الجمعة، 13 ديسمبر 2019

الاكتئاب والانتحار


هذا السؤال ينقب في داخلي ثغرة,لا أعرف إن كان سينسكب منها سواد الاكتئاب أو ستنبثق منها لآلئ الأمل,لن أكون موضوعياً فكلما حاولت أفسد كل شئ ولا أتمكن من التعبير؛ربما لأني وقتها أعتبر الكتابة أداة اشباع اجتماعية وليست نفسية,ولكن هذا السؤال نفسي بامتياز,صحيح أنه يتفرع منه أمور خاصة بعلم الاجتماع لكن في جوهره كاشف عن الرؤية الشخصية للحياة.
فكرت في كليهما كثيراً في فترة مبكرة من حياتي,تسلل لي الاكتئاب فنفاني من الحياة لولا قليل من المقاومة,لكن عندما يحل الليل وتهدأ الأصوات من حولي يُفعل ديناميته القاسية وتبدأ الذات في النعي والعديد,أما الانتحار فيبدو لي فيه راحة كبيرة,ومشاركة للرب في أدق خصوصيات عمله,تنتهي الآلام المُخلقة من داخلي-أجل الحياة نفسها بريئة,الحياة حلوة لكن النفوس مرة-ويبدأ العالم الآخر في التجلي....تبقي كلها مشاعر مكبوتة قد تتجلي في قصة أو رواية أو سيناريو,أعيد فيها صياغة الحياة علي هواي وأستكشف فيها المناطق الحساسة التي تجعلنا بشراً.
لست من مدينة كبيرة لكنها عريقة,في دمنهور بزغت حضارة مصر القديمة واستمر التاريخ فيها حياً بدء من اسمها إلي حياتها التي تظهر فيها ملامح الشخصية المصرية ولعبد الوهاب المسيري في مذكراته عن دمنهور ما يغني عن كلامي عنها في هذا المقام,تعتبر بين الريف والحضر,منطقة أو اثنتين تتجلي فيهما معالم المدنية بمعناها الحديث المطاعم الأمريكية والعمارات الفاخرة والأثرياء الجدد,ورغم أني قاطن في هذه المنطقة لكني لا أشعر فيها براحة كبيرة,كأنها ليست مني ولا أنا منها,ربما في المناطق القديمة التي تميل للشعبية ويشع منها الروح الريفية البسيطة حيث مكان عملي في التجارة, أشعر بالأمان أكثر,إذن فالأمان هو أول الأسباب التي تجعل الانتحار في الريف أكثر حدة بعيداً عن الغابات الأسمنتية العملاقة التي أبدو أمامها قزماً تعمي عينيه الأضواء الفاضحة لكل شئ,كأن الواقف أمامها عارياً هل هي الأضواء أم عيون الآخرين التي تتخذ من النور وسيلة للكلبشة في اللحم الحي والتفتيش فيه؟
عندما أخرج إلي الضواحي الهادئة علي الطريق لحاجة ما,وأري البساط الأخضر يمتد أمامي,وفوقه الأفق السماوي يحنو عليه والبدر أو الشمس زينة له,أعود للفطرة الأولي للحظات,ويبدو كل ماخلفي سراب أو حلم ليلة صيفية نمت فيها واستيقظت علي الواقع,الرباط مع الطبيعة في الريف ما حُرم علي أهل المدن المسجونين في زنازين التكنولوجيا المنعزلين في بيوتهم عشوائية التصميم ممنوعين من الاتحاد مع الكون البيت الكبير الذي يبدو من خلاله كل الأمور صغيرة وتافهة,صوت الكلاكسات المزعجة يطغي علي صوت الرياح وهي تصفر في الأذن فتسمح لحن الطبيعة,رؤية الأسماك الصغيرة في الترع هامشية مقارنة مع رؤية فتارين المحلات بما تحوي من بضائع تزيد من شهوة الثري وتكمد الفقير وتخرج له لسانها,هناك أري الله وأسمعه أفضل من صوت مؤذن قبيح منفر يدعو إلي الصلاة في هيستيريا غريبة وطريقة مريبة,وتبزغ الأسماء الحسني في مشهد واحد يثير فيّ الدموع فأبكي وحينها أسامح الأيام,بل وأسامح الجناة في حقي,وعندما أعود للمدينة تلتهم كل المشاعر الإيجابية,ويبدأ الصراع والمنافسة:فلان أفضل مني,ليس لي حق في السعادة,يبدو أنني بالفعل فاشل,الكل ينجح وأنا لا أستطيع,لست قادراً علي احتمال كل هذ الوجع.....,.......,......وكل الرسائل السلبية التي يبثها إرسال المدينة علي تردد ذاتي,فتثير كوامن الأشجان وكأنني آخر لم ير الله في هندسته الكونية ولا قرر نسيان الأحزان.
في المدن الكبري أثناء زياراتي لها كالقاهرة والأسكندرية أشعر بالضياع ليس لأني غريب-ففي كل مكان غريب أنا-بل لأن الكل يجي ويركض ويتحرك في سباق غير متفق عليه,وفي مدينتي الصغيرة هذا الأمر لكن بصورة أبسط,أما في المدينة الكبيرة يتصاغر الإنسان ويهان في سبيل اللحاق بأي مبتغاه,ولم أجد أحداً يساعد الآخر,ولو تطوعت سأحرك الشكوك ولن تقبل مساعدتي باعتبارها وسيلة للنصب أو قد تصل للرغبة في التحرش,هذه ليست مدناً بقدر كونها سيرك بهلواني لا بد من القفز والجري ووطأ كل من في الطريق للوصول,فالضياع من أسباب الانتحار في المدن علي عكس الريف الذي يكون فيه الناس أبسط والكلام العفوي يولد مودة,والطرق واضحة والبهائم نفسها مستكينة عكس السيارات المسرعة علي الأسفلت,أري العجوز ترعي البقرة والأم ترضع ولدها والشوارع اتجاه واحد ليست ألف اتجاه يتوه فيها حتي ساكنها.الريف ليس يوتوبيا لكنه مقارنة بالمدينة علي كل ما فيه من مرارة العيش رائقاً ومحبباً للاستقرار فيه.
السلام الشخصي في الريف أدفأ وأكثر إنسانية,يسألونك عن حال والديك وهم لا يعرفونهم,صحيح للفلاحين خبثهم المميز وهو سلاحهم الذي استوهبوه من تاريخ عريق للظلم والفساد في مصر المحروسة,مع ذلك هم بالمقارنة بالمدن سذج يسهل التلاعب بهم,بأيدي هؤلاء الذين عركتهم ظروف أقسي وأفظع,فتولد عندهم حس الفهلوة التي يتلاشي أمامها الخبث الساذج,في المدينة السلام لو تم يصبح صورياً ووسيلة لاقتناص الهدف,وهنا يبدو الترابط الاجتماعي في صورة غريبة لا يفطن لها الكثير-علي أساس أني من القليل الفطن!وأنا أكثر سذاجة من البقرة التي كانت تأكل من يد العجوز!-....الله ما أجمل السلام الذي يفتح القلوب,ولا أبرئ نفسي فأنا ممن لا يلقون بالسلام عادة إلا لو سلم عليهم أحد,ويكون في أحيان كثيرة جافاً وقاطعاً وأنا في براثن الاكتئاب,وهذه من تأثيرات المدينة حتي ولو صغيرة.
في الريف سقف الطموحات في الغالب محدود,فكتاجر للمفروشات أري آمال الآباء الريفين في سترة البنات وحسن ختام حياة شاقة امتلأت تعباً وحدباً عليهن,وسعادة البنات في الأشياء الصغيرة التي ستؤسس بها منزلها,ورغبة الخاطبين في توفير الهدايا اللائقة في المواسم,أحتقر هذا الغُلب وأغبط صاحبه في نفس اللحظة,في خليط غريب من المشاعر,بينما سكان المدينة يتخذون الزواج مظهراً من مظاهر الادعاء الاجتماعي البغيض,والصراع علي الاستحواذ علي الثمين من الممتلكات هذا في جانب,أما علي العموم فسكن المدينة يجبر الإنسان علي التطلع لما فوق,وما فوق هذا,ليس ليه حدود فيظل في مسيرته يتصاعد ويتنافس ويتكبر ويلوي لسانه بالغش والكذب للوصول,بينما حياة الريفي الأصيل لا تتملئ بهذا القدر من الصراعات التي تولد المرض النفسي,فينتج عنه الرغبة في الانتحار خلاصاً من الرغبة في القاتلة في التفوق والتسيّد علي البشر,الضغوط في هذه الناحية ليس قليلة وحيوية في عملية الاكتئاب والانتحار,بينما الدراجة تغني ساكن الريف وتسعده ويتمناها بعضهم كما حدثني"نفسي نشتري عجلة نروح ونيجي بيها من العزبة",أعرف شاباً حياة من حوله في نكد دائم لرغبته في شراء موتوسيكل وسيارة حديثة,الاثنان معاً في وقت واحد!!
في المدينة الكل أصمّ عن آلام الغير,ولازلت أبكت نفسي وأتمادي عندما جاءت لي فتاة وبمسكنة ظننتها لحظتها عملية جديدة للنصب"أنا بجهز نفسي وعايزة تساعدني بحاجة",قلت حاسماً"الله يسهلك"فرحلت دون كلمة,كنت أنا وقتها مضغوطاً ببضاعة تلفت وأخري ركدت,وظننت أنها تضحك عليّ مع أن سوء الظن ليس من طبعي لكنها جاءت لي في ساعة أحسست فيها أن الدنيا ظلمتني,وزينت لي نفسي أني موهوب في أمور أخري والقدر ظلمني ودفع بي في هذا المكان فريسة للمناهدة والفصال طوال اليوم,وأن حياتي تضيع في حلقة مفرغة سعياً وراء للمال,فكان الوقر ليس في أذني فحسب بل تسرب لقلبي فسده بحجارة صلدة,لكن بعد دقيقة خرجت أبحث عنها نادماً,رنة الصدق وصلت لي بعد فوات الأوان,كان يجلس معي ابن عمي فقلت له"البنت دي شكلها محتاجة فعلاً"فزاد من ندمي"شكلها فعلاً,كان المفروض نديها",والريف ليس يغمة يأكل منها الكل لكن علي الأقل يعرف فيه الناس بعضهم لحد كبير فلا تتعرض واحدة لهذا الموقف المهين,وكلما أتذكره أقول"لا تغضب إذن عندما يصم الناس قلوبهم عن أحزانك وينشغلون بأنفسهم عن احتياجاتك.
الاكتئاب في المدينة يتولد عن الضجيج,الصخب أمر خطير يطغي علي العقل ويحيل خلاياه لفرقة حسب الله وكان شوبنهور يريد مجازاة من يفرقعون بالسوط فيفقدونه تركيز وقدرته علي العمل!ونحن نعيش في ضجيج وحشي"طاخ طيخ طوخ"تنبعث من كل مكان,والزحام أيضاً ليس هامشياً في هذه الحكاية,الزحام قادر بفجر شديد علي قتل كل جميل في النفس الإنسانية,أما الريف ففي سكونه فرصة لتنظيم أفكار المرء وعدم انحرافها إلي إزهاق روحها,ربما صوت الأحباء ووجوهم يضيع في تيه الزحام وجنون الضوضاء,فلا يري المنتحر أو يسمع صوت من يحبونه ويتعلقون به فتنمحي من ذاكرته ويستقر الألم وحداً متربعاً علي الروح,فبسرعة وبلا تفكير يرمي روحه للهلاك هرباً من العذاب,وفيديو الشاب المنتحر من برج القاهرة مثال حي للرغبة في هذا الخلاص السريع,هل كانت تخبره الريح أثناء سقوطه بأحبائه وقد خفت الضجيج فندم؟!وبالمناسبة مصر ليست بدعاً في عملية الانتحار وتعساً لكل من يتخذها ذريعة,للهجوم السياسي المأجور فهذه مأساة عالمية ومصر ليست من الدول المتقدمة في مضمار الخلاص الأسود.
زحام وأبواق سيارات مزعجة
اللي يطول له رصيف يبقي نجا
لو كنت جنبي يا حبيبي أنا
مش كنت أشوف إن الحياة مبهجة
عجبي
ومني عجبين ثلاثة أربعة.
في الريف نسبة التلوث أقل وقد يقول واحد أسمعه الآن وما دخل التلوث يا سي محمود يا من تتكلم كلاماً غير موضوعي وتتحدث عن ذكرياتك ورؤاك الشخصية,أرد فأقول يا سي فلان أفندي يا محترم,التلوث يخنق الصدور ويجعلها ضيقة حرجة,وفي لحظة طيش قد تصبح القشة التي تطيح بحياة إنسان منتحر لا يتمكن حتي من التنفس بصورة مريحة,فتبدو الدنيا في عينيه رخيصة وسهلة...وأي دنيا هذه التي تمنعنا حتي من استخراج الأنفاس واستردادها؟!قطع الأشجار يؤثر,عوادم السيارات تؤثر,والمنتحر شخص أصلاً حساس ورهيف القلب ولم يعد يطيق أي شئ.
"سامحوني الحياة لم تعد تحتمل"...أفهم داليدا الآن فقط....غنت من بروحها وصوتها وعينيها وجسدها أمام الدنيا وقالت"أنا مريضة"وأدائها ينزف بؤساً وانكساراً,ويتسرب من شفتيها الألم مسكوباً في لغة فرنسية ولهجة نواحة عليها رائحة الفاجعة المرتقبة,طاعنة قلبها في يدها عند ختام الأغنية في حفلتين مختلفتين والثالثة في شقتها بباريس عام87,و لم تمتد لها يد بالتخفيف أو الطبطبة بل طبطبت الكفوف علي بعضها ولم تجني غير التصفيق المذاب في طيات الهواء,والقلب العليل لا علاج له سوي الكف عن الخفقان...نفس اللوعة أجدها في أداء الجميلة لارا فابيان لنفس الأغنية,وربنا يستر عالجميع!
في الريف-وأكرر الريف كتلة من البؤس لكنه مازال يحتفظ ببقايا براءته,وبجانبه تغدو المدينة مرتعاً للشياطين,وفي الريف طيبون كثر وفي المدينة طيبون كثر,لكن الزحام قاتل والضجيج يعلو فيطغي-للحب فرصة للنجاة بسبب القناعة التي يفتقدها أبناء المدينة,في الريف الحياة أقل كلفة والحب للأسف كما تيقنت مؤخراً بعد أن كنت منكراً, يعتمد في استقراره علي الماديات باختلاف أشكالها,والحب كان يحتل المركز الأول في أسباب الاكتئاب",حيث يعتبر أحد العلماء الاكتئاب"صرخة بحث عن الحب",والمنتحر شخص فقد الحب في الزحام...ما للزحام يطاردني يطاردني في كل مكان حتي زحمت به الكلام! أليس حضن امرأة عاشقة منجي من الذهاب للتهلكة,أليست قبلة من شفاه ظامئة يمسح رضابها أدران الحياة,وتتسافل كل الدوافع المحرضة علي وضع حمل الحياة الثقيل من علي العاتق,الحب هو مشكلة الإنسان الأزلية المتفرع منها كل المشاكل الصغري,بدء من القنبلة النووية والاحتباس الحراري,حتي البحث عن حذاء مناسب للقدمين"فالحياة الحب والحب الحياة".
في المدينة الإنسان منعزل لحد كبير والصداقة الحقيقة نادرة,صحيح المنازل متلاصقة,والناس كثر لكن كل واحد منهم في جانب,سكان العمارة الواحدة لا يعرف أحدهم الساكن بجواره أو تحته أما الريف فيكفي أن يكون الواحد من العزبة أو القرية ليصبح صاحب علاقات مع الكل,وعندما يخرجون للعمل في المدينة تتزايد روابطهم الإنسانية.
ورغم كل الألم المغروز في قلب المكتئب الذي يراوده الانتحار هرباً,يجد نفسه موصوماً من المجتمع,ومادة سخرية بين أفراده,سواء مباشرة أو عن طريق مواقع التواصل,المزدحمة هذه الأيام بنكات حول المنتحرين,مع أن مجتمعنا لو وقف أمام نفسه وقفة صادقة كما يفعل المنتحر مع نفسه,أو نظر لمجموع أجزائه بعين الحكم العدل,لرأي نفسه وصمة كبري في حق الإنسانية,المتهرب من العمل والمسئولية بل وحتي التفاعل الإنساني الصادق مع العالم من حوله,رجل ابن حظ وفرفوش,الحاصل علي شهادات في منظومة غير تعليمية ولا تربوية تعفنت ويتخرج منها الدود, رجل متعلم ومتفوق حق له أن يتيه فخراً بما جني من حصاد الجهل والتغفيل,المشتهر بشبه التمثيل وشبه الطرب وشبه الفن عموماً نجم يتألق في المجتمع,وعشرات الأمثلة التي تفاعلت مع نفسية المكتئب ليدفع نفسه نحو الانتحار,كل هؤلاء غارقون في الكبرياء واللمعان والمكتئب خائب الرجاء بفعل هؤلاء يحمل وصمته وحده! وهنا أود قليلاً الحديث عن صاحبي القديم الكاتب العظيم نجيب محفوظ وروايته الشحاذ,وأتذكر روعة أداء الفنان الواعي محمود مرسي لشخصية عمر حمزاوي,وكان مشهده وهو يدير الكرة الأرضية وينظر لها بتأمل حزين,متسائلاً عن الإيمان بالله,أول مشهد سينمائي يزرع بداخلي فضول نحو العالم والله,كنت طفلاً وجزعت من السؤال,وهرعت أسأل الكبار حول هذا المشهد,وكالعادة لم يجيبني أحد وتعرضت للتعنيف والنهر,وما زلت حتي اليوم طفلاً يجزع أمام الأسئلة,في هذه الرواية يسلخ محفوظ العظيم النفس عن مجتمعها ,يتعرض البطل لهزة نفسية تصيبه بالاكتئاب عندما يقول أحد موكليه"المهم أن أكسب القضية ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله يأخذها"فتكون تلك نقطة الانهيار النفسي لعمر فيسعي خلف كل النشوات المتصلة بصفته فرد في المجتمع,يذهب للاستجمام ينغمس في الخمر والجنس يحاول كتابة الشعر,ومع ذلك تبقي روحه هائمة لا مستقر لها غير نهاية هي بالموت أشبه,في انتحار نفسي طرد الروح والشخصية وترك الجسد يتحرك بالقوي المادية وحدها,وغالب الظن أن محفوظ-والله أعلم فهذا الرجل أحاط حياته بالسرية ولم يترك خصوصياته نهباً حتي تقع في يد واحد زي حالاتي في النهاية-عاني في مرحلة من حياته من هذه الأزمة,ونسج تجربته في هذه الرواية التي سماها الشحاذ,وهو أكثر لقب ينطبق علي المكتئب,فهو يتسول قدرة علي العمل فارت كما يفور التنور ويتبخر علي نار اليأس,يشحذ رغبة في الشعور بالقليل من الرضا,يشحذ حباً صادقاً,يتسول راحة البال فلا يجد غير القلق والمخاوف عند كل باب,هذا هو بالضبط الكلب الأسود الذي يطارده في كل الطرقات,يصف محفوظ الأجواء المنذرة بالمأساة ببراعة,ويحيك السياق الدرامي بقدرة فنان جعلنا نتلصص علي نفسية المكتئب والراغب في الانتحار,بدون سبب مادي واضح,فحمزاوي محام ناجح ورب لأسرة مثالية,وما في القلب تفوح رائحته من حوله فتلقي به في العزلة والضياع,فالاكتئاب لا يوجد ما يعوضه علي الإطلاق لأنه يسلب كل طاقة الإنسان,ويبتلع ما يتبقي من إرادته,فيصبح هشاً كفازة زجاجية تنتظر أقل كلمة أو أبسط موقف وتتهشم ويغدو استرجاعها مستحيلاً.
وتكفي هذه الأسباب لأني تأزمت أكثر,ولو استمريت علي هذا المنوال فلن أفرغ أبداً.يمكن اعتبارها اقتباساً من قول شيشرون,أسباب تجعل المنتحر راغباً في الموت"
........
أما رأي العالم الفرنسي إيميل دوركايم أحد أساتذة طه حسين في رحلته لتشرب أنوار العقل الأوروبي بفرنسا,فرأيه بالفعل مفيد,ولكنه في جانب منه مخيف حياة إنسان أنهاها بإرادته مجرد رقم في جداول إحصائية,فهاهو المجتمع يتعملق ويصبح المسئول الأول عن الانتحار,بعد أن يدحض دوركايم العامل النفسي والمناخي,ويجعل الانتحار مسئولية المجتمع بالكامل,أفضل تشبيه لهذه الرؤية حكاية أبو حنيفة مع جاره السكير المتغني بأبيات الشاعر الملقب بالعرجي"أضاعوني وأي فتي أضاعوا",يلقي التهمة علي المجتمع طوال الليل وعندما يحبس يخرجه أبي حنيفة ويسأله باعتراف ضمني منه بمسئولية المجتمع عن انهيار الأفراد"وهل ترانا أضعناك؟",وقد توصل دوركايم أن الأسباب الحقيقية للانتحار هي في الأصل اجتماعية,مثل مكان السكن والجنس والعمر والاندماج والدين والعمل,وقد قرر أن الفرد كلما كان درجة اندماجه في المجتمع عالية ومرتبطاً به بصورة وثيقة تقل حالات الانتحار,طارحاً حلول وقائية من خلال دمج الأفراد في العمل والجماعات المهنية,محدداً علاقة الانتحار بالانهيار الأخلاقي,مقسما أنواع الانتحار إلي:
1-انتحار أناني:يحدث في حالة ضعف الاندماج مع المجتمع,كنتيجة للفردية المفرطة في تضخمها.
2-الانتحار الإيثاري:يحدث في المجتمعات التي تتميز بالروح العالية كاليابان,كتضحية في سبيل المجتمع.
3-الانتحار اللامعياري أو الفوضوي:يحدث في الأوقات المضطربة في المجتمع عندما تتغير الضوابط والظروف.
والمهم هنا الأخذ في الاعتبار أن دور كايم يتحدث عن المجتمع الأوروبي في آخر القرن التاسع عشر.
البحث من الناحية الاجتماعية جبار ويليق باسم هذا العالم,القصور يكمن في الأحادية الفكرية المتخذة من المجتمع محركاً وحيداً لاتجاهات أفراده نحو عملية الانتحار,مغفلاً العامل النفسي ودوركايم معذور فلم يكن علم النفس كما عرفناه بعد ذلك ولم يتوصل بعد علماء البيولوجيا أن انخفاض مادة السيراتونين في المخ مرتبط بظهور الاكتئاب المفضي للانتحار بطريقة أو بأخري.
والكلام هنا كثير ولا أريد الاقتباس والنقل بأسلوب آخر أو السعي وراء المعلومات المجردة كما يفعل الجميع وأفعل معهم في العادة,وكل هذه الطرق المفيدة كرأي دوركايم لكنها قاصرة عن الوصول للحقيقة,بل ربما هي السبب في اخفائها,هل يعقل أن يردد الآلاف نفس الكلام وراء شخص واحد أمسك فقط ذيل الفيل كالمثال الشهير,وربما يكون بين هؤلاء الآلاف من يعرف القدم أو الأذن لكنه معمي بسبب سيطرة الآراء الشهيرة,ولو لم يكن فهو خائف من التعبير عما يراه ظناً منه أن القضية قضية ذيول بامتياز ولا مجال لأعضاء أخري سأنهي الإجابة بنفس الطريقة لأن هذا اختيار هذا الموضوع النفسي فرصة نادرة للفضفضة التي تستعصي علي هذه الأيام وكلما هممت بكتابة شئ ما في الأدب أو الفن أمسكت بي قيود لعينة تخرسني فوراً,ويتمنع علي الكلام للرغبة في اختياره ليناسب مسابقة أو جائزة...المجتمع ودوركايم بصورة أخري...إنه حقاً مفيد!!
"لا يمكن أن نختزل الانتحار لسبب فردي بالرغم من أنه حقيقة وواقعاً تصرف فردي.يجب أن يوضع الانتحار في إطاره الاجتماعي  وبهذا نتمكن في معظم الحالات,عندما تتوافر المعلومات والبيانات الكافية عن المجتمع,أن نفسر الانتحار باعتباره جواباً علي وضع معين,وبتعبير آخر نري أن الانتحار كحل استراتيجي طرحه الفرد لمشاكله الوجودية"
بهذه العين يمكن تبرئة الجوكر كما قدمه خواكين فينيكس بزاوية مختلفة حولته من جاني لمجني عليه,الجريمة انتحار معنوي ونفسي,وبنفس المقياس يصبح آرثر فليك ضحية من ضحايا المجتمع ويتم التعاطف معه؛لأنه في الأساس صنيعة ظروف مجتمعية صاغته ليصبح سفاحاً ومخرباً ينشر الفوضي والذعر...لا يهم المهم أن آرثر المسكين عندما يدمر جوثام ويسفك فيها الدماء لن نهتم بالضحايا (الكومبارس)وسيصبح الجوكر هو الضحية في كل الأحوال!
في ذهني الآن مشهد جين فوندا في فيلم "إنهم يقتلون الجياد,أليس كذلك؟"عن رواية بنفس الاسم لهوراس ماكوي وهي تطلب من زميلها في حلبة الرقص أن يقتلها,بعد انتهاك نفسي وبدني مبكي لتسلية السادة مقابل وجبة ووعد بجائزة نقدية في ذروة الأزمة الاقتصادية الأمريكية,وقد سئمت من الحياة وتريد وضع حداً لتلك اللعبة اللعينة,بإنهاء حياتها هذه صورة واضحة عن مدي دفع المجتمع لأفراده نحو الانتحار,بعد كانت تحلم بالمجد الهوليوودي لم يبتق لها سوي ذكري جدها يقتل الحصان المعدوم,بالضبط كما هي معدومة ومفلسة من الأمل تجاه المستقبل.
لم يعرف دوركايم"تايلر"بطل رواية نادي القتال,فيها مجتمع صغير يتكون من شخصين رجل ونفسه,النفس شريرة ومخربة تسعي لتحطيم الرجل ومجتمعه الكبير,يصبح الحل الوحيد أن يقتل الرجل نفسه لينجو ومعه المجتمع.
إن الصراع بين الحياة والموت,هل الراحة في الاستمرار مع الأمل اتكاء علي تحولات مجتمعية أم في قتل النفس والخلاص من كليهما معاً؟