الثلاثاء، 10 مارس 2020

مشاريع أجهضت بفعل ملاعيب الزمان وخذلان الوجدان


إهداء
إلي قلبين انصهرا في نيران الحياة
لعلكما تنظران من علِ وتبتسمان
برولوج

من الشائع أن يحكي الإنسان عن نفسه عندما يروي قصته,قصتي هذه تداخلت مع قصص أخري وتشابكت حتي توهوني عن ذاتي,فلم أعد أتبين هل أنا عُمر الوكيل كما أعرف نفسي,أم خمس ست أشخاص آخرين علي الأقل,كما تمثلني كل واحد ممن سأروي قصتهم بعد قليل,سأتواري أنا في الخلفية قدر المستطاع,مستغنياً عن لذة الحديث عن الذات كواحدة من متع الحياة,وخاصة عند مخاطبة أشخاص مفترضين لا وجود لهم إلا في الخيال...هل أنتم حقاً خيال؟!
في البدء كانت دمنهور بين المدن المصرية كما كانت مصر بين العالم,مدينة الصقر حورس عندها هزم الشر المتمثل في ست,عاصمة الوجه البحري قبل توحيد القطرين علي يد الملك مينا,عرفها اليونانيون باسم "هرموبوليس بارفا"مدينة هرمس الصغري وهرمس التقليد اليوناني المقتبس من تحوت المصري رب الحكمة والكتابة,والقبط الذين هم نحن مسلمين ومسيحين الآن سموها تمنهور وعند دخول العرب من شبه الجزيرة أطلقوا عليها اسمها الحالي,لو أردت التاريخ فالكتب عامرة بالحديث عن المدينة,التي زينت الثقافة المصرية بعروق مصرية صميمة أينعت في مقهي المسيري,المهدد الآن بالهدم والنسيان والردم علي سنوات حافلة لمؤسسها عبد المعطي المسيري الأديب القهوجي.
أما حكاية أحمد الوكيل وهند الشامي,فخيوطها عندي,كنت شاهداً عليا بحكم قرابتي وصداقتي بالأول وحبي الخفي الذي كتمته للثانية.
كلا جدينا أبناء عمومة,كل العائلات لأجدادهم أبناء عمومة ولا يعرفون بعضهم,لكن لأنه في مثل سني عرفته وصادقته وأحببته فصار أخاً لي أنا الذي حرمت من عزوة الأخوة,عوضني هو بها حتي أصبحت أقدمه للأغراب علي إنه أخي,فكان يبتسم في مودة من عرف قدره عندي وقرر الاحتفاظ به علي الدوام.
أنا من الفرع الثري في العائلة,فأتاح لي الغني راحة البال من السعي وراء لقمة العيش,الكل في هذا الزمان يركض خلف أكل العيش ولا أحد يسعي للعمل المختلف عن أكل العيش,العمل هو خالق أمريكا من العدم و مصوراليابان وألمانيا والصين بعد خراب الحرب العالمية الثانية,وكل الدول الكبري علي الكوكب حيث تمايزت عن بعضها بالعمل والنتائج المترتبة عليه,من أول عامل النظافة عندما ينحني ليلتقط ورقة فيجعل الشارع نظيفاً,نتأوه نحن هنا عندما نراه,وفي ثانية نلقي بالفوارغ والمخلفات,ونتنمر علي عاملنا إذا أدي عمله وهو علي كل حال يوفر علي نفسه فلا يعمل!حتي أداء إيلون ماسك بين السماء والأرض.
الثراء لم يحمني من قاذورات ما يسمي مدارس وجامعات ولو صدقنا مع أنفسنا لسميناها"خرابات",لن أنتهي لو بدأت الحديث عن تلك المرحلة الخربة من حياتي,ويزيح العبء عني قليلاً أن كل مجرب يعرف ما أريد قوله,قررت أن أعلم نفسي بنفسي,حصلت علي شهادة الآداب قسم المسرح لا أعرف كيف؟!بعد مصادمات ومشاجرات مع حراس الجهل المقدس في معابد التخلف,وفي نفس العام حصل أحمد علي شهادة قسم الجغرافيا,لأنه كان مضروباً بجمال حمدان جغرافي مصر العظيم,وهو الآخر كره الجغرافيا مما عاناه مثلي,لا أعتبرنا من العباقرة,بل كنا نحلم بأن نتلقي تعليماً جيداً,ليس كأكسفورد أو هارفارد أو كامبريدج وتلك الأماكن البعيدة عنا,تعليم رفاعة الطهطاوي وطه حسين وزكي نجيب محمود وأحمد لطفي السيد وأمين الخولي وسهير القلماوي هؤلاء المشاعل المنطفئة في زمننا,لكن أحلامنا وئدت بمجرد رؤية من يسمون أنفسهم"الدكاترة"بكلامهم الملخبط وصراخهم السوقي وتحكماتهم المريضة,بمعاونة فريق من المعيدين يحملون جرادل ومساحات مستعدين لمسح أي دماغ لتخرج من عندهم خالية من أي مضمون ولو ضعف...وهكذا تقتل الأحلام والكفاءات في مهدها!
كنا شلة مكونة من خمس أصدقاء أحمد الوكيل وإبراهيم الشامي ومحمد الصافي وجورج نجيب وأنا.
اعتدنا التجمع في منزل إبراهيم الشامي لأنه يمتلك طابقاً خالياً في عمارة أبيه مخصصاً لزواجه,وقت عودتنا من أشغالنا المختلفة,أحمد الوكيل من عمله في مصنع دمنهور للسجاد,وإبراهيم الشامي من محلات أبيه التجارية الكبيرة,وجورج نجيب من البنك,وأنا من الغرق في الكتب لعلي أعوض ما فاتني وراح علي مصر من علوم وتقدم,الكل له أسلوب واضح لنفي صفة التعطل عن نفسه إلاي,لم يفهم أحد عدا أحمد الوكيل ما أقوم به وكان يدافع عني أمام الألسن الساخرة من جمعية"آكلي العيش وخلاص".
وفي هذا المنزل المقام في منطقة النادي الاجتماعي,وقد كانت أراض مهجورة تم تعميرها بأموال العائدين من بلاد النفط والصحراء والعائدين من مرمطة الأيام حتي أكرمهم الله بقرشين,فأصبح من الأماكن الراقية بمدينتنا,وقد شهدتها وهو أنا مراهق مجرد خرائب بعيدة عن العمران,ليس بها غير شونة كبيرة لتخزين الغلال مقرها الآن عمارة الشامي,وعدة مقاهي معزولة كانت صالحة للتزويغ من الدروس وتجريب شرب الحشيش والشيشة,وملاقاة الفتيات اللواتي يبحثت عمن يملأ آذانهم بمعسول الكلام ويشعرهن أن أنوثتهن مرغوبة,بما يخفين من كنوز الحسن والجمال...تعرف أحمد علي هند أخت إبراهيم.
الحديث عن جمال هند سلوي المحرومين وكانت هي عالمة بما تثيره من أحلام تقرأها في العيون,فاستترت بالأدب والبعد عن الشبهات,رفضت ارتداء الطرحة لعدم قناعتها بها واعتبارها مجرد زي اجتماعي نشأ من رغبات خبيثة للتمييز بين النساء,ولشخصيتها القوية وتدليل أبيها لم يضغط عليها أحد لارتدائها,ومع أن هذا في مجتمعنا المزيف دليل علي الانحلال,لم يجرؤ أحد علي وصف هند بذلك,ظلت مثالاً للاحترام والوقار.
كنا سهاري في ليلة صيفية,تهب علينا نسمات حانية من الشرفة المطلة علي حمام سباحة النادي,يتداعي الكلام علي ألسنتنا ويدور حيثما يتدحرج,في غرفة معبأة برائحة السجائر,متحلقين حول طاولة مسح ما عليها من أطباق احتشدت قبل دقائق بعشوة دسمة جاهزة اشتركنا في ثمنها,التليفزيون يعرض أخبار الدول الضائعة بين الأقدام,هذه تدهسها وتلك تشوطها والأخري تدوسها لتعتصر ثرواتها,فآمنت بعظمة الجيش المصري ووجدت قلبي يهفو للرجوع لزمن الخدمة العسكرية وحمل السلاح من جديد مع الأبطال الرابضين علي الحدود,كي نأمن في حياتنا داخلها,تيقظت من سرحاني علي صوت إبراهيم يقول ضاحكاً:
-أتعرفون ما الصلة بين السياسة والجنس,كلاهما لا يتم دون راكب ومركوب!
سحبت نفساً من السيجارة فاشتعلت زهرتها النارية:
-انتهي زمن السياسة الناعمة بانتهاء الغرض منها للتمهيد لعالم جديد,الآن أيام البلطجة والغشومية والوقاحة,أي سياسة هذه التي تضغ أرواح الأبرياء وتزيل ثقافات كاملة من علي وجه الأرض,وتخيل أن هناك أولاد كلاب لا يتورعون في الدفاع عن الإرهابيين بحجة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان,وكل واحد من هؤلاء المجرمين قتل له عشرين ثلاثين نفساً علي الأقل,ثم يقيمون الدنيا إذا جري حادث عابر لا يسير علي هواهم.
هز أحمد رأسه متقفاً معي:
-كل ما يجري اليوم جري سابقاً لكننا لا نعرف ومن يعرفون منا نسوا!
أصدر إبراهيم صوت اعتراض حلقي من أنفه:
-أقول لكما جنس وراكب ومركوب لنتبادل أحاديث النساء,لا لمناقشة صفقة القرن!
سأله جورج بحركة مسرحية وهو يفتح علبة سجائره المستوردة بافتخار هزلي:
-وصفقة القرن هذه تطلع لها بكام يا أبو عمو؟
-ما يكفي لسطل المنطقة كلها!
يحكم حياتنا قانون المصادفات القدرية مهما قيل عن الإرادة الحرة والجدل الأبدي حول الإنسان كمسير ومخير,لا أحد له فضل فيما هو عليه,جينات وجنسية ودين ومعتقدات ولغة كلها مورثة ومزروعة بحكم البيئة, الغريب أن الكل يعتقد بأنه الأفضل يقف علي رأسهم أدعياء الحقيقة المطلقة,إلا صاحب النفس اللوامة والشكاكة المصابة بلعنة التفكير المفرط, نوع غريب من المازوخية النفسية لا يريح صاحبه, يلسعه كل لحظة بسوط جديد يجعله في موضع الاتهام ومقر الوضاعة,الناجحين يتخذونه مطية لمزيد من التقدم,والفاشلين يضغط عليهم بكلكله ليصابوا بالعذاب المفضي للجنون,وبقانون المصادفة في هذه الليلة كنا آخر الراحلين, رأينا هنداً علي السلم تحمل حقيبة من طابق إلي طابق,لم تستخدم الأسانسير ليلتها,ونحن الاثنين فضلنا النزول علي السلم,ارتبكنا ولم نعد نعرف هل نوسع لها اليمين أم اليسار,فصرت أنا وأحمد نتخبط في بعضنا وهي واقفة تحتنا علي البسطة الكبير,انطلقت من شفتيها ابتسامة وحددت وجهتها ومالت نحو الدرابزين,فالتصقنا بالحائط ومرت بجانبنا ونحن متجمدان كتمثالين.
خرجنا إلي الشارع والبدر كعين سماوية ترقب دنيا البشر,لمشاهد كتلك اخترعت الأساطير لتفسير الدنيا المدهشة,حودنا علي شارع عبد السلام الشاذلي فوجدناه هادئاً والليل الحالك ينازع تباشير الصباح,لم نتبادل كلمة وغرق كلاً منا في بحر أفكاره,في هذه الليلة وقعا قلبينا أسيران لعيون هند,حاولت الفلفصة كسمكة غازلها الطعم فالتقمتها السنارة,تقاوم لتعود للبحر الواسع-حياتها السابقة-لكني ما قدرت,سألني أحمد ساهماً:
-مالك؟
اندفعت بحنق:
-مالي؟أنت مالك؟
بوغت بهذا الرد ورمقني بغيظ,لم أنظر في وجهه.
وصلنا حتي الكوبري العلوي,تمكنت من اصطياد الكلمات من حلقي:
-هل ستشاهد المبارة اليوم علي المقهي؟
أي كلام يطرد إحساسي بطيف هند يدور حولي.
تبادلنا الكلمات المتحفظة,في لحظات كتلك تفقد الصداقة معناها وتتحول إلي عبء خطير قد ينقلب لعداوة مستعرة,لكنه طيب وكذلك أنا فيما يقولون,لم نفترق إلا ونحن نضحك من القلب, ملنا نحو شارع الجمهورية وصعدت إلي شقتنا وقد تقوي أملي بدنيا من السعادة.

شوارع ملكية
في أيام آخر ملك من سلالة باشا مصر محمد علي,سمي شارع 23يوليو باسم أخت فاروق الأميرة فوقية وعندما نهض من رماد السياسة الملكية المحتضرة,مصري بنية سالكة لوجه الوطن اسمه جمال ,قوض الحكم الملكي المسوس ساعياً لخير أبناء بلده من عامة الشعب,قبل أن يموت في سيناء1967 ويدفن في سبتمبر 1970,بعد سنوات من الحلم والخيبة,ألغيت أسماء شوارع عديدة في المدينة كشارع الملك فؤاد الذي أصبح الجمهورية وشارع الأميرة فوقية الذي أصبح 23يوليو,لتشهد الشوارع علي قرن كامل,لم تكن لفوقية صفة سوي أنها بنت ملك وأخت ملك,والمنزل المقام في آخره أقدم من الاسمين.
تم بناؤه قبل ثورة 1919بشراكة بين حسنين الوكيل تاجر الأقطان,وميمون عزرا الموظف بمحلات بنزايون,علي طريقة بيوت هذا الزمان كسكن آدمي يسكن له الإنسان ويرتاح,حيطان عالية ونوافذ كبير علي مساحة كبيرة وحديقة صغيرة تجمع الأسرتين وقت السمر,ومع تسلل أنباء ثورة القاهرة إلي دمنهور,اندفعا يداً بيد للالتحام بشعب البحيرة الثائر أمام كنيسة المحطة,يهتفون بحياة سعدوصحبه يوم 17مارس,تلقاهم مدير البحيرة إبراهيم حليم باشا فوق صهوة جواده الأسود المخيف,محاطاً بجند ملك بريطانيا العظمي جورج الخامس,بوجوههم الإنجليزية وشعرهم الأشقر ونظراتهم المترددة,كبشر ألقوا بهم في بلاد غريبة وقيل لهم احمونا من أهلها,يصوبون سلاحهم نحو مئات من المصريين ربما كانوا صادقوهم في ظروف أخري,صعد فيهم بصره بنظرات نارية ملؤها الحقد والازدراء وصاح بصوت جهوري اهتز له شاربه الضخم:
-مالكم تتجرأون علي أسيادكم وترفعون أصواتكم للمطالبة بعودة مجموعة من الفلاحين المصريين علي رأسهم هذا السعد زغلول لاعب القمار المحترف,يبدو أنه نسي حين زرع فيكم بذرة التمرد تعليمكم أن اللعبة دوماً بها خاسر وللأسف ستخسرون لا محالة.
حل صمت ثقيل شجع الباشا علي التمادي:
-أتظنون أن فيكم رجالاً من شأنهم قلب النتيجة والوقوف في وجه سلطة بريطانيا العظمي...إنني لا أعتقد بوجود رجالاً فيكم من الأساس.
ثم ضحك باستهانة حقودة:
- ربما لهذا السبب تعجب نساؤكم بالإنجليز.
رأي حسنين رضا بائع الفول يقفز متجهاً للبنادق المشرعة محمر الوجه من الغضب,فأردي بطلقة أسقطته مضرجاً بدماؤه,كأنها إشارة البدء,هجم المصريون بعزم رجل واحد علي الباشا وجنوده وعلموه بالأيدي والأرجل درساً في احترام الشعوب الخالدة,حتي كادوا يجهزون عليهم لولا تدخل البوليس المصري,فقبض علي حسنين وميمون من بين العشرات وجلدوا خمسين جلدة,والبقية حبسوا أو دفعوا غرامات باهظة,وصدر قراراً بحظر التجول بالمدينة من غروب الشمس لشروقها,ومنع السفر من دمنهور وإليها إلا بتصريح رسمي.
بعيداً عن الدانات والقنابل اللذان دمرا أوروبا في السنوات السوداء للحرب العالمية الثانية,عاش اليهود تحت مظلة آمنة في مصر أم الجميع,في سلام ورفاهية كمصريين لا يميزهم عن سواهم أي فرق,مكونين لونهم الخاص في اللوحة الكوزموبوليتانية,بتغير الأوضاع العالمية بضياع فلسطين من أيدي العروب ودخول الأغراب رافعين النجمة السداسية للأرض الموعودة لكل الأديان الإبراهيمية,وصعود نجم ثورة يوليو,بدأ اللون اليهودي يبهت في البلاد بالهجرة أو بالتضييق حتي الهجرة,وعقب حرب 56استعلن العداء لليهود في مصر,فقرر أبناء عزرا أن أوان خروجهم من مصر قد حان,غير عابئين بتوسلات أبيهم وتضرعاته ليصبروا حتي يأتي أجله ويستتر جسده بتراب بلاده,أجبروه علي السفر معهم,فباع نصيبه في البيت لحسنين ليموت بعد شهور غريباً في بلاد لا تعرفه.
تزوج محمود ابن حسنين بمهجة القاضي وتزوج علي ابن محمود بصفية وأنجب أحمد في أوائل التسعينيات,تلك الأجيال كلها عاشت في رحاب البيت الكبير,مؤكدين مقولة المهندس الإيطالي فاليريو وهو يسلم لميمون وحسنين بنايتهم الجديدة:
-للمساكن أرواح تشارك ساكنيها وبنيهم وحفدتهم حياتهم,كما احتضنت الأوائل ستحتضن الأواخر.
ماتناساه أو لم يرد أن يفكر فيه,النهاية المعقبة لكل بداية ولو بعدت...
تصدع البيت الكبير وظهرت الشقوق في الجدارن,وأضحي محاطاً بعمارات عالية قبيحة تفتقر لأي لمسة جمال شوهت روحه و اغتصبت الحديقة والبوابة الكبيرة,تقادم عليه الليل والنهار,وتوالي عليه البرد والحر مئات المرات فحال لونه للاصفرار وتهتكت زيناته البديعة وألوانه الرائقة,مع ذلك يقف متشامخاً بعظمة يتحدي الزمن,بقدرة عجيبة علي الاستمرار كأنه راغب عن تخييب ظن مصممه,يستقبل الشمس كل صباح عازماً علي الصمود طالما يبيت في داخله إنسان.
عروض هائلة تتري علي سمع علي لبيعه ولم يرضخ لإغراء أي مبلغ:
-لن أبيع إرث عائلتي منذ مائة عام ليهدم؛ويحل مكانه بناية شوهاء.
بعد شقاؤه في الحياة بين المهن المختلفة,فتح صالون حلاقة صغير يتعيش منه,متخلياً عن حلمه في صناعة الأفلام السينمائية,غرامه الأول في الحياة,حتي أطلقوا عليه علي شريط بسبب إدمانه تأجير أفلام الفيديو في زمنها الذهبي قبل ظهور الفضائيات والإنترنت,تقتحمه العين فلا تجد فيه مايسر,لم يرث هيبة جده ولا ملاحة وجه أبيه,رجل ضئيل لفحت الشمس وجهه,أصلع الرأس,نظارته سميكة تجعل زباؤنه يخشون علي آذانهم إذا توجه بالمقص نحو السوالف,صامت علي الدوام عكس أهل مهنته,ممن يروضون آلام وقوفهم لوقت طويل بالكلام ,حتي يلمح أي متحدث لفيلم أو يجري علي لسانه اسم ممثل أوممثلة,يتفاجئ من لا يعرفه أنه أمام موسوعة سينمائية,منذ ظهورها علي يد الأخوين لوميير حتي آخر أفلام كريستوفر نولان,بهذا الوقود يغذي روحه المحترقة في سعير مكان ليس مكانه وعالم خارجي يتنافر مع عالمه الداخلي المشرئب نحو الفن,يقوم في عز الليل لأن كيراساوا ندهه,أو تذكر مشهداً لوودي آلن,يضحك و تخشي زوجته علي عقله,وربما هفته نفسه علي فيلم لأوريسون ويلز أو فريتز لانج,من نسيج السينما صاغ أحلامه المتشظية علي صخور الواقع الجارحة,ومع السينما تلتقي أم كلثوم ليسرح بعيداً عن واقعه المظلوم فيه,ويمرح بخياله في يوتوبيا من الحب والأحلام:
-أزمة هذه البلاد فقر الأحلام والمشاريع الكبري,تخيل شعب يحمل علي عاتقه حضارة لا يماثلها حضارة,مشاكله بديهيات حلها أهل الغرب شباب الحضارات منذ قرون.عاجزين عن أي ابتكار أو مجرد عمل عادي,تري ما السبب بخلاف انعدام التعليم؟فقر الأحلام الكل يريد نيل النبق في السباق,ولا أحد يفكر ويحلم وينفذ للجميع,في مصر القديمة يودعوا موتاهم"لأنك ذاهب إلي هناك حيث الكل في واحد"أما مصر الحالية شعارها لن تذهب لأي مكان حيث الواحد يزدري الكل والكل يعزل الواحد.
ثم يتنهد في وجه ولده بقلب ذاب من صهد التجارب والمشاهدات:
-مأساة...نحن لسنا إلا شهوداً علي مأساة,الغريب أن الكل يبرئ نفسه منها فليت شعري-علي رأي العرب زمان-من المذنب؟!
دلف أحمد إلي البيت الكبير وصعد السلالم الحجرية العريضة علي ضوء مصباح واهن,مدلي من السقف العالي,طالعه باب مزخرف بأشكال تآكلت ولم يعد ممكن التأكيد علي هويتها,الأسرة كلها نائمة,والديه وأخته الصغيرة,فتح باب غرفته واستلقي علي السرير يسعد نفسه بذكري ابتسامة هند.
الحب جواز مرور يحط بالمحظوظين إلي عالم السعادة,ويرمي بالتعساء لقاع الجحيم يحطمهم الألم,والمرأة هي كل شئ في حياة الرجل,ووالرجل كل شئ في حياة المرأة,ينكرون عجزاً وقهراً وينشغلون بأي تفاهة من عينة النجاح  الزائف,والمناصب العالية,والتعالي الطبقي المقيت كأننا أسياد العالم ولم يبق غير التسيد علي بعضنا,وكل ما لا يعرفه جوهر السعادة الحقة,يظل الصادقين مع أنفسهم المتناغمين مع هيئة الكون,متعلقين بأهداب الكائن السماوي القادم من ما وراء الحياة الهامشية ليهب أنفاسه الفواحة بالراحة أو البؤس.
هند عاقلة إلي حد مخيف,وكل عاقل يود أن تتاح له فرصة حقيقية في التعليم بعيداً عن عالم سمسم الطفولي في الجامعات المصرية الحكومية والخاصة,ربما الخاصة درجة أدني, روادها ممن أعمي المال نفوسهم فرضوا عن أنفسهم حتي آخر قطرة في ماء البحر,إلا فرادي ضائعين في غياهب بعيدة,لو اندمجوا في جو مناسب لقاموا بواجبهم نحو أنفسهم ونحو مجتمعهم.
في الأسكندرية وقد كانت تابعة لدمنهور حتي وقت قريب انقضي أجله,تبني مشروعات تجارية رائجة تحت اسم التعليم بشعوذة الكفاءات ودرجة الجودة وعدد الساعات وكلمات عديدة علي هذا المنوال ليس تحتها شيئا,يدخلها من ثقل جيبه وقدر علي الدفع,الخدمة في النهاية فارغة لا تسمن ولا حتي تسد الرمق,كلمتان خائبتان وكان الله بالسر عليم.
لم تعجب هذه الحكاية هنداً,دخلت كلية السياحة والفنادق وماجري جري,أصبحت تقضي معظم وقتها في الأسكندرية,مدينة الله العظمي كما وصفها اليونانيون عهد مجدها القديم,تسحر تلك المدينة الغرباء عنها,يتذوقونها بعين بكر لم تألف روعتها,فنبغ في التعبير عنها الأجانب والمصريون البعيدين عنها,علي ساحلها البحري تلتهب أنفاس العاشقين بالحب والشهوة.
اعتاد أحمد وهند الجلوس علي الصخرة القريبة من مكتبة الأسكندرية,شرارة الحب مست قلبيهما فاندلعت النار لا سبيل للخلاص منها سوي الانقياد لها,الآن تتجاور ابنة سعيد الشامي أغني أغنياء البحيرة مع ابن علي الحلاق فنان السينما المحلق في عوالم تاركوفسكي وبرجمان,أمام البحر الممتد أمامهما,البحر هو الأصل,ظهورنا الأول بصورتنا القديمة التي نسيناها جاء منه,لذلك نشعر بالحنين دوماً له وبجواره تصيبنا المعاني الغامضة القادمة من عمق سحيق.
لو كانت الحياة سباقاً حقاً,الحب هو الجائزة فيه,بجانبها سخر من ماضيه,تضاءلت الصراعات والأطماع والأحقاد الصغيرة,وتجلي نور هند فيها فبدد عتمة قلبه السوداء,هي البادئة وهو الجبان,لولا شجاعتها في الاقتراب والتصريح لما ذاق طعم الشهد,وفهم معني الرغبة الدفينة المعذبة للإنسان في أن يكون محبوباً ومقدراً,محققاً ذاته علي مرآة الآخر,هند تشاركه نفس الإحساس,في عينيهما ما يفسد لو قيل.
مالت برأسها لترتاح علي كتفه الأيسر,هامسة بصوت أنثوي حنون:
-يااااه لو تلك اللحظة تتمدد في الزمن وتصير الأبدية.
تشتعل حواس أحمد عند التفكير في هند,يبدأ خياله الجنسي ينشط,تتوالي الصور الأيروتيكية تمثل العاشق والمعشوق:
-ما رأيك لو جعلناها لحظة نشوة جنسية تصل للذروة تمتد وتعود في الزمان إلي ما لا نهاية.
ابتسمت بجانب فمها بخجل لذيذ دارته بكفها:
-أتدري؟!...تلك الفكرة تستحق الاهتمام.
أخرجا الشطائر من كيس أمامهما وراحا يلتهمان الطعام بنفس مفتوحة.
ساعة العصاري,الأنفاس الأخيرة لتوهج النار,صحوته الأخيرة قبل الفناء,وروعة التأمل في تقدم الزمن نحو...لا أحد يدري!!!
أشعل سيجارة,التقطتها من بين شفتيه, و دستها بين شفتيها,جذبت نفساً طويلاً يليق بمدخنة محترفة,رمقها وعلي وجهه علامات الاستغراب الضاحك,قالت بشقاوة بريئة:
-أحياناً يحلو لي التدخين خلسة في الحمام.
شكل السيجارة بين شفتيها أيقظ رغباته الحسية,التصق بها ماداً يده حول خصرها,جذبها بقوة وتمني لو يقبل شفتيها الورديتين بكل قواه.
يؤنبه ضميره كلما رأي أخيها مقبلاً,أو جالسه في البيت أو المقهي,يوخز صدره شعور بالخيانة نحو صديقه,لم يعد يمكنه النظر في عينيه,إذا جري حديث الحب والنساء,يشيح بوجهه في الفراغ,ينطق كلامه متحفظاً,ويرقب إبراهيم خفيه,عمر لم تفته هذه الإشارات ولم يحتج لذكاء كبير لمعرفة ما روائها,شاهدهما بالفعل يمشيان في سيدي جابر ناحية محطة القطارات.
فاض قلبه بالحقد والغضب بصورة عجز عن إخفائه,تحول لكتلة ملتهبة من الغيظ واجتاحه الألم في أعضائه,ركب نفس القطار في عربة أخري دامع العينين من القهر,ها هي الجوهرة التي حلم بها تسقط بين يدي قريبه وصديقة و...أخيه.
المرأة –خاصة الجميلة-قادرة علي التفريق بين الأشقاء والأصدقاء,سبب قتل قابيل لأخيه استئثاره بالأنثي الجميلة,من يومها كل الجرائم والمشكلات تغذيها النساء,إذا منعت أو منحت,الصراع الإنساني الدائر منذ الأزل جزء من نواته المستترة بطيات سلوكية معقدة صراع حول المرأة وطريقة الحصول عليها,حتي الجنة في مفاهيم المتطرفين الذين يفجرون أنفسهم عدواناً علي غيرهم,مكان مزدحم بالعذاري البديعات,لا شغل لساكنيه غير النكاح وفض أغشية البكارة,بتصورات عجيبة عن تفاصيل هيئتهم وفتنتهن,تجعل الواحد منهم يقذف بنفسه في آتون الهلاك,طلباً لأحضان الحور العين.
شعر بالغدر وقلة الحيلة,صدمة مزلزلة بعدما رفع نفسه في خياله لمقام يعلو أحمد,إذن بالتأكيد سينال ما يريده!قضي ليال سوداء مسهدة,تملكه فيه الشعور بالضعة,وصعبت عليه نفسه,في نفس اليوم الذي شاهدهما فيه قرر مفاتحة أبيه في أمر التقدم لخطبة هند,بميزان الأخلاق والمال والسمعة الحسنة لا يمكن رفضه,كما أنه يحبها وسيكرمها طيلة أيام حياته علي الأرض,سيساندها في السراء والضراء,الخير والشر,الصحية والمرض,القدرة الكاملة والعجز الكسيح.
إذا كان تمثال العدالة معصوب العينين فالأولي أن يصبح تمثال القدر مفقوء العينين,يحمل سيفاً في اليمني وطوق نجاة في اليسري,يطوحهما علي البشر دون تمييز.
انسدت في وجهه سبل السعادة,وتجلي وجه الدنيا القبيح,لم تعزِه آلاف الكلمات الفلسفية العالم بها,لم يعد يري غير ذاته تنتشر أمامه فيكف بصره وتموت بصيرته,ولا يسمع سوي أنينه الخاص,سكران دون خمور وحشسش,وذلك أدهي,فشارب الخمر يجيئه الصحو ولو بعيد حين,أما شارب الهموم والأحزان فلا ترياق يجعله ينتصب من جديد,مؤسف ضياع سني الشباب في الكدر والآلام,ينشأ بينه وبين الحياة سوء تفاهم يتفاقم بمرور الوقت,يتحولا إلي عدوين هو يمقتها وهي تعضه,تتسع فجوة الاكتئاب فتعصره بين أسنانها.
في تلك الخية الجهنمية وقع عمر.أصعب الوحوش وأقساها تمزق الأرواح وتقطع الأوصال المربوطة بين الإنسان والعيش الهنئ.
قلت جلساته معهم وأصبح يشك في جدوي كل تصوراته السابقة,انقلب كيانه وبدا ناحلاً علي عينيه هالات السهر,من قبل كانت أزمته أنه يري نفسه عملاقاً وسط أقزام,الآن هو قزم بين العمالقة,مني نفسه بالحب بعد فشله الذريع في الحياة الاجتماعية,كان يريد الشئ كاملاً أو لا,متكبر علي الحلول الوسط لا يجد فيها أي حل بل زيادة تعقيد الأزمات وتضخيمها,الحياة إما تكون مثالية أو لا,منضبطة شكلاً وموضوعاً أو لا,العمل حقيقي ومنتج وابتكاري كأوروبا وأمريكا واليابان أو لا,المكانة الاجتماعية مستحقة بالعلم والسلوك الراقي أو لا,الكتاب الذي يسعي لتأليفه عن الحضارة المصرية القديمة إما يكون جامعاً للعلم شاملاً كافة الجوانب بلغة أدبية تعيد رونق العربية أو لا...الصداقة نقية من شوائب النفس أو لا!
لا,معضلة الإنسان,متي يصرخ بها ومتي ينحيها تلك هي القضية,ذلك هو ترمومتر حرارة الوصول لتحقيق الأهداف,يسيطر علي دماغه أمير شعراء الرفض أمل دنقل:
المجد للشيطان...معبود الرياح
من قال"لا"في وجه من قالوا"نعم"
من علم الإنسان تمزيق العدم
من قال"لا"فلم يمت
وظل روحاً أبدية الألم
لا,ناقوس يدق في كيانه,رفض الواقع في سبيل تحقيق المأمول,لو تهاون في إبائه مندمجاً في حياة تشبه حيوات الآخرين محتشدة بسيل الأكاذيب يضحكون بها علي نفسهم بلا ريب لن يصبح عمر الوكيل صاحب القضية الثابت وسط طوفان الواقع الحالم بعالم جديد.
يواجه تلك الأفكار الآن فيجدها واهية بلا أساس,بلبلته الخسارة,بدأ ينظر حوله في غضب,هذه المرة لذاته الشخصية وليس للآخر كما اعتاد,أيكون الناقد لكل شخص ولكل زيف هو نفسه مزيف لا يثبت علي مبدؤه أمام التجارب,قد يكون حبس نفسه في قوقعة حمته وجعلته حساساً وضعيفاً,وعندما جاءت الضربة أدمته في الصميم,دون مدد من مصدر آخر يعوضه ما فقد.
ثم حل الخريف...
في نهار خريفي معبأ برائحة المطر الحبيس في سحب سماوية,يسير عمر دون وجهه محددة,يضرب في شوارع دمنهور سيراً علي الأقدام,لف حواري وشوارع وعزب في الضواحي لم يعرف بوجودها,رأي الفاقة علي وجوه نساء الحواري والحرمان علي أجساد أطفالهن,نظر للسيارات الفارهة والمطاعم العالمية تحتل وسط المدينة حتي زال اسم ميدان توفيق الحكيم من الأذهان والألسن وأصبح الميدان المواجه لسينما النصر الصيفي القديمة-قبل أن تصبح سوق فواكه وخضروات!!!-ميدان كنتاكي!الاستهلاك الاستهلاك الاستهلاك,شعار العالم الثالث في القرن العشرين!
قاده المسير لكافيتريا الحلم الجميل المخصصة لشرب القهوة فقط,المشروب المنبعث من رماد بوستات الفيس البوك,حيث كل المعاني تحولت لسلعة وكل القيم دخلت حيز الكوميكس,فاتخذ مدعي الثقافة والفارغين إلا من القشور الكلامية الهشة من المكان إثباتاً جديداً,علي هويتهم المصطنعة,المكان ذاته هادئ وراق الأزمة في مرتاديه,الكل قارئ والكل لا يباري في شهاداته ومؤهلاته,فمن هم الجهلة يا ربي وأصحاب الانحدار التاريخي لبلادهم؟!الرفوف مزدحمة بمؤلفات نجيب محفوظ وأبحاث داروين وروايات ديوستوفسكي وأعمال محمود درويش وركن خاص للكتب العلمية يتجاور عليها دوكينز مع هوكينج مع كارل ساجان,لكن هل يقرأ الناس بهدوء ثم يمضون لحال سبيلهم,لابد من النقاش التافه وفي الغالب لا يستغرق دقيقة حتي ينفذ من الطرفين مخزون الألفاظ والمعلومات,والتصوير مع القهوة والكتاب في اليد كحكم القضاء المستعجل لا مرد له ولا عاصم.
ساعة,وعاد يضرب بقدميه في المدينة,لم يتنبه سوي علي ذراعين رقيقتين يحتضنان ساقيه عندما وقف يربط حذاؤه,طالعه وجه ابنة هناء بنت خالته,رفعها باسماً لحضنه فتعلقت برقبته,حرمانها من عطاء الأبوة,جعلها تتعلق بأي شخص وترمي نفسها عليه,الأب حي لكنها حياة عدمها أفضل لابنتيه علي الأقل يحددان موقفهم منه.
شخص صعب المراس,داعشي بامتياز,أغلب الظن أنه رغم ظواهر التدين المحيطة به,لا يعبد إلا نفسه وهواه,صيدلي يتاجر في الأدوية المدرة لأرباح هائلة,بعد فترة عمل عشر سنوات في مملكة آل سعود,جمع خلالها آلاف مؤلفة يعرفها الله وموظف البنك,يبخل علي ابنتيه و زوجته بلقمة أو هدمة,لكنه يستخسر في نفسه مقويات جنسية غالية الثمن تجعل منه آلة جنس لا تكف عن الدق في جسد المرأة الجائعة,يضرب ابنتيه ليحدثاه بالعربية الفصيحة لغة القرآن والدين,والخوف أن ينحرفا يوماً لأول فرصة تتاح لهما تعوضعهما حرمانهما ملذات الدنيا,ما دام السبيل القويم مغلق بالضبة فالثغرات لا عدد لها.
عاصفة الهوس الديني والهيستيريا الملونة بأعلام الصحراء المجدبة التي هبت علي مصر بلاد النيل والخضرة,علي يد الدعاة الجدد والجماعات الإسلامية التي اتخذت الكاجوال واللغة الشبابية لتخفي العمامة والجلباب القصير والمخ الحجر والتطرف ضد الآخر,لم تفرق بين غني وفقير أو ساكن مدينة أو ريفي,الكل انضرب علي عينه,وضحك عليهم بمعسول الكلام عن كونهم المختارين من الله بل ومساعديه-حاشا لله- في الدفاع عن الدين واسترداده والله هو المدافع والحامي.
كان النقاب من نصيب هناء وعن طريق النقاب وجلسات المساجد المحشوة بمعتقدات بشرية نسجت علي منوال قرون خلت بمشاكلها وصراعاتها,أصبحت هي الدين بفعل فاعل خبيث النية,قدم النصوص الثواني والثوالث اللاحقة علي المصدر الديني الأول,فعاش الشباب دور أصحاب الدين الوحيدين والعارفين به وسط مجتمع جاهلي لا يحكم بما أمر الله كما اندس في رؤوسهم,أو بالأحري لا يسير علي الطريقة التي تناسب هوي قادة الجماعات المتطرفة.
قبل عشر سنوات امتلأت مساجد الأحياء الشعبية بدمنهور بمجموعات كهذه تنتمي للإخوان بلزوجتهم المموعة للنفس ونفاقهم التاريخي واعتبار أنفسهم شعب الله المختار بأفكار تصهين الدين الإسلامي,وتجعل منه أداة وظيفية لمنفعة اتجاهات مختلة تعادي الأوطان والهويات القومية, منذ صناعة بريطانيا لهم لمحاربة تكتل القوي الوطنية عقب ثورة19 حتي قيام الرئيس السيسي كما قام سلفه في العسكرية المصرية حور محب من قبل في وجه دروشة إخناتون وتفريطه في الإمبراطورية المصرية, وسط مساندة شعبية هائلة في 3 يوليو 2013 بإسقاط حكمهم الأسود والخروج بمصر من مستنقع أسود كان ليمضي بها نحو الانهيار التام.
في ظل هذه الموجة الحارة من استعلان تيار التطرف نبتت علاقة خالد وهناء تحت ظلام قيم ابن فلان وابن علان,الاضطراب النفسي مع المعتقدات الخاطئة في فهم الدين حول خالد لوحش يظن نفسه علي الصراط المستقيم,كل الناس خطأ هو فقط المصيب,وكل صح فيه الأصح منه وهو طبعاً الأصح,بالإضافة لتركيبة اجتماعية لا تتكون سوي وقت الانهيارات الحضارية المعقدة,تحولت شهادة الثانوية العامة لبريق يضفي علي صاحب أكبر مجموع في أكثر نظام تعليمي تخلفاً هالة من التفوق والنبوغ,فازداد ثقة علي ثقة,وعلي هذا الدرب ضاع الكثيرون.
ملامحها منسية,يلوح له ذكري وجهها الخمري المشوب بحمرة خفيفة كلون الطمي,والشعر الأسود الفاحم المنساب علي كتفيها,والجسد القوي النشيط,سمع بحة صوتها المحزون فعلم أن زوجها اعتدي عليها بالضرب:
-الطلاق سيحل عاجلاً أو آجلاً,لم يعد يمكنني العيش معه...إنه...إنه...لا أستطيع!
يخالطه نحوها شعور بالإشفاق والتشفي,إشفاق علي مآسيها وتشف في كل ما تمثله هي وزوجها من تخلف.ضم الفتاة الصغيرة لحضنه.
ودعا بعضيهما ومضي كل منهما في طريق.
تقصر اللغات كلها عن وصف هند,كلمة بسيطة كـ"عسل",يمكنها إعطاء لمحة عن شكلها الخارجي الساحر للرجال والمغيظ للنساء,ليس العسل المصري في الوجوه النسائية التي من فرط ألفتنا بها وتعودنا إياها نجد مشقة للوصول للجمال الكامن فيها,الجمال الأوروبي الأشقر الصادم بإشراقته الذهبية في بلاد الطمي والنيل,يحدث أحمد نفسه عنها بأنها"تتلحس"يود لو يرتشفها علي مهل,يتذوق كل سنتي فيها,يحس بنبضها يدب في جسده,تترائي له التخيلات,تدفئ قلبه في الخريف,يلعن كل من شوه الجنس وحول تلك العملية الفنية المبدعة إلي عيب ودنس وفحش محرم الحديث عنه,نداء في وادي وكل التدفق العارم للأفلام الإباحية بكل مشهياتها وأوضاعها فائقة الخيال والحرفية.
لا يحلم بها خارج إطار الزوجية,كيف الدخول إليه؟ابن حلاق لا حوله له, يتشكك الناس في صحة عقله لهوسه بالسينما,وهي ابنة الرجل الذي يتصور في الصحف وتهتز له الأرض,لن يتخلي عن ابنته الجميلة إلا لسلطة كبيرة أو رأس مال هائل,وهو يفترش الرصيف ويجلس تحت السماء الواسعة,عارياً مما يزين الرجال من مال أو جاه.
في الفيلم العربي يتزوج علي ابن الجنايني من إنجي ابنة الباشا عقب يوليو 52,وبعد ما حدث في يناير اتسعت الهوة من جديد بين ابن الحلاق وبين الباشا المعاصر وإن كان اللقب رسمياً ألغي قبل ما يقرب من سبعين عاماً,وأحمد حالته تدهورت كثيراً عن علي.
اقترب منه جمال العبيط بشعره الوسخ وملابسه القذرة,وقف يتأمله في تهكم,وتمتم بخفوت:
-هات سيجارة.
فتح العلبة وأعطاه واحدة,جلس بجواره وقال دون النظر ناحيته:
-في آخر العالم الناس في الجحيم يفعلون ما يحلو لهم,لديهم عنزة صغيرة يشربون لبنها,ما رأيك لو ذهبنا نعيش معهم.
-تقصد الجنة يا جمال وليس الجحيم.
زعق بقوة:
-الجحيم لا شئ سوي الجحيم.
وطار يركض مبتعداً صارخاً بصوت عفاريتي:
-الجحيم الجحيم.
عند حلول الشتاء تنتاب هند حالة من النكد وتعكر المزاج,الغيوم مع البرد يصيبانها بالخوف,يصبح العالم كئيباً,الناس مكنونة في منازلها والطين الزلق يملأ الشوارع,السماء مكفهرة تبكي بغزارة,تضطرب دورتها الشهرية وتصاب بالإمساك كأن جسدها نفسه يخاف ولا يتفتح لأي سبب,ينطفئ ألقها وتغور عينيها,شئء ما يقبض قلبها وينبئها بنذر الشر تحوم حولها
يتدلي من الماضي حبل يحز عنقها,ليلة وقوعها طفلة صغيرة في يد صبي قذر,اختلي بها,الصبي أحد العاملين في ملك أبيها الواسع,تعطف عليه أمها وتقربه منها بتعليمه القراءة والكتابة ومده بمعونات مالية أو أكياس أطعمة,لكنه لاقي الإحسان بالإثم,في ليلة باردة كهذه تركتهما أمها وذهب للحديث في التليفون,أغلق كراسته وتسحب نحوها متحسساً جسدها في رعشة,في البدء ظنتها لعبة,لكنه تحسس المكان الذي حذرتها أمها من من العبث فيه أو محاولة اكتشافه,شعرت باليد الباردة تداعبها من تحت الملابس,ابتسامته السوداء تراها الآن واضحة شيطانية,يدفعها من كرسيها لتجلس علي حجره,فتحس بانتفاخ صلب يحتك بها من الخلف,يخرجه من البنطلون وهي ساهمة لا تدري ما يفعل,غمرها الخوف والدهشة,هذا شئ جديد لم تعرفه,يهمس بخبث شقي:
-لو أخبرتي أحداً عن هذه اللعب سيعاقبك بشدة,تلك اللعبة للكبار فقط ولا يسمح للصغار مثلك بلعبها.
تستمر يده وجسده في الالتصاق بها حتي يسمع صوت أمها قادمة,بسرعة الأبالسة يعود كل شئ كما تركته,تدخل المرأة الطيبة لحجرة السفرة,حيث هند تجلس تحل الواجب والولد رزق يتمرن علي الكتابة,تبتسم بسعادة الجهل:
-عارف يا رزق لو كان خطك سيئاً كالمرة السابقة سأحرمك من عصير البرتقال,سمعت؟
تتعجب عندما كلما سمعت من يدعو لمقابلة الإساءة بالإحسان,إذن فما جزاء الإحسان نفسه؟!وكيف يقدم الإنسان إثمه علي مذبح العدالة ويجد كفة الإحسان راجحة؟ّ!
تلاشت الذكري مع مرور الزمن لكنها عندما تصحو تجر خلفها الويلات,ظلت فترة تخشي فقدانها عذريتها,وعن طريق الإنترنت تعلمت الكثير من الشئون الجنسية,وخفتت رهبة ذلك العضة المجهول,يمزقها العار العاصف الذي يعتريها كلما صادفت رزق في الشارع,تخفض بصرها وتنكسر عينيها في الأرض أما هو تمر في عينيه لمعة السخرية والالتذاذ بالإهانة...كيف تقابل الإساءة بالإحسان؟!
سردت علي أذن أحمد ما جري في لحظة صفاء بينهما,ثقتها فيه بلا حدود,استمع لها صامتاً,حتي مرت بها لحظة هلع وكادت تلطم وجهها ندماً,رفع عينيه باسماً وقال:
-حبيبتي لا يمكن لوم الضحايا,فلم تغير لونك هكذا؟لا يوجد شئ يعيبك إطلاقاً,العيب في ابن الزنا الذي لم تخبريني اسمه,ولن أستطلعه منك...هند الجوهرة عندما يمسها دنس لا يقلل ذلك أبداً من قيمتها,كل ما تحتاجه لمسة حانية ويصير الدنس إلي جب الذكريات.
أمسك وجهها بكفيها والبحر غاضب تتلاطم مياهه في عنف والصخرة من تحتهما شهدت علي آلاف القصص,ولا تحن هكذا في قلبها الصوان سوي عندما يتكلم الصدق وتخرج الفضيلة الإنسانية من القلب البشري,تضئ الكون بنور لايدركه إلا من جلا بصيرته بنار الحب القدسية,الشمس في السماء تشهد قبل الوداع عمار أرض البشر بما جبلوا عليه من الأساس,المحبة والرحمة والعفو,دمعت عينا هند وسال مخاطها,مسح أحمد وجهها بكفه ضاحكاً:
-يا ساتر هل توجد جوهرة مقرفة هكذا!!
ضربت كتفه بقبضة يدها في دلال,خرجا من الشاطئ كالخروج الأول للحياة من الماء.
إمكانية الحديث الحميمي مع إنسان حتي نصل لعمق ما نخبئه,يعني أن هذا الإنسان أصبح أقرب إلينا من أنفسنا بين جنبينا,لا يقدر علي اختراق الأجناب والرسوخ في أرواحنا إلا من يملكون سر الحب الغامض.
جلستهما هذه كانت الأخيرة علي البحر السكندري البديع,آخر يوم في الامتحانات,آخر مرة يسمح لها بالسفر وحيدة,بكت في محطة دمنهور,تودع ماض امتلئ بشهد الحب وترجو في انتظار ملتبس بالخوف استعادته,لا تمر بها لحظة هنيئة ولا تعرف رأسها من قدميها,كل صوت ينذر بكارثة كل شخص يمهد لصدام.
لم تعد تطيق نفسها...لم يعد يطيق نفسه...
أصبحت اللقاءات مستحيلة لئلا يراها أحد سوياً,الكلام في الموبايل والحديث علي الواتس أب والفيس بوك لا يغني عن لمسة يد والنظرة الحنونة والصوت الصادق عندما يعبر عن قلب صاحبه,تشعر أنها خاوية ووحيدة وضعيفة,أبوها الشبح المهدد لحبها,رغبتها في السعادة,سيرفض أحمد وليس ببعيد طرده والتنكيل به لو جاء يطلب يدها,سيثور أخيها ويتهمه بكل نقيصة لاعناً اليوم الذي أدخله بيته,سيفتح باب الجحيم ولن تجد من يحجز عنها لهيبه.
الجلوس في المنزل منحها وقت طويل للتفكير,كلما أدارت الموضوع في رأسها تراكم القلق علي القلق,خافت اختلاط عقلها عليها وهيامها في الفراغ اللامتناهي.
يأتيها أبيها في المنام غاضباً يتطاير من حوله الشرر وخلفه أخيها يلومه علي تدليلها الزائد,في يده مطرقة حديدية مدببة الأطراف,تفزع من النوم عطشي ولا يطفئ لهيبها الماء مهما فاض في جوفها
جاء زواج محمد الصافي مفاجئة ,البنت مشهورة بشهرة أمها,واحدة من أعلام شارع الهرم في الثمانينيات,مخصصة لمن تسرب النفط تحت أقدامهم فطار بهم لكنهم لم يجيدوا التحليق,فساحوا بالجلاب والعقال في بلاد الله,يشبعون شهواتهم في أحضان الراقصات أو بالخطب الداعية لمعاداة العالم وتحريم الحياة,علي هيئة رسل جدد لدين النفط وملوك القبائل,ويقال أنها عاشت في أمريكا في صحبة أحد شيوخ الخليج الكبار في السن وعلو الكعب,بتلك الأموال المستقاة من الجلاليب كونت سوسو-في الأصل خميسة-أموال معتبرة جعلتها برنسيسة حي أبو عبدالله كله.
امرأة كريمة لا تبخل علي مخلوق,أمدت المحتاجين بالدعم من كل جانب بعلاقاتها الواسعة مع المتنفذين في المدينة والعاصمة الكبيرة وبمالها المتزايد في البنوك,افتتحت سلسلة مشروعات تجارية,لم تجعل في الحي عاطل,من رفضوا العمل معها بحجة حرمانية فلوسها,لم تجادلهم كثيراً,تركتهم كما تركت الماضي وبدأت تبذر بذور الخير لحياة جديد,تعيش فيها وحيدتها نسمة,تماثلها الخالق الناطق,العين الواسعة والقوام المفرود حتي الأنف الدقيق بزيادة تشاركها فيه,الأب لا يعرفه أحد هي نفسها غير متأكدة من هويته لكثرة ما اخترقها من الرجال,اشترت لها أب علي الورق,البنت لطيفة وطيبة,غير غائب عنها ماضي أمها,لم تتعب نفسها في البحث والتدوير,الحياة عندها سهلة الحاصل حصل ولا داع لوجع الدماغ في الفكر,يحبهما الحي كله,عند النسب من يجرؤ علي الاقتران من بنت من منبت سوء!
نظرها الصافي واقفة في محل القماش مع أمها فصفا قلبه,لم يهمه كلام الناس,أقنع والديه لا يدريان كيف ودخل البيت من بابه,تسلم مفاتيح قلب البنت وأمها,كان واضحاً,فقال أنه يعرف كل شئ ولا يجد فيه مانعاً,نحن لسنا قضاة لنحاكم بعضنا,علينا أن نحيا سوياً,وكلنا عيوب والله ستار من يرفع ستره عنه يريد به نفس الخير علي من أسدل عليه حجابه عن عيون الناس,لكنه خير عن طريق آخر,كان فيه روح صوفي يكتب الله به القبول في كل مكان يروحه,في أقل من ثلاثة أشهر كان مع نسمة علي سرير واحد وفي ليلة زفافهما وجد الحيوان المنوي طريقه لقواعد البويض,أصبح أبو حسن,فرحة سوسو جعلت اللحم والحلوي في يد الجميع كبار وصغار لمدة شهر كامل تصرف وتطبخ وتؤكل القريب والغريب,ودعت الله ينجيه من البلاوي التي عرفتها وخبرت بها الحياة.

 ...................................

 الفصل الأول

تدور الأحداث في عام 2100,وقد سيطرت كائنات نصفها روبوت ونصفها بشري تسمي"هيومان بوت" علي كوكب الأرض,وهرب البشر للجبال في تجمعات متفرقة,يفتح الستار علي بيت تلاشت فيه اللمسات البشرية,فلا وجود لمزهرية أو كتاب أو لوحة معلقة,منظم بطريقة صارمة ويلمع من النظافة,لكنه فاقد للروح وحس السكن والأسرة,بعد لحظة يدخل شاب في الثلاثينيات هارباً من مطارديه,إنه آدم أحد البشر الذين يسعي خلفهم الهيومان بوت للخلاص منهم,ثم تدخل فتاة من الهيومان بوت إلي الباب,إنها نانسي تمتاز بالرحمة والرقة,كأنها لم تتخلص بعد من طابعها البشري.
نانسي(تقف أمام شاشة ضخمة علي الحائط,تسجل فيها أحداث يومها):إنه آخر يوم في سبتمبر وقد حل الشتاء,إنني أتحدث عن التقويم القديم بالطبع,فلم يعد هناك تفرقة بين الفصول منذ فقدنا الإحساس...لكنني مع ذلك(تستدير للشاشة كأنها تحدث نفسها)أتذكر برودة مثل هذا الوقت عندما كنت صغيرة جداً...(تتوقف لحظة وترنو بعينيها كأنها تتلقي فيض غريب)وبشرية!قبل أن يقبض علي أثناء الهرب مع أسرتي,وتجري عليّ عملية(أيرونيكا)وأصبح هيومان روبوت... نصف بشر نصف روبوت.
(يسمع دقات علي الباب,تفتح نانسي الباب فيدخل ثلاثة رجال مسلحون,علي رأسهم قائدهم  جاد,ضابط شرطة شرس وضخم, يحاول التسلط علي نانسي والزواج منها,لكنها تصده وتشعر تجاهه بالنفور)
جاد(يتحرك ويتكلم كروبوت):ورد لنا أن بشري دخل للمدينة اليوم,هل رأيتي شيئاً يا نانسي؟
نانسي(مندهشة)بشري!...ألا يزال هناك بشر حقيقيون؟
جاد:بعض الحثالة الهاربين في الجبال,ممن ما زالوا يتألمون ويندمون ويحبون,شاهده أحد المواطنين اليوم وهو يبكي عند القبور القديمة,ومادام يبكي فهو بشري,ومادام بشرياً فلن تمر الليلة سوي ودمه مسفوك بيدي جاد,صائد البشر الأول في العالم الجديد.
نانسي:لم أشاهد أحداً.
جاد:لو
..........................


 الفصل الأول


المشهد الأول
منزل الكاهن الأكبر
(حجرة فخمة الأثات تليق بأحد وجهاء مصر القديمة,يتوسطها سرير ترقد عليه زوجة الكاهن" رده ديديت"النفساء وبجوارها رضيعها مستلقياً بجانبها,يذرع الكاهن "من رع" الحجرة في توتر وقلق)
من رع:لو أفشت"سرجا"سر النبوءة لن نأمن علي حياتنا ولا حياة رضيعنا!
رده رديدت:ماظننت يوماً أن أمنيتي الوحيدة في دنياي ستكون هي سبب نكبتي.
من رع(كأنه لم يسمعها):خبر كهذا لو وصل للملك ستنهد من فوقنا الدنيا...ولكن لم نستبق الشرور,سيلحقها بإذن الإله رجالي وسيعيدونها...آه من لسان المرء فيه مهلكته وتعاسته لو صرح بما وجب اخفاؤه وذاع ما كان حقيقاً بكتمانه...وويله لو سمعه من لا يأمن جانبه.
رده ديديت:إنه علي كل شئ قدير...قادر أن يحفظ طفلي ويطمئن قلبي المفزوع
-يحاول الكاهن ضبط نفسه ويجاهد ليبدو طبيعياً ويقترب من فراش زوجته,ممسكاً بيدها ملقياً نظرة علي الرضيع
مرن رع(بصوت خافت):تري سأعيش يا ولدي لأراك حاكما علي مصر مصداقاً لنبوءة الإله التي تجلت في منامي(حالماً)سمعتها بصوت قوي كالرعد يقصف السماء فترتج له قلوب أشجع الشجعان,وكلمات حانية كهدهدة أم لرضيعها"سيجئ من صلبك أيها التقي البار التقي,من يجلس فوق عرش مصر...ابن مصر ورجلها الأمين فهنيئاً له الخلود ولمصر الرخاء"
رده رديدت:لم تكذب أحلامك قط.
مرن رع:لكن يا حبيبتي لكل شئ في الدنيا ثمن علي الإنسان أن يدفعه ليحصل علي مبتغاه,لو كانت الأمنيات سهلة ما استحقت لفظ "الأمنيات"...ومولانا خوفو رغم ما عرف عنه من رحمة وعدل لن يتواني عن حماية عرش مصر,فهو أمانة الرب بين يديه.
رده ديدت:والرب شاء نزعه منه
مرن رع:وهل سيقتنع؟!
رده ديدت:قلبي يحدثني بشر يقترب...
مرن رع:قبل أن يشتد ضوء النهار ستهربين في عربة أعددتها لك محاطة بجرار من النبيذ وأكوام من القمح تحجبك عن العين وابننا في حضنك.
رده ديديت:آه يا ولدي المسكين,ولدت لتغدو عدواً لأعظم رجل في زماننا,وأنفاسك في الدنيا لا يخطئها العد بعد.
مرن رع(متأثراً):سأنادي كاتا لترافقك
رده ديدت:دعها إنها الأخري ولدت قبلي بساعات.
مرن رع:عجباً!أحان أوانها معك؟!
رده ديدت:زايا لا تقل عنها إخلاصاً.
(يتجه الكاهن لباب في يمين المسرح)
الكاهن(منادياً):زايا...زايا
تدخل زايا خادمة في الثلاثينيات ينضح صوتها بحب وإخلاص صادق لسيدتها
زايا:حمداً للإله علي سلامة سيدتي(تتجه نحو السرير وتتأمل الطفل في حنان ولهفة)ما أجمله من صبي بديع خليق بوراثة جمال سيدتي,سأزفه بنفسي يوم عرسه.
رده ديدت(متجاوبة معها وقد نسيت قلقها لوهلة):سنختار له أجمل فتاة في مصر
زايا:لن نقبل بأقل من ابنة الملك خوفو
(اسم خوفو يعيد الاضطراب مرة أخري)
مرن رع:زايا(يجذبها من يدها وينتحي بها جانبا)أريدك أن تفهمي كلامي جيداً وتنفذيه بالحرف الواحد.
-يظلم المسرح إلا من إضاءة خافتة علي فراش الأم
رده ديديت:سأسميك علي اسم جدك كما أراد أباك...ددف بن من رع


المشهد الثاني
(مجلس خوفو الملكي وقد حفت به المهابة والجلال,يجلس علي العرش في شموخ رجل يدرك مدي قوته,وفي نفس الوقت تظهر روحه الودودة من خلال نظراته وابتساماته لمن حوله,الراقصات يغنين في مرح,ويستعرضن قدودهن المصرية الرشيقة في دلال)
الراقصات:في يومنا السعيد أوفي لنا النيل,يناجي السمير ها قد جاء الفرج,يميل النخيل في بهجة بلا حذر يقبل التراب, تعيش يا واهب الحياة,في موعدك الأصيل تهب الحياة للبشر,كالشمس والقمر والحر والمطر,تأتي في الميعاد.
(يدخل مجموعة من الفلاحين يحملون سلال الثمار والفاكهة)
الفلاحين:من أرضنا ومن عزنا,من شغلنا وتعبنا وكدنا,من طلوع الشمس لمغيبها وفي الليل ساهرين بجوارها,يا أرضنا يا أجمل جنة يا أرضنا,نأكل ونمنح غيرنا,ثمار وخضر وفاكهة,ويعم الخير علي الأغراب بفضلك أنتِ يا أرضنا.
(تدخل مجموعة البنائين بمطارقهم وحبالهم)
البنائون:لمجد مصر ورمزها لمعجزة البلاد ومثوي مليكها,للهرم عرقنا ودمنا,تركنا أحضان زوجاتنا والمرقد الناعم مع أولادنا,ولبينا نداء البناء,ليبقي لمصر عزها,يوم أن يفني الزمان وتشيخ الأرض وتلفظ البشر,سيبقي لمصر السلام علامة  عزها ومجدها
(تدخل مجموعة الجنود المسلحين)
الجنود:في الليل والنهار في الحرب والسلام,في يقظة لا ننام ليرتاح أهل مصر وشعبها,علي الحدود ثابتين بين العدو والصديق,لمن يسالم الأمان ومن يعادي(يهوون كلهم بالسيف في وقت واحد)
(تدخل مجموعة الكهنة)
الكهنة:لك المجد يا ابن الشمس,يا جالس علي العرش البلاد,احفظ لمصر العهد فمصر أمانة الإله,انشر العلوم في البلاد ومن الحكمة ربي الصغير,راقبهم بنفسك في المدرسة بيت الحياة,فهؤلاء هم مستقبل الحياة,ففيهم فلاحينك وبنائينك وجنودك وكهنتك,لا تتركهم نهباً للدخلاء,يسممون آذان الصغار ويوجعون الأجساد الغضة بالعصا...انظر إن الأمور تسير في نظام مادامت عينك المخلصة.
(ينتهي الاستعراض,ويصفق الحضور)
خوفو (بحماس):عظيم يا ابن عمي حم إيونو,من يراك في عرقك مواجهاً عين الشمس تخطط للهرم,لا يراك وقد رقت نفسك وانسابت منها الألحان البهيجة(ضاحكاً في مزاح)أنت أفضل من في أسرتنا,لجلوسك علي عرش النغمات.
حم إيونو:عفوك يا مولاي,إنما جعلني الإله خادماً لك
القائد أربو:ما كان أجمل منظر الجنود وهم يهوون بالسيوف
الحكيم خوميني:وما أروع كلام الكهنة
خوفو:ليس أجمل ولا أروع من حلول السلام,فتحلو لنا الأوقات وتروق لنا البهجة,فنتفرغ للفن والبناء,الفلاح لحقله والجندي لثغره والكاهن لمعبده.
حم إيونو:والجميلات لفراشهن يا مولاي
(ضحك من الجميع)
خوميني:حقاَ إنهن أعظم هبات السماء للرجال,فبدونهن تتوقف الحياة ولا يصبح للدنيا طعم,فهن البلسم لجراح العيش وسط الناس.
هورداديف:لا أعادل ملكوت الأرض كله بعشيقة وفية
خوفو:لو خضنا في حديث المرأة سنغرق ولن ونصل للشط(لهورداديف)أين مفاجئتك التي وعدت بها أيها الأمير؟
هورداديف:الساحر ديدي العجوز يا مولاي,لا يُعرف له عُمر,لكنه يقول أنه يذكر في طفولته البعيدة تأسيس مدينة منف,يحيي الميت ويتنبأ بالغيب ومازالت فيه شهية متوقدة للطعام والنساء,هو الآن في الخارج ينتظر أوامركم.
خوفو:ليدخل
(يدخل الساحر ديدي بشعره الأبيض ولحيته الطويلة الكثة,ووبخضوع عميق يركع منحنياً أمام خوفو)
خوفو:مرحباً بك في قصري
ديدي:لتدُم فيه الخيرات والنصر والعز يا مولاي
(يدور حول نفسه)
خوفو:ما الأمر؟
ديدي:بجواري قلب يضمر لي الشر,لا يؤمن بالسحر بقدرة كشف الغيب
أربو:لا داعي للالتفات يا رجل ها أنذا,لا أؤمن بحماقاتك
(ديدي يتقرب منه,يركز في عينيه بثبات,يمتقع وجه أربو ويبدو كالمنوم مغناطيسياً,ينجذب لديدي وسط دهشة القوم)
ديدي(آمراً):اذهب يمين,والآن تقدم,تراجع,عد مكانك
(يعود مكانه ويفيق)
أربو:ماذا حدث؟(وقد تذكر)ينكمش في مجلسه متجنباً النظر لديدي.
خوفو:حقاً للرب رجالاً منحهم ما يعجز عن فهم كنهه حكماء البشر,أليس ذلك حقاً يا خوميني؟
خوميني:ما أحفل العالم بالأسرار,وما أضيق عقل الإنسان ليتسع للحقائق,فكيف بما أُغلقت عليه الحجب.
خوفو(لديدي):لكم عام ستحكم ذريتي؟
ديدي(في تردد):لن يحكم أحد من ذريتك
(جلبة وأصوات متداخلة)
ديدي(مستدركاً):لكنك ستحكم آمناً حتي نهاية عمرك الطويل السعيد
خوفو:إن من يعمل لنفسه فكأنما يعمل للفناء,هل تعرف من اختاره الإله ليخلفني علي عرشي
ديدي:طفل لم ير نور الدنيا إلا صباح اليوم.
خوفو:ابن من؟
ديدي"أبوه من رع"كاهن رع الأكبر,أمه"رده ديديت التي نبت من رحمها من كُتب في سجل الأقدار من الحاكمين
(يقوم الأمير رغعوف ويصيح بقسوة وبقلب مضطر)
رعخعوف:أواثق مما تقول أيها العجوز أم هي تخاريف؟
ديدي:سامحك الله يا ولي العهد ما أنا إلا بوق ينفخ فيه روح الرب.
خوفو:حم إيونو يا ابن عمي الزمان يخونني,خوميني يا صديقي الوفي هل تذكر الحكمة التي تعلمناها سوياً ونحن صغار,أتسري علي مثل هذا الأمر في مواجهة القدر؟
خوميني:تجلت حكمة جدنا قاقمنا"لا يغني حذر من قدر"حكمة تتوارثها الأجيال,لا لتعمل بها ولكن لكي تشهد صدقها,فالإنسان يا مولاي مهما فعل لن يغير من أمر قدره شيئاً.
رعخعوف(غاضباً):فما قيمة حياتنا إذن لو استسلمنا كالضعفاء وتركنا المجهول يسيرنا بلا وعي منا ولا أمل,كحصان خشبي يلهو به طفل يرفعه عالياً ثم يطيح به علي الأرض بلا إرادة,وما الفرق بيننا وبين زورق بلا روح تُرك بلا دفة في مواجهة أمواج البحار,كلا ليس هذا الكلام مما ينطبق علي الملوك الفراعنة.
خوفو:لو كان القدر كما تقولون لسخف معني الخلق واندثرت حكمة الحياة,وهانت كرامة الإنسان,وساوي الاجتهاد الاقتداء,والعمل الكسل,واليقظة النوم,والقوة الضعف,والثورة الخنوع,كلا القدر اعتقاد فاسد لا يخلق بالأقوياء التسليم
أربو (بحماس):تعالت حكمة خوفو وولي العهد
خوفو:أيها القائد أعد حملة من العربات الحربية سأقودها بنفسي إلي أون,لأشهد مخلوق الأقدار الصغير...هيا أيها السادة إني أدعوكم إلي ركابي لتشهدوا معركة هائلة بين فرعون والأقدار

 _____________________________
صبية غرناطية وقعت في النهر
"ذلك اليوم رأي أبوجعفر امرأة عارية تنحدر في اتجاهه من أعلي الشارع كأنها تقصده.اقتربت المرأة أكثر فأيقن أنها لم تكن ماجنة ولامخمورة,كانت صبية بالغة الحسن ميادة القد,ثدياها كأحقاق العاج,وشعرها الأسود مرسل يغطي كتفيها وعينيها الواسعتان يزيدهما الحزن اتساعاً في وجه شديد الشحوب."
بهذه الفقرة تبدأ رواية (ثلاثية غرناطة),واحدة من أجمل روايات الأدب العربي,نبتت في ذهن رضوي عاشور أثناء حرب الخليج الثانية,تتذاكر بها ما خلا من أيام مضت وانصرمت,بينما المنطقة كلها تستقبل أياماً نجني حنظلها المر اليوم,وقد استبهمت الأيام وركبت الشبهات علي الحقائق وأصبحت الحقائق أقنعة للشبهات.
"في ذلك اليوم"تشعبت الصدوع وعجز أهل غرناطة علي سد الشقوق,المتفتحة عليهم من كل جانب,لم تصمد إمكانياتهم الواهنة تحت ضغط مملكتي قشتالة وأراجون.أظلم عليهم ليل عاتم,وادلهمت من حولهم المصائب,كانت أرواحهم مكسورة لا تجد من يجبرها,وقلوبهم تأسي علي الماضي وليس لهم أيدي تسد ثلمة حرمتهم التي هتكت,ولا تندمل بها جراحهم.
بعد أن بلغت الأندلس أوج الحضارة واشتدت عراها,ورست قواعدها علي أراض غنية خصيبة,رُفعت عليها أعلام الثقافة ورايات التسامح,وتألقت منابرها بفحول النوابغ والعلماء...بعد أن بلغت بهجة الدنيا وهناء الزمان, وتدللت بمنظرها الجميل وزهورها البهيجة,وقصورها العالية.يصفها الكاتب الإنجليزي واشنطن إيرفنج وصفاً بديعا في كتاب(أخبار سقوط غرناطة) يختمه بقوله"جمال الأرض ونقاء الهواء وصفاء السماء يجعل من هذه المنطقة مكان جذب لكل طلاب رغد العيش,إلي درجة أن العرب المغاربة ظنوا فيها ما يشبه صورة الجنة التي بشر بها رسولهم"
شهدها أبو البقاء الرندي وهي علي هذه الحال من الكرب والضعة,تضعضع بنيانها وتخلخت مراسيها وآذنت بالمغيب في ضميرالتاريخ,فقال متفجعاً يتحسر علي ماض انقضي ويرثي مدينة تحتضر:
لكل شئ إذا ما تم نقصان                 فلا يغر بطيب العيش  إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول            من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي علي أحد             ولا يدوم لها علي حال شان
إلي آخر مرثيته المبكية الصادقة النابعة من قلب امتلأ شجناً,فلم يجد ما يتخفف به غير دمع الرجال في عيونهم الكسيرة.

هل تريد رأيي المتواضع الذي لا قيمة له... دخول العرب لشبه جزيرة أيبيرا التي ستصبح الأندلس,نسبة إلي قبائل(الوندال)الجرمانية التي استوطنتها وسمتها(فاندليسيا)أي بلاد الوندال,لا يسمي إلا غزو واحتلال واعتداء علي سكان البلاد الأصليين,هكذا تجري الحوادث بين بني البشر,تظهر إمبراطورية قوية وغنية,فتسعي إلي التوسع والاستيلاء علي المزيد من الأراضي والثروات,تحت ذرائع أخلاقية ودينية لإضفاء شرعية علي حروبها.في العصر الحديث كانت انجلترا واليوم ورثتها أمريكا,وغداً يعلم الله من سيرث الوراث,ويخلفه علي عرش الغزو والاحتلال,والحقيقة التاريخية تقول أنهم جاءوا بناء علي طلب أهل البلاد الأصليون,المستجيرين من عسف ملوكهم وقسوتهم,ساعدوهم ومهدوا لهم طريقهم,ولم يفعل المسلمون ما سيُفعل بهم بعد قرون,لم ظل اليهود والمسيحيين علي دينهم آمنين,لم يتعرضوا للجور المرعب والتشتيت القاسي باسم الدين,عكس ما أفعال فريناندو إيزابيلا وأتباعهم للقضاء تماما علي الإسلام تماماً أو(بذرة الشر المحمدية)كما كانوا يسمون الدين الإسلامي,فارق شاسع في المعاملة مع الآخر بمساحة ما بين السماء  الأرض.
لم يفكر أبو البقاء في هذا الأمر وقد توقدت في قلبه جمرة العذاب  يبكي"زمان الوصل في الأندلس" في قصيدة لسان الدين الخطيب,التي يقول فيها:
جادك الغيث إذا الغيث همي
يا زمان الوصل في بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكري أو خلسة المختلس
في هذه الأبيات شعور دفين في الباطن,بأن الوجود العربي في الأندلس حلم جميل عبر وتجربة خالدة اختلسها الإنسان من الزمن,ولم تنشغل رضوي به في روايتها وبالتالي لن يشغلنا نحن,فليس هذا مقامه ولا وسط هذا الموضوع مقاله,فالقضية قضية أناس ولدوا وعاشوا كما عاش أجدادهم منذ ما يقرب من 800عام,خلال هذه القرون عمروها وأحبوها واتخذوا أرضها وطنا في حياتهم وستراً عند مماتهم.
من بين هؤلاء الناس أسرة أبي جعفر الوراق,الذي افتتحت به الثلاثية وهو يشاهد الصبية في حانوته,وظن أن ما شاهده رؤيا من رؤي الخيال,لكنها كانت حقيقة"غالب دهشته وقام إلي المرأة وخلع ملفه الصوفي وأحاط به جسدها وسألها عن اسمها ودارها فلم يبد أنها رأته أو سمعته.
تركها تواصل طريقها وظل يتابع مشيتها الوئيدة وحركة خلخاليها الذهبيين حول كاحلين لوثتهما,وحول الطريق تخوض فيها قدماها الحافيتان"
يداخله إحساس بالشؤ,ويقضي النهار ذاهلاً,لا يري غير طيف الصبية أمام عينيه"كان مضطرباً وحزيناً وإن لم يتملكه التوجس إلا في اليوم التالي حين سمع بأمر اجتماع الحمراء,وترددت الشائعات عن غرق موسي بن أبي غسان في نهر شنيل,فهل تكون الصبية العارية إشارة صادقة كالرؤي والنبوءات؟
استتب تطيره وترسخ في قلبه بعد أيام معدودة عندما حكي له نعيم عن امرأة وجدوا جثتها عارية تطفو علي صفحة النهر.سأله:
في حَدَرَّة أم شنيل؟-
-في شنيل
-إذن لا مفر!
تطلع إليه نعيم مستفهماً ولكن أبا جعفر ظل صامتاً ولم يفسر له شيئاً من كلماته.ابتلعت دوامات النهر الأمل الباقي وانفرط عقد الأمة وتيتمت العباد."
نعيم طفل لا يعرف مصير أهله"رحلوا أو ماتوا لا أدري"هكذا أجاب عندما قابله أبو جعفرفي طريقه"كان الرجل مديد الطول مهيب الهيئة لا يختلف مظهره عن مظهر أولئك الكبار الذين يفزعونه,فما أن يستوقفه أحدهم حتي يفر مبتعداَ كأرنب بري نفور.رفع عينيه متسلقاً الجسد العالي حتي وصل إلي عينيه,كانتا زرقاوتين وديعتين,لم يركض"يحتويه في كنفه ويعلمه أسرار حرفة الوراقين,يساعده في حانوته ويصبح واحداً من أهل البيت.
تحيلنا رضوي عاشور من الفقرة الأولي إلي نسق زماني ومكاني تجري فيهما الأحداث,مستأصلة أي حشو يعوق الوصول للحدث الدرامي مباشرة,الزمان الأيام الأخيرة قبل تسليم غرناطة علي يد الأمير أبي عبد الله الصغير المعروف عند الإسبان بـ"بوعبديل",إلي ملكي قشتالة وأراجون,فرديناند وإيزابيلا وبذلك تتلاشي تماماً السيادة العربية في بلاد الأندلس؛ليعقبها عقود قاسية ثقيلة الوطأة علي العرب والمسلمين.
في ليلة الثاني من يناير عام 1492,تجمد الدم في العروق ليس بسبب البرد الشديد ونفحات القر,وإنما لمرور الساعات الأخيرة في حياة غرناطة قبل أن تسقط كحبة الرمان- وهذا معني اسمها-في يد الإسبان بعد سلسلة طويلة من المهاترات القبلية الممجوجة والخيانة,وممالأة الأجانب علي الوطنيين وتضخم الذوات التافهة والتماع الألقاب الفارغة.عار مزر لم يكن لتمحوه الدموع المتناثرة من عيني أبي عبد الله...الصغير!
الصبية رمز يشير إلي حال غرناطة,مدينة عارية لا حرمة لها تمشي تائهة لا يد تنتشلها ولا عين تحميها,يبتلعها النهر وتغرق لم يشفع لها جمالها ولا رق قلب للحزن في عينيها,سارت نحو حتفها,المدن تذبل ويخترمها الهوان وتغيب في حفرة الذل,عندما يتوه أناسها عرايا في الطرقات,عبارات اللغة الواصفة ذات مدلول يوحي بالضياع لا اسم ولا دار- ضياع الاسم عند قدماء المصريين يعني سلب الهوية وفقدان الذات-,تمهيد لما سيكون عليه كل سكان الأندلس عندما يطلق عليهم اسم"(الموريسكيين).
"لثلاث ليال لم تنم غرناطة ولا البيازين.تحدث الناس بلا انقطاع ليس عن المعاهدة.بل عن اختفاء موسي بن أبي الغسان.استغرقهم الخبر الذي انتشر من نهر شنيل إلي عين الدمع,ومن باب نجد إلي مقابر سهل بن مالك.سري في الشوارع والحواري والجنات.حمله ماء شنيل من أطراف المدينة ثم دخلها مع نهر حدره وانتقل إلي ضفته الغربية,ومنها إلي السبيكة والحمراء وجنة العريف,وإلي ضفته الشرقية,ومنها إلي القصبة القديمة والبيازين ثم تجاوز الأسوار والأبواب والأبراج وأطواق الكروم إلي جبل الثلج من ناحية وجبل الفخار من ناحية أخري."

أريد الوقوف علي هذه الأماكن الجغرافية الواردة,وإعطاء نبذة  سريعة:
1-غرناطة:قيل في غرناطة أبيات-علي مافيها من مبالغة شديدة-تعطينا تصور عن جمالها المفقود:
غرناطة مالها نظير       ما مصر ما الشام ما العراق
ماهي إلا عروس تجلي   وتلك من جملة الصداق
لم يتفق المؤرخون علي وضع غرناطة قبل دخول العرب,فانقسموا لثلاث آراء:
1-منهم من رأي إنها كانت عاصمة كورة إلبيرة.
2-آخرون رأوا أنها كانت مجرد واحدة من قري إلبيرة.
3-وفريق رأي أنها مدينة تقع في إلبيرة.
أما غرناطة العربية الإسلامية التي جعلوها تفوق مصر والشام والعراق بلاد المجد القديم والحضارة الممتدة!!!مدينة بناها زاوي بن زيري,جاعلاً منها عاصمة ملكه,وأكملها حبوس بن ماكسن وابنه باديس وزادا في تحسينها وتحصينها,فانتقل لها أهل إلبيرة بعد خرابها.
ومن اسمائها,دمشق الأندلس لشبهها بغوطة دمشق وجنانها الجميلة,يخاطبها الرحالة الأندلسي ابن جبير:
يادمشق الغرب هاتيـ            ك لقد زدت عليها
تحت الأنهار تجري            وي تصب إليها
يحدها من الجنوب جبل شيلر,ومن الشرق جبل شيلر وألمرية,ومن الشمال جيان,ومن الغرب  لوش ونهر شنيل.
ذكرها ابن بطوطة"غرناطة قاعدة الأندلس,وعروس مدنها,وخارجها لا نظير له في بلاد الدنيا,وهو مسير أربعين ميلاً,يخترقه نهر شنيل المشهور وسواه من الأنهار الكثيرة,والبساتين والجنان والرياض,والقصور والكروم محدقة بها من كل جهة".
وعن جمالها يقول محمد عبد الله عنان صاحب موسوعة(دولة الإسلام في الأندلس)"وكانت غرناطة أيام الدولة الإسلامية جنة من جنات  الدنيا,تغص  بالرياض والبساتين اليانعة التي كانت لوفرة خصبها وروعة نضرتها تعرف بالجنات".
2-البيازين:تحريف لاسم(البائسين),نسبة للفقراء الذين القاطنين فيه,أكبرأحياء غرناطة,وصفه القلقشندي بكثرة عمائره,وباتساعه لخمسة عشر ألف مقاتل يخرجون  منه,وكان مستقلاً بأحكامه وقضاته.لا يزال قائقماً حتي اليوم بتخطيطه الأندلسي وحاراته الضيقة.
,ينحدرsinglilis3-نهر شنيل:نهر غرناطة الكبيرالنابع من جبل شلير, مشتق من الاسم اللاتيني
من قبلي غرناطة إلي غربها ماراً بسورها,تتفرع منه الجداول,يقتطع لغرناطة منه ساقية تخترقها فتعمها مع كثير من الأرياض,ثم يخترق مرجها بين بساتين وقري وضياع وأبراج الحمام,ثم يزور لوشة وإسنجة ويصل حتي إشبيلية ليصب في نهرها الشهير بالوادي الكبير الذي يعد نهر إشبيلية وقرطبة معاً,وفي لفتة أخري لتأكيد عظمة مصر التي تقارن بها البلدان نفسها لتبرز في عين الناظرين,وتدوي في آذان السامعين!أرادوا تفضيل نهر شنيل علي نهر النيل  العظيم,بزيادة حرف الشين التي تعني العدد ألف!ليصبح شنيل ألف نيل!أشار ابن الخطيب,ابن غرناطة البار وإحدي مفاخرها"وما لمصر تفخر بنيلها وألف منه في شنيلها"وفي واحد من موشحاته يقول:
شنيلها مد منها نيل               والشين ألف لمستنيل
ويقول عنه المقري"لو لم يكن لها إلا ما خصه الله تعالي به من المرج الطويل العريض ونهر شنيل لكفاها".
4-عين الدمع:جبل يزينه الرياض والبساتين يتصل بناحية جبل الفخار,وصفه المستشرق الإسباني سيونيت"عين الدمع بقعة من ضواحي غرناطة,قريبة من سفح جبل الفخار,كان يشغل موقعها سطح تلال البيازين التي تطل علي المرج,وكان متنزهاً بديعاً يغص بالمروج والحدائقالغناء,وقد استمرت بعد سقوط غرناطة وما زالت تحتفظ ببقية من سحرها القديم.
من أشعار لسان الخطيب فيها:
يا عهد عين الدمع من كم من لؤلؤ      للدمع جاد به عساه تعود
5-نهر حَدَرُّه:سماه ابن الخطيب هداره وأسماه ابن سعيد نهر الذهب,ينحدر من ناحية وادي آش,لم يحدد ابن الخطيب منبعه واكتفي بالإشارة لمجيئه من اتجاه الشرق,ماراً بالبساتين والكروم حتي يتهادي إلي غرناطة,ويجري في منتصفها,علي يمينه حي البيازين وعلي يساره الحمراء,وروي القلقشندي أن ماؤه يجري في أرجاء غرناطة,وحيث طلب الناس الماء وجد,ويذكر المقري أن علي هذا النهر قناطر عجيبة البناء,منها قنطرة شنيل المبنية علي الطراز الروماني,بقيت صامدة حتي أضرب بها فيضان في القرن السابع عشر,ثم جددها الإسبان محافظين علي معمارها الأصلي.
6-نجد:أحد متنزهات غرناطة,تتصل بجبل السبيكة يصفها القلقشندي مع حور مؤمل"لنسيم نجدها وبهجة منظر حورها في القلوب والأبصار سلطان يروق الطباع,ويحدث ما شاءه الإحسان من الاختراع والابتداع".
7-مقابر سهل بن مالك:اكتفي ابن الخطيب باعتبارها مقبرة شهيرة
8-السبيكة:مكان خارج غرناطة,نظر له أبوجعفر الإلبيري مزمعاً الرحيل فقال:
لما وقفنا للوداع وقد بدت      قباب بنجد قد علت ذلك الوادي
نظرت فألفيت السبيكة فضة   لحسن بياض الزهر في ذلك النادي
9-قصر الحمراء:أشهر معالم الأندلس علي الإطلاق,بنيت بروح من زار الفردوس وأرد الحكي عنه عنه, عجزت الكلمات فكان فن العمارة الطريقة المثلي للتعبير,من خرج أبي عبد الله الصغير الشقي1492,وقد بناه أبو عبد الله محمد الأول عام1238واستمر العمل 150عاماً ليكتمل
10-جنة العريف
11-جبل الثلج:جبل شلير,وسمي بجبل الثلج لأن الثلج يسكنه في الصيف والشتاء,وهو المعروف أي سلسلة جبال الثلج,والاسم العربي مشتق الكلمة اللاتينيةsierra Nevadaبالإسبانية باسم
أي المشمس لانعكاس أشعة الشمس الذهبية علي قممه الثلجية,يقع جنوبي شرقsolarus
غرناطة,وجهه الجنوبي يطل علي البحر,يستغرق صعوده48ساعة,وعندما يصل المتسلق يري أكثر بلاد الأندلس مبسوطة أمامه لشموخ ارتفاعه الذي يصل إلي 11678قدم,في فصل الشتاء,تنفلت منه موجات صقيع يتجمد لها الماء في الأواني ويتراكم الثلج في الساحات.

رآه عبد الله بن إبراهيم الأزدي,وقد تبدت قممه تحت عمائم بيضاء من الثلج كعمائم الشيوخ:
ذلك شلير شيخ غرناطة التي    لبهجتها في الأرض ذكرقد انتشر
وتمني ابن صدرة أن يفر من برودته إلي نار جهنم!:
أحل لنا ترك الصلاة بأرضكم        وشرب الحميا وهو شئ محرم
فراراً إلي نار الجحيم لأنها           أرق علينا من شلير وأرحم
لئن كان ربي مدخلي في جهنم       ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم
أما قاضيها أبو بكر بن شبرين فقال:
رعي الله من غرناطة متبوأ        يسر كئيباً أو يجير طريداً
تبرم منها صاحبي بعدما رأي     مسارحها بالبرد جليداً
علي ذلك الجبل أصناف عجيبة من الفواكه وفي أيام الصيف تزهر فيه الرياحين والورود,ومن سفوحه تؤخذ العقاقير والأعشاب الطبية واللازورد.
12-جبل الفخار:أحد شعب جبل سيرانيفادا.

وسط خضم الشخصيات السابحة في سماء الأندلس,تذكر الراوية شخصيتين رئيستين هما عماد الأحداث الأخيرة السابقة علي سقوط غرناطة,هما أبو موسي بن أبي غسان ومحمد أبي عبد الله الملقب بالصغير تمييزاً له عن عمه أبي عبد الله الكبير الملقب بالزغل للدلالة علي صلابته وشجاعته وهو لقب يعني حجر الطاحونة الصلد ومنافسه علي الحكم بعد أبيه أبو الحسن علي بن سعد,وهو الزغيبي  والتعس والمنحس والشقي,وكلها ألقاب تدل علي القدر المكتوب علي هذا الرجل,الذي تنبأ له المتنبئون في طفولته بأن ضياع غرناطة سيكون علي يديه,وكما تحققت نبوء العرافين فقتل  أوديب أباه وتزوج أمه,رغم كل التدابير التي اتخذها الثلاثة,وقعت نبوءة منجمي أبي عبد الله.
شخصية درامية تصلح لتراجيدياعربية جليلة,الأدب والفن وحدهما هما القادران علي إجلاء معدن هذه الشخصيات الملغزة في التاريخ,وتحليلها وسبر أغوارها,كما فعل المؤلف محفوظ عبد الرحمن في مسلسل ليلة سقوط غرناطة,بإمكانيات تكاد تكون منعدمة استطاع مع المخرج عباس أرناؤوط ومجموعة الفنانين القديرين,تسجيل ساعات ماقبل السقوط,وإعطاء الحدث التاريخي جاذبيته الفنية.
الشخصية الثانية موسي بن أبي غسان,الذي قيل عنه أنه لو كان في بداية الأحداث لما سقطت غرناطة,قائد الفرسان الأبي المحاط بالخيانة والرخاوة الذي خذلته السياسة ومعاهداتها,ذكرته المصادر الإسبانية بتبجيل كبير وإعجاب واضح,ولم يتنبه له المؤرخون العرب!خرج بعد التسليم وحده شاهراً سيفه هاجم الجنود في الطرقات ولما أثخنته الجراح سقط في نهر شنيل,في الرواية تتعدد الآراء حول نهايته.
"قال البعض أن ابن أبي غسان خرج من اجتماع الحمراء وقد قرر أن يقاتل القشتاليين,وقاتل جموعهم وحده,ولما أصابوه وكادوا يظفرون به ألقي بنفسه في النهر.
وقال البعض الآخر بل قتله محمد الصغير لينفذ ما يريد دون مخالفة أو معارضة.سلم الشقيتو المنحوس البلد وباعها,وما كان بإمكانه أن يفعل وابن أبي غسان يقف له بالمرصاد.
وقال فريق ثالث لا أغرق نفسه ولا قتلوه,بل صعد إلي الجبال ليدرب الناس ويستعد.
قال فريق رابع,غرق أم لم يغرق لا فرق,ليس هذا زمانه ولا زماننا فلنحمل ما نقدرعليه من متاع ونرحل فلاد الله واسعة,أو نبقي مسلمين أمرنا لله وللأسياد الجدد ونعيش."
تتعدد الأصوات بتعدد الإتجاهات,الفريق الأول: يسرد الوقائع القريبة من الحقيقة كما وصلت إلينا,هكذا مجردة دون مخيال يسرح بالقصة في مراعي أخري,والفريق الثاني: يضم النقيض مع نقيضه ابن أبي غسان وأبي عبد الله,ينسج بخياله علي منوال مؤامرات القصور,فالكل يقتل الآخر الأب يقتل أولاده والأخ يقتل أخيه والعم يقتل أولاد شقيقه والأم أولادها,صراع الحكم والسلطة لا يعترف بأي عاطفة ولذلك عد بعض المتصوفة أن آخر شهوة تخرج من قلب المريد هي حب السلطة.الفريق الثالث:كمن المتأثرين بفكرة المهدي المنتظر والمخلص الغائب,من ظلوا قروناً علي أمل أن من رحل يعود,من ألقوا من علي عاتقهم مسئولية وجودهم وحريتهم في الفعل,في انتظار الحل السحري علي يد آخرين.الفريق الرابع:انسحبوا إلي داخل ذواتهم كحصون  أخيرة بعد سقوط حصون غرناطة واحدة بعد الأخري ومقتل صناديدها في لصد زحف فيرديناد وإيزابيلا,لا يعنيهم مكانهم ولا زمانهم المهم عندهم"أن نعيش"وأعتقد أن هذه العقلية هي الغالبة علي أذهان الشعوب العربية كلها بلا استثناء,القسم الثري المنهم العائم في الثروات والقسم الفقير العائم في الطين!
ترصد الراوية أبعاد الكارثة بصورتها غير الرسمية,مدخلها للتاريخ الإنسان العادي,ممن هم مثلي ومثلك,توظف فنها لحساب من لا حساب له مستنطقة من لا صوت لهم.هل يعرف أبو عبد الله بأبي جعفر وأسرته,هل جاء علي باله حسن ومريمة وسليمة وسعد وأولادهما وأحفادهما؟!
"الكل أكبر من مجموع أجزائه" كما تقول مدرسة الجشطلت في علم النفس,من يتحدث, يتحدث عن غرناطة كوحدة كلية,مما أضاع تفاصيل الناس والحياة,والدور الوظيفي لهذه الرواية استعادتها من جديد,وهو ما نجحت فيه رضوي بصورة جعلتنا نتخيل لوهلة أنها ركبت آلة الزمن وعادت إلي غرناطة وعاشت في بيت أبي جعفر وعادت لتحكي,مجهودها الكبير في البحث والدرس ظهر جلياً في كل صفحة.
"كيف"هذا السؤال"كان يقطع في روح أبي جعفر كنصل يتقيه كباقي العباد بالحديث مع نفسه ومع الآخرين"يالها من  إجابة تكررت مرات ومرات حتي اليوم ولم نفهمها بعد,نفس أسباب سقوط غرناطة هي نفسها أسباب ضياع فلسطين,احتلال العراق,تدمير سوريا,خراب ليبيا,التحرش بمصر حماها الله.
الأسباب في الجانب العربي لا تقل خطورة عن الجانب المقابل,الشقاق الداخلي وغياب التعليم وانهيار قيمة العمل,في الأندلس توحدت قوي أسبانيا تحت حكم منظم ساندته المؤسسة الكنسية وتلقوا الدعم من دول كفرنسا وإنجلترا والبرتغال,وبالمدفعية الألمانية المتطورة الناتجة عن علم وعمل نسفوا حصون العرب,وروعوا السكان وأحبطوا إرادة الأبطال,خلف أسوار قلعته المتزلزلة بقذائف الإسبان اعترف محمد بن يوسف سيد قلعة البحر"لا فائدة من قوة كل الفروسية
إزاء هذه المكاين الجبارة التي تغتالنا من بعيد".
كل هذا والصراع علي السلطة في غرناطة ينتج عنه مذابح تجري لها الدماء في حرب أهلية والسلاطين في البلاد العربية الأخري عاجزة تحارب بالكلام,نسينا علماؤنا وهاجمناهم بدعاوي غبية وساذجة تتخذ الدين وهو أداة صالحة جداً في كل وقت لضرب العلماء والفلاسفة والفنانين,بينما هم يقدرونه ويبجلونه وعلي  أساس أعمالهم صنعوا الحضارى الغربية الحديث,وهذه الملحوظة هنا ليست بنبرة الفخر كما يتخذها بعض الكتاب ويخلدون لأسرتهم هم وقرائهم قريري العين مرتاحي الضمير يتغنون بأمجاد الماضي,ولو علموا ما لاقاه هؤلاء النخبة لخجلوا من بعض تاريخهم الملوث بالدماء,هذه الملحوظة بنبرة الاستحياء والأسي علي سبيل دمعة علي خيبتنا التاريخية!
تعرت أجساد الرجال في حمام أبي منصور وتعرت معها الحقائق"سينكلون بنا بعد التسليم والمعاهدة ليست إلا ورقة لا قيمة لها.لو سلمناهم غرناطة سيفرضون علينا الركوع لركب القساوسة,ويرغموننا علي الحياة في حي مغلق ليس له إلا باب واحد,ويشرعون سيف الترحيل علي رقابنا.ما الذي يمنعهم من فعل ذلك حين يملكون البلد وتصبح لهم."
كذلك تعرت الأكاذيب والافتراءات...
"-المعاهدة تنص علي معاملتنا معاملة شريفة واحترام ديننا وعاداتنا وتقاليدنا وحريتنا في البيع والشراء.ومن حقنا الاحتفاظ بأملاكنا وأسلحتنا وخيولنا,ومن حقنا اللجوء إلي قضاتنا للفصل في خلافاتنا.حتي أسرانا سيعودون إلينا أحراراً معافين."
"-غرناطة ساقطة لا محالة,وابن أبي غسان كان أحمق يريد لنا الخوض  في قتال لا قبل لنا به,الحمد لله أنه مات أراحنا واستراح"
وسط الصراعات الكبري والأحداث الطاحنة يتهشم البسطاء ممن ليس لهم في الثور ولا في الطحين,كان سعد الللاجئ من مالقة, يحمم سيده وهو ينطق بهذه العبارة في حق ابن غسان,وفجأة ركض سيده خوفاً من عصا أبي منصور الذي راح يهدده ويطرده من حمامه.
حركة جمع الرجال للحؤول بين أبي منصور والرجل,في مقابل جمود سعد كانت سبباً في طرده من خدمة هذا السيد,والتحاقه بالعمل عند أبي جعفر,وبداية صداقته بنعيم وحسن حفيد أبي جعفر  وزواجه من أخته سليمة,ميلاده الروائي يتم في هذه اللحظة التي تغير مصيره,وسنعرف رأيه في ذلك بعد سنوات عندما ينضم للمقاومة في الجبال.
بعيون سعد تعرض لنا الراوية مشاهد دخول الإسبان"قرب الضحي رأي سعد جنوداً قشتاليين يرفعون صليباً فضياً كبيراً فوق برج الحراسة.وعندما انتهوا من تثبيته رفعوا علي قشالة وراية القديس ياقب,ثم صاحوا بلغة أعجمية كلاماً لم يميز منه سوي اسمي فرديناند وإيزابيلا,ردوه ثلاثة ثم دوت الطلقات في الفضاء.
لم ينتظر سعد المزيد بل ركض كالممسوس صاعداً تلة البيازين حتي إذا ماوصل إلي الحي راح يعوي في الشواع"دخلوا الحمراء,رأيتهم","أخذوا الحمراء سمعتهم","يا أهل البيازين رأيتهم,سمعتهم"كانت الطرقات مقفرة,لا بشر,لا دواب,لا طيور والأبواب مغلقة كأبواب القبور وهو يعوي بينها.ويركض حتي وجد نفسه في الحانوت عارياً من ملفه الصوفي وسباطه,انهد جالساً وانخرط في النشيج.
فاجأ سعد نعيما فوقف حائراً لا يدري ماذا يفعل أو يقول,ثم تحرك متعثراً يبحث عن جرة الماء ليفرغ منها شربة لزميله.
-ماذا حدث ياسعد...لماذا تبكي هكذا؟!
ولكن سعداً كان يواصل انتحابه,ولم يملك نعيم سوي أن يعود بجرة الماء ملأ طستاً وحمله إلي صاحبه,مسح له وجهه برفق ثم انحني علي قدميه وراح يغسلهما من وحول الطريق وآثار الدماء التي خلفتها الحجارة والأشواك"في المشهد يبدو سعد كنبي صارخ في البرية مضاع صراخه وسط صحاري شاسعة,في اليوم الموعود أقفرت غرناطة وتلاشي صخبها,نهاية العالم بصورة مصغرة..."إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس".
أما أبوجعفر فظل في منزله طوال اليوم يتساءل كعادته وفي اسئلته رنين لوم وندم,هل أخطأوا بانحيازهم لأبي عبد الله ضد أبيه وقد كان قاسياً ظالماً هل خدعوا في وعد بالخلاص والتحرر؟
الحق أنهم اخطأوا في تأييده علي عمه الزغل,دعك من أنهم كلهم طالبين سلطة لا يتورعون عن الفتك ببعضهم,الخطير هنا استعانة أبي عبد الله بالإسبان لحرب عمه حرب شوارع قاتلة دارت بين حي البيازين المؤيد للصغير وقصر الحمراء الساكن فيه الزغل مرعب جيوش الإسبان من جندوا له كل من تحت السبعين عاماً لإيقاف هجماته علي جيش فرديناند!موقف لم يحلموا به حتي أنهم ظنوا أن في الأمر خدعة وكمين لهم في المدينة,وبسيادة فرق تسد بدأت الضربة لسقوط غرناطة بهذه الفتنة التي ظلت مشتعلة خمسين يوماً..."كل مملكة منقسمة علي ذاتها تخرب,وكل مدينة أو بيت منقسم علي ذاته لا يثبت".



_____________________



م/1                                                                                                         ن/خ
زقاق ضيق بين عمائر مرتفعة
يمر عدد من القطط,تتبعهم علي مسافة قريبة,قطة بلدي من نوع الماو المصري(ستظهر بصورة كارتونية تثير الألفة),ثم نري مجموعة من البشر نسمع دمدمة حديثهم,يحاكون في عددهم وترتيبهم القطط.
صوت القطة:أي اتنين بيتجمعوا بيتولد بينهم كلام.كلام يبني ويكبر وكلام يعكر ويدمر,كلام يسلي وكلام يبكي,كلام عاقل وكلام مجانين,كلام خايب وكلام كبير...والكلمة تخلق دنيا كلها حواديت.
تقف القطة, تلتفت, وتنظر إلي الكاميرا فنجدها هي من تتكلم.
القط:بس لو القطط اتكلمت مع البني آدمين,أكيد حاجات ياما هاتتغير.
قطع

م/2                                                                                                         ن/خ
شقة سليمان(غرفة النوم+الصالة+طرقة ضيقة)
سليمان شاب في أوائل الثلاثينيات,مستلق علي السرير,الغرفة فقيرة الأثاث,سقط الطلاء من علي حوائطها,لا شئ مميز فيها عدا مصباح يتدلي من الغرفة,وجهاز كمبيوتر قديم,ضوء الصباح يغمر الغرفة عبر نافذة متهالكة.
القطة تنادي.
القطة:سليمان...سليمان
سليمان ينتبه للصوت مغالباً النعاس,تستعرض الكاميرا من مستوي بصره الحجرة الخالية...لا أحد.
القطة:أنا هنا,بص هاتشوفني.
يقفز سليمان مرتعباً, يجري في أنحاء الشقة الصغيرة,يرتطم رأسه بعامود الصالة,يغمض عينيه من الألم.
صوت القطة:وده اللي جربته مع سليمان
إظلام
م/3                                                                                                         ن/خ
شقة سليمان(الطرقة)
يفتح سليمان عينيه فيجد القطة رابضة علي صدره ككابوس,عيناه تتسعان في رعب,يلطم وجهه كي يستيقظ,يظل مستلقياً في عجز تام.
القطة:انت صاحي مش بتحلم,ولأنكم مش عارفين قوانين الحلم فمستحيل تعرفوا قوانين الواقع,ماتخافش,,زي البشر ماليهم لغة كل قرايبهم الحيوانات برضه ليهم لغة,بس أنا عارفة اللغتين.
تقفز القطة علي الأرض.
-يتابعها وهو متجمد من الذعر.
القطة: اللي عارفاه تاعبني ومحتاجة حد يشاركني وانت كمان محتاجني.
سليمان(غير مصدق أنه يتحدث مع قطة):محتاجلك في إيه؟
القطة تحوم حول جسده الممد.
القطة:الخوف اللي حاسه دلوقت مانعك تتخيل حياتك ممكن تكون عاملة ازاي وانت قادر تتكلم مع قط,أنا فرصة يكون لك عين في كل مكان,وسر عن كل واحد...ده الراجل ده بتاع أمريكا نفسه ما يعرفش يعملها,انت معايا هاتبقي قطة شايفة الكل,وأنا معاك هابقي إنسانة ليا دور أهم من الخربشة والنط.
ينهض سليمان من علي الأرض,كلام القطة يثير تفكيره.
سليمان:ده فيه بني آدمين عاشوا كل حياتهم خربشة ونط.
القطة:بس مفيش قطط قدروا بيغيروا حاجة(مبتسمة في ود)وبعدين يا أخي نونس بعض...مازهقتش من الوحدة!
تتقدم منه القطة,وتمد له مخالبها بحركة السلام,يمد لها سليمان يده في خوف شديد,يلمس مخالبها,تنجرح يده ويسقط منه نقطة دم.
القط:give me five.
قطع
م/4                                                                                                         ل/خ
الشارع
عويل نساء علي ميت خلف سيارة نقل الموتي.
تسير السيارة ببطء,يدق عليها أحد المشيعين لتنبيه السائق,بينما ينظر في ساعته.
قطع
م/5                                                                                                         ل/د
داخل السيارة
رجل يبكي,وفجأة يستدير للسائق.
الرجل:ما تنجز شوية يا أسطي!
سليمان يتنبه علي صوته,فينظر له في المرآة متعجباً من رغبته في إنجاز الدفن بسرعة.
الرجل في المرآة ما يزال يبكي.
صوت الرجل:يا تري لسه طقم الألماظ لسه عندك يابابا ولا بعته؟
قطع
م/6                                                                                                         ن/خ
المقابر
يتوجه سليمان نحو لحد مفتوح,يبرز منه وجه عم يحيي والد سليمان معفر ,ينصب قامته وعليه علامات الألم,يخرج حاملاً فأس الحفر.
قطع

م/7                                                                                                          ن/د
حوش مقبرة
يصب عم يحيي كوبين من الشاي,ثم يضع البراد فوق المقبرة.
ينظر له سليمان بإشفاق,يترجاه.
سليمان:طب اطلع معايا ساعة واحدة بس يا بابا!
عم يحيي:يا ابني خلاص ماعدليش عيشة برة المدافن,زي ما انت قرفت من نظام التعليم ومارضيتش تكمل,أنا كمان قرفت من الدنيا ومش راضي أكمل...وبعدين ماله هنا؟!الناس هنا مادام ماتت بقت طيبة وكلهم قاعدين أهوه رايقين وآخر عظمة...
يشعل سيجارة ويرتشف من الكوب بتلذذ.
عم يحيي:يا سلام عالسلام يا واد سليمان...مفيش أحلي من الأمان في الدنيا.
سليمان:أمان إيه ودنيا إيه يا حاج؟!انت وسط أموات.
عم يحيي:أنا كنت زيك غبي كده برضه,الحاجات الحلوة دي مايعرفهاش العايشين,اللي كل حياتهم عوء ووجع دماغ وحقد...بيحقدوا علي ايه؟!
يشير للأرض
عم يحيي:كلهم هاينزلوا هنا,ويتساووا,ويبقي الدود جنبهم والعبد لله فوقيهم.
سليمان:بس الدنيا برضه ليها حقوق لازم...
يقاطعه عم يحيي
عم يحيي:الدنيا حقوقها تعمل فيها الخير...واللي بيعملوه دول هم اللي بحس بيهم هنا,بحس ان السما زعلانة عليهم لما بيندفنوا,وان الجو كئيب والساعة مشيها تقيل كأنها بتأخرهم دول بس اللي بيدوا لحياتهم حقوقها,انما الباقي طماع يهون عليه يملا بطنه ويتكرع وأخوه جعان.
سليمان:يعني ما تريحنيش وتخرج معايا شوية.
عم يحيي:هاخرج لما احس ان الخير رجع تاني,والدنيا حالها اتغير.
يبدو التفكير علي وجه سليمان
قطع
م/8                                                                                                          ل/د
ملهي ليلي







________________________-
الفصل الأول
المشهد الأول
-يبدو جبل شلير من بعيد متوج بالثلوج البيضاء,عمار شاب في الثامنة والعشرين جالس علي صخرة مطرق الرأس,تدخل خطيبته سلمي مترددة.
عمار(كأنه يحادث نفسه):قبل عام بالضبط كانت أحزاني تتلخص في قصيدتي المسروقة بيد أعز صديق لي,وجدني سعيداً بها تطفح عيني بالمسرة والفخر,فاستكثر علي السعادة ونسبها لنفسه,ومضي بجرأة الجهال المستفزة,ينشد بين الناس كلماتي متلقياً المديح,ويلقي عليّ بالسخرية والاستهزاء, بعد أن كان يتلقي مني فضلة علمي,وأسكب في أذنه مالم يكن يحلم بوجوده.منذ ذلك الوقت وأنا معتزل الناس ومفارق للأدب والشعر,والليلة...(غاضباً)الليلة تعاودني الكلمات كحراب مسنونة تحز رقبتي.
-سلمي(تجلس بجانبه):ليتها كانت حراباً,تصمد في وجه الإسبان(تطمئن نفسها) يقولون أنهم سيتركوننا نحيا في سلام,فقد تعاهدوا علي ذلك,أتظنهم صادقين يا عمار.
عمار (ينظر لها بعين كسيرة):لا أدري.
سلمي(تمسح وجهه بنظرة حانية,وقد فهمت إحساسه بالضعف أمامها):هلم فبرودة جبل شلير تخترق عظامي.
عمار:اذهبي أنتِ يا سلمي فهذه البرودة قاسية عليكِ
سلمي:لن أذهب دونك فهي قاسية عليك أيضاً.
عمار(ينهار باكياً):كل شئ كان قاس ,هزمنا أنفسنا  قبل أن يهزمنا الإسبان,جردنا سيوفنا علي أهلنا وأشهرناها علي إخوتنا,وعندما نادت البلاد تستغيث من هتك الحرمات,أغمدت السيوف واستلت الأقلام للتوقيع علي معاهدات التسليم...الإسبان يتوحدون ويغزوننا بمدافعهم الثقيلة وخططهم الحربية المتطورة ونحن معميون بالجهل والمهاترات القبلية وصراعات السلطة والنفوذ,مثقلون بألقاب زائفة وشخصيات متضخمة وهي خواء تافه, نكلل تاريخنا بأطواق العار,سكنا إلي أعدائنا واستنمنا إليهم مسترسلين في الأحلام(يصرخ)جراح الخيانة سلبت من غرناطة الروح.
سلمي:ربما مازال الحل بأيدينا.
عمار(يبتسم في مرارة):أيدينا!(يضع وجهه بين كفيه)يا لخيبة أيادينا.
-سلمي ترفع رأسه وتأخذ وجهها بين يديه
عمار(يزيح يدها في رفق):وجهك الجميل هذا يزيد من آلامي!
سلمي(وقد فاض بها):كف عن الانتحاب مثل فتاة فقدت عذريتها,انزل عين الدمع والبيازين وعند نهر شنيل وجور الوداع,غرناطة كلها في الطرقات,يدبر الرجال أمرهم هناك.لطالما حذرتني أمي من خطبتي لأديب,قالت أنهم لا يملكون سوي الألفاظ  الناعمة وعندما يجد الزمان...
عمار(وقد يقاطعها وقد باغته تغيرها المفاجئ):سلمي!
سلمي:لم يعد شيئاَ سالماً.