الخميس، 29 أبريل 2021

محمد أبو سليمان ويحيي سينماتك...في محبة النقد بعين القلب

 

محمد أبو سليمان ويحيي سينماتك...في محبة النقد بعين القلب

الثقافة المصرية المعاصرة تئن من العطش والجفاف,فكلما رحل أحد الكبار عن دنيانا عز من يخلفه في مجاله,تاركاً فراغاً هائلاً,والمسئول عن ذلك بصورة رئيسية نظام تعليمي عقيم لا ينجب كفاءات أو ينمي مواهب,لا ينتج عقولاً بل يطبع شهادات ممهورة بأختام الدنيا والمحصلة صفر.

النقد السينمائي الجاد لم ينج من تلك المذبحة الكبيرة,لأن الأفلام العظيمة التي زينت الشاشة المصرية في عصرها الذهبي غابت,فنتج عن ذلك صحراء قاحلة لا فيلم فيها يخفف من هجير الحياة وبالتالي لن تكن هناك دراسات ومقالات متعمقة تدور في فلك الفن السينمائي أجل هناك تجارب جميلة في السنوات الأخيرة لكنها شحيحة جداً لا تزرع شجرة في صحراء السينما المصرية بل هي شتلات صغيرة ننقب عنها بصعوبة بالغة.

ولضعف ثقافة الناقد وقلة إمكانياته,يندر من يهتم بالأفلام غير الناطقة بالإنجليزية,فالعالم قواه تتغير ومدارس سينمائية جديدة تظهر وتيارات بعيدة تجري في مياه نجهلها,قلما نجد ناقداً يكتب عن السينما الصينية واليابانية والروسية والألمانية,وغيرها من بلاد الدنيا الواسعة,الكل يسعي نحو المشهور والمعروف,الأقلام كلها تطوف بهوليوود وحدها,مع أن هوليوود أصابها عطب شديد في قدرتها علي إنتاج أفلام توازي ما أنتجته في الماضي,فمع ظهور مفاهيم الصوابية السياسية وتطفلها علي عالم هوليوود أصبحت الأفلام والجوائز محكومة بمعايير بعيدة كل البعد عن قواعد الفن السابع,وبدأت الاتجاهات الاجتماعية الجديدة في المطالبة بقواعد للأفلام لا دخل لها بصناعة السينما علي الإطلاق.

حتي لو كان الفيلم المصري مصاب بالفقر الفني مما قد ينفر الناقد الجاد من الكتابة عنه,ففي العالم سينما جميلة في قارات أخري وأعمال إنسانية لا تتكلم بالإنجليزية بل بلغات أخري وتعبر عن ثقافات أخري تناسينها في خضم السطوة الأمريكية,إن الناقد الحقيقي هو الشخص القادر علي تحليل العالم والحياة من خلال كتاباته الصادقة عن السينما,الفيلم هو الغشاء الرقيق في الإنجليزية filmيحتاج إلي قلب واع يتذوق وليس مجرد آلة في الرأس ترصف الحروف لتصبح الكلمات مقالاً أو كتاباً,الناقد الجاد الذي يمكنه الخلوص من الأزمة هو الذي يولي وجهه نحو الشرق والغرب والجنوب والشمال,كدأب النقاد السابقين في السينما المصرية كسمير فريد وسامي السلاموني وغيرهم ممن جعلونا نحب السينما حتي أحمد خالد توفيق في كتاباته التي حملت عنوان"أفلام الحافظة الزرقاء",كتابات مشبعة بحب الفن لم تتخذ موقفاً لمصلحة أو وقفت تدافع عن أمر شخصي ولا حفلت بالمديح الأجوف ولا بالذم المغرض,بل كانت أغاني في حب السينما.

سمير فريد يكتب عن الأفلام المقتبسة من مسرحيات شكسبير بدراية ووعي شهدت به الناقدة المسرحية الكبيرة نهاد صليحة,فيفند فيلم هاملت مثلاً بين مدرسة السينما الإنجليزية الرأسمالية كما قدمه لورانس أوليفييه,والمدرسة السوفيتية الشيوعية كما قدمه سيرجي كوزنتسيف,من خلال المقارنة نستشكف القراءة المختلفة للعمل الأدبي,فالديكور المستخدم عند كوزنتسيف يوضح الزمن الفعلي للأحداث في أواخر العصور الوسطي,حيث ذبول عصر وبداية آخر كتأكيد علي الرؤية المادية للتاريخ,بينما أوليفييه يستخدم الديكور التجريدي ليعبر عن هاملت في أي عصر أو مكان متأثراً بالجانب الفرويدي كما شرح عالم النفس فرويد نظريته الشهيرة مستخدماً مسرحية أوديب لسوفوكليس اليوناني.

سامي السلاموني يكتب عن أفلام السينما المصرية بوعي وفطنة وخفة دم شديدة,ويشارك في فيلم الحريف لمحمد خان بدور صغير حباً في الفن ورغبة في المشاركة فيه,ويكتب عن شادي عبد السلام وتحفته المومياء ويحاوره في العمل الفني محاورة مثقف لمثقف آخر يعملان في حقل السينما,أحدهما فنان مبدع والآخر ناقد حساس.

هكذا كان النقد في مصر زمن ازدهار الثقافة وتعمق الإحساس بالجمال والفن,لكن مع ذلك لا يمكن القول بموت النقد السينمائي,الحياة ضد الموت ونحن أحياء ونتنفس,ورغم كل ما يعتري الفنون علي اختلافها من انهيار إلا أن الأمل لا يموت في استعادة رونق الشخصية المصرية وروحها الذي ظهر في احتفال المومياوات الأخير الذي أحدث ضجة عن عرضه,وقدم فنانو مصر عروض مدهشة وسمعنا الترانيم المصرية بعد صمت آلاف السنين تنشد من جديد في حضور السيد عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية ووقفته التاريخية في استقبال ملوك مصر القديمة,وظهرت يسرا كملكة من مصر القديمة ليعاد للفنان المصري احترامه الذي دأب السوقة علي النيل منه واتهامه بتهم حقيرة,ظهرت نجوم ونجمات مصر وغني محمد منير,وبدأت الروح تسأل عن مستقرها ومنشأها,واستعدنا ما حرمنا منه وسط المستنقع الذي تراكمت عليه القاذورات في السنوات الماضية.

النقد السينمائي وحب السينما لا يموتان والدليل علي ذلك شخصيتين مصريتين سكنا عالم الإنترنت,واكتسبا شهرة كبيرة في الوسط الفني وبين الجمهور أولهما محمد أبو سليمان صاحب تجربة سينماتولوجي المذهل في تحليله للأفلام وإخلاصه لها وليس ذلك بغريب عن شخص أحب السينما من فيلم الأب الروحي أحد أيقونات السينما في العالم,فعبر المقاطع التي يعلق عليها بصوته ندخل إلي عالم السينما من الباب الضيق الذي يحتاج لصبر ودأب,فتقديم المعرفة بتلك الصورة السلسة يحتاج إلي تمكن واحترافية,لا يوجد تقعر ولا إرهاب فكري باستخدام المصطلحات المعقدة,بل كلام عامي سهل لكنه حافل بالمعاني والمعلومات,نري من خلاله فيلم كأرض الخوف بصورة جديدة ونتعرف علي عالم يحيي أبو دبورة,وبصورة ما يقع في شعورنا أن كلنا يحيي أبو دبورة كل واحد بطريقته لأنها كما يسميها"رحلة آدم"رحلة في النفس الإنسانية منذ سقوطها علي الأرض وضياعها في الخوف وعدم اليقين وتركها عارية وحيدة تواجه الشر الذي يغويها دوماً رغم أن مهمتها المكلفة بها هي محاربة الشر,ونستكشف من جديد موهبة مني زكي عبر التقاطه لفنيات أدائها في شخصية تحية عبده في مسلسل أفراح القبة,ويضع فيلم عن العشق والهوي في مرتبة جديدة في تاريخ السينما المصرية,رغم أن الفيلم يعرض مراراً لكنه كان يفتقد لناقد كأبوسليمان يري فيه بعين القلب ما يفتقده المشاهد الذي يري بالعين البيولوجية العادية,ويشاهد الزعيم عادل إمام بمنظور جديد يتوحد من خلاله مع قاهرة التسعينيات في أعماله مع شريف عرفة ووحيد حامد,يحكي بدفء وحب ورغبة في نشر الثقافة السينمائية,وعندما يتجه إلي السينما الأجنبية يقدم الحرفية بأسلوب بسيط وبجملة قد ينطقها مخرج كهيتشكوك يرسم خط كبير لتكنيكه الإخراجي,هذه القناة علي اليوتيوب ذاخرة بالمتعة والفائدة تماشي الاختراعات التكنولوجية الحديثة وتعرض السينما بالسينما نفسها لا بالطباعة والحروف,وتجربته شجعت الكثير أن يحذو حذوها,لكن للأسف لم يصل أحدهم بعد لتلك العلاقة الصادقة التي تربط محمد أبو سليمان بالسينما وروعتها.

أما الثاني فهو ناقد شعبي لو جاز التعبير اسمه يحيي حسني لكنه معروف بيحيي سينماتك!مفتون بالسينما وينقل العدوي لكل من يدخل صفحته الممتلئة بتعليقات تلقائية ذكية ونابعة من إحساس المشاهدة والانطباع الغريزي,يذكرني بالفنان التلقائي محمد علي وبالرسامين التلقائيين الذين نبغوا دون دراسة,بل رسموا الروائع كأن أيديهم لها فكر خاص بها,كذلك يحيي سينماتك له نقد خاص به,وحكاياته عن السينما وعادل إمام وأحمد زكي ومحمود عبد العزيز وغيرهم من أحبابه لا تنتهي,يمتلك النوادر ومازل متعلقاً بجهاز الفيديو الذي جرب معه المشاهدات الأولي في زمن بسيط ولي لم تنفجر فيه المعلومات بعد,يحكي عن الرجل الذي ذهب لشراء شئ ما من أحد الباعة فوجده مندمج مع المسلسل طائر الليل الحزين بصورة عجيبة فينسي ما جاء لشراؤه ويجلس ليتابع أداء عادل إمام وهو جائع يريد يطالب بساندوتش,نقد جديد تلقائي,ليته ينتشر بين الناس كلهم,فبأمثال هؤلاء يمكن مكافحة الإرهاب ووأده في مهده وتجنيب أولادنا ويلات شرور الجماعات المتطرفة التي جعرت في أسماعنا ومازالت بحرمانية الفنون جميعاً,كي تخلو لها الساحة لتعبث بعقول المواطنين ومشارعهم,لكن كيف ينجحون وسط شعب به أمثال يحيي سينماتك ليحارب بوعي ثقافة القبح بثقافة الجمال,يشجع الناس علي متابعة الأفلام وتذوقها ويحكي النوادر,ويتمني لابنه وبنته أن يعملا في السينما,وهو نفسه يحلم بالعمل في السينما,إنه ناقد حقيقي وليذهب كل أصحاب الدهون الفكرية المترهلة التي تخفي فراغها الداخلي للجحيم,فليستمتعوا بمناصبهم وألقابهم ومرتباتهم وصحفهم وقنواتهم وليبقي لنا أمثال محمد أبو سليمان ويحيي سينماتك,فهما الدليل علي أن النقد السينمائي لا يموت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق