الخميس، 19 يونيو 2014

....إلا صوت كارمن!




....إلا صوت كارمن!
كلما بدأت الكتابة عن كارمن سليمان وجدتني أتخاذل متراجعاً,عاجزاً عن التعبير قانعاً بالنشوة المكتومة التي تمنحني إياها كلما أسعدني حظي بسماعها,التجارب الروحية العميقة يستحيل أن تعبر عنها اللغة أو أن تظهر الجوهر المكنون لها؛لذلك نجد الكثير من الصوفية يستخدمون الرمز في تعبيراتهم,ومن يصرح منهم نجده يقتل أو ينفي أو يُسجن,لأنه لم يتمكن أن يعبر عما يشعر به وخانه التعبير ففهم خطأ,لقد حاول أن ينقل الروح للغة,وهذا لم يفعله أحد حتي الآن!
وكارمن عندي تجربة روحية عميقة تتكرر كلما سمعتها,من سوء حظي أني لم أن أتابعها من البداية لانشغالي بموضوعات استغرقتني ولم يكن في القلب حينها مكان لغيرها,أنا اليوم نادم وحزين,فاتني الكثير..الكثير جداً!
والآن أنا في حيرة وعاجز عن الكتابة عن كارمن التي منحتني السعادة والطرب في وقت ضنت فيه الحياة عليّ بأي بهجة,حتي سمعتها,فاستعدت جزء كاد أن يموت مني,وهذا لم يمنعني من الكتابة عنها أحياناً  في أكثر من مناسبة,أهمها أنني ذات مساء أرسلت خطاباً لنجيب سرور عن صلاح عبد الصبور,وشكوت له أن كارمن سليمان هذه المعجزة الفنية الصغيرة ظهرت في مجتمع اللاشئ,وأنها لم تجد حتي اليوم الشاعر والملحن اللذان يكملانها كمشروع فني مصري خالص كاسح يعيد للأغنية المصرية من سنوات الضياع وقلة الأدب التي غرقت فيها فقلت : "مجتمع اللاشئ يا نجيب,لما تظهر فيه معجزة فنية صغيرة ككارمن سليمان لا يستفاد منها ولا يجعل منها مشروعاً فنياً يعوض غياب طويل للأغنية عن أذن المصري المحروم من تجديد الفن,ويتركها فريسة لشعراء اللاشئ وملحنين اللاشئ....آه ما أجملها وهي تغني لأم كلثوم...فيها من ريحها,وبأمثالها فقط يصبح التفاؤل حقاً وليس وقاحة وسذاجة,ليتك سمعتها لتكتب لها أغنية حلوة,بدلاً من هدر طاقتها العبقرية في أي كلام وأي لحن علي يد أنصار مبدأ"عبيلو واديلو"!وهذا المبدأ من أهم أعمدة مانفيستو مجتمع اللاشئ! وحياة رأس شيخنا أبي العلاء التي حاول مجانين سوريا قطعها...لكن من علي جسد تمثاله!!!لو رأيتها تغني"إنت عمري",أو"في يوم وليلة"لكنت بكيت تأثراً علي موهبة لم تجد لها أرضاً لتنمو!لكن المهم أنها مازالت تغني...ليت صوتها الآسر يغطي صوت الطلقات والانفجارات...ليها تجد من الشعراء والملحنين(الحقيقيين) ما يصنع لها أجنحة تطير بها لتغدو كوكباً جديداً في سماء الأغنية!...وستكون يوماً,ربما أكون حياً فأسعد وأطرب حتي السكر,أو ميتاً لاحق بكما...."
أجل...أنا أشعر بريح الست أم كلثوم في كارمن,لم يهزني صوت بعد أم كلثوم إلا صوت كارمن,لم أسافر علي جناح الرومانسية الناعم إلا بصوت كارمن,لم يسعدني في الفترة الأخيرة إلا صوت كارمن,لم يكن يصبرني علي الضغط السافل الذي أعانيه في اللا تعليم المصري الذي لو تصفحت هذه المدونة قليلاً ستجدني أبرز خطورته الكارثية علي المجتمع المصري,إلا صوت كارمن,في هذه الأيام وقبل أن أذهب إلي التجربة البائسة التي تخطاها الزمان بزمان,المسماة "امتحان" ونفسي تزين لي ألا أذهب صوناً لما تبقي من كرامتي وعقلي,يهتاج باطني اضطراباً وغضباً,لم يكن يسكنه إلأ صوت كارمن.
أنا أتخيل بعين المستقبل هذه البنت الصغيرة التي تتلقي الثناء والمديح بخجل من لجنة التحكيم والجمهور,وهي أهم مطربة بين كل الناطقين بالعربية,كوكب شرق جديد,كارمن ليست مغنية أو مطربة عادية,لا...كارمن فنانة هذا هو لقبها الحقيقي,وهو لقب ابتذلوه في هذا الزمان,لكن زمانها الآتي هو من سيعيد للقب جماله علي يديها.
دعوني أحاول التحدث عنها,وأعيد الحديث عنها,وأزيد....أنا استيقظت من النوم منذ دقائق,كأنها هي من أيقظتني لأكتب عنها,قمت مباشرة من النوم لأكتب عنها,حتي أن عيني تؤلمني من شاشة الكمبيوتر التي واجهتها فور أن فتحتهما!!
وجه لو رأيته وأنت لا تعرف من هي صاحبته,سيذهب ظنك فوراً أنها لابد وأن تكون مصرية,هذا السمار النيلي الجميل,هذه الملامح التي لابد أن تكون ورثتها عن جدتها الفرعونية,ربما نجد من يشبهها علي الجدران وبين التماثيل الفرعونية لملكة أو أميرة عاشت علي أرض النيل زمن حضارتها المجيدة.عينان واسعتان يطل منهما الخفر الأنثوي المؤثر ممتزج بالتطلع للحياة بروح بريئة لم تلوث بعد...مساحيق التجميل لا تزيده جمالاً لكنها تخفي جوهره الطبيعي بطبقة من الألوان تختارها بأناقة وبلا زيادة عن الحد,كلامها العادي تلقائي كغنائها تماماً,لا تصطنع ولا تتكلف بل تقول مباشرة,كأن الغناء فتح قلبها علي العالم بلا باب,فدخل العالم فيه واستقر فلم تعد تصطنع معه حتي تدخل هي إليه ويتقبلها.
أما عن الصوت,فمن يستطيع أن يصف نسمة باردة خفيفة,أو كوب ماء مثلج في يوم حر-كهذا اليوم مثلاً!!-,من يقدر علي وصف شجرة تميل نحو النهر وقت الغروب,أي قريحة تستطيع أن تصف ضوء النجوم في ليلة صافية....أنهم الشعراء,هؤلاء يولدون شعراء لا يمكن صناعتهم,وحظي أني لم أولد شاعراً لكني أستطيع من أجلها أن أتبجح عليهم وأقلدهم.
ظللت أسمعها وهي تغني مع والدتها أبيات قصيرة من قصيدة"متي ستعرف كم أهواك" لساعات طويلة حتي أًصابتني سماعات الأذن بصداع قوي حرمني من الإعادة للمرة الألف,كارمن لا تغني من حنجرتها كباقي خلق العادي,كارمن تغني من قلبها وروحها وخيالها ودمها قبل أن يخرج صوتها ليرشق في قلوب الملايين,كارمن تغني لأنها شاعرة هي الأخري,شاعرة موسيقية ولدت لتغني قبل أي شئ,الكثيرون ولدوا في هذا العالم لإفساده وزيادة آلامه,قلة قليلة هي من جاءت فيه لتجمله وتمنحه السعادة,فلا يعود العالم قبلها كالعالم بعدها,كارمن من تلك القلة,ولو كان لدينا في مصر خمس شخصيات نفخر بهم فهي واحدة منهم,ولو كان لدينا ثلاثة فهي أحدهم,ولو كانوا اثنين فهي أحدهما!!
هاهي بنت مصرية فنانة حقيقية في زمن مزيف,يعاني فيه بنات جنسها من أهوال,عندي رأي سأقوله خجلاً ومتردداً,خجلاً لأننا في 2014 ولا زلنا ندافع عن المرأة وتردداً لأنه سيثير تحفظ المتمسكين بالدوجماطيقية الدينية وحرفية النصوص,بلا أي محاولة هيرمينوطيقية لفهمه:المرأة إن لم تفضل الرجل فهي لا تقل عنه أبداً,الحياة نفسها لفظ مؤنث مشتق من "الحيا"وهو جزء من الجهاز التناسلي عند المرأة,كأن اللغة تخبرنا أن الدنيا أصلها أنثي,كما يخبرنا التاريخ عن الحضارات قدست الأنثي,حتي تغيرت الدنيا للأسوأ فأصبح الحال علي ماهو عليه!,هاهي بنت مصرية نفخر بها بصدق وبلا مبالغة ولا ادعاءات فارغة,بل لنجعلها فقط تغني وهي ستتكفل بالمجد لنا,لكن المحزن أنها لا تجد الكلمة والأغنية في هذا الجيل لتغني أغنية جديدة كالأغاني التي تعيد إحيائها...أكتب تلك الأيام رواية ورد فيها ذكر كارمن سليمان كالآتي وأنا أصف لقاء متخيلاً لي مع شهر زاد:" رأيت نفسي أطير حتي وصلت لسحابة علي رأسها ملاك,جذبني من يدي برفق ومسح علي عيني فأغمضتها لحظة ولما فتحتها وجدتني وسط قصور وضياع,وورد وأنهار,وجواري وغلمان وفي شرفة القصر الكبير وقفت كأنها أجمل درة من أجمل تاج,وردة من أزهي بستان,لا وصف ولا مثال,جمال يذهب الجنان,وشعرت نحوها وأنا لا أعرفها بعطف وحنان وألقي الله في روعي وأنا حالم أنها شهرزاد,فوقفت أنادي بكل الألفاظ"يا ملكة يا أميرة يا مدام ياشهرزاد",وهي تراني وكأنها لا تراني حتي شككت إني طيف لا وجود له وأن كل ذلك خيال حولي وأنا لست منه بمكان,فبكيت حزناً علي حالي,هاهي شهرزاد أمامي ويا حسرتي لم أفز منها حتي بنظرة تطفي لهيب اشتياقي,فما كان من لساني إلا أن عبر عن باطن قلبي المتخفي في شعوري الكامن وسط غلالة من الخجل والإحراج المشوب بإنكار وحياء,فرفعت رأسي وصرخت كطفل عقره كلب ولم يجد علي لسانه إلا أقرب كلمة له,قلت بأعلي صوتي والدموع طافرة مني تلهيني عن الجواري الحسان والصبايا الأقمار:"يا ماما...يا ماما شهرزاد",ورأتني شهرزاد كأني أقبلت اللحظة عليها للتو,نظرت لي وابتسمت وحيتني....ونزلت,اقتربت مني ومسحت عن وجهي دموعي وضمتني لصدرها حتي وضعت رأسي علي نهديها فشعرت أني أخيراً وجدت الأمان في الدنيا,وراحت تطبطب عليّ وترجوني بصوت كأنه تغريد الطير أن أتوقف عن البكاء وأسمع الكلام,وأرادت أن ترفع رأسي عن نهديها فلم أتكلم لكني استمت علي صدرها أطوقها بذراعي من خصرها,فابتسمت بتفهم أنثوي أمومي وتركتني علي راحتي,وراحت تمشي براحتها علي ظهري ورأسي,فمسحت عني عناء22عام قضيتها بين الأنام منذ ولدت للآن,فسكنت نفسي ورفعت رأسي إليها وقبلتها علي خديها,وطلبت منها أن تتركني أعيش في حضنها طوال عمري,فقالت لي"يا محمود أنت تعلم أنك في حلم وهذا لا يكون"فبدا علي وجهي الأسي,فلم تطق رؤيتي هكذا لفرط حنانها,فضمتني لصدرها مرة أخري وغنت ككارمن سليمان لما تعيد للحياة أغنيات أم كلثوم ونجاة وأسمهان:
"يوما سيجمع الأحبة الزمانِ            يمحو النأي ويأتي بالتداني
ستكون أنت يا حبيبي معي             ابني محمود وأنا شهرزاد
حجري لك مجلس وحضني           منام تلهو بقلائدي وتسمع حكاياتي
وسيرد ذكرها في مواضع كثيرة أخري مكتوبة في دماغي الآن!
وبمناسبة ما تعانيه بنات جنسها من فظائع,أستعيد اللحظة بهائها وهي تغني يا "حضرة العمدة" بطريقة لذيذة أكاد أتذوقها!
فالبنت التي تقول الكلام لتشكو لحضرة العمدة أن"حميدة حدفني بالسفندية,وقعت علي صدري ضحكوا عليا زملاته الأفندية",كأنها المعادل الأنثوي لقصة الفلاح الفصيح الذي يشكو الظلم الواقع عليه للحاكم"يرضيك يا عمدة؟...عشان ابن عمدة؟يعمل كده كده فيا"فهل نهرها العمدة وقال لها مثلاً:إنت السبب يا بت إنتي اللي لابسة شفتيشي وماشية كده تتغندري يا أختي كيف الغوازي بتوع البندر"شاعر الفلكلور الشعبي أكثر تحضراً وتفهماً من الكثيرين اليوم قال علي لسان العمدة"لا لا لا",العمدة عادل فحميدة ابنه لكنه لم يحابيه علي حساب البنت التي وقع عليها الأذي, وهذا نوع من أنواع التحرش لو قيس بما يحدث اليوم لعد مزحة خفيفة تثير البهجة والانشراح لدي الفتاة!!!
الحق أنني أعتبر كارمن نعمة من نعم السماء تمنحها لأهل الأرض كل حين وحين,وقد كان من حسن حظي أني تلقيتها.
وهذا الكلام نقطة من بحر ما يثيره بداخلي صوتها...والأيام ستسيل مني نقاط أخري كلما كان صوتها حولي يصالحني علي الحياة كلما سمعتها.

الأربعاء، 18 يونيو 2014

كلام لزمن آتٍ...ليته يكون قريباً!




كلام لزمن آتٍ...ليته يكون قريباً!
وجهها –كما أراه- فرعوني كأنه يطل من أصل هذا البلد الضاربة جذوره حتي فجر الضمير الانساني الذي انبثق لأول مرة علي هذا العالم في حضن الأجداد الفراعنة,ومن الوجه تستشف أن هناك شئ تملكه هذه الفتاة...كان هذا الشئ يحيرني كثيراً حتي سمعتها لحسن حظي-ولو تعلم حظي لأدركت أنها معجزة أن يكون حسناً ولو مرة!!-وهي تغني أمامي,فهداني صوتها لما كانت تخفيه....

أماني مجدي....أين تبدأ المطربة وأين تبدأ الإنسانة؟
الحق أنني لا أعرف,ولا يمكن لمن يعرفها أن يعرف,ففي غمرة أي شئ يحدث أو يقال,تجدها فجأة تغني بلا مبرر ولا مناسبة,وهي لا تغني لأنها تريد الغناء,بل تغني لأنها لابد أن تغني,كما يتنفس الواحد منا بلا شعور لأنه لا يريد أن يتنفس! لم تكن تريد لفت الانتباه كما تفعل زميلاتها ممن زين لهن الوهم أنهن قادرات علي الغناء,إنما كانت تخرج من صدرها ما لا مخرج إلا الغناء.
هي اليوم غير مشهورة ولم تنتج أعمالاً خاصة بها يجعلها محط اهتمام,لكن هذا الاسم سيكون له شأن شرط أن يستمر,وشرط أن تجد لها جناحين تحلق بهما,شاعر حقيقي,وملحن أصيل,يجعلان منها مشروعاً فنياً يعيد للأغنية المصرية تاريخها الضائع في زمن اللاشئ,اللاشئ بالمعني الحرفي ومجتمع اللاشئ له بند أساسي في مانيفستو قيامه,بند سوقي وشائع وخسيس يدعي"عبيلو واديلو" من صك هذا المصطلح في منتهي الذكاء فهم كيف يملأ اللاشئ باللاشئ وهو الحاصل.
لازلت أذكر كيف غنت"زي العسل" لصباح,وكيف كنت أشتعل لأعبر لها عن إعجابي,لكن طبعي الانطوائي وصمتي المزمن قيداني عن ذلك,ربما مرة واحدة فقط لما غنت وسألني أحدهم عن رأيي,قلت ما معناه,أنها تشعر بكل كلمة وتمتلك إحساساً صادقاً يخرج من القلب فيأخذ طريقه مباشرة إلي القلب,وهذا هو ما يميز المغني والفنان,المغني نسمعه بآذاننا فقط وربما نختلف حول صوته وجودة أدائه,أما الفنان فنتلقاه كأنه خرج منا ثم عاد لنا,نتلقاه بالروح والمشاعر قبل الحواس الإنسانية الخادعة,التي كان ابن عربي يسميها "الحجب",وهي تسمية لا يدركها غير أصحاب البصيرة لا أصحاب البصر.
لكني الآن أريد أن أعبر عن إعجابي الطاغي بهذا الصوت,وربما يقول شاب يري نفسه حد لذوذ ومفتح يقول لي:"وما دمت تعرفها لم لا تخبرها مباشرة وتريحنا يا man"أقول له,أنا لا أجيد التحدث بصفة عامة,وأغلب الوقت كما قال أحمد فتحي المعروف "بشاعر الكرنك" الشاعر الذي غنت له الست وغني له عبد الوهاب ولم ينل حظه من الشهرة ورحل مبكراً وحيداً في فندق رخيص وهو لم يتجاوز السابعة والأربعين ليس له إلا ديوان واحد"هيمان ويا طول هيامي صور الماضي ورائي وأمامي هي دهري وغنائي ومدامي وهي في حلمي جناح طائر"أي أنني أحيا طول الوقت في عالم مواز وأشعر أن الكلام المنطوق لا يجلب إلا وجع القلب والدماغ,وعادة لا ينفع بل ربما أصاب المعني الخطأ...طبيعة اللغة..أي لغة...طبيعة ملتبسة بها أفخاخ أضعاف ما بها من مسالك تؤدي للجوهر.قبل ذلك لما سمعتها اليوم علي اليوتيوبhttps://www.youtube.com/watch?v=vbcC-GTY9ao,شعرت هذه المرة بقشعريرة قوية دفعتني للكتابة,والكتابة عندي كالغناء عندها,فعل لا إرادي لابد منه وإلا مت بكلماتي المحشورة في دماغي.
أجل...وما زلت أذكر يوم غنت راب,وكنت أرقبها من بعيد وهي علي المسرح,لا أتذوق في الغناء ولا أنغمس إلا في الأغاني الشرقية التي تم صناعها لتعيش لا لتبيع,وأماني تستعيد تلك الأغاني كما تستعيدها كارمن سليمان,التي أشعر بريح أم كلثوم كلما غنت هي...كارمن قصة أخري طويلة لها مكان آخر...المهم أنهما يستعيدان الأغاني القديمة لأن كل ما هو موجود اليوم لا يصلح لمن يريد إثبات موهبته,يصلح لمن يريد أن يصدعنا بأي كلام,يصلح لمن يريد أن يملأ ساعات حفلة سيتقاضي منها مبالغ كبيرة,وفي النهاية سيسقط من الذاكرة,كما سقط الكثيرون اجتاحوا آذان الناس في أيام بائسة واليوم لا يعرفهم إلا بائسي تلك الأيام,كما لن يعرف من هم علي الساحة اليوم إلا بائسين أيامنا,أما الفن الحقيقي هو من سيعبر الأجيال والأزمنة ليستقر في مكانه الطبيعي...في قلوب كل من تعرض له.
اليوم قد يكون هذا المقال موجود في الفراغ,لكني علي ثقة أنه لو استمرت أماني مجدي في مشوارها وهي تضع نصب عينيها الفن ولا سواه,سيكون هذا الكلام حينها له أهمية بالغة,وغني عن القول أن الفضل سيكون لها وحدها في ذلك,فمن كتب عن الموهوب وهو لا صيت له بعد سيوضع معه –ربما-في سلة واحدة....لو استمر الموهوب حتي ينتصر...حتي ينتصر الابتذال والاسفاف اللذان ملآ كل ركن في هذا المجتمع,بعد أن نسي ماضيه الفرعوني...الذي يطل من وجه أماني مجدي.



الجمعة، 6 يونيو 2014

ما هكذا تكلم ابن عربي!



ما هكذا تكلم ابن عربي!

كلما عدت للحياة من جديد بعد موتتي الصغري,وقبل أن أفتح عيني أسأل الله أن يجعل الهرمنيوطيقا في عيني اليمني,والسميوطيقا في اليسري وفي قلبي العرفان وفي عقلي البرهان,لعلني أستخلص أي معني أو أتأكد من أي شئ في هذه الدنيا التي وجدت نفسي بلا رغبة مني جزءً منها,ومطالب أن أشارك فيها وأتفاعل معها,رغم أني أصلاً لا أفهمها ولا أدرك اللازمة من هذا الكوكب الصغير في العالم اللامنتاهي الذي يقطنه هذا الكائن المرعب المعقد المدعو الإنسان,مع إخوته من باقي الأحياء,أريد أن أفك أي شفرة أو علامة أو نص قبل أن أموت,أود أن أتأكد من أي شئ قبل أن تنتهي رحلتي,كم أحسد الدوجماطقيين والمتطرفين-باستثناء الحمقي العدوانيين-لأنهم صنعوا لأتفسهم أرضاً صلبة,وأيضاً أحسد السذج من الناس,من تملأهم كلمة واحدة أو فعل واحد أو فكرة واحدة فتسد في وجدانهم أي فجوة قد يتسرب لهم منها القلق والتفكير!
في متاهات القول سبحت-علي قدري اللاشيئي!-حتي غرقت,وفي دنيا الأحداث تأملت حتي أصابني الدوار,أعتقد أن كل شئ في العالم يمكن تأويله علي قدر كل عقل,كل إنسان يري ما لا يراه الآخر,كل قلب يحمل للأمر الواحد ما لا تجده في سواه,كل عين تري في الشئ الواحد ما تعجز عنه العين الأخري,كل ما في الكون تأويله لامتناهي؛لأنه ببساطة الكون لا متناهي,كل شئ يحمل ما لا يحصي من الأوجه وفيه ما لايمكن عده من الرموز والشفرات,أنا مثلاً قد أكون غيري في كون موازي,ربما أنا في هذه اللحظة-لو كان للزمان أي معني!!!-أقوم بأي شئ سوي أني أكتب هذا الكلام الآن,وتكون هويتي مختلفة وحياتي مختلفة,إذن فـ"أنا "لست لي" كما يقول درويش,فمن هو الآخر؟! الذي هو أنا؟! يبقي أنا من؟! وتلك نقطة لا تذكر من محيط لا حد له!!
 يعاودني في لحظات هيامي الكوني,وشعوري أني في حلم طويل ممتدد متداخل عبثي لا يحمل أي معني أو قيمة حديث"الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا",إذن الانتباه واليقظة والمعرفة مرهونة بشئ واحد فقط...الموت,يعني نحن في تلك المرحلة نيام ونحلم,والحلم يحتاج إلي تأويل,وأزمة المجتمع العربي أنه يحلم لما يغمض عينه فقط ويذهب لشيوخ الأساطير باعة الأوهام ليعمقوا أحلامه بينما العالم المتقدم يحلم وهو مفتوح العينين وتكون أحلامه معبرة عن ما يجيش في عقله وباطنه فيخترع ويكتشف ويبتكر,ونحن نغمض أعيننا ونستهلك ما يلقيه لنا من فضلات معرفية وعلمية.
الناس نيام وكل ما حولنا ليس إلا حلم,والفكرة قديمة قدم النفس البشرية,لكن التعبير عنها بتلك العبارة"الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"يثير الأسي,ثم تأتي الآية القرآنية"لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عند غطاءك فبصرك اليوم حديد"يستيقظ الواحد منا لما تنحجب عن عينيه هذه الدنيا الخادعة ويستبدل حواسه المخدوعة بالروح-ربما الروح-,فينكشف غطاؤه ويستقيظ فيري ما لا يراه الذي لم يأت أجله.
وفي هذا الحلم تبرز اللغة كأهم أداة لتلقي الرموز والشفرات,اللغة فخ وكمين لمن لا يري ما ورائها من معان,اللغة قد تنير الدرب وقد تهدمه كله,اللغة عاجزة وقاصرة لو لم يكن للقارئ عقل وقلب يسدان الفراغان ويتلقيان الإشراقات في كل شئ,وستظل عاجزة إلي الأبد ومع ذلك فهي عظيمة إلي الأبد,لكن كيف مثلاً تعبر ذات الأصوات التي خرجت من الإنسان البدائي ليتفق مع زملاؤه الآخرين علي أشياء بسيطة,كأن يحذرهم مثلاً:"احذروا نمر ورائكم"أو يخبر حبيبته"كم أنت جميلة اليوم,وكم أشتيهك اللحظة....",عن الحقائق-لو كانت في الدنيا حقائق- التي أفني عمره في سبيل استكشافها,واللغة العربية تتجلي رمزيتها الشديدة عن كبار المتصوفة من أمثال ابن عربي....
أكون وأنا أقرأ ما دوّن من مشاهداته وتجلياته,كأني أتلقي شفرة لابد من حلها,ويكون حالي كحال قائد عسكري أمريكي يحاول فك شفرات يابانية قبيل الهجوم علي ميناء بيرل هاربر,يشك أن تلك الشفرات تعني الهجوم بعد ساعات لكنه يعجز عن التأكد,فيحتار ويدور حول نفسه ويخشي من فضح ما يدور داخله كي لا يتعرض للسخرية أو الازدراء من رؤسائه,طبعاً هذا في لحظات قليلة جداً,أما باقي الوقت فأنا لا أفهم ما يريد قوله,ولا أستطيع أن أتصور أي معني لأي عبارة,رغم أني لم أقرأ الكثير أصلاً لابن عربي!!
ابن عربي الذي تكسرت فيه الأقلام علي الأقلام,ما استطاع أحد أن يجزم أن هذا ما قصده,لكني متأكد أن هذا ماقصده ابن عربي! هو يريد أن يظل سراً كأسراره التي حاول أن يودعها فتوحاته كـ"سر الهرب من الحرب" الذي وردت فيه تلك العبارة.
عجيب أمر الكلمة في هذا العالم,منها بدأ كل شئ كما ورد في المتون الدينية وأسس الحضارات القديمة العجيبة,والقرآن الذي يعتبره الصوفيون ومن ضمنهم ابن عربي كتابهم الأول,وصفه علي ابن ابي طالب بأنه"حمال أوجه"القرآن الذي وصف نفسه صراحة بـ"بيان للناس"يعتبره الإمام علي حمال أوجه ومنطقه يكون علي ألسنة الرجال فهو لا ينطق بذاته...التأويل! التأويل! التأويل!....لو كان التأويل رجلاً لاتبعته لأقصي الأرض!
يقول كعب ابن زهير في البردة مُلخصاً الأمر الوحيد الذي يجتمع عليه سائر البشر:
"كل ابن أنثي وإن طالت سلامته    يوماً علي آلة حدباء محمول"

لما مات الفيلسوف ابن رشد رأي ابن عربي مؤلفاته تعادله علي الدابة المحمول عليها جثمانه من الجانب الآخر,فتأمل الموقف مآل كل حي,ومؤلفات الميت الفكرية تعادله وهو جثة فجري علي لسانه:
"هذا الإمام وهذه أعماله           ياليت شعري هل أتت آماله"
كان هذا آخر لقاء له بابن الرشد الذي قابله أكثر من مرة,أول لقاء سأله الفيلسوف:"كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي؟هل هو ما أعطاه النظر؟قلت :نعم,لا, وبين نعم ولا تطير الأرواح من مواردها والأعناق من أجسادها"
ربما هذا مفتاح العلاقة بين ابن عربي المفكر وابن عربي الروحاني,طبعاً العبارة شديدة الاستغلاق,الفيض كالنظر وليس الفيض كالنظر في آن,وبين إثباته ونفيه تطير الأرواح والأعناق,فهل نأخذ نصوص ابن عربي بالعقل أم بالقلب؟ما تأويل كلامه الرمزي الشاحب,كأنه لا يريد أن يبين عن ذاته إلا لمن يستحق؟
ونلحظ أن ابن عربي يعتبره"إمام"فهل كان له إماماً حقاً؟!يعني هل يمكن أن نفسر ابن عربي تفسيراً عقلياً كابن رشد؟طبعاً لا يمكن؟! فما هو الإمام عند ابن عربي؟ربما لو عرفنا إمامه لعرفنا مقصده بالضبط.
مكان هذا آخر عهد ابن رشد وابن عربي بالأندلس الأول بالموت والثاني بالرحيل,وبعدهما راحت الأندلس حيث راحت!العقل والروح هما ضمان استمرار الحضارات وبدونهما يحدث الحادث حالياً في بلادنا الملعونة بلعنة لن يحاربها إلا سحرة العلم والمعرفة والثقافة,السحرة الحقيقيون في هذا العالم....لكن أين هؤلاء يا حسرة؟! والأماكن المنوط بها صناعتهم لا تصدر للمجتمعات إلا الجهل والتخلف من يد كهنة الجهل وعبدة التخلف في المدارس والجامعات.
هل أثرت محنة ابن رشد في تفكير ابن عربي وجعلته يلجأ للرمز الغامض زيادة علي طبيعة اللغة الصوفية؟
نعي ابن عربي للفيلسوف نعي حزين وحائر,سؤال لم يجد إجابته,أطلقه ورحل!
اللغة وما أدراك ما اللغة وما يمكن أن تحدثه في تشكيل رؤية الكون كله,وإبراز علاماته,اللغة هي العالم كله,بلا لغة لا أي شئ.
أزعم أني أتفهم واحد علي مليون من التجربة الصوفية؛لذلك أدرك أن لغتها الرمزية المستغلقة علي أفهام العوام من أمثالي ضرورة لا غني عنها لطبيعة تلك التجربة الروحية المتفردة,فالتجربة الصوفية والفنية وجهان للروح,زيادة علي ذلك أن فلاسفة الصوفية منذ ظهورها كانوا بين مقتول ومصلوب ومطرود,فكانت اللغة- تقية لو صح التعبير هنا- هرباً من السلاطين وفقهائهم,اللغة الصوفية عند ابن عربي ليست لغة بقدر ما هي إشارات لا توضح المعني وإن كانت تؤدي إليه عند العارفين الآخرين,الذين يضنوا علي من سواهم بالشرح والتوضيح حتي يبقي السر محفوظاً عند من يعرف قدره,وتلك سمة ظاهرة بقوة عند الكبار في زمنهم فالغزالي يقول:
فكان ما كان مما لست أذكره         فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
وقال الإمام علي ضارباً علي صدره:إن هاهنا علوم جمة,لو وجدت لها حملة"وينسب للرضا حفيد علي:
"يا رب جوهر علم لو أبوح به         لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي          يرون أقبح ما يأتونه حسناً

وينسب لأبي هريرة:حفظت عن رسول الله وعاءين من علم,أما أحدهما فقد بثثته فيكم وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا الحلقوم",ويروي عن ابن عباس أنه لما سُئل عن تفسير:"الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن"لو ذكرت تفسيره لرجمتموني أو لقلتم أني كافر"عندي شعور جارف أن عباس أدرك نظرية الأكوان المتوازية وربما رجح أنها سبعة!!ولم يشأ أن يعبر عنها ومع ذلك فقد صرح: الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى وابن عباس كابن عباسكم"!!!

المخبوء في الصدور أعظم مما هو مكتوب في السطور!

لم يكن ابن عربي بعيداً عنهم فقد قال:فأنا الآن أبدي وأعرض تارة وإياك أعني واسمعي يا جارة,وكيف أبوح بسر,وأبدي مكنون أمره,وأنا الموصي به غيري في غير موضع من نظمي ونثري انبه علي السر لا تفشه ,فالبوح بالسر له مقت علي الذي بيديه"

ولا نعرف ما هو حديث الأنثي الذي قاله عيسي لمحمد وعلي يترجم بينهما!!!

الغموض هو سر ابن عربي الأكبر,هذا الغموض رسم هالة علي كلماته حيرت كل الباحثين فيه وعنه!وجعلنا نتساءل عن معني عباراته حتي اليوم,بعد أن أفني الكثيرون مداد أقلامهم في محاولة فهم هذا الرجل.وبالتالي نحن مدفوعون لتقرير أمر حتمي أنه مهما كانت الاجتهادات والشروح حول نصوص ابن عربي,فيمكن لأي عابر سبيل لا له في الطور ولا في الطحين واقف في الزحمة لا به ولا عليه-أنا يعني-أن يقول في مواجهة الجميع بضمير مستريح"ما هكذا تكلم ابن عربي!"

الحق أننا سنظلم الحقيقة لو أنكرنا وجودها كلياً!المشكلة أن وجود الحقيقة أصعب من غيابها أغلب الوقت,لكل إنسان في الدنيا حقيقته الخاصة,الحقيقة هي ما يشعر بها تلتهب في باطنه وتستريح لها أعصابه,ويمكنه الرؤية من خلالها العالم ونفسه بصورة تجعله متوازناً,وتغطي له مساحة كافية من الاستقرار الفكري والنفسي والاجتماعي,أنا أتصور أن الحب والحزن هما جوهر الحقيقة في الكون,الثاني يظنها القوة,الثالث المال,الرابع السلطة,وهكذا,وكلها حقائق عند أصحابها .... الأمر لا يختلف كثيراً في تأليف النصوص وتأويلها,فالمؤلف يعتمد علي ما رآه وتجلي له,وصاحب التأويل يُجلي التجلي في نص المؤلف!

مَن مال متحيّزاً إلى فئةٍ أو متحرّفاً لقتال ، فما مال." "

لأول وهلة استدعيت في ذهني تلك الأبيات التي تدخل في باب الطرف اللغوية,وتحديداً الأبيات المنسوبة للشافعي:

رأيت الناس قد مالوا                 إلي من عنده مال          ومن لا عنده مال                    فعنه الناس قد مالوا

رأيت الناس ثد ذهبوا              إلي من عنده ذهب

ومن لا عنده ذهب              فعنه الناس قد ذهبوا

رأيت الناس منفضة             إلي من عنده الفضة

ومن لا  عنده فضة              فعنه الناس منفضة

وبيت إسماعيل صبري:

طرقت الباب حتي كل متني      فلما كل متني كلمتني

قالت يا إسماعيل صبرا       قلت أسما  عيل صبري

اللغة الخادعة المتوارية في تلافيف المقاصد والغايات!

الظاهر والباطن جدليتنا الأبدية في الحياة,بل ربما هي الحياة ذاتها,فالإنسان لا يري ذاته إلا بعين الخيال والوهم,لو وقف أمام المرآة لا يري أي شئ,حتي أنه لا يمكنه رؤية جسده,سيري فقط جلده الظاهر من جسده,نحن لما ننظر لأي مادة لا يمكننا اعتبار ظاهرها هو معناها,كذلك اللغة عند المتمكنين منها وخاصة لو كان عندهم نزوع فلسفي,لابد من الكشف عما وراء الظاهر لنصل للباطن,وربما الباطن يفاجئنا أننا حتي لم نتسطع الكشف عن الظاهر الماثل أمامنا في تحد أغلب الوقت!

هل استمعت لسيدة الغناء وملكته وهي تغني"أقولك إيه عن الشوق يا حبيبي"؟ هل تعتبرها أغنية عاطفية لعشيقة؟

يُخيل إلي أن عبد الفتاح مصطفي وهو شاعر له حس صوفي واضح,كان يناجي في الله,فهي قصيدة صوفية ظاهرها لا يكشف عن باطنها؛لأنه علم الظاهر والباطن استطاع اللعب علي الحبلين!لكن من للغلبان منا ليكشف له الظاهر من الباطن؟!!

الظاهر خيبتنا الباطن خيمتنا,محظوظ هو من ينفد لعمق الأشياء-علي قدر طاقة البشر بالتأكيد-ويستخرج منها المعني.

الفتوحات كُتبت كما يقول صاحبها بوحي إلهي,والوحي غير التنزيل,لكن ابن عربي متأثر طبعاً بالتنزيل ويدرج آياته ومعانيه,كـ:من مال متحيزاً إلي فئة أو متحرفاً لقتال,فما مال."وهي تحيلنا لآية في سورة الأنفال:" وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"

وعبارة ابن عربي السالفة أول فقرة في"سر الهرب من الحرب",والعجيب في تلك الفقرة أنها  يمكن قراءتها من الآخر إلي الأول ويؤدي نفس المعني من الأول إلي الآخر!!ويمكن تقسيم عباراتها لتعطي معني حتي لو كانت بعيدة عن النص الأصلي.

يمكن شرحها أن من ابتعد عن ميدان القتال ليلتحق برفاقه ليعاود الحرب مرة أخري بعد أن تبينت له أن هزيمته وقتله لا مهرب منهما,أو ليخادع العدو فيبين له أن سيهرب بينما هو يستعد للكر عليه مرة أخري فما خسر ولا سقط من المعركة.

لكن أي حرب تلك التي يقصدها ابن عربي,الآية احتكرها المفسرون علي غزوة بدر فقط وقال بذلك عمر بن الخطاب,سورة الأنفال تدور حول القتال وعلاقة النبي بالمقاتلين معه,وعن غزوة بدر وما جري فيها,وتؤكد أن الله ناصر النبي وتبين أن المعركة كانت بيد الله:" فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"

أي حرب يا شيخ؟بداية معارك الأندلس أم الصليبيين والتي عاصرتهما...أم حرب صوفية علي تقلبات النفس السافلة,وأحوال الزمان الدنيئة, تحتاج إلي ابتعاد(ميل/خلوة)تتحيز فيها لأهل الله(فئة) ثم جلوة(متحرفاً)لأهل الدنيا؟!

أي حرب تلك في هذا النص الذي يقرأ من كل النواحي وبمعان عدة,كأنه نص دائري ينتهي حيث بدأ ويبدأ حيث ينتهي.

وفي سورة العنكبوت"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"الله يضمن لمن جاهدوا فيه أن يهديهم إليه لكن ما هو سبيل الجهاد لله في البداية؟...في ذات الفقرة "سر الهرب من الحرب"يوصي ابن عربي"كن قاراً ولا تتبع فاراً",ويخبر أن"من فتح له باب السماء استظل بسدرة الانتهاء"!!

نعم أم لا؟....بينهما تطير الأرواح!!

ظاهر أم باطن؟ ما الخط الفاصل بينهما...الجمال في العين التي تري,فهل الرؤية تعتمد علي النظر أم الكشف القلبي؟

نص أم تأويل؟ التأويل نفسه يتحول إلي نص يحتاج للتأويل!!

ما هو مفتاح السبيل لابن عربي المغلق المستغلق علي أفهام العامة أمثالي,لابد من قراءة أعماله الكاملة مرة واحدة علي الأقل بتمعن كأول خطوة,فابن عربي لا يمكن اجتزاؤه,وإلا نكون كمن يقرأ بيتاً من معلقة طويلة جداً ثم يريد أن يشرح المعلقة كلها....وللأسف هذا هو الحاصل معي!