الأربعاء، 9 ديسمبر 2020

الجنس...فردوس العرب المفقود

 

تذكر الكاتبة المصرية-الكندية شيرين الفقي في كتابها(الجنس والقلعة)عبارة علي لسان أحد الأطباء المصريين المتخصصين في أمراض النساء"علي عكس كرة القدم,بينما يتحدث عنها الجميع فنادراً ما يمارسها أحدهم,لكن الجنس يمارسه الجميع ومع ذلك يتجنبون الحديث عنه"فأين اختفت الثقافة الجنسية ومتي تحول الجنس من أسمي فعل يمارسه الإنسان بالتوحد مع الآخر والاتزاج في حضوره الجسدي والروحي ليصلان سوياً إلي النشوة التي تقربه للسماء إلي فعل مدنس يحيطه التكتم والخجل؟وكيف أصبح سطر أو سطرين في رواية يغوصان في الفعل الجنسي الفياض بالمعاني الجميلة من المحبة والرحمة والتفاهم لدعوة إلي الانحلال الأخلاقي,أو مشهد رومانسي يقرب القلوب من بعضها ويستعرض روعة الحب وعظمة الجوهر الإنساني فيه إلي عهر وفساد؟وفجأة يصبح الأديب أو الفنان مجرماً ومتهماً بمحاولة تلويث مجتمعنا النظيف الراقي!!

منذ أن بدأ الكبت.

بصعود التيارات الدينية المتطرفة بالتوازي مع انهيار منظومة التعليم تماماً وتراجع الفن والثقافة واعتبار فن التمثيل المجسد الأروع للشعور الإنساني عيب وحرام يُطالب صاحبه بالتبرؤ منه والتوبة عنه!بدأ العقل العربي عموماً في التهاوي ليغرق في العماء والصمت,وتصيبه حالة موات ثقافي مثيرة للرثاء ويطلق نزار قباني تساؤله المفجع المأساوي"متي يعلنون وفاة العرب؟"المجهول لم يعد يثير في النفس الرغبة في الاكتشاف والتعلم بل مجرد أرض محرمة محظور الاقتراب منها,وكل من يدنو منها أو يشير لها لابد أن ينفي أو يشوه معنوياً.

بهذا المنطق المدمر تبدل حال الجنس من مفهوم مقدس مسئول عن استمرار النوع البشري ليغدو في وضع مضاد للعفة والاحترام والتهذيب,تصالحت المجتمعات العربية مع الكذب والغش والزيف ووقفت بالمرصاد لأصل الإنسان وجوهر وجوده ومحور حياته الداخلية,فتوجهت رصاصات التخلف بعدما أصابت الحاضر في مقتل نحو التراث لتدينه وتمنعه,فحدثت فضيحة المطالبة بمنع(ألف ليلة وليلة) العمل الأدبي الأروع في آداب الشرق والغرب,بدعوي احتواؤه علي ألفاظ خارجة وحكايات عن الجنس!والليالي تبدأ بواقعة جنسية يكتشفها شهريار"فلما كان في نصف الليل تذكر حاجة نسيها في قصره فرجع ودخل قصره فوجد زوجته راقدة في فراشه معانقة عبد أسود ن العبيد فلما رأي هذا اسودت الدنيا في وجهه وقال في نفسه إذا كان هذا الأمر قد وقع وأنا ما فارقت المدينة فكيف حال هذه العاهرة إذا غبت عن أخي مدة ثم أنه سل سيفه وضرب الأثنين فقتلهما في الفراش",وعبر الليالي تطهره تداويه شهرزاد من نفس دائه,تحكي عن النساء وحيلهن في خيانة الرجال بل وحتي العفاريت كأنها تخبره أن ما وقع له ليس أمراً نادراً في الحياة,وفي نفس الوقت تملأ خياله بقصص الحب والإخلاص وتختم حكاياتها بعبارات شبيهة بـ"وعاش معها في أتم سرور وفي حبور إلي أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات فسبحان الحي الذي لا يموت"وأثناء الحكايات تنجب شهرزاد من الملك ثلاثة ذكور وتعلي من شأن النساء في شهريار فهي تستعطفه أن يتركها حية رحمة بأولادهما فيجيبها"والله إني عفوت عنك قبل مجئ هؤلاء الأولاد لكوني رأيتك عفيفة نقية وحرة تقية بارك الله فيك وفي أبيك وأمك وأصلك وفرعك وأشهد الله إني قد عفوت عنك من كل شئ يضرك"الليالي كلها تسعي للخلاص بالجنس, لكن في زمننا الغارق في الإباحية التي تستقطب الملايين من العرب باعتبارهم الزبائن الدائمين عندها,نجد اللاعنين للجنس في العلن ظناً منهم أنهم بذلك يلبسون رداء الطهر هم أنفسهم زوار المواقع الإباحية بفعل الكبت في السر والغرف المغلقة.

الحفدة يتبرأون من تراث الأجداد,يودون إخفاء الأعمال التي تصدر فيها الجنس وفنونه كالروض العاطر للنفزاوي الممنوع في بعض البلدان العربية وفي عام2018وبعد مرور قرون علي تدوينه, ترفض وزارة الثقافة المغربية لوحة الفنانة خديجة طنانة(كاماسوترا) المستلهمة من أوضاع الجماع المذكورة في متن أحد النصوص المؤسسة للمعرفة الجنسية,ونواضر الأيك ,الوشاح في فوائد النكاح,شقائق الأترج في رقائق الغنج,نزهة العمر في التفضيل بين البيض والسمر, للإمام السيوطي صاحب تفسير الجلالين للقرآن الكريم,وأوقات عقد النكاح لابن القيم الجوزية , السيوطي وابن القيم من كبار فقهاء الدين الإسلامي لم يجدا حرجاً في شرح فنون العشق والهوي والنكاح مستخدمين ألفاظاً تبدو اليوم صادمة لمن يطالعها مع إنها من صميم الفصحي العربية,تم التعمية عليها لصالح ألفاظ أخري صكها المتطرفين لدمار الدنيا والدين عكس هؤلاء الذين سعوا لعمار الدنيا والدين بالتقريب والمحبة لا بالكراهية وإعلان الحرب علي البشرية,وفي مؤلفات الجاحظ والتوحيدي وأبونواس والأصفهاني أمثلة للحياة الجنسية عند العرب يلعب فيها المخنثين والسحاقيات أو بلغة عصرنا"المثليين والمثليات"أدواراً أساسية مع غيرهم من هواة الغلمان والعلاقات الثلاثية وهي موضوعات لو تصدي لها أديب أوفنان عربي في وقتنا هذا فقبل أن يصرح حتي بالفكرة سيصير هو المفسد وسط باقة من فضلاء البشرية الذين يقدمون كل يوم للعالم درساً في الأخلاق والتحضر!

هذه المعاداة للجنس والتهرب من تشريحه والتوافق معه دفعت بالشباب العربي المعاصر للغرق في فخ الإباحية,لتستنزف طاقته وتشوه مفاهيمه عن المرأة التي أصبحت تعاني من التحرش والاعتداء بصورة متكررة في العالم العربي,فهي في نظر الشاب ليست شريكته وحبيبته كما أرادت شهرزاد والسيوطي وابن القيم كآية من آيات الله القائل في القرآن"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"ومن قبل في التوراة علي لسان آدم"هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي",بل هي الأداة المؤهلة لتقديم كافة الانحرافات الجنسية,هي الجسد المنتهك,هي الأعضاء المزيفة الضخمة المغرية كما تريد شركات البورنوجرافي التي تحقق الملايين بزيادة تهييج الشباب فتزيد الاضطرابات الزوجية وتقع العديد من حالات الطلاق سببها الأساسي الإدمان علي الإباحية,فيتفكك المجتمع وتنهار روابط الزواج.

الأدب الجنسي في الثقافة العربية لم يكن المقصود به إثارة الغرائز,فهذا المجتمع القديم-علي عكس الصورة الخيالية التي يروج لها,كانت الحياة الجنسية فيه متأججة,تمور بمختلف الجنسيات والميول,والكل يجد ما يرضي خياله المشبوب,لكنه كان أدباً يتماهي مع الجانب الإلهي من الجنس يود التقرب من المطلق,يعري روح الإنسان قبل أن يعري جسده,وفي كثرة الأسماء التي أطلقها العرب علي عضوي التذكير والتأنيث دلالة علي براح الصور والرموز في العملية الجنسية لتشمل عناصر كونية,فهي الحرث والخير وفي بعض الحالات لا ترتبط بالولادة والتناسل إذ يمكن تجنبهما,وإنما هي صلاة كونية يتمازج فيها الرجل والمرأة,ليعيدا تمثيل الأساطير الكبري في الحضارات الإنسانية لسماع معزوفة الكون تسري في بدنيهما,فيولد الحب.

إذن لماذا الصمت؟لماذاالخوف من الحديث عن الجنس,هل كرة القدم أمتع أو هل حركة اللاعبين في الملعب تفوق حركة المحبين علي فراش واحد؟!إن ثقافتنا الحالية عبارة عن بناء من التفاهة أقيم علي أعمدة من الجهل وتم طلاؤه بألوان التخلف والأمراض النفسية المستوطنة في النفسية العربية,وكتب علي باب"كل شئ عيب...كل شئ حرام"وتحتها تعديل لمقولة دانتي"أيها الداخلون...اتركوا ورائكم كل أمل في التفكير"إنه الجحيم الأرضي كما صاغته واقع الحضارة العربية المعاصرة,وهو عكس جحيم دانتي نعيشه ولا نقرأ عنه.

انظر حول وشاهد إلي أين وصلنا بكومة الهراء المسماة فقهاً اخترع حلاله وحرامه الخاص به,لخدمة توجهات سياسية مشبوهة كان لها أبلغ الأثر علي الواقع الاجتماعي,عشرات المؤلفات حول الطهارة والنكاح تعامل الجسد البشري علي أنه آلة ميكانيكية تحتاج إلي التشحيم والتزييت فقط,وترسم صورة المرأة بخيالها المريض المتأثر بكل تراث العقد النفسية والكراهية الدفينة للإناث,فهي الشيطان المغوي,والحية الخبيثة,والحائض النجسة,ومن هنا...من هنا أصبح الجنس مرتبطاً بالدنس لأن شريكة الرجل فيه تنزف الدم الواهب للحياة,ولأنه في العصور القديمة كان ذلك لغزاً يصعب علي الرجل حله فتكاثرت الأساطير والاعتقادات حول المرأة.

فقدت المرأة سلطتها القديمة وأصحت توأم الحية في الرواية الدينية عن الخلق,فكان التطور الموقع أن تسقط في وهدة الدنس وتصبح شرك إبليس,وللأسف هذه النظرة موجودة عند نسبة كبيرة ممن يلقون السمع دون تمييز ولا تمحيص,فكان مصير المرأة العربية الحجب والإدانة والشجب لا تهمة بلا ذنب,يكفي أنها تمتلك فرجاً يخيف الرجل ويذله في آن,يمنحه أولاده ويثير قلقه علي عفته,تتحدث الكاتبة الكبيرة نوال السعداوي عن الجنس وتدافع عن المرأة باعتبار الأنثي هي الأصل,فيصيبها سهام الهجوم الساحق,تنادي وحيدة في مجتمع أصم لا يعرف إلا ما لقن في مدارس هجرها التعليم ومنابر غادرها المنطق,تشرح في كتابها"المرأة والجنس"مفهوم العفة الحقيقية الكامنة في الصدق والأمانة لا في غشاء يمكن أن يتمزق لأي سبب كان,بل ربما لا يكون موجوداً من الأساس,تسرد بأسلوب أدبي شهادة مزجت بالعلم القهر الجنسي الذي تتعرض له النساء,تقف ضد جريمة ختان الإناث,تقف ضد السلطويين المستغلين لجسد المرأة لمتعتهم دون رادع,حتي ولو أدي ذلك لضياع إنسانة مع وليدها وسقوطهما في مجتمع قاس لم يعد يهمه سوي التهجم والإدانة,تنقد فرويد في نظرته للمأة والجنس,تقوم في أعمالها بثورة جنسية حقيقية لو كان وصل صداها للشارع,لانصلح حال المجتمع منذ زمن,وقد آمنا بقيم العمل والمساواة والصدق,بدلاً من الزيف والكذب واللذين شوها حياتنا.

ربطنا كل ما هو مدنس وحقير بالجنس,بل يصفه البعض مشمئزاً بأنه شهوة حيوانية!إنها ردة ثقافية خطيرة لها مؤشرات علي بلاهة العقل وتبلد الأحاسيس التي أصيب بها العقل العربي الذي كان يوماً مضيئاً يعرف حق نفسه وحق الآخر قبل أن يصير جباناً وخائفاً يتواري من كل شئ حتي من نفسه,فكما ذكر جيفري ويكس في كتابه( النوازع الجنسية)"...ويبدو أن الصراع ن أجل مستقبل المجتمع بالنسبة إلي الكثيرين,يجب أن يجري علي أرض النوازع الجنسية المعاصرة.فكيفما تتجه النوازع الجنسية يتوجه المجتمع.ولكن أيضاً كيفما يتجه المجتمع تتجه النوازع الجنسية

 

 

الأربعاء، 25 نوفمبر 2020

حلم الحب والحياة

 

في مدينة فيسبادن الألمانية عام 1865قبع دوستويفسكي أحد نجباء البشر علي مر العصور"في الصقيع والفراغ"بعد وفاة أخيه ميشيل وزوجته ماريا,وتوقف مجلته"الزمن"عن الصدور,وقد حاوطته الديون حتي اضطر لقبول عرض ناشر محتال أن يشتري منه مقابل ثلاثة آلاف روبل حق طباعة أعماله السابقة,بالإضافة إلي رواية جديدة لم تنشر من قبل,وإذا لم يقدم الكاتب مخطوط روايته قبل نوفمبر من عام1866يفقد جميع حقوقه,فتصبح ملكاً للناشر وحده.

قبض دوستويفسكي المال وسدد ديونه وهاهو في أحد فنادق ألمانيا يعاني الجوع بعدما خسر بقية المال في القمار,وفي هذه الحالة من البؤس والتردي لا تنفك العبقرية الروسية الخالدة عن الإبداع والخلق,فيتراءي له شبح الطالب الفقير الذي يخطط لقتل المرابية العجوز,يمر دوستويفسكي من أزمته كما مر من غيرها من قبل في حياته المضطربة,ويقدم للناشر رواية المقامر في الموعد,وبعدها تظهر أول تحفه الخالدة"الجريمة والعقاب"ويصبح الطالب الروسي الفقير هو"روديون رومانوفيتش راسكولنيكوف" ولقبه  مشتق من كلمة روسية"المنشق"أحد أشهر الشخصيات الأدبية في التاريخ مدعاة للشفقة والتعاطف.

يصور دوستويفسكي الحياة الروسية في عصره بإحساس صادق يصل بها إلي العالمية,فيهتز لشخصياته القراء من الشرق والغرب,يجمعهم الحس الإنساني الصادر من قلب نبي الرواية الروسية وعلي مدار حوالي 900صفحة يظل راسكولنيكوف ورصونيا الهائمان في شوارع بطرسبرج حيين يتنفسان في كل مرة يقرأ فيها إنسان رواية الجريمة والعقاب,ومع كل صفحة في الترجمة العربية التي أنجزها سامي الدروبي لأعمال دوستويفسكي الكاملة,نتخبط في الحانات والبيوت الفقيرة,ومركز الشرطة المزدحم,ونري الوجوه المحرومة المظلومة والوجوه الريانة الظالمة,نشعر باللهب المتقد في قلب دوستويفسكي وبطله راسكولنيكوف,نعيش معه مأساة سقوطه المدوي من رجل يري نفسه من سلالة العظماء القادرين علي تخطي القانون والقيام بالجرائم في سبيل غاية أسمي لتحقيق إنجازات تفوق طبيعة البشر العاديين.

يسرد دوستويفسكي قصة المفكر المنبوذ المعتزل للعالم في برج أفكاره الشاهق,وفيه يقسم الناس إلي فئتين:

العاديين:وهم سواد البشر الذين لا ينظرون إلي أبعد من يومهم ومصالحهم التافهة.

الخارقين:من أمثال نابليون ونيوتن,وقد كان عهد الغزو النابليوني لروسيا ليس ببعيد,وفي نفس عام نشر الرواية كانت ملحمة الحرب والسلام لتولستوي حول الغزو الفرنسي للأراضي الروسية بدأت في الظهور للقراء.

ومع قصة القاتل المثقف وأسرته تتشابك قصة العاهرة الفقيرة وأبيها السكير,وزوجة أبيها التي هوت مع أطفالها من طبقة ارستقراطية لتستقر في قاع المجتمع تعاني الفقر والمرض,من نسيج قوامه قاتل وعاهرة يرتحل دوستويفسكي في رحلة شبيهة بصعود دانتي مع فرجيل نحو السماوات,لكن دوستويفسكي يهبط إلي النفس الإنسانية ليري جحيمها الخاص المتمثل في المعاناة والألم والعذاب,هو أديب العذاب الإنساني الخالد علي مر العصور150عاما تقريباً مرت علي صدور روايته ولم تتزعزع قيمتها البتة بل يزداد الاعتراف بقيمته كأفضل من فهم النفس الإنسانية علي الإطلاق,تأثر به فرويد مؤسس علم النفس الحديث وكذلك نيتشه في نظريته حول فلسفة القوة,وأعجب به أينشتاين ووجد في أدبه ما يعجز العلماء عن الوصول إليه.

دوستويفسكي هو المؤسس لفلسفة الألم والعذاب في الفن الروائي,كل إنسان عنده سواء أخطأ أو لم يخطئ عليه أن يسير في طريق التكفير والعذاب كما سار المسيح حاملاً صليبه ليعاني فداء للبشرية,طريق الحرمان والأسي,تتفتح موهبة دوستويفسكي التي أدركها النقاد منذ عمله "الفقراء"في الأجواء القاتمة والكئيبة,يقولون أنه عبقرية مريضة والأصح وصفه بالعبقرية المضيئة التي أتاحت للبشر اكتشاف دواخلهم المظلمة,الممزقة في الصراع بين الخير والشر.

خبرة دوستويفسكي الحياتية شحنته بمفاهيم إنسانية خالدة,وأتاحت له دراسة نماذج بشرية استخلص منها صورة صادقة للبؤس الإنساني,يرسم لنا شحوب الروح وتأجج المشاعر وقلة الحيلة أمام أقار فرضت من عل رغم كل وسائل المقاومة التافهة التي يستميت عليها القلب الإنساني,لكنه في النهاية لا يسير في الطريق الذي حلم به وتمناه,بل يساق قهراً ودون شفقة إلي واقعه المفروض علي,في حالة راسكولنيكوف السجن والغربة والمنفي في سيبيريا تتبعه صونيا المتحولة من عاهرة تبيع جسدها من أجل الطعام,إلي قديسة وأماً للسجناء والمحرومين وسر الحياة النابض في قلب راسكولنيكوف,بعدما اعترف بجريمته وأصبح منفياً مسلوب الحرية والإرادة,لكن شئ واحداً لا يمكن للمجتمع ولا القانون ولا السلطة ولا أي قوة علي ظهر الأرض أن يسلبخا منه,الحق في الحب والامتنان والوقوف أمام الفواجع بقلب اغتسل بالدموع وتألق من جديد لينظر إلي الغد وإن طال انتظاره وتتحول سبع سنوات هي العقوبة المتبقية من مدته التي تبلغ ثمان سنوات إلي كابوس عابر سرعان ما يأتي بعده الحلم الجميل للحب والحياة.

الخميس، 29 أكتوبر 2020

سينما مروان حامد...المرحلة الأولي

 

1-كان لابد للي لي أن تضئ النور:

تتأتي عظمة الفنون الإنسانية من كونها قادرة علي نزع الأقنعة التي يختبأ داخلها الكائن الإنساني,متحصناً في أوهامه وخيالاته من الحقيقة المرة التي لايقدر علي إدراكها سوي الفنان؛لذلك يصبح هو الأكثر معاناة بين بني البشر,لأنه اقترب ورأي,ذاق وعرف,تألم وعاني,الحقيقة العارية البشعة لا يستطيع الإنسان الغارق في اليومي والمعتاد والفاقد للدهشة مواجهتها,لابد أن يطمرها بين أطنان الزيف والأكاذيب والغرور حتي يحتفظ باحترامه لذاته وقدرته علي الاندماج والتأقلم,ويعيش علي أمل أنه رجل طيب ويوماً ستجازيه الحياة خيراً,متعامياً عن باطنه ومتجاهلاً قوانين الحياة نفسها,أما الفنان بأدواته المختلفة يستطيع التحديق إلي الهاوية المظلمة للإنسان حتي يُدمي عينيه ويتأزم عالمه فيدفع ثمن المعرفة غالياً,لكنه لا يقدر أن يفقأهما كما فعل أوديب عندما تجلت له الحقيقة البشعة حين سمع قصته المشئومة من فم الراعي,لا يقوي علي الصمت لأن الصمت خيانة لشخصه ومجتمعه,وقبل أي شئ آخر لفنه,كينونته وسر وجوده.

هكذا كان يوسف إريس,في قصته(أكان لابد يا لي لي أن تضيئي النور),حيث يتقمص شخصية عبد العال إمام جامع الشبكشي في الباطنية,وكر المخدرات وقبلة المساطيل,يظن عبد العال أنه أفضل وأرقي من مجموعة الحشاشين حوله,وبغرور الشباب يخيل له أنه المختار السماوي لهداية الحي ليترك جلسات الكيوف ويتجه نحو الصلوات الخمس,قبل أن يواجه حقيقته بل وحقيقة كل رجل عندما تضعه الحياة علي محك المرأة,وخاصة إذا كانت فاضحة الجمال...وخاصة إذا كانت لي لي,يظهر المعدن الأصلي سواء بمقاومة الإغواء الأول للرجل أو بتجاوزه,وعبد العال كذكر وحيد جائع للجنس ومكبوت من جهة المرأة,لا يتمكن من مقاومة ذلك الجسد الفائر الذي يراه من المئذنة وهو يبدأ آذان الفجر,لي لي تدعوه لجسدها وهو يدعو الناس للصلاة,وكلاهما ينجحان في دعوتهما!يحتشد الناس علي إثر الابتهالات العميقة الصادرة من  قلب عبد العال مناجياً ربه معلناً ضعفه وقلة حيلته,وعندما يتحقق حلمه في تجميع الناس للصلاة وامتلاء المسجد المهجور لأول مرة,يهجر هو المسجد والناس سجود خلفه ويذهب إلي فاتنته لي لي التي تغلق في وجهه الباب.

يقتبس مروان حامد في فيلمه الأول (لي لي)تلك القصة التي كتبها يوسف إدريس عام1970لينقلها بلغة السينما علي الشاشة كفيلم قصير بطولة عمرو واكد(الشيخ عبد العال)ودينا نديم(لي لي),في امتزاج الأدب بالسينما تلتهب الحواس الفنية وفي الغالب يكون الناتج عبقرياً,فأجمل أعمال السينما هي التي جعلت من الأدب عامودها الفقري لتقترن الكلمة مع الصورة والصفحات مع المشاهد ويتحول المقروء إلي مرئي فتزداد المتعة وتتوالي المشاعر والأفكار من الجهتين.

مروان حامد من قراء الأدب المدركين لضرورته وحساسيته بالنسبة للعاملين في مجال السينما,تعلق بالعديد من الأدباء ومن ضمنهم كان يوسف إدريس وبسبب وعيه الفني,وإيمانه بفن السينما وحب الأدب ظهر فيلم لي لي جرئ المعاني,ومروان كإدريس كلاهما فنان يحمل همومه الخاصة وهموم الإنسان العامة,جريئان يقولان ما يعتقدانه,كل في زمنه وعلي طريقته,مروان مخرج صادم في أعماله التي تناقش قضايا المجتمع المتحلل والمتهاوي,المجتمع الذي ينظر لأصحاب العمائم علي أنهم رجال الله المخلصين ويصدقونهم ويتركون في أيديهم حياتهم ومعاشهم,ولو ظاهرياً كي يرضون ضمائرهم القلقة,فالتهبت قروحه وهو يشاهد الشيخ عبد العال المفتون بصاحبة الجمال الشيطاني,وكلمة شيخ هنا ليست في موضعها فأشباه عبد العال في الأساس لقبهم المناسب "الفقهاء"فالشيخ كلمة تطلق في الثقافة العربية علي الحكماء والعلماء مهما كان سنهم وتخصصهم في العلوم المفيدة لحركة التقدم البشري,فقد كان ابن سينا هو"الشيخ الرئيس"وقد كان طبيباً وفيلسوفاً,ولم يعرف عنه اهتمامه بالأمور الفقهية التي تشغل عبد العال,لقب شيخ كبير عليهم ولا يلائمونه علي الإطلاق,فهم الفقهاء الذين غرقوا في الكتب القديمة المليئة بالقضايا الهامشية التي يثيرون حولها الجدل رغبة منهم في السطو علي عقول البسطاء.

وكما بدأ إدريس قصته من النهاية,يبدأ أيضاً الفيلم من النهاية,الكل في انتظار الإمام ليقوم من السجود الطويل,الكل تحت سلطته المطلقة لا يجرؤ أحدهم علي رفع رأسه وإلا ضاع الثواب والأجر,أحد المصلين يستعين بقصة سليمان والجن الذين ظلوا يعملون وهو ميت حتي نخرت السوس عصاه وتبين لهم أنه مات,وهنا إشارة إلي قراءة خاطئة للدين أدت لكوراث لا حصر لها,فعبد العال ليس سليمان والمصلون ليسوا الجن,لكنه القراءة التي تريد استعادة كل شئ دون تمحيص ولا فهم,وتحويل الرمز الديني بالعنف والإكراه إلي شئ عملي ملموس في الحياة,وهو أمر مستحيل.

عمرو واكد في بداياته مروان حامد في بداياته ودينا نديم تخوض تجربتها الوحيدة أمام الكاميرا,روح الشباب الخلاقة في الأداء التمثيلي والرؤية تفرض نفسها علي كافة المشاهد,الموضوع نفسه الذي اختاره جرئ يحتاج إلي أرواح وثابة تثري فن السينما.

نعرف عبد العال من عبد العال نفسه!فهو يقدم نفسه كشاب أزهري يحلم بإصلاح الناس عبر التوجه الديني,مانسمعه في التعليق الصوتي ليس الراوي العليم بل البطل الذي تنتظره المفاجأة التي ستقلب حياته,إنها رؤيته لنفسه القديمة التي ستنهار مع اصطدامها بالغريزة الأساسية للإنسان...الجنس...أصل الوجود وأطهر فعل عندما يكون في النور بدون استخفاء أو خجل,وأحقر سرقة عندما تكون تلصصاً في الظلام,ظروف عبد العال أوقعته في الجنس الحقير,جنس العاجزين,فهو لا يستطيع المقاومة ولا الهرب,وأجبن من أن يقوم بفعل حقيقي,مروان حامد وواكد يوضحان طبيعة الحرمان الذي يعاني مه سواء في حديثه عن أحفاد ابن المعلم حنتية(سامي العدل) المولودين بدوان زواج شرعي,أو من نظراته إلي لي لي,حيث الشبق المكبوت المحرم يطق من العينين المحرومتين,تقدم لي لي نفسها كجسد شهي تقف حدوده ند النظر,إنهما تاييس حي الباطنية وبافنوس الراهب الساقط من علياء الملكوت ليتمرمغ في شهوات الأرض,غير عابئ بأي شئ سوي تاييس نفسها,لا يهمه المسيح ولا الملكوت ولا كل ما أفني فيه عمره,ربما كانت هذه الشخصية التي كتبها أناتول فرانس في رواية(تاييس)في ذهن يوسف إدريس وهو يصوغ شخصية عبد العال,الذي جعله يدلي باعترافه تاماً غير منقوص,وهو يترك الصلاة في القبلة التي تراءت له فيها لي لي كأنثي مغوية فيترك صلاته وسجوده ويقفز من النافذة ليطفئ حرمانه ويودع أوهامه,مروان حامد يدرك أن الجنس هو عقدة عبد العال وليس رغبته في هداية الناس,فهاهم الناس ورائه قد تركهم وهرع نحو ما يبتغيه حقاً,وقد جسدت دينا ندي شخصية لي لي نصف المصرية نصف الإنجليزية الثمرة المحرمة علي الحارة والمكرسة للإنجليز,ذات الجمال الملائكي إذا أحبت والشيطاني إذا أرادت,بصورة كانت تنبئ عن موهبة قوية تمد السينما بنموذج نسائي غير معهود في تاريخها لكنها فضلت مجال تصميم الملابس للسينما والتليفزيون,في مشاهدها مع عمرو واكد تتجلي السطوة الأنثوية المكشوفة علي الذكورة المختبئة في شرنقة الورع,يتكشف الزيف وتستعلن الحقيقة,صحيح أنه يقاوم عندما ينغلق عليهما باب الشقة لكنها ليست مقاومة المختار بل مقاومة المضطر,عندما تبرز من خلفه فجأة بنظرة جريئة تنفد إلي داخله,أما وهي ممدة علي الفراش تحت الضوء الساطع لا يكبت جماح رغباته أكثر من ذلك,هي في النور متوائمة مع نفسها معلنة عن حقيقتها وهو علي المئذنة في الظلام يتدثر به خوفاً من الانفضاح,إن المئذنة في العمارة الإسلامية في بعض التحليلات ترمز إلي القضيب المنتصب والقبة إلي المرأة الحامل,وهذا ليس إساءة كما يتبادر إلي العقول السطحية,الجنس والتناسل آية من آيات الله لمن يتفكر في الخلق والحياة,لكننا تعودنا أن كل شئ يسئ لنا وكأننا نطبق المثل السائر"اللي علي راسه بطحة بيحسس عليها,الجنس ورموزه  يحيطان بالشاب من كل ناحية,فليس له إلا أن يذعن لكن لي لي تصده,فهي لا تريد دروس في الصلاة كما في القصة ولا في اللغة العربية كما في الفيلم,إنها تريد أن تضئ النور فقط,لذلك يردد عبد العال متحسراً عدة مرات في القصة"أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور؟!"إنها لم توقد نور حجرتها وتستعرض جسدها إلا بغرض الكشف عن سيطرة الغريزة علي عقل الإنسان,نور لي لي هو النور المكبوت بفعل ألف قانون وقانون,شرع في الأساس للحفاظ علي الملكي وليس هناك ملكية للرجل الشرقي أعز عليه من المرأة,وعندما تضئ لي لي النور وتتكشف يصبح عبد العال في الظلمة,في القصة ينطلق عبد العال ولا يعود تاركاً المصلين ليتحولوا إلي نكتة تروي وقد ظلوا سجداً حتي جاء من ينبههم,لاحظ الرمز في الحكاية كلها وكيف حول عبد العال الناس الذين سلموا له السلطة الروحية إلي نكتة!,أما بعد أكثر من ثلاثين عاماً من كتابتها وفي رؤية مروان حامد,فقد استشري النفاق إلي درجة أن عبد العال يجد في نفسه الجرأة علي الرجوع واستكمال الصلاة بينما المساطيل خلفه يتململون.

فيلم من 40دقيقية يمكنه الكشف عن عشرات الأفكار التجليات إنها عبقرية السينما وعبقرية مروان حامد,الذي سينطلق بعد ذلك بفترة قصيرة لإخراج أحد أهم الأعمال السينمائية المصرية منذ بداية القرن الحالي.

2-الشهادة السينمائية:

الأفلام الخالدة في السينما المصرية التي حققت جماهيرية واسعة وحققت نجاحاً فنياً بارزاً,هي تلك التي عكست زمنها وتجلت فيها أمراض عصرها وتحولت إلي وثائق سينمائية,أصبحت مرجعاً للحالة الاجتماعية والسياسية في مصر بدءً من فيلم العزيمة لكمال سليم,مروراً بأعمال صلاح أبو سيف وحسين كمال وغيرهم من المخرجين إلي فيلم"عمارة يعقوبيان"المقتبس من رواية تحمل ذات الاسم للكاتب علاء الأسواني,صاحب القدرة الفنية علي الغوص في الذات البشرية وتحسس مناطق ضعفها وأماكن الوخز من وجع الحياة,بتعاطف شديد يمنع القارئ من إدانة أي شخصية,فالفهم عدو الإدانة,,بل نتقبل الروح الإنسانية بخيرها وشرها,بتلك النغمة العازفة علي مواطن الجمال والقبح في الذات جالت كاميرا مروان حامد في المجتمع المصري أثناء حرب الخليج الثانية,وإن لم يظهرذلك الحدث في الفيلم عكس دوره الكبير في الرواية,يقدم من خلال نجوم ونجمات مصر شخصيات صاغها سينمائياً الكاتب الكبير وحيد حامد,من تحولت أعماله عبر حوالي 50عاماً إلي من أفلام شرحت المجتمع المصري وبلورت أزماته وقضاياه إلي أعمال تنبؤية تحققت في السنوات الأخيرة,فهو أكثر حذر من خطر المتطرفين في أعماله وهوجم من الإسلاميين وغيرهم من عديمي الوعي بالخطر الكامن بفعل الإرهاب المتولد عن قناعات دينية,وظنوا أنه يبالغ في تصويرهم بشكل كاريكاتيري ومع بروزهم علي الساحة منذ عام2011اكتشفنا أن حتي وحيد حامد لم يتمكن من الوصول إلي مدي السلوك المنحط المتدثر بالمظاهر الدينية الكاذبة.

يحكي الأب والابن-وحيد حامد ومروان وحيد حامد-حكايات من قلب المجتمع القاهري,معروفة سلفاً وسُمعت بأكثر ن طريقة,لكن الفن هو وحده القادر علي فتح أحشاء الحكايات مهما تم تكرارها وترديدها,باحثاً عن الكيفية التي أدت للصائر المختلفة لبني البشر:

-العجوز والصبية:

زكي الدسوقي(عادل إمام)أحد بقايا العصر الملكي الذي يحن إليه ويعتبره الزمن الجميل لمصر,في المونولوج الشهير "احنا في زمن المسخ",مشهد آسر بلا شك يبرز قدرات فنان مخضرم كعادل إمام,يخطب بدون جمهور وسط ظلام القاهرة المخيف,لنتوقف لحظة لنقول كلمة عن العصر الملكي:أجل كانت مصر في حالة جيدة بالنسبة للتعليم والثقافة ثروة الأمم الحقيقية,قبل أن يتهاوي التعليم ويتحول إلي سراب يفرز لنا عقليات جاهلة غير مؤهلة للإنتاج,تحمل شهادات,...شهادات...شهادات كثيرة بلا عدد لكن نادراً ما تجد شخصاً متعلماً ومؤهلاً للتميز وصناعة شئ حقيقي,ولو وجدته فسيكون ثائراً وناقماً علي تجربته في نظام اللاتعليم,أناقة في الأوبرا وعظمة في حفلات المسرح,لكنها كانت وبالاً علي الفلاحين وبسطاء الناس في المدن,سنعود لنستشهد بالفن,فيلم الحرام والبطاطا التي تدفع عزيزة ثمنها حياتها,رواية الوسية-سيرة ذاتية-,مشاهد وحوارات الحرمان من الطعام في فيلم الزوجة الثانية,رواية الأرض والفيلم المأخوذ عنها والقهر الواقع علي الفلاحين,التوغل الإنجليزي وخشونته مع المصرين في بين القصرين,لوحة رعاياك يامولاي لعبد الهادي الجزار,لكن سلبيات ثورة يوليو جعلت الصورة في ذهن البعض بأن مصر كانت أرض الأحلام قبلها,بينما جدودنا البسطاء كانت سياط الأسرة المالكة تلهب ظهورهم,طبقة واحدة كانت تستمتع هي طبقة زكي الدسوقي أي طبقة الباشوات وأبنائهم,لذلك يمكننا تفهم النوستالجيا المطوية في نبرة صوته,مع انحدار الذوق العام عند كافة الطبقات!والزيادة الرهيبة في عدد السكان التي أدت لتفشي التشوهات الاجتماعية والاختناق المعيشي,حيث أن الزحام ستار لفعل كل الموبقات,هي مرثية لزمن انتهي وكل ما ينتهي يصبح جميلاً لا لشئ إلا أنه لم يعد له وجود.

يتعلق زكي ببثينة السيد(هند صبري)حبيبة وفتاة أحلام طه الشاذلي(محمد إمام)وتبادله المحبة والإعجاب,وتنسي طه الذي رفض في كل الشرطة بسبب مهنة والده ويتحول إلي عضو في أحد التنظيمات الإرهابية حتي يتم اغتصابه بواسطة أحد الضباط فيعزم علي الانتقام,وفي نهاية قصته يموت بجوار جثة مغتصبه,في مشهد مشحون بالمعاني حول الظروف الاجتماعية القاهرة التي جعلت من رجلان لهما نفس الهدف في الحياة بالعمل في البوليس إلي قاتل وقتيل,وفي ظروف أخري ممهدة لكانا زميلان للدفاع عن الوطن.

جمعت زكي الدسوقي وبثينة مشاهد رومانسية من أجمل اللقطات التي صورتها السينما المصرية للعلاقات العاطفية,عجوز مثقف علي شفا الموت وصبية تتفتح للحياة يشوب سلوكها أدران جيلها,يجمعهما الحب المطلق دون انتظارنتيجة,بثينة تم انتهاك جسدها في سبيل عشر جنيهات,عشر جنيهات كافية ليتم إفساد برائتها الأولي والاحتكاك بها حتي يفرغ صاحب المحل سائله علي ملابسها,ثم تبكي قهراً واحتقاراً لذاتها,تجد في زكي الرجل الذي يحترمها ويعطف عليها فتمنحه نفسها دون مقابل بلا اشمئزاز أو قهر ابتسامة هند صبري وهي تحلم بالسفر تشف عن مدي الأسي التي تعيشه الشخصية,مجرد الحلم جعلها تقبل علي الحياة بعدما دفنت كل ما حلمت به يوماً,القبلات بينهما صادرة من أرواح مجروحة,تطبطب علي بعضها,غريبان في الحياة وجدا المرسي,لم يعودا سوي رجل وامرأة في حالة حب حقيقي,قبل أن تهدم طمأنينتهما دولت"إسعاد يونس"شقيقة زكي الدسوقي بضبطهما سوياً بالفعل الفاضح طبقاً للقانون!وفي النهاية يتزوجان في مشهد ختامي حيث يسير الزمن في حالة نسبية مدهشة الماضي بجوار المستقبل في آن وحد...إلي المجهول حيث لا يدريان ولا يدري أحد...

-الحاج تاجر المخدرات:

الحكاية الثانية بطلها الحاج عزام(نور الشريف)ماسح الأحذية السابق والنائب البرلماني حالياً,وكمال الفولي(خالد صالح)أحد كبار رجال الدولة ويمكن تمييزه في شخصية حقيقية كانت إحدي الوجوه البارزة في نفس الحقبة,يصطدم الطرفان بعد وفاق,كمال هو المسئول عن دخول عزام البرلمان مقابل مليون جنيه,مبلغ طائل بمقاييس التسعينيات فقد كان وقتها هو مبلغ الأحلام حيث يسأل المواطن عما يفعله لو كان يملك مليون جنيهاً,فيعدد قائمة متعددة من المهام,قبل أن يتحول المليون لمبلغ عادي لا يثير كوامن الرغبات.

مشاهدهما سوياً كاشفة لطبيعة الحياة السياسية في مصر وقتئذ فضلاً عن كونها متعة فنية بين قامتين في الفن التمثيلي لكل مدرسته وتجربته,وكما يقتل الحاج عزام أبناء الناس بالمخدرات,يضطر لقتل جنينه في أحشاء زوجته الثانية سعاد"سمية الخشاب"لأن زواجهما كنا بهدف الانتفاع المحض,هي تستمع بأمواله وهو يستمتع بجسدها,في صورة عقد زواج ليشبع حرمانه الجنسي,وهو زنا مقنن يشجع عليه المجتمع لكنه لا يتسامح مع قصة حب أو قبلة ممتلئة بالوفاء والمودة!

المثلي:

مثلما قهر المجتمع بثينة وسعاد,يقهر حاتم رشيد"خالد الصاوي"لأن مثليته مرفوضة أو علي الأقل غير مرحب بها,عجيب هذا المجتمع الذي يقدمه مروان حامد,يتوائم مع التشوهات الكبري لكنه يثور حين رؤية شخص قادته ظروف نفسية وجينية قهراً ليندمج في الحياة المثلية,وربما يصبح هو سبب البلاء الجماعي المحيق بمن حواله.

شحاعة تحسب لخالد الصاوي أن يتقبل دوراً رفصه ممثلين عدة قبله,ولأن الصاوي فنان حقيقي استطاع تقديم النوازع الداخلية للشخصية المثلية,فهو لا يبحث عن الجنس بقدر بحثه عما يعوض حرمانه العاطفي,مشهده في محاكمة والديه يثير التعاطف معه لأنه عارف بمدي تشوه نفسيته,فهو الطفل المنبوذ الضائع في أسرته وظل حتي قتله علي يد مجرم التقطه كما التقط الجندي الساذج عبد ربه الذي عوضه عن نموذج العطف السابق المتمثل في خادم الأسرة النوبي,وظل هو ذاته مجرد طفل منبوذ في المجتمع ولكن علي صورة رجل بالغ,وفي عام2009يقدم مروان حامد طفل آخر يعاني من النبذ والضياع والقهر ليسرد حياته بطريقة ملحمية ويجعلها سيرة أسطورية تروي علي لسان صديقه عشري.

3-إبراهيم الأبيض...مشاهد:

حينما يجئ أوان كتابة تاريخ السينما المصرية بدءً من انهيارها إفلاسها الفني والإنساني منذ أوائل الألفية الثانية,حتي عودتها الحميدة بأفكار ومواهب أبناء مصر-أمثال صناع هذا العمل الفذ-سيجد الدارسون جواهر قليلة تتلألأ في عيون المؤرخين والناقدين وسط ركام من الهراء والسفاهة,سيكون لأحمد السقا جوهر واحدة في فقط في مسيرته الفنية حتي اليوم بفضل أداؤه لشخصية إبراهيم الأبيض تحت إدارة مروان حامد الذي استخرج منه أداء متميز حقيقي ومؤثر,بعيداً عن الأداء المفتعل الذيي عرف به ليدشن من أحمد السقا فناناً وليس ممثلاً يقوم بأدوار البطولة في أعماله الأخري.

هوجم الفيلم بشدة بسب سطحية التفكير وغياب النقد الجاد علي الساحة الفنية,وهوجة تعليق أمراض المجتمع وعيوب الشخصية الوطنية علي فيلم أو مسلسل,وكأن كل الأمور تسير في منحاها المثالي حتي جاءت أفلام العنف والبلطجة فحولت الشخص المسالم إلي قاتل وسفاح,وجعلت الأمهات تقتل أبنائهن!!لكن الزمن(الحكم الحقيقي علي الأعمال الفنية)أنصفه وقد كان المؤلف عباس أبو الحسن محقاً عندما أعلن إن إبراهيم الأبيض هو بصمته في التاريخ,بصمته في قلب كل محب لفن السينما,ولأن هذ العمل استثنائي فإنه يحتاج إلي رؤية مغايرة قليلاً,قد يجانبها الصواب وقد تصيب بقدر الإمكان...

المشهد الأول...الموت قهراً:

الإضاءة كابية مقبضة تنذر بالويل القادم,العذاب الذي لن يردعه زوج مغلوب علي أمره(صبري فواز)وزوجته(حنان ترك)وطفل مسكين كلهم فزعوا علي صوت طرقات أشبه بدقات قدر بيتهوفن,الخوف في عين الزوج والزوجة والطفل المنكمش علي السرير,تشير له ألا يفتح الباب,لكن من يرد القدر إذا جاء له يسعي,يفتح الزوج فيباغته مهدي بدور(باسم سمرة)بشومته الغليظة التي أخذ عنها لقبه,وخلفه رجل وامرأة(سوسن بدر),يسقط الزوج مشجوج الرأس وتراه زوجته من فتحة في الجدار الخشبي بعدما هرعت للداخل,فتصرخ مولولة بينما الزوج يستعطف بنبرة الرجل حين يقهر"إيه اللي حصل لكل ده يامعلم؟"

إنه انتقام شبيه بانتقام آلهة قاسية في الميثيولوجيا القديمة,تصبه علي رؤوس أشخاص بدر منهم محاولة لدفع الظلم...وأصل الحكاية طفلان سمير ابن المعلم المصاب بمتلازمة داون والآخر هو إبراهيم قبل أن يصبح بفعل تلك الليلة المشئومة إبراهيم الأبيض,إبراهيم يجلس بجوار سمير علي سلم منزلهما,يريد مشاركته في اللعب مع قطته,فيصرخ سميرمستنجداً بأمه,فتنهال بالضرب علي إبراهيم ظناً منها أنه يضرب ابنها,فتخرج أم إبراهيم تحاول استنقاذ ابنها من براثن الغضب العلوي القادم من أعلي السلم,لكن المرأة المتسلطة يبدو إنها لن تكتفي أبداً,فتلطمها لتدفع الأذي عن انها,ولأنها لطمت صاحبة الجبروت,ستكون حياة زوجها وأسرتها فداء لكرمة أم سمير المهانة,التي تعود لتنهال بحذائها علي والد إبراهيم,فيموت الرجل ليس من الضرب,بل من القهر والذي اللذين شعر بهما وهو مستسلم لمركوب زوجة المعلم أمام زوجته وأولاده,فتقرر روحه أنها لم يصبح لها مكاناً في هذا العالم بعد اللحظة فمات كمداً,فتهرب القاتلة,وينفي المعلم التهمة عن عصابته ويقرر أن يعمل معه إبراهيم من الغد.

حنان ترك...نظرات معتقة بالرعب المكتوم بفعل رعب آخر يتمثل في مهدي وعصاه"تنزل بدور تاخد ا في الصدور"خسارة كبري أن تضيع موهبة كتلك بفعل أفاقين يقنعون فنانات مصر بأنهم في الطريق الضال,ويرهبونهم ثم يرغبونهم في الاعتزال والاحتجاب,إنها واحدة من أخطر الوسائل لضرب الثقافة المصرية وتفريغها,وللأسف ليس عندنا فنانات يمتلك الوعي والثقافة الكافيان لمواجهة تلك الهجمات بفعل انهيار التعليم الذي يشكل عقل الإنسان ويصيغ شخصيته علي أساس من الفهم والمنطق,بل ربما يظهرن نادمات يعلن التوبة!!!التوبة عن صياغة مشاعر الإنسان وأحاسيسه وقدرته علي التذوق والنقد,لصالح جماعات متطرفة هدفها إخلاء الساحة من المنافسين لتغدو وحيدة تتلاعب بنفوس وعقول الشباب الصغار!

سوسن بدر...توازي محمود المليجي في قدرته علي أداء الشخصيات الطيبة والشخصيات الشريرة,عجينة هائلة من الإبداع التمثيلي يزيدها مرور الأيام نضجاً وتألقاً.

صبري فواز...لقطات معدودة وإبداع يليق بدور البطولة,درس في إتقان العمل حتي ولو كان علي مقاس أصغر من موهبة صاحبه.

المشهد الثاني...الجري:

قاتل أبيه الذي لم يمش في جنازته فحسب بل تكفل بها أيضاً,يضربه هو هذه المرة لأنه تجرأ علي النوم بجوار سيدته الصغيرة,وفي تلك اللحظة يقتله إبراهيم بأول سلاح أبيض يستخدمه للدفاع عن نفسه وسط السواد الحالك,يركض من صبيان المعلم القتيل,وفي لقطة يقفز في الهواء معلقاً بين السماء والأرض,وعندما يهبط علي الأرض يتحول إلي الشاب إبراهيم الأبيض الشقي المطارد من الشرطة في مونتاج متوازي مع صديقه عشري(عمرو واكد).

المشهد الثالث...التحذير:

أثناء الهرب من الضباط والمخبرين يضيع كيس المخدرات من عشري,وفي هذا المشهد تتبلور علاقة عشري بإبراهيم,عشري التابع,الذراع اليمني,الصديق المخلص,لكنه لا يمتلك جرأة وتخطيط إبراهيم وهو قانع بذلك يعرف حدوده,سارق الكيس سيد شيبة أحد صبيان عبد الملك زرزور(محمود عبد العزيز)يقرر إبراهيم العودة للمكان الذي قتل فيه والد حورية(هند صبري)لا يفت في جرأته تحذيرات عشري,حيث يتنبأ له بالهلاك وفتح طاقة جهنم عليهما,لا يتراجع ويخرج عبر الطرقات المتربة الضيقة,يمشي في البر ويخوض البحر ليذهب نحو قدره المنتظر.

المشهد الرابع...جبل الأوليمب:

يواجه إبراهيم وحيداً عصابة الزرازير بأجمعها,البطل في تلك المشاهد ديكور الفنان أنسي أبو سيف صاحب الإبداع التشكيلي المعبر عن الحدوتة كلها,يثب إبراهيم فوق الأسطح ويقتحم المنازل,يواجه ويفر ويقف وحده أمام الجميع علي خلفية من موسيقي هشام نزيه,وحدك يا إبراهيم وقد تعلمت من أبيك ثمن الضعف والهوان...وحدك أمام الآلهة الصغار حتي يتكاثرون عليك ولا ينقذك منهم سوي زيوس القاطن علي الجبل المتحكم في عالمك,يخرج عبد الملك مهاباً ويطلق رصاصاته في الهواء كما كان يطلق زيوس الرعد ويسأل وهو عالم ألا مجيب"حد له شوق في حاجة؟!"يصعد إبراهيم نحو الجبل,فيخاطبه عبد الملك"أنا حييتك تاني"شخصية عبد الملك تمثل القدر أو السلطة المطلقة علي الإنسان هو الكاشف لما في النفوس"روح هات الكيس ياشيبة"قالها بمجرد النظر بالعين,بإشارته يعيد إبراهيم للحياة وبأخري يسلبها من شيبة.

المشهد الخامس...حورية حورية:

لكي تكتمل الأسطورة تظهر حورية فتاة ممتلئة حيوية ومشاكسة تليق علي شخص إبراهيم يعرف إبراهيم نفسه أمامها"ضيف تقيل وأوان مرواحه جه" جملة تضع بذور النهاية مع اكتمال المثلث العاطفي رجلان وامرأة,بعد الضرب والطعن والتوتر يمنحنا مروان حامد لحظات شاعرية بين إبراهيم وحورية,إبراهيم لا يجيد الكلام المعسول يسألها,يأكل الحمام وهي تنتظر أن يداعب أحلامها ومشاعرها كبنت تسعي للحب والاهتمام لكنه حين ينطق يسألها"عمرك سوقتي عربية",وبالاستعانة بصاحب صاحبه يختطفان من الدنيا لحظات سعادة بريئة وهما يلهوان في مدينة الملاهي التي أضاءت أنوارها تحت تهديد السلاح,ويتصل بها جنسياً لأول مرة وحين يسأله عشري وهو المطلع علي سيرة إبراهيم.

عشري:حورية حورية يا إبراهيم؟!

فيجيب الأبيض بسعادة العاشق المفارق لكل الهراء الأرضي:

إبراهيم:حورية حورية ياعشري!

المشهد السادس...الجثة:

يخون الجارحي ابن عبد الملك(خالد كمال)والده بمساعدة غنام(نضال الشافعي)ويستطيع إبراهيم إحباط المؤامرة ويعود ظافراً,يكشف عبد الملك بقدراته الخارقة الحقيقة,توزيع الضوء عليه يوحي بسلطته المطلقة علي الجمع المرتعب,وحين يتشجع إبراهيم وينطق عن طريقة موت غنام يقاطعه علي الفور كأنه يعرف ما في ضميره"أيوة...أنا قولت كده برضه"وفي ذلك المشهد يتراءي لعبد الملك في أبراهيم ما لم يجده في ولديه,فيعمده أحد أركان عصابته ويطير صيت إبراهي,وتتعرف عليه أم حورية لا بصفته ابن القتيل بل بصفته قاتل زوجها والد حورية.

المشهد السابع...السجين:

إبراهيم وحورية ممزقان بين حبهما وسطوة زرزور الرهيبة"مش هايسبنا في حالنا"تقولها حورية في أسي,لكن الأقدار تتحالف علي علاقتهما لتفسدها,تعرف حورية بأن إبراهيم هو قاتل أبيها,وعندما تموت أمها تذهب إلي كنف عبد الملك وتتزوجه بشرط ألا يمسها,حورية هي عقدة ومفتاح عبد الملك,الإنسان الذي يمتلك كل شئ لكنه يظل ناقصاً,يظل محروماً,يظل متوجعاً,إنه يهواها ويهيم بها,وفي حالات الحب لا القوة ولا الترهيب لهما أي أثر,أنه يريدها أن تمنحه وتعطيه,لا يريد أن يسلب ويغتصب متعته وحسب,يطيح بكل من يقترب منها,ويظهر زرزور في الظلال والزوايا كسجين لحب حورية التي يعشقها ولا يقدر علي امتلاكها,يقرر بعباراته التي أصبحت قاموساً شعبياً له صدي واسع بين المشاهدين"عشمي إن ذوقي يكسفك"وينتظر الهبة والعطاء,هنا تعلو عليه حورية درجة وتعري جانبه الإنساني رجل عجوز متهالك علي حب امرأة تنفر منه.

المشهد الثامن...اللغز:

محمد أبو الوفا فنان مسرحي وفناني المسرح علي شاشة السينما يعرفون بسيماهم,من إتقان وبلاغة وقدرة علي التفسير الحركي والشفهي لبواطن الشخصية,بعدما ترك إبراهيم زرزور ليذهب للحاج فارس أو بتعبير عشري"خرج من عند عزرائيل وراح لملك الموت",يشترط عليه حل فزور لبدء العمل معه,مونولوج مع مونتاج مع موسيقي يكتبون قصيدة لدواخل إبراهيم التي لم تستوقف الحاج فارس...أمه...منديل حورية...الدم والنار...الهذيان...ضرب الرأس في الحائط,وحل اللغز إبراهيم وقطع لسان زوج ابنة المعلم فارس,فهو الأسد وزوج الابنة الضبع الدحلاب الوسخ,يحل إبراهيم اللغز أو هكذا يفك الكاتب مؤمن المحمدي أسرار الكلام في سلسلة"ألف مشهد وشهد"المفيدة والممتعة,ويتعمد إبراهيم بدم جديد.

المشهد التاسع...الخيانة:

تصبح حورية هي الكل في الكل"ربنا يكفيك شر الراجل لما يحب مرا"هكذا قال غنام لإبراهيم قبل الطلعة الأخيرة التي لم يعد منها,يسلم لها عبد الملك,وتدبر مع عشري خطة للإيقاع بإبراهيم,عشري يخضع لأنه خان إبراهيم من قبل-أول مرة في كل شئ هي الصعبة وبعدها يكر الخيط إلي ما لانهاية-عندما اعتدي علي حورية وهي في فراش إبراهيم تشم رائحته,الصراع الآن يدور بين ثلاثة رجال علي امرأة واحدة,عشري يريد امتلاك قوة إبراهيم في رمز حورية,عشري يغتنم فرصة دخول إبراهيم السجن ليصبح هو إبراهيم الأبيض ويتقمص دوره بين نفس الأحضان التي احتوت إبراهيم,عشري لن يكون أبداً كإبراهيم بين الناس لكنه يستطيع للحظات لو تمكن من احتلال جسد حورية,لكنها تتغلب عليه في صراع بين الأنوثة والذكورة في تصوير متمكن سينمائياً,وتسلب مال إبراهيم وقلادة أمه.

المشهد العاشر...الانتهاك.

يضع إبراهيم زرزو علي المحك حينما يهاجم بيته,رغم كل جرائمه نراه ينام بكل طمأنينة حينما توقظه الخادمة لتخبره بهروب حورية,فيستيقظ شارداً ويبقي ذليلاً في انتظار عودتها,زرزور في جبله المنيع في مأمن من قوات الشرطة الكثيفة,لكن إبراهيم وعشري يتمكنان من هتك أسواره ووضع سلاح علي رقبته,فيكون بينهما ما ليس منه بد,ووسطهما حورية وعشري.

أحمد السقا...في شخصية إبراهيم الأبيض ظهرت قدرته علي الخلق الفني المتوارية بفعل مخرجين باهتين,لم يتمكنوا من إدارته وقصص قائمة علي السطحية والافتعال لم تقدم له شخصية بأبعاد إبراهيم الأبيض.

محمود عبد العزيز...قدم عبد الملك زرزور في سلاسة تبدو سهلة لكنها تحتاج لمجهود وخبرة في الفن التمثيلي للتعبير عن شخصية غامضة ذات قدرات عجيبة وأسلوب تهكمي ساخر يحمل في طياته مضامين فلسفية عميقة.

عمرو واكد...لكل ممثل دور يعتبر دور عمره,ودور عمر واكد شخصية عشري,حيث اختطت صورة جديدة لرجل العصابات المصري بعيدا عن محاكاة أفلام الجريمة الأمريكية.

هند صبري...تتلون بكل ألوان الأنثي,المسكينة والمتسلطة,المغوية والمحرمة,العشيقة والناقمة,شخصية حورية نفسها تحمل تناقضات هائلة,عالم خاص وحده,مع إبراهيم تتوهج بالملابس الزاهية والعين المتألقة,ومع عبد الملك تبدو قاتمة وكئيبة,إنها الدنيا يوم لك في حضنك,ويوم آخر تعاديك وتدبر لك المكائد.

سيد رجب ومحمد أبو الوفا...من المعجونين بالفن في الكواليس الخلفية لسنوات طويلة,لم يظهروا لعين مشاهد السينما إلا بعدما عركتهم الحياة,فظهرت خبراتهم لتنير شاشة السينما المصرية.

المشهد العاشر...مساكين أهل العشق:

إبراهيم كأدهم الشرقاوي,لا يهزمه سوي الخيانة أما المواجهة بشجاعة فهو بطلها,يجرجر عشري إبراهيم إلي كمين عبد الملك,والغريب أن عشري يحذر إبراهيم من نفسه ويخبره أنه قبض ثمن الخيانة,وللمرة الثانية يتجاهل إبراهيم التحذير,بل يعتبره نكتة,كيف يخون الظل صاحبه؟كيف يخون القلب صاحبه؟كيف يخون عشري إبراهيم,حتي ظهور المرآة فيفهم إبراهيم اللعبة...البلطجية حينما يريدون تأديب أحدهم يظهرون له وجهه الذي سيدمرونه للأبد في مرآة حيث يري نفسه لآخر مرة كما عهدها,وعندماينظر إبراهيم في المرآة الشوهاء,يتحدث بين السكر والإفاقة"بعتني بكام ياصاحبي؟خمس بواكي شوية علي إبراهيم الأبيض!"يسقط كوب الشاي من يد صاحبه المرتجفة,ويتكاتف عليه الجميع مرة أخري ولآخر مرة,بالخيانة ينالونه ويقتلونه بالبطئ,حورية تهرع نحو إبراهيم وقد أدركت فداحة رغبتها الغبية في الانتقام,غير عابئة بنظرات زرزور المهددة فيطلق عليها النار,وبتعابير وجه استحق عليها محمود عبد العزيز لقب الساحر يبكي عليها ويقتلها من جديد في قلبه,ووسط الدم والنار وكما عاش إبراهيم يموت وفي حضنه حورية,الأمنية التي طلبها أثناء حياته ولم يبلغها إلا ساعة موته.

يموت العاشقان وحيدان,لا بواكي لهما...وسبب التراجيديا كلها لعب عيال...رغبة إبراهيم في اللعب بالقطة التي تحولت إلي أسد عملاق افترس الجميع!ويتحقق معني البيت الشعري للأصمعي في المفتتح:

مساكين أهل العشق حتي قبورهم           عليها تراب الذل بين المقابر

الجمعة، 2 أكتوبر 2020

"الكهف"...العودة لفن السينما

 

لسنوات عديدة,ظلت حجة تصوير الواقع في الحارة الشعبية ذريعة أساسية لكافة السقطات الفنية,وعرض القبح بصورة مفارقة لكافة معايير الجمال السينمائي,والسينما كما يعرفها عشاقها جمال صافي يتألق في العيون والأرواح,حتي وهي تعرض أسوأ الصفات وأبشع القضايا,تظل الصورة والقصة محتفظتان بحلاوتهما في نفس المشاهد,علي عكس مدرسة العشوائيات السينمائية المتحججة بالعشوائيات السكنية,يعرض فيلم الكهف للمؤلف سامح سر الختم والمخرج أمير شوقي معاني إنسانية رقيقة في نفس العالم الشعبي الذي خرجت للتعبير عنه أعمالاً في غاية السوء,وكملحمة شعبية يتضافر فيها الضعف البشري مع قسوة القدر مع الرغبة في الخلاص,تتوالي أحداث الفيلم بين مشاهد البداية تحت أمطار غزيرة في الشوارع وظلام حالك في البيوت,ومشاهد النهاية حيث الضياء الكاشف المُحرج للإنسان المتعري المتهالك بفعل ماضيه المتسلط علي حاضره بضراوة,فيمنع النور من التسلل لباطنه المظلم.

يشتكي بعض النقاد والمشاهدين من كون الفيلم ليس له بناء واضح وأسلوب السيناريو مرتبك في الحكي,وللأسف نحن نفتقد إلي الناقد الواعي الدارس وللمشاهد المتفهم لأسباب عديدة علي رأسها انهيار تام لمنظومة التعليم الخربة,لهذا السبب نجد أفلاماً لا تتخير كثيراً عن حواديت المصاطب الساذجة ممزوجة ببعض البهارات المحببة لعقلية المشاهد المعاصر تنال منه الإعجاب الكامل,لأنها لا تستدعي التفكير...التفكير ما هذه الكلمة الغريبة علي أسماع المواطن المفتقد حتي للبديهيات المنطقية ناهيك عن التذوق الفني.

قديماً قال العرب باستحالة وجود ثلاثة أشياء:1-الغول 2-العنقاء-3 الخل الوفي,الخيط الجامع للقصص الثلاث في الفيلم هي غياب الخل الوفي,صادق(ماجد المصري) وعبدالله (محمود عبد المغني)وخيانة زوجة الثاني له مع الأول,صفاء(روجينا)وثقتها في مسعود(ميدو عادل)النذل لم يحفظ سرها واستهان باطمئنانها له,ومع نفس النذل تخدع نعمة(مي سليم)ولا يكتفي بذلك بل يصور علاقتهما بالموبايل!وهي الظاهرة العجيبة في العلاقات العاطفية والجنسية هذه الأيام لتحويل أخص خصوصيات الإنسان إلي أداة دنيئة للابتزاز.من خلال القصص الثلاث يتأمل المخرج والمؤلف في ابن آدم الضائع في الكهف.

لماذا الكهف؟هل هو كهف أفلاطون حيث الظلال هي الحاكمة ويستحيل معرفة أي شئ عن الحقيقة الغائبة عن العقل البشري المغرور,أم كهف النفس الإنسانية الغارقة في العتمة,أو ربما الكهف في القصة الدينية حيث يعمل كآلة زمن يعود منها الماضي لينغرس في واقع جديد,أم الكهف هو العالم نفسه الذي سيهرب منه علي ابن صفاء في المشهد الأخير إلي مكان مجهول ولا نعرف هل سينجو وسط زحام العالم وسقوطه المريع وانحلال الالتزام الأخلاقي بين البشر وفي نجاته نجاتنا,أم سيدخل إلي كهف آخر؟أسئلة كهذه هي ما تجعل للأفلام قيمة فكرية وفنية حققهما المخرج أمير شوقي رغم كافة المضايقات التي تعرض لها قبل الفيلم وبعده,مع مجموعة من الفنانيين قدموا أداء جماعي أبرز إمكانياتهم التمثيلية,حتي متوسطي الموهبة بينهم استخرج منهم المخرج أداء أفضل مما قدموه في أعمال أحري.

عبقري هو المثل الفرنسي القائل"ابحث عن المرأة"يمكن تطبيقه علي 99%من أحوال الرجل في الحياة,المرأة هي المركز الأساسي في عالم الرجل وإن أنكر أو تهرب أو ادعي غير ذلك,بعد اكتشاف خيانته من قبل صديق عمره مع زوجته وهو يراقبهما في صعف مخز,يذهب عبد الله لزيارة قبل والديه كعادة المصريين في الاستنجاد بالموتي ومن ولي زمنه وغاب تحت التراب كإرث قديم لتقديس الموت في مصر القديم,وهناك يتعرف علي عصابة القبور منتهكي حرمات الموتي علي رأسهم المقرئ الحالم أن يصبح ابنه علماً من أعلام التلاوة المصرية الخالدة في سماوات الإبداع الصوتي,عبد الله الخجول الذي يعاني من ضيق ذات اليد وعدم الثقة في نفسه يتحول إلي أحد أركان العصابة بل ويأخذ دور الفتوة داخلها,وطارق المنحرف الشقي يصبح متصوفاً من ذوي العمائم الخضراء في انقلاب مصيري لكليهما,لنكتشف أن الدور الوحيد للمظاهر الخادعة هو تكفين حقيقة الإنسان حتي مجئ المواقف المصيرية فتنبعث من بين الأكفان الجوهر الأصيل الكامن في نفس كل شخص,من الخير ينمو الشر ومن الشر يتلألأ الخير.

صفاء الهاربة من أهلها مع ابنها بعد زواج لم يقتنعوا به تسلم أسرارها إلي مسعود شبيه صادق إلا أنه لا يحمل بذرة الخير التي نمت من قلب صادق,يفضحها ويفسد علاقتها مع صادق وفي نفس الوقت يكتشف طه(إيهاب فهمي)خيانة زوجته القديمة من فيديو لها علي مسعود,فيهرع الاثنان في نفس الوقت لقتله لتلويث شرف صفاء بالقول وشرف طه بالفعل,وهو يزعق في الحارة بأن صفاءملكيته الخاصة!وفي خضم ذلك يعود عبد الله للانتقام مضرجاً في دمع بعد معركة علي مناطق النفوذ في القبور!!فيقتل صادق الذي يحتضنه ويموتان سوياً كما عاشا سوياً.

التأليف:

أول تجربة لسامح سر الختم في التراجيديا والموضوعات الجادة,بعد العديد من الأعمال الكوميدية محدودة المستوي المسايرة لطبيعة السوق المصري للأسفل,لكنه أجاد بصورة تجعلنا نعيد النظر في الموهبة الكامنة لدي مؤلفي السينما والندم علي إهدار موهبتهم في أعمال أقل من قدراتهم ولا تناسب حجم ما يكنونه من أفكار فلسفية ومشاعر إنسانية,لتضيع مع الضحكات الساذجة التي تعني للمنتجين أموال أكثر.

صياغة جيدة لمعاني كبري قدمها في أماكن محدودة للغاية ومحلية لأقصي درجة وشخصيات تعبر عن النموذج المصري العادي ليست تلك البلهاء المستجدية للضحك بحركات غريبة ولا تلك التي تحيا في شقق وقصور فخمة تتوه في حجم ثرائها الكاميراً,ولا المسحوقين وأصحاب الفاقة والعوز القاتل لكل إحساس جميل!البنت التي تسعي للزواج والاستقرار,الأرملة المتحملة لعبء الوحدة في مجتمع لا يتورع عن الإساءة للوحيدات وتحلم برجل يشاركها رحلة الحياة والأحلام,الشاب الطيب الذي يخطئ مضطراً ويندم صادقاً,والعديد من الشخصيات الزاخرة بالقضايا الاجتماعية.

الإخراج:

العمل الأول للمخرج الواعد أمير شوقي,ولأن هذا الرجل صاحب فكر ومؤمن بالسينما كفن وأداة,سيجد الكثير من المعوقات والمصاعب,أهيب به ألا يتراجع أبداً,لأن المعركة طويلة وقاسية في ظل الظروف الحالية,وعلي كل شخص جاد يحلم بتغيير حقيقي ومؤمن برسالته أن يحارب كل في مكانه وموقعه,فالعالم المنهار يحتاج إلي بنائين ومرممين,وليس كالسينما ومخرجيها من يقدر علي تعويض من نفقده كل يوم من نزيف في الروح والثقة في المستقبل,بإدارته لهذا العمل الفني وتشكيل صورته الفنية المتألقة وسط ركام فظيع وبائس من العك السينمائي,يثبت أمير شوقي جدارة فائقة,كصاحب عين سينمائية حقيقية تعرفنا علي أنفسنا وتكشف مساوئ الواقع مهما بلغت قسوته لأن مجتمعنا بالفعل في الحضيض علي كافة المستويات,لكننا استنمنا لأفلام لا تخرج عن الكباريهات وبضعة مشاهد ركيكة تضع علي مذبح الإفيهات تاريخ السينما المصرية بل وكرامة الإنسان نفسه,واقعنا الردئ يحتاج إلي مخرج مثقف يضعه في وجوهنا,يدمي أعيننا وقلوبنا لأن التغيير يحتاج أحياناً إلي قسوة شديدة خاصة من الأصوات المعدودة التي ظلت قابضة علي جمر الفن والأدب والثقافة.

التمثيل:

-روجينا:عندما ينضح الفنان بعد تجارب متنوعة,يفوح منه عطر الموهبة المصقولة بإزميل العمل والاجتهاد,روجينا في الآونة الأخيرة بدأت تنشر في أعمالها عطراً من ذلك النوع المميز في نظرة عين أو نبرة صوت أو تعبير وجه صامت ينم عن الألم أو الحيرة,في دور صفاء الأم الأرملة من أصول ريفية الهاربة من كهف قديم لكهف جديد بحثاً عن أمان مزيف وحلم بعيد,تحجز لنفسها مكانة في سلسلة الموهبات المحفورة في ذاكرة السينما المصرية.

-ماجد المصري:هناك أدوار تنادي علي أصحابها,وصادق كان ينادي علي ماجد المصري ليستعرض قدراته كممثل مخضرم,عندما خان صاحبه وندم كان صادقاً,ولما توجع وسلك الطريق الصوفي كان صادقاً,ولما مات بيد صديقه وهو يحتويه في حضنه كان صادقاً.

محمود عبد المغني:وجه مصري أصيل وصاحب مزاج في اختيار أدواره,يقرأ الملامح النفسية للشخصية كأي ممثل يحترم نفسه ويحترم جمهوره,ينفعل معها بصدق بينفعل معه المشاهد,وفي دور عبد الله الصديق المغدور به,يقدم نسختين من شخص واحد,القديمة الضعيفة المهزوزة المتكلة علي غيرها,والأخري المتفجرة بطاقات الغضب والعنف.

إبراهيم نصر:مشاهد معدودة وأثر يدوم,هكذا كان إبراهيم نصر في الفيلم,صباحاً المقرئ ومساء مستبيح القبور وساتر جرائم القتلة,فيلسوف الموت وصديقه,لكن عندما يفجعه في موت ابنه تسقط كافة الأفكار ويبقي الحزن والأسي.

مي سليم:لا ينتقص من الفنان ألا يكون فائق الموهبة مادام يطور نفسه باستمرار,ومي سليم تفوقت علي نفسها في دور نعمة وعبرت عن الأنثي المقهورة سواء بالخيانة أو بالضرب,ولم تسقط في فخ الفجاجة الذي يسقط فيه اللواتي حاولن تأدية دور الفتاة الشعبية في الآونةالأخيرة,وكأن الفتاة الشعبية هي عنوان الوقاحة.

إيهاب فهمي:تمكن من ملامسة نفسية الإنسان المقهور الذي يمارس القهر الواقع عليه علي الحلقة الأضعف منه,فشخصية طه تمثل شريحة عريضة لمجتمعنا مصابة بالهوس الديني,وتغطي عيوبها بقشور الدين,دون أن النفاد إلي اللب الحقيقي المتمثل في الرحمة والتسامح وتقبل الآخر,فهو يريد الحجاب والنقاب لزوجته كأداة للسيطرة عليها,لأنه عاجز جنسياً ولا يجد سوي الضرب والإهانة كي يستر عجزه الفاضح أمامها,ومع ذلك لا يخلو من مناطق إنسانية تجعله يعود إلي الروح الإنسانية المتحررة من الأدران,فيكتشف رجولته من جديد,لكنه في النهاية يسقط أيضاً ضحية الخيانة فيقرر قتل مسعود ويشتبك معه في بينما زوجته ترقبه من النافذة بعدما أشبعها ضرباً.

الإنتاج:تحية إلي شركة الريماس...

الجمعة، 25 سبتمبر 2020

العلاّمة والأندلسي

 

العلاّمة والأندلسي

1-العلاَمة

العلاقة بين الفن االروائي المتخيل,والتراث العربي المدون في كتبنا القديمة,تثير الشك وتجبرنا علي إعادة تمثل الشخصيات والأحداث بعيون جديدة,فكل روائي يقبض علي جزء معين,ويحكي من منظوره الفريد,فالتراث هو المنبع الفياض الذي نسعي له لا لتقليده أو لوضع الحافر علي الحافر كما يقول المثل,بل للاستفادة والكشف كما فعلت أوروبا إبان نهضتها الناشئة في إيطاليا,ألم يكن دانتي ودافنشي بترارك وغيرهما الكثير نباشين في تراث اليوناني ومسافرين عبر الزمن للتاريخ والتراث,كي يعودوا لبلدانهم بالآلئ التي بنت عليها أوروبا نهضتها؟نحن نريد إعادة اكتشاف للتراث مغلفة بإطار اللحظة الحاضرة,التي لللأسف الشديد تعاني من نفس المشكلات والأزمات التي ظل العرب يعانون منها منذ قرون خلت بعظمتها وسفاهتها,وعند الحديث عن الآداب واللغة فكلنا عرب نتحدث نفس اللسان ونفهم عن بعضنا ذات الكلمات,المشرق كالمغرب والجنوب كالشمال,وفي المغرب العربي يقبع روائي له باع وقدرة علي الحفر في الشخصيات التاريخية ليستخرج سرها المكنون ويسرد طبيعة عصرها وحياتها الداخلية المتناقضة مع عالمها الخارجي المضطرب,كتب لنا"العلامة"عن سيرة عبد الرحمن ابن خلدون,"هذا الأندلسي"عن الفيلسوف الصوفي ابن سبعين,وسبقهما بـ"مجنون الحكم"عن الحاكم بأمر الله...الأديب بنسالم حميش الذي ارتحل إلي الماضي في رواياته الثلاث وعاد إلينا وقد كبش ملأ قلمه معاني وتجليات شخصيات عربية أثرت في الثقافة والتاريخ.

في "العلامة" يتجسد ابن خلدون الذي سكت التاريخ عن الكثير من مراحل حياته ولم يفصلها بالقدر الكافي,وبل ولم يفصح عن نفسه عندما قام بالتعريف بنفسه ورحلته التي خاض فيها غمار ما يعرف اليوم بالسيرة الذاتية ولم تكن شائعة وقتئذ بين العلماء والفلاسفة,فقد كان شاغله هو العالم من حوله والاضطرابات التي تقع للدول والأمم كشاهد عليها ومشاركاً فيها,ابن خلدون كما صوره بنسالم حميش عجوز يعرف الحب من جديد علي يد أم البنين بعد أن فقد زوجته وأولاده غرقاً في البحر,وأم البنين هذه هي أرملة كاتبه حمو الحيحي وكليهما لا وجود لهما في سيرة ابن خلدون,لكن الفن يكشف لنا الحقيقة عندما يصوغ من الخيال إيقاعاً نسمع به لنبض التاريخ,ومعرفة ابن خلدون بالحيحي هي أول باب نطل منه علي شخصيته,فهو"العالم الأعظم والقاضي الأعدل"كما يصفه عندما يزوره ليقضي في مشكلة مع امرأته,وهي مشكلة غريبة نوعاً,فهذا الرجل الحيحي عمره أربعين عاماً مهاجراً إلي مصر من مدينة فاس منذ عامين مع زوجته أم البنين,وهي تتسمي أم البنين مع انها لم تنجب حتي هذه اللحظة"زوجتي تريدني في التنزه معها علي ضفاف النيل والساحات جنباً إلي جنب.أما أنا فيعسر عليّ طلبها يا سيدي ولا تطيقه قامتي,هذا فضلاً عن أن الدين لا يحبذ ذلك,ولا أظنه يتوعد رجلاً يأبي المشي مع زوجة تعلوه بذراعين.

يريد الحيحي أن يفاي القاضي في حكم امرأة تبغي التنزه مع زوجها القصير ترويحاً عن نفسها وتفريجاً عن وحدتها علي مذهب الإمام مالك,يحل ابن خلدون المشكلة بأن يوصي بها خادمه شعبان الذي تجاوز السبعين ليحميها من المعاكسات الخليعة,مقابل أن يصبح الزوج كاتبه الذي يملي عليه,ويجعل بنسالم حميش في روايته التراث ناقداً للتراث!

"هل يتسع عقلك يا حمو,أو حسك الطبيعي,لتصديق نزول الإسكندر في صندوق زجاجي إلي قعر البحر,وذلك بغية تصوير الدواب الشيطانية,التي تمنعه من تشييد مدينته,ثم وضع تماثيل لها تناط بها مهمة تخويفهما وتطريدهما؟"

تلك السمة الحقيقية التي يجب أن تميز أي عمل بحثي أو أدبي يشتبك مع التراث,تطويع الكلام للعقل والمحسوسات المنطقية,فإذا انفلتت الحكاية المسرودة عن نطاق الذهن وطبائع الأمور,لابد من ازاحتها عن بؤرة الوعي والتركيز واعتبارها مجرد طرفة أو زيادة من الكتبة,لحساب نصوص أخري تعلي من القيم العقلية والأخلاقية والعلمية,وليست حكايات ابن بطوطة الفنتازية التي ينقدها ابن خلدون هي ما تقوم عليه الذهنية المنطقية المندفعة نحو المعرفة والفهم الصحيح,بل هي نصوص أعلام الثقافة العربية أمثال البيروني وابن سينا وابن الهيثم وغيرهم عشرات الأسماء التي استفاد منها الغرب,بينما نحن نتعارك حول أسماء أخري أطلقت آراء جدلية ما تزال الدماء والحروب تسيل من عباراتها حتي اليوم,إننا لو كنا عشنا مع تراث ابن عربي والجاحظ وابن الطفيل والشيرازي وغيرهم من منارات الحكمة العربية ربع ما عشناه مع أسماء أخري التجأت للنقل وتنكرت لعقل وجنحت نحو التطرف لكان للعرب اليوم حياة أخري خالية من كل ما يحيط بهم من كوراث قضت علي شخصيتهم وهويتهم.

لكن للمثقف رأي آخر سواء المثقف القديم-المتجدد دوماً- ابن خلدون أو المعاصر بنسالم حميش!إنهم يغوصون إلي ما وراء النص ويوازنون بين المعقول واللامعقول,يعرفون جيداً الفارق بين الوهمي الضار والمنطقي المفيد وطبعاً ليس من كمال بشري أبداً, إن ابن خلدون يتعرض لسهام النقد الشديد لآراء في المسألة الصوفية التي أراد أن يحرق كتبها,وفي الديانات التي كانت تتعايش مع المسلمين لكن هذا شأنه شأن أي مشروع معرفي ضخم كالذي تبناه ابن خلدون,والمعلم الأول أرسطو وقع من قبل في أخطاء جسيمة,لكن في النهاية لا يعيب الإنسان الخطأ لكونه العماد الأساسي لأي تجربة إنسانية أو معرفية.

عند وفاة كاتبه يفيض قلب ابن خلدون بحبه لأرملته المبتلاة بالحرمان من الإنجاب,وبشقيق مخنث يثير المشكلات,وقد عاب عليه خصومه أنه كان"يتبسط بالسكن علي البحر ويكثر من سماع المطربات ومعاشرة الأحداث,وتزوج من امرأة لها أخ أمرد ينسب للتخليط...وأنه كان يكثر الازدراء بالناس,وأنه حسن العشرة إذا كان معزولاً فقط,فإذا ولي المنصب غلب عليه الجفاء والنزق,فلا يُعامل بل ينبغي ألا يُري".

وكأن مسلسل اضطهاد النوابغ في الثقافة العربية يعاد مع كل جيل,يسرد حميش الاضطهادات التي تعرض لها ابن خلدون من حبس وعزل من المناصب والجفاء الذي كان يلاقيه من السلطان المراهق فرج بن برقوق وهو"العلامة"كما سمي عن حق,وتظل واقعة لقاؤه بتيمور لنك أحرج موقف عرضه لسهام النقد حتي اليوم وصلت لاتهامه بالخيانة!

-العالم والحاكم

في الفصل المعنون"الرحلة إلي تيمور الأعرج,جائحة القرن"يبتدئ بابن خلدون يداعب طفلته من أم البنين التي أنجبها بعد فراق الأهل بالموت وأنجبتها بعد حرمان طويل من الأمومة,خيط أخير يربطهما بالحياة السعيدة المبنية علي آمال في مستقبل أسعد من الماي الأليم,يلعبان"الدغدغة ولعبة الحصان,وذات مرة وهو يهيئ ركوبها فوق ظهره,أدرك بوعي حاد أن أفدح مصيبة يمكن أن تنزل به هو أن تتعرض ابنته أو زوجته لشر ما"ولم يجد إلا الشر الأعظم المتجسد في تهديد تيمور لنك قائد التتار,عبقري التخطيط والاستراتيجية وعديم الرحمة والإنسانية,أحد دهاة الحرب والسياسية في التاريخ,الرجل الذي قاد جماعات التتار المتفرقة ليصنع منها جيشاً أرعب العالم,و أطار النوم من عين السلطان برقوق"برقوق لم يعد يستحق لقبه العروف,لما أصاب عينيه من انطفاء وغور وراء حاجبين كثيفين ولحية شاردة مهملة.علامات الشيخوخة المبكرة,البادية علي أطراف جسده الأخري.تشير للعارفين إلي تمكن الهم المغولي من دماغه وجوارحه,حتي بات هذا الهم يعبث بخلوده إلي الراحة أو النوم,ويبث في لياليه وساوس الأرق والسهاد"

لقد كان تيمور مرعباً بحق,إنه الجندي الذي قضي معظم حياته علي صهوة جواده يصول ويجول مواجهاً أحلك الظروف وأصعب الأيام,الجرئ الشرس القادر علي تدمير بلدان كاملة في وقت قياسي بجيوشه الجرارة وتشكيل أهرامات من الجماجم,الرجل الذي تملقه أمراء أوروبا خوفاً,وانهزمت أمامه قوات الترك بقيادة بايزيد,ونجح فيما أخفق فيه نابليون وهتلر,عندما تمكن من اختراق الجليد وغزو روسيا بخطة محكمة وتدابير عسكرية دقيقة,وجاء أجله أثناء مسيرته لتحطيم ور الصين العظيم والنفاذ إلي بلاد الصين الشاسعة!

هذه هي الشخصية التي قابلها ابن خلدون في دمشق,الاثنان من نوابغ عصرهما كل في مجاله,ابن خلدون مفكر جم المعرفة عزير العلم والدراية وتيور قائد من طراز نادر قلبه لم يعرف الرحمة لكنه يضطرم بالشجاعة والإقدام,لم يرتجف لأي قوة علي سطح الأرض.

اشتبك الجيش المصري مع الجيش التتري في موقعتين,وقد فكر تيمور لنك في العودة منسحباً,لكن مؤامرة جرت في مصر جعلت السلطان يسرع إليها,تاركاً دمشق عارية من وسائل الدفاع ولأن ابن خلدون خبير في الاجتماع والسياسة سابقاً لمكيافيلي في نظريته البرجماتية,وإن لم يعلنها بوضوح كما أعلنها الإيطالي الذي أراد توحيد بلاده المشتتة تحت حكم أمير واحد,فقد له نصائحه للتعامل مع الشعوب والأمراء,قرأ ابن خلدون الوقائع ووجد أنه من الأجدي محاولة أرواح البشر وصيانة المدينة,فتدلي بحبل من الحصن الدمشقي وسار إلي معسكر تيمور وحادثه عن طريق فقيه من أهل سمرقند يدعي عبد الجبار بن النعمان كان الترجمان بين الحاكم في عرينه والعالم الساعي إليه لعل قبضته تلين علي الدمشقيين.

يناجي ابن خلدون نفسه هامساً في راوية العلامة عندما دخل علي تيمور لنك"هو ذا إذن الكائن العجيب كما تصورته دائماً هو ذا بعينه الخرزاء,وشعره الرطب الكثيف ولحيته الشيطانية,وجبهته المتنطعة فوق أنفه الأفطس.من قسماته وهيئته تبرز حصته الوافرة من عنفوان الطبيعة وعنفها"لقاء بين العقل والسيف,الفكر والدروع,الثقافة والقوة,ولم يكن تيمور لنك عاطلاً عن المعرفة والفهم,فقد قدر ابن خلدون واستفسر منه عن بلاد المغرب"الجواني"كما سماها له ابن خلدون,طمعاً في صرفه عنها بالإشارة لوعورة مسالكها وشدة ساكنيها,لكن تيمور يأمره بكتابة وصف للبلاد ومعالمها,وفي أثناء انهماكه في تأتيه أخبار دك دمشق وإضرام النار في دورها وأسواقها,بعد أن نكث تيمور عهده وقد(ترجم)عنه ابن النعمان قوله لابن خلدون"إنه متألم لما حدث لدمشق وقلعتها من شدائد,وألمه أكبر للحريق الذي نال الجامع الأموي عرضاً.وكيف لا يتألم وهو الذي سجل في مذكراته:"لقد عملت علي الإمساك عن الابتزاز والقهر,لأن هذه الأفعال تحدث المجاعات وشتي الأهوال التي تحصد أجناساً كاملة"؟لكن ما حيلته إذا كانت أوامره إلي جنده بالتلطف واللين لا تطاع دائماً في حقول النهب والبطش"!!!يا لضيعة الكلمة وسط صيحات الحروب ويا لخراب محراب الخير في مواجهة آلات الشر العاتية,لم يستطع ابن خلدون أن يوقف آلة الزحف التترية الجرارة علي دمشق وأهلها.

وكما يموت كل الناس مات ابن خلدون,وقد عاش حياة متفردة,رأي وجرب وعرف وكتب الكثير فأصبح اسمه علماً علي التاريخ والاجتماع,وآليات صعوب وهبوط الأمم وانهيارها.

2-هذا الأندلسي

في رواية"هذا الأندلسي"وعبر 500صفحة ينقل لنا حميش بلسان ابن سبعين وقائع حياته المضطربة,مصوراً رؤاه وخيالاته المشبوبة بالعاطفة والوّله الصوفي العارم,والتصوف طالما كان هدفاً للفقهاء ورجال السياسة لينفوه من نسيج المجتمع,لأن الصوفي الحق لا حكم لأحد عليه,إنما هي الأنوار الشعشانية والمعاني الفلسفية هي ما تحدوه في حياته,لا يسير علي خط محدد سلفاً كما يريد فقهاء السوء,ولا تستميله الدنيا وأبهتها وهو ما يخيف رجال السياسة,فيصبح أمثال ابن سبعين والسهروردي والحلاج بمثابة خطر علي المجتمع من وجهة نظر فقهاء السلطة علي وجه العموم.

ابن خلدون لم يكن راضياً عن المتصوفة فنجده يقول"وأما حكم هذه الكتب المتضمنة لتلك العقائد المضلة,وما يوجد من نسخها بأيدي الناس,مثل الفصوص والفتوحات المكية لابن العربي,وبد العارف لابن السبعين,وخلع النعلين لابن قسي,فالحكم في هذه الكتب وأمثالها إذهاب أعيانها متي وجدت بالتحريق بالنار,والغسل بالماء,حتي يمحي أثر الكتابة,لما في ذلك من المصلحة العامة في الدين,بمحو العقائد المختلة,فيتعين علي ولي الأمر إحراق هذه الكتب دفعاً للمفسدة العامة,ويتعين علي من كانت عنده التمكين منها للإحراق."

تلك الرؤية التي اعتذر عنها ابن خلدون في رواية العلامة,هي الرأي العام السائد في كل عصر نحو الصوفية وأقطابها,المتصوف غريب مغترب,يقول ولا يهمه شئ يندفع مع الروحات الإلهية والرجوعات السماوية,غير عابئ بمن في الأرض,يقول ولا يراجع نفسه,يطلقها كيفما اتفق,مما يرعب وعاظ السلاطين ويرعب المتكسبين من الدين,فيفتون بقتلهم وتخليص العالم من هرطقتهم!أي شئ في قلب لا يكن للإنسان ذرة كراهية بل يراه فوق الأرض قريباً من السماء يناجي الذات الإلهية يمكن أن يضر؟!لكنها اللغة.اللغة البشرية قاصرة علي إتيان المعاني الجوانية من القلوب المشبوبة بنار المعرفة والشوق,فتسمع الآذان منهم شطحات ينكرها المواطن العادي ويعتقد أنهم أهل إلحاد ومروق,منها العبارة المنسوبة لابن سبعين"لقد حجر ابن آمنة واسعا حيث قال:لا نبي بعدي"وهي الذريعة الأساسية التي هُيج الناس بسببها        ضده,وفي الرواية بن حميش يقول إنها من تصحيف النساخ مرة ومرة يجعلها إحدي خطرات الأحلام,ولا حساب علي الأحلام.

لغة معتقة,لا أريد اقتباس أي شئ منها,لا بد أن تقراً في تسلسل واحد,تقارب الراوي مع الحس الصوفي ومن جبال اللغة العربية الشامخة نحت مقاطع سردية حول المرأة الواقع في هواها ابن سبعين مقاطع في غاية العذوبة والرقةأما أحلامه وتوهماته فقد جاءت كزيارة شبح الأمل السعيد للواقع المحطم والقلب التعيس.

تصادمات عاطفية وسياسية وروحية جعلت من ابن سبعين رجلاً ممن فارقوا الحياة الأرضية وهم فيها وتاهوا في سماوات المحبة بالعشق الصادق حتي ميتته الغامضة بين من قال قتيل ومن قال منتحر,يقضي بها أدبياً بنحميش باعتباره ضحية الظاهر بيبرس الناقم عليه بسبب قوله في الحج وطارده في مكة حتي اضطر إلي الالتجاء لمغارة تحت الأرض تخفيه عن العيون والجواسيس.

سيرة طويلة شهدت تزلزل عروش ملوك الأندلس وصعود القوة الأوروبية الجديدة التي سترث مشعل العلم والثقافة في العالم القديم,سيرة رجل أحب الله فأحب عباد الله,أحب بكل جوارحه زوجته فيحاء وتصادق بكل قلبه مع صوفي آخر هو أبو الحسن الششتري...هذا الأندلسي الضائعة مخطوطته فيتشوش حاضره ومستقبله...هذا الأندلسي رواية أخري تضاف إلي عقد الأدب المغربي الزاخر بصنوف الاتجاهات الفنية.