي يشدو مع فريق العمل أنشودة للفن والجمال ستبقي مثيرة للإعجاب علي مر الزمن،وأداء شديد الإتقان من خالد كمال(طلعت) الذي أتمني في مشاهدته في أدوار مفرود لها مساحات أوسع تليق بحجم تلك الموهبة الفياضة،نشاهد ضابطين مصريين يذودان عن حمي الوطن في وجه المدافع الجبارة يهتفان مع الشعب "عاش عرابي عاش"،بينما الضربة تأتيهما من الداخل عن طريق خيانة الأجانب وأذنابهم المصريين،يتألق خالد كمال في مشهد المواجهة مع البدو الذين ينهبون الدكاكين،ضحكات مجنونة تجمع بين الأسي والألم،يعقبها طلقات رصاص تصيب الجميع! يعود محمود عبد الظاهر إلي القاهرة،حيث الوضع يختلف،ففي الأسكندرية عرابي متهم بالخيانة بينما هناك هو بطل ورفاقه أبطال،تحممه جاريته نعمة)مها نصار)بحنو فتزيل عنه آثار الدم والمعركة،وتحكي له حكاية فيعود طفلا يتطلع للمزيد،ومع الاتصال الجسدي بها،تتحرر روحه فيحكي ويبكي. تحية:لمهندس الديكور فوزي العوامري علي الإسكتش المدورس تفصيليا لمذبحة الأسكندرية. لماذا أضاع محمود نعمة من يديه؟ نتجرأ ونتبجح امام من هم أضعف منا أما الأقوياء فنتقي بطشهم بالأكاذيب. الحلقة الثانية تدور بين الكذب والصدق،بين الحق والباطل بين الشجاعة والخوف،بينما تعيش نعمة لحظة سعادة،تهفو كأي امرأة لكلام الغزل وحديث الحب،فتسأل محمود إذا كان يحبها،فيجيبها بصرامة أنها ليست سوي جارية،ويمنعها من الكلام الفارغ،تهرب نعمة من البيت بعدما طعنها بكلامه الذي أفقدها الأمان،إن نعمة هي ماضيه وحياته التي تنتهي الآن ليبدأ عهد جديد من حياته بالكذب والخيانة، حينما يتبرأ من الثورة العرابية هو وصديقه طلعت،لقد كسر الولس عرابي وما بدا أنه بعث جديد لمصر يتحول لهوجة يقودها مجموعة من العصا. قريبا من مدينتي دمنهور الضارية جذورها إلي عهد سحيق،وصلنا أنه يبتدأ بحورس ابن إيزيس،قامت معركة التل الكبير في كفر الدوار،هذه المعركة تمنيت أن تقدمها لنا كاملة أبو ذكري لكن ربما لصعوبات إنتاجية حرمت الفن المصري من مشاريع عديدة،ليس من السهل تقديمها،لقد كانت ملحمية بكل المقاييس،تشبه المعارك الكبري التي تبرع فيها هوليوود،لقد انهزم الرجل الذي عرف نفسه"إنني ابن فلاح مصري.وقد اجتهدت قدر طاقتي أن أحقق الإصلاح لوطني الذي أنا من أبنائه ومحبيه"وكانت رغبته"وسوف يرضيني دائما أن أنادي بأحمد عرابي المصري فقط،وبغير ألقاب.لقد ولدت في بلاد الفراعنة وستظل أهراماتهم قبري.إن الأمة المصرية بأسرها كانت معي،وصحبة لي،كما أني محب لها أبدا،فآمل أنها لا تنساني"وجاء أوان الانتقام من رفاقه،ولأن الدراما الحقيقية هي نحن دون زيادة أو نقصان،ولأن البشر جبناء يجري فيهم الخوف مجري الدماء،يتنصل محمود من عقيدته الوطنية أمام لجنة التحقيق،فهم ليسوا نعمة الجارية التي يمتلكها،يحدق في عينيها بجرأة وهو يهينها،إنهم الأجانب الآمرون الناهون في مصر في الفترة الكئيبة التي تلت هزيمة عرابي،وبدون افتعال نستشف من خالد النبوي الإحساس الممزق بين التناقضات داخله،التي تنتهي بالانضمام لحلقة ذكر مباشرة بعد الخروج من أحد الكباريهات. تحية: لخالد كمال في مشهده مع خالد النبوي وهو يحاول إقناعه بالمنطق المجرد ليتنصل من الثورة العرابية،ومشهده أمام لجنة التحقيق،أداء يعمر الدماغ ويجعلنا نتساءل لماذا يتصدر الأراجوزات الذين يسيئون لفن التمثيل أدوار البطولة،بينما أمثال خالد كمال يطلون علي استحياء؟!!! ولمها نصار في دور نعمة الذي عبر علي الشاشة كنسمة جميلة،عرفنا منه معني الحنان ومعني انكسار النفس،الأول ما يتوق له المرء والثاني هو ما يعذبه،تبدلت هي في الإحساسين بصدق،فكانت تستحق أن تثير الإعجاب علي السوشيال ميديا وقت عرض المسلسل لتثبت أن النجومية ليست اسم علي أفيش،أو أجر ضخم،بل هي النسمة الجميلة التي تنعش روح المشاهد وليس الظل الثقيل الذي يجثم عليه ٣٠حلقة! في الحلقة الثالثة والرابعة نري كاثرين(منة شلبي)لأول مرة،حيث تنضم للمسافرين علي متن ذهبية تعبر النيل،ومن ضمن المسافرين محمود كقائد لطاقم حراسة أحد أفراد الأسرة المالكة،لقد ولت ايام الضرب في الأسكندرية مضي عليها عامين،لكن ظلت كراهية محمود للإنجليز مستعرة،يصد تقرب كاثرين منه بفظاظة،حتي يعرف إنها أيرلندية وليست إنجليزية،وإيرلندا من الدول التي ضمها التاج البريطاني،وظلت تكافحه بشدة حتي وقدم أهلها تضحيات عديدة في الصراع مع الاحتلال البريطاني،ولم تنته أزمتهم حتي اواخر القرن العشرين!!!وهي البلد الذي منح للإنجليزية مؤلفات خالدة بقلم أدبائها الكبار من أمثال أوسكار وايلدو جوناثن سويفت وجيمس جويس وصامويل بيكيت وجورج برنارد شو،لهؤلاء الناس تنتمي كاترين وتشارك محمود كراهيته للإنجليز،يتغير موقف محمود تجاهها لما يكتشف جنسيتها،وتتبدل الابتسامة محل التجهم والمودة مكان الجفاء،وفي الماء يتعمدان بالعاطفة القدسية...الحب بين الشرق والغرب...الحب الذي سيلد مآس عدة. مع السنوات يزيد نضج منة شلبي،وينضح عليها الزمن سحر خاص،طلتها الأولي بشخصية كاثرين المتعثرة للغاية في الحديث بالعربية،والشغوفة بتاريخ مصر القديم ،تثبت قدرتها المدهشة علي تقديم شخصية بهذا التركيب المعقد،لتفارق الشخصيات المبسطة السهلة، التي كتبت نجوميتها،ولتبدأ مرحلتها الفنية الحقيقية بأدوار مختلفة مكتوبة بعناية،ومع الاحتكاك بين الغرب والشرق نشاهد المصري الذي انحدر به الحال من ملك للدنيا،إلي صبي فقير يحمل الشمسية للخواجات،وأحمس ولد من جديد في كيان ضابط كسره الولس الذي كسر عرابي،علي يد خنفس وأمثاله من الخونة في كل عصر. ينفتح كل منهما للآخر روحيا وجسديا،من خلال حوار سلسل،نعرف خلفية كل منهما،في الظاهر من المستحيل أن يتلاقيا في نقطة مشتركة،خلفية شرقية بحتة وخلفية غربية متزمتة،يتخلل حديث المائدة بينهما في منزل محمود بعد صوفي عن وحدانية الأديان الذي اعتبره والد كاثرين تجديفا يستحق الاعتراف الكنسي لنيل المغفرة،وفي مشهد الشيخ الموكل بعقد القران نجد تزمتا يناصر العرف علي الدين!!فزواج المسلم من غير المسلمة جائز شرعا لكنه لا يجئ علي هوي المشايخ كما لا يساير هوي موظف السفارة زواج أجنبية من مصري متوحش كما يصفه.إنها دوامة الاختلاف الذي يفضي للخلاف والحروب،دوما يتعالي البشر علي بعضهم كأنه مخدر نفسي يسمح لهم برؤية الأشياء كما يريدون،كل حزب فرح بما يمتلك ويري في نفسه الأولوية والسيادة،لكن الحب ينتصر،أو هكذا نظن حتي يعاود محمود الحنين إلي نعمة. تحية:لكاملة أبو ذكري علي كاميرتها الرشيقة،الراصدة لشرارة الحب الأولي،في لقطات خفيفة بها لمسات رومانسية،كأنها هدنة بسيطة من حرب محمود ضد الإنجليز لحرب محمود ضد نفسه. ولنانسي عبد الفتاح وكادراتها المشبعة بروح جورج دي لاتور فنان الشموع كما يلقب،تلك الكادرات كان الضوء فيها هو البطل الثالث بعد خالد النبوي ومنة شلبي،حيث ظللت ملامحهما بنعومة وغموض كأنهما ظاهرين مخفيين في نفس الوقت ولمريم نعوم علي حوار بديع،محمل بإشارات مثيرة للدهشة،ولتغلغلها في بنية الرواية ونقلها بأمانة حسب مقتضيات الدراما التلفيزيونية،قد يراه البعض وإملالا وهؤلاء ممن برمجتهم الأعمال التجارية علي الإثارة وقتل مساحة التأمل والاستمتاع ببواطن الشخصية وعالمها الداخلي. ولخالد النبوي ومنة شلبي حيث قدما الين واليانج حينما يمتزجا،أو الذكورة والأنوثة في اتصالهما الخالد،حيث رقة المرأة وحرارتها العاطفية وعنفوان الرجل أو مايتظاهر به ليثبت رجولته.