الجمعة، 8 فبراير 2019

عذاب الأوهام


عذاب الأوهام
في كل مرة يصدر عنه فعل يخيل إليه أن جرح إنساناً أو أهانه دون قصد,تتجمد أطرافه وتطرق الهموم باب روحه ,قابضة علي حقيبة أدواتها التعذيبية تنوي الإقامة الطويلة,كل قراراته بالانعزال والصمت سقطت في هوة متطلبات الواقع,تتشبث به الأحداث ككلب مسعور شرس وجد ضالته ولن يفلتها,يسبح في دنيا الوهم دافناً رأسه في عالم من صور الذكريات,يخرجها في خياله ليؤدي بجدارة دور الشرير.
خرج للشرفة عقب الموقف الأخير, التي زاد من وطأتها رغبته الدفينة في غزل سياج من البؤس يغلف أيامه وكلامه,أشعل سيجارة وهو يستعيد الموقف من البدء:دار طوال اليوم وسط الشقق والحارات بوصولات الكهرباء,التفت حوله النسوة والصبية,الرجال في أشغالهم ومن ظل في المنزل تهرب منه!بهدوء اقتربت منه امرأة مع ابنتها,يتدلي من البنت صليب مطلي بلون الذهب يتأرجح علي صدرها,نحيفة ضامرة الجسد,صافية النظرات ورثت الهدوء والخجل عن أمها,سألت عن وصل باسم مراد موريس,أطرق حسين للحظة ثم رمقها:
-مراد,ماذا...موريس؟
مط حروف"موريس"ليتأكد من الاسم ,ولاح علي وجهه علامات الانزعاج ؛لشعوره بسمعه يضعف تدريجياً,بحث عن الوصل وأخرجه من رزمة الأوراق في يديه.
"ماذا لو ظنت الفتاة وأمها أن الاسم سبب لي حساسية كمرضي الهوس الديني...بالتأكيد صادفا الكثيرين منهم؟ماذا لو  ظنوني واحد منهم؟!هل أنا هكذا بالفعل؟!"
أخرجت نفسه كرباجها وظلت تدميه بضرباتها المؤلمة,تعلم علي شعوره النفسي فيزداد الكرب والغم...تجمدت حياته ساعات عقب هذا الحدث,خرج من الشارع وقلبه ممتلئ بالندم وتمتم بصوت غير مسموع"وما أكثر سوء الفهم الذي سألقاه في حياتي...حاول ألا تذكر ذاك الموقف".
جينات حسين مصاغة بصورة النفس اللوامة,ما يتبدي للناس من أفعال بثوب التفاهة وعدم القيمة,تشكل له قضايا مصيرية تقوم عليها رؤيته للكون وميزان سعادته أو بؤسه,نظرة رضا من خطيبته تسقيه من ينبوع السعادة ويتفجر منها نهر الحب,ولفتة غضب تثير في كوامنه رؤي خراب العلاقة وبقاؤه وحيداً بلا شريكة تقاسمه مر الزمان وحلوه الحامض!في الصباح يشعر أن الكون كله يتخذه فرجة,عيون الناس تقيمه وتبحث في نواياه,تخجله صلعته فيحاول رفع رأسه عالياً كأنه يحجبها عن المارة!
جذب النفس الأخير وزفر الدخان علي هيئة عامود طويل تلاشي بسرعة في رطوبة ديسمبر,رمي العقب المشتعل واختفي عن عينيه فجأة,توقع سقوطه في بلكونة أحد الجيران,فكر في النزول وتحذيره,لكنه فضل في النهاية المكوث ليراقب أي بوادر لهب في الشرفات,مضت ساعة ولم يحدث شئ,دخل وأغلق الشيش , ارتمي علي سريره,جاءه صوت أبيه من الحجرة المجاورة:
-يا بني بالراحة ستكسر السرير.
التحف بالبطاطين وهو يبني داخل رأسه عالم جديد فيه النفوس واضحة والنتائج مرتبطة بالنوايا لا الأفعال والألفاظ,أغمض عينيه وصوته يدوي في أذنيه"مراد ماذا...موريس؟"



الفابريكة...أحلام جنونية لواقع أكثر جنوناً!


من الصفحات الأولي في رواية"الفابريكة"لأحمد الملواني الصادرة عن "الدار المصرية اللبنانية",نستعيد عظمة روح الأدب الحقيقي الكامنة في بساطته التي نالها من تهويمات الساردون تحت أقنعة مختلفة,ضربات عنيفة في بذريعة التجريب, أو أياً كانت المصطلحات التي يبررون بها نشر أعمالهم,فانحرفوا عما يحتاجه القلب البشري من قص يثير فيه روح التساؤل والتأمل, ولا يدفعه نحو الملل والإسراع في الانتهاء من القراءة كأنها واجب ثقيل يود الخلاص منه.
عبر حوالي400صفحة يجذبنا الملواني بأسلوبه السلس المشوق نحو عالم قرية مصرية,هلك سكانها الأوائل وجاء بعثها الجديد علي يد الخواجة رينار,العالم بالحضارة المصرية القديمة,هو ليس عالماً أثرياً يؤرخ ويلضم فجوات الزمن برؤاه التاريخية,بل عالم من النوع الذي يخلق من الماضي مستقبلاً مشرق بالمعجزات السحرية,يحمله هوسه بعلوم الفراعنة إلي أرض مصر مع الحملة الفرنسية,يرحل نابليون وجيشه بما له أوعليه,ويبقي رينار ليعيد بعث القرية التي أفناها الباشا خوفاً من عبور وباء قاتل عبر جسر الفلاحين نحو قصره الفخم!عن طريق دفتر مدون فيه أعاجيب الأجداد العظام بحوزة الخواجة,يتمكن من صناعة آلة تعمل بالبرق علي طريقة العالم الفذ نيكولا تسلا,وبهدف فاق تصورات تسلا نفسه....آلة تحول البهائم لبشر!...وللأسف مر الملواني علي تلك المحطة السردية الحاشدة بتفاصيل مدهشة بإشارات عابرة,ثم نقفز بالزمن -أو الزمن يقفز بنا-للحاضر بعودة الحفيد منصور رينار.
يحكي الملواني حكايته عن قرية تحكمها الحكايات والأساطير,لن أبالغ إن اعتبرت تلك القرية رمزاً لعالم البشر الذي يقتات رؤيته ويفسر سلوكه ,عن طريق طائفة من التقاليد والمفاهيم صيغت في أزمنة ماضوية,لكنها تحكمهم حتي اليوم بل حتي الأبد,ولهذه الحكايات قائمين عليها كالعمدة الذي يستوهب مكانته من نسيج حكايات تحرم وتحلل دون إعمال للمنطق البتة,ويلبسها قدسية وتصير صولجانه الخفي لتحريك نسل البهائم.
وسط الفابريكة,والأولاد المقدسون,والعمدة وقصر الباشا,والفلاحين والخفراءوالأعيان,ينبثق صوت الراوي العليم منساباً متحدثاً عن قريته وناسه,سارداً هذا الصراع بين السلطة والعلم, بحكاية غرائبية عن الواقع المصري,تخفي في طياتها تلميحات كثيرة جداً عن ماهيتنا وماهية الغرب ,وكيف يتم توجيه الناس بكلمات وأساطير سحرية نحو أهداف غائبة عنهم,باستخدام الدين وسطوته علي الشرقيين عموماً والبسطاء منهم بالتحديد.