السبت، 27 يونيو 2015

الظاهر والباطن

لم يقرأ أشرف لخيري شلبي إلا "وكالة عطية"ولا يعرف عن تشيكوف وتولستوي إلا اسميهما اللذين سمعهما من صديق له يجالسه أغلب الليالي,قارئ مجتهد هذا الصديق,لا يجد متنفس لأفكاره ومعلوماته الحبيسة في صدره إلا سمع من لا يعرف تشيكوف وتولستوي,في القطار وهما مسافران لمكان التجهيل والغباء الذي يعرف بالجامعة,صادف وجود أحد الركاب يقرأ وكالة عطية,أراح عينه من القراءة وراح يتابع من النافذة الأشجار وهي تجري مع القطار,تبادل الراكب الحديث مع أشرف وعرج علي الرواية التي يقرأها,وظل إبراهيم صامتاً كعادته يشعر باهتزازات القطر تعتري جسده كله وتزيد حدة شعوره بالغثيان.
عاد أشرف كلام إبراهيم في إحدي جلساتهما وهو يتحدث عن الرواية,وكان هذا أمراً طبيعياً تعود عليه إبراهيم,فهو يفعلها معه شخصياً!قد يفتح إبراهيم موضوعاً سبق له الكلام فيه مع أشرف فيعيد نفس الكلام علي مسمع من تكلمه!
هذه المرة اغتاظ إبراهيم بشدة,الحر,الزحام,الاهتزاز,ضغط السفر اليومي لا لشئ إلا لتلقي هراء قذر في مكان لتجهيل المصريين.....قاطعه فجأة وهو يحاول ألا تشي نبرات صوته بغيظه,موجهاً حديثه للراكب:
-إنها ليست بهذه العظمة!بها نماذج إنسانية غريبة لن تراها إلا في وكالة عطية.
لضم أشرف كلامه بكلام إبراهيم,مشيراً بيده في ثقة ممتلئ بالرياء:
-لا أقارنه بتشيكوف أو تولستوي.
قال الاسمين كأنه قرأهما ونقدهما وفي طريقه للتفوق عليهما,لاحظ إبراهيم نظرة الإعجاب في عيني الراكب,بهذا الشاب الذي ينطق هذين الاسمين بكل تلك البراعة والفهم العميق.
بدلاً من صفعه غيظاً وخسارة صديق...أخرج هاتفه يبحث عن أي لعبة تافهة يلعبها,ريثما ينتهي المثقف الأديب من نقاشه الهام حول خيري شلبي الذي لا يقارنه بتشيكوف وتولستوي,لعب بصمت مستمعاً لنفس كلامه يتلي عليه من جديد,وصاحبه بجواره يكاد يطير من براعته في تعويض عقدة نقص الجهل,بالادعاء وحزن أنه لم يراع حتي وجوده...لماذا يسرقه بالإكراه؟!
لا هو المخطئ المغفل,هو من ترك باب عقله مفتوحاً,وأعطاه منه عن طريق لسانه ما جعله يتحدث هكذا متعالياً,يعدل نظارته مقلداً ما يقوم به الممثلون في السينما حين يؤدون شخصية المثقف...لكن من غيره يسمعه؟!
لا أحد...

وفي نفس الليلة جلس يحدثه عن ألبير قصيري وروايته"العنف والسخرية"مستفيضاُ في شرح فنياتها وشخصياتها,وهو يتخيل موقف مشابه سيحدث في القريب كموقف القطار.جاءه الموقف أسرع مما يتخيل,في نفس الليلة,انضم لهما صديق ثالث حدثه أشرف عن علي الوردي كما عرفه من إبراهيم,سبق الوردي قصيري بعد خيري شلبي,نفس نظرة الإعجاب رآها إبراهيم تتجه لأشرف,قام فجأة من المقهي معتذراً بحجة رغبته الشديدة للنوم,أثناء سيره طلب من الله أن يقيض له في حلمه من يفرغ صدره في مسمعه ولا يعيد عليه كلامه من جديد متباهياً,كأنه ملكه!

الجمعة، 26 يونيو 2015

خادم الجامع

خادم الجامع
أول ما رآه أباه ينزل من عمارتهم المبنية حديثا ليفطر مع المعزومين في الخيمة التي نصبها كعادته كل رمضان,قبله واحتضنه إعجاباً بأناقته ووسامته,سيقول له في نفس المساء"كنت نازل ساعتها ولا حسين فهمي",سلم علي بضعة من معارف والده ارتبط بهم في فترة طفولته وصباه,في رمضان الماضي لم يتعرف علي حمي بنت عمته,فعرفه علي نفسه مستاءَ من جهله بشخصيته,مازال يذكر العجوز هذا الموقف,فحين رآه مازحه:
-أنا أبو إسلام
فأجابه باسماً في مودة:
-عارف .
قام أيضاً للسلام عليه ملتح في منتصف العمر سمين كأنه يأكل أطفالاً صغار في معدته الممدودة أمامة علي هيئة كرش واسع,حاول أن يبدو ظريفاً فقال في سماجة ساخراً:
-أتعرفني؟!أنا أخو إسلام.
- لا أول مرة أراك.
فسارع العجوز:
-ألا تعرفه؟!...طيب أفهمه بالراحة.
اغتاظ عبد الرحمن من طريقتهما السمجة في الكلام والتقسيم عليه,كأنهما ما صدقا وجدا شخصاً يخرجان عليه أمراضهما النفسية,بهذا شعر وهو يتلقي نظراتهما وابتساماتهما اللزجة,ولكنه لم يرد أن يفسد ساعة الإفطار المنتظر الواعد بأطايب الطعام من طباخ ماهر جئ بعد مشقة في الطلب,فحاول أن يتجاهلهما.
أشار أبو كرش واسع للجامع أسفل العمارة:
-أنا خادم هذا الجامع...لو حلقت لحيتي ربما حين تراني تعرفني.
كتلة آدمية ماسخة,وصورة بشعة لرجل يربط اسمه باسم جامع,وقد طالته أصلاً قبل شهور اتهامات بسرقة أشياء من المسجد لم تثبت عليه,ما ثبت فعلاً,جشعه وتهالكه المقرف علي أي شئ تافه يلقاه ويريد الاستحواذ عليه,قليل من الطلاء المتبقي من دهان الجامع,نتيجة تقويم يأخذها لبيته بلا استئذان,نعل حمام يحمله معه وهو خارج ليستولي عليه.....,......,.....
"آه...أنت لا تصلي أيها الشاب العاق,أنت لا تعرف الله أيها اللاهي المحلد,أنت شاب جاهل لا تعرف دينك...فليهدك الله كما هدانا,كيف لا تعرف من يخدم الجامع,من لا يعرفني لا يعرف الله أيها الجاحد,ستكون لي الحور العين أتمتع ببكارتهن وجمالهن وأنت ستشوي في عذاب السعير"بهذا كان ينطق لسان حال الملتحي أبو كرش.
عبد الرحمن أحد موسوعي الثقافة بالنسبة لشاب ما زال في عشرينياته, يعرف عن الدين الإسلامي أضعاف ما يعرفه خادم الجامع-إن كان يعرف عن دينه شيئاً أصلاً غير ما تعلمه وهو طفل-أراد أن يسأله هل يعرف من أين جاء اسم "الله"الذي يخدم في بيته,وما تاريخ هذا الإله عند العرب قبل الإسلام؟...لا بل سيسأله سؤالاً أسهل,لماذا يوضع هلال علي مآذن وقباب المساجد,ولم توضع مآذن وقباب من الأساس ومن وضعها,بل سؤال أبسط:ما معني "المسجد".

اكتفي بابتسامة سمجة وقال أي همهمة وتركهما ينعيان ابتعاد الشباب عن دين الله,والدليل علي ذلك عدم تعرف واحد منهم علي خادم جامع أسفل منزله...وحين أذن المؤذن "الله أكبر"هجم الاثنان علي اللحم والمحشي والفراخ,ودخل عبد الرحمن يصلي وقلبه يطير نشوة وجسده يرتعش وهو يستعيد صوت قراءة سمية الديب لآيات الله,وسلم وجهه لفاطر السماوات والأرض تاركاً خادم الجامع يسلم معدته لشهوته حتي يسلم في الجنة التي ينتظرها فرجه لشهوة أخري يحلم بها في الصحو والمنام.ِ

الأربعاء، 24 يونيو 2015

مطاردة اللبؤة

في الظلام الحالك ظهرت لي لبؤة متوحشة,تطاردني وأنا أعدو بكل جهدي متخبطاً في البيوت والناس...راعني أن الحياة كانت تستمر كما عهدتها والناس يتحركون في عادية غير عابئين باللبؤة التي تنوي علي قتلي وتمزيق جثتي بأسنانها وافتراسي,ودفني لحماً ميتاً في جوفها الجائع دوماً,أخيراً وأنا مازلت أعدوت تأكدت أن اللبؤة لا يراها سواي ولا تريد إلاي,زدت من سرعة جرياني وقلبي يتصدع خوفاً وألماً والدمع ينساب من عيني مدراراً بلا صمام ولا حاكم,والخوف...الخوف يشل تفكيري تماماً لا أعرف إلي أين أمضي ولا كيف عبرت كل تلك الشوارع,انكمشت إنسانيتي تماماً ولم يعد لي منها إلا ساقين أهرب بهما من العذاب والموت,صوتها المفزع المخيف يطاردني يهدّ بنيان مقاومتي,علا صوتي بالصراخ والعويل وتفجر الدمع من عيني بقوة دفعة واحدة وحين انتهت شهقتي التي وصلت للسماء كان الدمع نفد وبدأ الدم يحل محلها,بكيت دماً من آلامي وقسوة طريقي,قدماي أيضاً تنزفان,تمزق حذائي من الأسفلت فدخل فيهما الشوك وكسر الزجاج والأحجار الحادة وكل ما يمكنه أن يؤذي جسد إنسان لا يوجد أضعف منه علي كوكب الأرض,فكرت في أن أهاتف أحد أصدقائي,اتصلت بأول رقم ظهر لي في قائمة أسماء الجوال,وجدت حوله أصوات ضحك ولهو ونشوة بالمتعة,وامرأة تناديه باسمه بصوت ناعم,لم يصل له صوتي بوضوح,كانت الضجة الضاحكة من حوله تغطي علي صوت استغاثاتي,ولهاثي من العدو لا يكاد يبين ما أقول,ثم أغلق السماعة في وجهي,تكرر هذا الأمر مع كل أصدقائي,أحدهم كان كثير القراءة,كلمته فوجدته يزدريني ويسبني ويقول لي"هل تتصل لي في هذا الوقت لأجل هذا الهراء يا مغفل,ألا تعرف أن روما علي وشك السقوط"فأجبته أن روما سقطت بالفعل منذ قرون مضت,فصرخ في وجهي"لا أصدق حتي أجد سقوطها في الكتب"وفعل كما فعل الكل أغلق السماعة في وجهي,رميت بهاتفي غيظاً وظللت أعدو صارخاً جريحاً ليس لي حيلة في النجاة إلا الصمود,ساعدني أني لا أنظر خلفي أبداً ولا أفكر في اللبؤة بقدر ما أفكر في حياتي,لو نظرت خلفي لوجدتها أمامي مع أنها ورائي ولانكفيت علي وجهي في الحال وأصبحت لقمتها التي تسعي ورائها.
حتي رأيت يداً بضة بيضاء ناعمة الملمس تمتد لي من خلف باب بيت جميل ليس له مثيل في أي بيت دخلته أو عرفته,سحبتني للداخل بسرعة وأغلقت الباب الفولاذي في وجه اللبؤة فاصطدمت بعد أن فشلت في كبح جماح اندفاعها وماتت من قوة الصدمة.
نظرت بجانبي بعد أن هدأت وهدأت دقات قلبي,وخالطه بعض الطمأنينة والراحة,فوجدت صاحبة اليد الجميلة تنظر لي باسمة وتربت علي كتفي في حنو,بيضاء كالحليب النقي,وجهها لم تصنعه الجينات والدم واللحم,صحيح أنهم في تركيبه,لكن يداً إلهية تدخلت تدخلاً مباشراً وواضحاً لتنثر عليه جمالاً من جمالها,ليغدو كهذا الذي رأيت,قدها ليس له مثيل في بنات حواء,بل أن حواء نفسها لم تحلم أن يكون لها مثل هذا القد,العينان عميقتان صافيتان بريئتان,نظرتهما مطمئنة تحتضن من ينظر إليهما وتدخله لرحابهما فوراً,الشعر سارحاً متموجاً حتي نهاية الدنيا لو كانت لدنيانا هذه نهاية أو بداية!ابتسامتها تلغي الزمان ودورة الفلك,ابتسامة سكن قلبي علي الشفاه التي تبسمت بها...لم أشعر بنفسي إلا وأنا أحتضنها بين ذراعي بلا كلمة,احتضنتني هي الأخري وراحت تمسد ظهري براحة يدها المريحة... أحورية من الجنة هبطت علي الأرض لإنقاذي من شرور الحياة؟"لاأنا إنسية واسمي سارة"اسم علي مسمي فهي حقاً المرأة الجميلة التي تسر القلب,ثم أشارت بإيماءة تسأل بها عن اسمي فأجبتها"رأيتك تعدو من النافذة واللبؤة تطاردك وأنت تكاد تقع من التعب والخوف,فنزلت كالريح وفتحت لك باب بيتي"ولكن كيف رأيتي اللبؤة وهي لا يراها أحد ولا يشعر بها سواي ولا يتعذب بسببها إلاي"أو حقاً هذا؟"أجل"إذن فلا تفسير لذلك إلا أن الحب بصرني بما لا يعرفه أحد"الحب...أجل...سمعت هذا الاسم من قبل لكني جربته أبداً,حتي شككت في وجوده خاصة وكل من حولي هكذا,يسمعون به ولا يجربونه,لكني أعرف أن هناك من يتعذب به ومن يتعذب له"والآن؟!"قالتها برقة كادت أن تمنعني من لمسها خشية أن أؤذيها"الآن..."لم أكمل العبارة وهويت علي شفتيها في قبلة طويلة ذبنا فيها سوياً.

والآن هي بنا نخرج لنعيش حياتنا سوياً"واللبؤة!...ألا تخشي من لبؤة جديدة تظهر لك وتعذبك؟" فلتظهر ألف لبؤة ولبؤة فما دمنا معك فلأواجه كل وحوش الغابة وما دام الحب معي فلتظهر لي كل شياطين الدنيا وأنا كفيل بردعها...وخرجت يدي في يدها ونضحك في بهجة وسط كآبة الحياة.

الثلاثاء، 23 يونيو 2015

فتاة الثوم و the winner

فتاة الثوم و the winner

آخر مرة كلم فيها عماد بنتاُ كان في عامه الثالث بالمرحلة الإعدادية,قال لها "ممكن أستيكة؟",كان يوماً مذكوراً في حياته,والدليل علي ذلك أنه مازال يذكره حتي عامه الأخير في هندسة (محافظة إقليمية) حيث كلم بنت أخري بعد كل تلك السنوات,مقبرة العقول والمواهب مثلها كمثل كل معامل الحيونة المنتشرة كالسرطان في الجسد المصري وكان يطلق عليها قديماً في زمن مضي(مدارس وجامعات).
مدفون داخل نفسه,متأكد علي طول الخط باستحالة وجود فتاة تقبل به حبيباً وزوجاً,يحتقر نفسه بصورة بشعة ,قال لصديق يوماً ظل يحدثه عن نعمة الحب,وعماد يقفل كل السبل في وجهه بألف حجة وحجة وينتهي أن الحب لا وجود له ولو وجد في هذا الزمان لمات,قالها بعد أن كشف صديقه زيف ادعاؤه,وهو ينظر في الأرض والليل يحيط بالمدينة والأضواء تكافح الظلام:
-إنني أخشي منهن!
يخشي منهن؛لأنهن سر السعادة للرجل,لو فقد الرجل المرأة لكانت حياته قبراً عفناً لا يطيق المكوث فيه ولا مكان له خارجه,ابتعاده عنهن-بالأحري ابتعادهن عنه-يعطيه الأمل في يوم قد ينال وصال واحدة منهن يحبها ويسكن إليها بعد طول ترحال.
البنت التالية لفتاة الأستيكة التي لم يعد يذكر اسمها,بنت أخري عادية جداً لا تلفت انتباه أي شخص رأي في حياته امرأة بها لمسة من الجمال,الخمار يغطيها فلا يبدو منها إلا وجه هو أقرب للذكورة منه للأنوثة,ومن يركز بصره في يدها سيلمح شعيرات نابتة عليها تجعله يشيح ببصره عنها فوراً وهو في غاية الاشمئزاز!
دخلت مع مجموعته في مشروع التخرج,ولأنه ليس مشروعاً ولأنهم لم يدرسوا شيئاً ليتخرجوا,تهرب الكل من قيادة المجموعة وأسندوا وجع الدماغ له,وبالتأكيد لابد أن يكلمها وتكلمه"هل سأكلمها اليوم أم غداً؟!"ظل هذا السؤال يلح عليه طوال أسبوع حتي بدأ العمل الفعلي في المشروع الذي يصر الدكتور المشرف عليه استخدام برامج لم يعد لها وجود,وطرق تعود للثمانينيات,فهذا هو ما توقف عنده ورغم كل هذا لا يستطيع إفادتهم بحرف واحد واضح صحيح فظلوا يتخبطون حتي قاموا بأي هراء سموه مشروعاً,والحالة المصرية في أي مجال لا تعترف إلا بالهراء ويا سلام لو زيد عليه مسحوق الخراء,فسيصبح هو المطلوب المثالي لأولاد الزواني!
وأخيراً بدأت الكلمات... كلمات معدودة بين الباشمهندس عماد والباشمهندسة ميار كما يخاطبان بعضهما,قلبه يكاد يرتج وهو يسمع صوت أنثوي ينادي باسمه,لم يتوقع أبداً أن تقول له بعد أن خلص الكلام عن المشروع في دقيقتين لأنه ليس مشروعاً من الأساس:
-أنت كأخي الكبير...
ثم أشارت لصلعته اللامعة:
-لماذا لا تضع عليها ثوم...الثوم قد يعيد لك شعرك!
أعاد تلك الكلمة علي صديقه وهو يضحك من قلبه سعيداً متفاخراً بنقل هذا الحوار له:
-قالت لي ضع عليها ثوم...هاهاهاها ثوم إيه يا بنت الـ..... هاهاهاها.
نظر له صديقه كريم الذي صارحه بخوفه من البنات في شفقة حاول إخفائها بشرب كوب الماء الموضوع علي طاولة المقهي.
يعرف الآن كريم متي تكلمه ميار,تتبدي السعادة والإقبال علي الحياة في وجهه,الأمر الذي يتصادم مع كريم,فهو يستخدمه كمسرح مناسب ليعيش دوره الذي في مخيلته,يستعرض عليه خفة دمه ويبدأ في السخرية منه وازدراؤه لو تمكن وخاصة لو معهما ثالث,يكلمه والكلام لكِ يا جارة...وكريم يزداد شفقة عليه.
حتي حدث ما لم يتخيله عماد حتي في أشد أحلامه,اتصلت به علي الموبايل!!!
هنا بدأ المسرح مهيأ تماماً للاستعراض الكبير,في المرة الأولي كان الاستعراض بسيطاً ساذجاً,فما يزال الدور لم يسبك بعد في نفسيته وروحه,مازال مبتدئاً في التقمص,ثالثهما إحسان كان مخرج العرض في المرة الأولي,تأكد كريم من أنها كلمته بعد تصرفاته المعهودة حينها,استهتار به ومحاولة الانتقام منه لعلاقاته مع الجميلات اللواتي حرم عماد منهن واكتفي بمتابعة أخبار صديقه معهن:
-البنت التي معه في المشروع كلمته
-والله كنت أعلم...وهي سبب تغيير دمه الآن.
اكتفي بابتسامة صامتة تقول"لا داع للتصفيق...أجل أنا أكلم بنتاً".
دمه لا يتغير فقط بل ذرات تكوينه كله,يشعر بها كريم تحاول الظهور والإعلان عن نفسها"أنا إنسان...أنا رجل...أنا تضحك لي الأيام ولابد أن أضحك لها"...فيزداد شفقة عليه ويتمني له السعادة بشرط أن يتوقف عن ما يفعل وما يود إيصاله له عن طريق خبيث يود أن يزعق في وجهه"تنح...الأيام هي أيامي"
في ليلة من ليالي رمضان وأسبوعه الأول لم ينقض,تساءل إحسان وهو يتصفح موقع الفيسبوك من الموبايل:
-مسلسل عادل إمام يريدون منعه ما السبب؟
وكأي مصري جرح جرح بليغ من العملية الإجرامية التي ترتكب باسم التعليم في مصر الجاهلة,انفعل كريم:
-إنهم أولاد(.....)خربوا البلد وارتكبوا أكبر جريمة في حق كل الأجيال,يسمون أنفسهم"علماء مصر"وهم خراب مصر ومدمروها الأصليين,يدعون أن أساتذة الجامعات-أساتذة جامعات أم كبار جهلة المؤسسات التجهيلية؟!-يقومون برسالة سامية وغير ذلك من الأكاذيب التي يلوكونها متبجحين في وقاحة,يقولون أنه يشوه صورة"أعضاء هيئة التدريس"أعضاء هيئة النيلة,التعليم هو هزيمتنا وخيبتنا ونكستنا التي راحت فيها مواهبنا,عصابة إجرامية دمرت الشخصية والعقلية المصرية باسم التعليم,كنت أتمني ألا يظهر البطل كسكير أو زير نساء كما يقول من شاهدوه,وإنما كنت أتمني أن يظهر علي حقيقته جاهل مُجهل يغير ويشتعل حقداً لو وجد طالباً به بعض النباهة أو قليل من الذكاء أو لمسة من موهبة,فيوقف عمله علي تدميره والحط من شأنه بمناسبة وبدون مناسبة,حتي يقدمه للمستقبل مثله يحمل شهادة بلا علم.
ميار كلمته هذا اليوم وهو ما عرفه وهو يهاتفه,كلمه بثقة واستهتار ولو وجد فرصة لسب له الدين وهو راضِ عن نفسه,لم يقل إلا:
-أنا ذاهب للمقهي البس وانزل بسرعة.
وأغلق الخط.
ما كل هذه الثقة؟أم ما كل هذا العذاب الذي ماكاد أن يجد أنثي أي أنثي لا يهم إلا ما تخفيه بين فخذيها ويبرز نهدين علي صدرها وصوت ليس خشناً,ليكون في خيالهفالنتينو النساء وجيمس بوند الرجال!
لم يخبر أحدهما أن ميار كلمته,كريم بدون كلام يعرف أنها كلمته...يعرف.
فرقع صاروخ وسط الكلام فانتابت المفاجئة كريم وإحسان,رجع عماد بظهره وهو ينفث الدخان من بين شفتيه ناحية السماء كأنه يقوم بمشهد في فيلم هوليوودي من الدرجة الثالثة عن راع بقر,بعد أن أطلق الرصاصة الأخيرة علي عدوه فيرديه قتيلاً والفتاة الحسناء عارية الساقين والذراعين مرتمية في حضنه تقبله علي شفتيه:
-كيف ستدخلون الجيش إذن؟...انظروا إليّ انظروا إلي ثباتي الانفعالي.
أراد كريم سؤاله إن كانت ميار كلمته أم لا ويهزأ بهما قليلاً؟. أحياناً يغتاظ منه ويود لو يهدأ قليلاً ويهدئ من سخريته الحادة وثقته الغبية بنفسه,لكنه فضل الصمت لتمر الليلة بهدوء التي كاد أن يعكرها تقفيله لعبة الدومينو في وجهه وهو يصرخ ويضرب علي صدره بغل:
-دعوني...دعوني انتقم مما يفعله به منذ سنوات.
تجلي منه الجزء المحروم العطشان لأنثي تنظر له حتي باهتمام,ولم يدرك كريم كيف كان يعذبه إلا اليوم,وهو يحكي له عن صديقاته وتجاربه العاطفية.وبدلا من أن يغتاظ منه ويحاول النيل من سعادته تركه يلعب بحريته وهو يشيد بموهبته في اللعب,ولما فاز عماد,بحركة مسرحية أخذ يده ورفعها لأعلي وهو يصيح بصوت سمعه كل رواد المقهي:
-the winner

الأربعاء، 17 يونيو 2015

ستون متراً

 أهديت هذا السيناريو القصير من قبل لفرح,بنت جميلة وقعت في غرامها من نظرة واحدة,طبعته وأهديته لها,انتظرتها حتي تخرج من كورس الإنجليزية المقرر علينا في الهراء الجامعي المتخلف الذي حطمني وأتي علي ما تبقي مني-ولو بقيت ذرات أو كواركات حتي فالقادم كفيل بتدميرها وتجزئتها حتي الفناء-وأعطيتها هذه الأوراق في دوسيه,كنت وقتها واقعاً في عرض الحب حتي ينتشلني من آلامي وأحزاني,وكنت أغني مع جمالات شيحة"البخت لو كان نفر أنا كنت كلمته وبوست إيده عشان حالي",رأيتها فحدث في قلبي ما حدث,وتمنيت لو ترضي عني الحياة وتمنحني وصالها,وأعيش حياتي في حضنها وتعيش حياتها في حضني...نكتمل ببعض ونصبح إنساناً.
خرجت مع ندي,صديقة لها,أشرت لها وقلت بخفوت"ممكن لحظة",تبعتها ندي بفضول,لكني توجهت إليها صارماً بلا مبرر"أريدها علي انفراد"ذهبت محرجة ولم أشعر أنا بمدي جفائي إلا بعدها,وأخذت أعتذر لها تكراراً,حتي أصبح الأمر مزحة وقالت"ما خلاص يا أخي,أنت قلبك أسود جداً".
-كتبت لكِ إهداء علي سيناريو
ضحكت الجميلة فبدت اللآلي بين شفتيها الرقيقتين الشهيتين,اللتين تجريان الريق من الإغراء:
-لي أنا...ميرسي سأقرؤه وأعطيك الريفيو!الثلاثاء القادم
-الثلاثاء القادم...
وجاء الثلاثاء القادم أخيراً,وكان وقت الامتحان,أنجزته وخرجت كالمجنون أبحث عن لجنة فرح,مررت بكل ركن في المبني,وأخذت أطوف في الممرات لعلها تبدو لي,وأخيراً وجدتها جالسة في الخارج مع صديقة لها,لما رأتني أقبلت مسلمة ماددة لي يدها البضة الناعمة...آه كأني ألامسها اللحظة,وابتسامتها تسبقها...ولكن تلبسني اضطراب عجيب حينها,فصرت أمامها كالمجنون المختلط عقله,لا أعرف ماذا أقول ولا ماذا أفعل,حتي رأيت الدهشة علي وجهها الجميل,قالت لي وأنا لا أنظر تجاهها بل أنظر بعيداً وأضحك بلا سبب,بعد أن قلت لها:
-هل قرأتي السيناريو أم تجاهلتيه؟
يالي من سخيف أحمق!
تلقيت منها نظرة عتاب باسمة ممتزجة بدلال بنت في التاسعة عشر:
-قرأته طبعاً وأعجبني,وستكون يوماً كاتباً كبيراً عندك talent
Talent!!-أهذه شتيمة أم ماذا؟
هل أنا هكذا شاب ظريف يجيد التنكيت,اللعنة علي خرقي!
ظللت أضحك بلا سبب واضح,وقلت لها:
-كفي سأبكي(وقلدت شخصاً يبكي)...إنني أصدق بسرعة.
لماذا لم تضربني صاعقة من السماء وتريحني من نفسي؟!
-أرسلت لكِ طلب صداقة من أيام ولم تقبليه.
-لي مدة لم أدخل علي الإنترنت
-حسناً سأتركك مع صديقتك
وجريت هرباً!
ثم خرجت مرة أخري مع صديقة لي,وأشرت لها بكلامي لفرح,التي كانت مازالت جالسة وقد وضعت نظارة شمسية علي وجهها فزادت نفسها ألقاَ:
-هذه البنت هل هي حلوة؟
-أجل
وما أدراك معني أن تعترف بنت بجمال بنت بلا نقد!
-هل يمكن أن تحبني؟
-ولم لا؟
كانت فرح فتاة ملهمة بحق وقد كتبت قصة بعنوان "فرح" بها جزء مما حدث,وقبل ذلك بأسابيع,قرأت علي حسابها في تويتر رغبة في زيارة مدينة بوسيتانو,فكتبت"فرح في بوسيتانو",ويوم عيد ميلادها,كتبت لها أغنية مطلعها"الشموع في التورتة رقصت م الفرح
وقالت الليلة عيد ميلاد فرح"
طلبت منها أكثر من مرة من خلال أحاديثي السخيفة معها علي الفيسبوك أن أراها,وكانت تتهرب بأدب حتي قطعت صلتها بي تماماً!!وكنت أمزج المرارة بالسخرية وأنا أقول لصديق لي يجالسني علي المقهي :"سيناريوهات وأهديت,بوسيتانو -وعلي يد دانتي العظيم أنزلته لها -ووديت ,أغاني وغنيت,ماذا أفعل أيضاَ؟!"
الأصل أني عاجز عن الفعل والتحقق في الحياة-كالغالبية العظمي من الشباب المغلوب علي أمره الغلبان في حاله!-؛لذلك ليس لي ميدان ولا سبيل إلا الكتابة والتحليق معها في عالم الخيال,أنا أكره الحياة والحياة تبادلني نفس الشعور,أقرف منها ومن معظم من فيها أغلب الوقت,وأكره اضطراري لمد علاقات مع أشخاص جهلاء فارغين,مجالسة حمقي مدعين,ومعرفة أغبياء سمجين,البديل عن ذلك الوحدة,والوحدة بالنسبة لي تساوي تضخيم المخاوف و الوهم والقلق,والدفع بنفسي نحو الشرفة للانتحار!!!
المهم....فرح ضاعت من يدي!
فرح التي تمنيت أن أجد معها سعادتي وهنائي,قد كان في حياتها شخصاً آخر...أتمني أن تجد معه كل ما تمنيت أنا أجده معها,وأن يسعد الله قلبها بمقدار وجع قلبي,وأن تجد في حياتها معه كل الحب والسعادة اللذين خلقهما الله في دنياه,وأن تعيش في هناء حتي تنتهي نهاية كل حي علي فراشها الدافئ وسط أحبائها بلا مرض ولا ألم,وإنما تخرج روحها لبارئها بسلاسة ونعومة كأنها"سحبة قوس في أوتار كمان"كما ينفلت بين يدينا الزمان المراوغ علي رأي سيد حجاب!
ضياعها سبب لي تشوشاً وضيق صدر وحساسية من كل شئ,أكثر مما كان عندي من قبل,لأقل أزمة تسود الدنيا في وجهي,ولأبسط هفوة أثور وأهدد بقطع علاقتي لعدم احتمالي هراء البلداء المتنطعين الذين يسخرون من وصف يوسف زيدان لي"بالقدير",في إجاباتي علي أسئلته التي أدين لها وسيكون لي معها  وقفة وكلمة بالتأكيد!
أصبحت مشتت الذهن تائهاً,أسخف موقف حدث لي وأنا أكتب صيغة استلام لشهادة ستة جند في مكتب العقيد في الجامعة(الخرابة!حيث قضيت أسوأ أيامي وفيها ضاعت أحلامي وأفقت علي الواقع المصري المزري عبر بوابة اللاتعليم الذي يتولي حجابتها المهرجين أصحاب الشهادات الزوز والألقاب الجوفاء والضمائر الخربة),فضلاً عن تذكري لفرح وتفكيري أني قد ألقاها وأنا خارج,أنا أصلاً نسيت تماماً الكتابة بالقلم,ولم أعد أستطيع رسم الحروف بصورة صحيحة به,وبمشقة كتبت الصيغة ومهرته بتوقيعي,وأنا لا أنظر أصلاً للورقة ولا أعيرها اهتماماً ولا أعرف ماذا أكتب,أفكر في فرح,وضحكة فرح,وحياتي التي تمنيتها مع فرح,لم أفق لنفسي إلا وصديق لي يضحك وأنا أنهي كتابة التاريخ
-اكتب 2015وليس 2051
-أين هذه يا ابني؟...آه صحيح!
صرخ في العقيد وهو يكاد يبصق علي وجهي وأنا أناوله الورقة:
-مأساة...والله مأساة! الله يخرب بيت النظام!أين تعلمتم ؟!
أنا من كال للاتعليم المصري كافة شئ من هجوم لسخرية لازدراء,للعن,أوضع في هذا الموقف المحرج,وأصير من جهلاء الجامعات الخاصة الذين هم أشهر من أن يعرف بهم...لا حول ولا قوة إلا بالله!!
قلت في نفسي ووجهي يحمر خجلاً"لماذا يا فرح؟!أين أنتِ يا فرح؟!"أشفق العقيد علي إحراجي فتوقف عن الكلام الهجومي الذي تمتلئ به عينه,وهو رجل شديد الاحترام في التعامل يمتلك روح دعابة قوية وواسع الصدر مع الطلبة لأبعد الحدود,مهندس ثم أكمل حياته في القوات المسلحة,وآلمني أن ينظر لي تلك النظرة ...وبالتأكيد قصده النظام التعليمي لا النظام العسكرسياسي!!!
سأكمل هذه القصة السينمائية التي تحولت لسيناريو من حيث انتهت لتصبح قصة,وسأهديهما مرة أخري إلي فرح,أهديت قبلاً إلي"فرح التي لا تعرفني"والآن مرة أخري إلي"فرح التي يعذبني بعدها عني...حباً لا أعرف له مثيل,يجتاح كياني ويكاد يحرقني بلهيبه"
ولسبب مهم آخر؛رنا وطارق من الشخصيات التي أحببتها من كل قلبي,وشغلت بالي لشهور بعد خلقهما الفني,وتساءلت عن مصيرهما وعن وجهتهما في هذه الأيام السوداء الغرائبية المثيرة لضحك كالكبكاء,وها أنا الآن من أجل خاطر فرح الجميلة أعود إليهما في حبهما وتحديهما للمصاعب والأزمات والحرمان,ليس بهدف الحصول علي ثروة أو منصب أو أي رفاهية من رفاهيات الحياة,فهما ككل أبناء جيلهما من البؤساء الأشقياء,يكافحون ويناضلون لأنهم يريدون أن يستمروا علي قيد الحياة,يختلسون منها لحظات حب تسعد قلبيهما الكسيران.

إلي فرح...التي لا تعرفني!
إلي بسمتها المبهجة ولمعة عينيها الصافية,حين مالت برأسها لتقرأ ما كتبته بخطي علي ورقة"book of the life".
ربما لا تعرف اسمي,ولو عرفته ما اهتمت وخلطت بينه وبين محمد لتقاربهما في النطق!
ربما لو رأت وجهي بعد أسبوع ما تذكرت أين شاهدته!
ربما...ربما ستغضب لو قدمت لها هذا الإهداء علي سيناريو فيلم قصير؛ليس لأن فيلماً قصيراً لا يليق بها فقط! بل لأن التعبير عن الإعجاب بالجميلات في زمن القبح أضحي عيباً...ما يطمئنني أنها فتاة مثقفة...ويقلقني أيضاً!
لو كنت أنهيت عملي الروائي الشاق الذي استغرق مني أسابيع طويلة حتي الآن لأبدأ فيه, عن تاريخ مصر أبدؤه من مصر القديمة تحديداً من أول شخصية موسوعية عرفها التاريخ الحكيم المصري"إيمحوتب"مع ذكر مطول لهرمس/إدريس/تحوت رب الحكمة(يعني ثلاثي العظمة) –ثلاثة تجليات لمعلم البشرية الأول المصري الذي سكن في مدينتي دمنهور-لكنت ألغيت إهدائي إلي ما أبحث عنه ويدميني حرماني منه " إليها...
إلي نظرة من عينيها...
إلي لمسة من يديها...
الحبيبة الوطن
الوطن الحبيبة"
ولجعلته إلي فرح...التي لا تعرفني!
لكن العمل طويل والزمن كالماء يتبخر كأنه لم يكن...وربما لا أراها بعد أن ظللت أراها أياماً طوال -بلا كلمة!-,أري فيها ما يذكرني بجدتنا المشتركة "إيست"المعروفة بنطقها اليوناني إيزيس"أم الأشياء جميعاً,سيدة العناصر,بادئة العوالم".
ذكرتني فتاتان أخريتان بأصولنا الفرعوني المُبجلة,كتبت عنهما قبلاً,صديقة لي تغني بصوت آسر كتبت عنها تحت عنوان"كلام لزمن آتٍ...ليته يكون قريباً",والأخري كارمن سليمان تحت عنوان"...إلا صوت كارمن" الأولي قرأت حتي أن والدها كان معنا مرة,فوجدتها تنادي عليه بلهفة"بابا... بابا!محمود اللي كتب المقال أهوه" كأن قلبها يتمني لو يفيض بكلماتي القاصرة القصيرة لكل من تحبهم فانضمت تلك العبارة لعبارات أخري تدفعني لاستكمال طريق الكتابة المحاط بالشوك والخذلان بعد أن أغواني يوسف زيدان بكلماته عني أن أناطح الدنيا في سبيل أن أكون"شجرة وارفة"كما عبر قبل أن يأخذني لمساحة أخري بقوله"هذا فنان يتألم"ولا زالت الأرجوحة تتمايل!أما كارمن  ربما كان الأمر معها كالأمر مع ماجدة الرومي وما كتبته لها في شكل رسالة نشرته علي موقع إليكتروني...لم يسعدني زماني بعد واستطعت أن أعبر لهما عن دقات قلبي وأنا أسمعهما,مع الأسبقية بالطبع للسيدة ماجدة الرومي التي أعتبرها نسمة أنثوية حنون بصوت ملائكي يلطف أحزان القلوب"مع إن مش كل البشر فرحانين".
سيناريو قصير عن بداية علاقة حب علي شاطئ الأسكندرية بين فتاة صماء وشاب منهزم, كتبته في ظرف مضطرب قبل أشهر.
أظن أنه الأنسب حجماً وموضوعاً للإهداء بعيداً عن تعقيدات الفلسفة المريبة التي شغلت معظم ما كتبته...
ليست أول مرة أهدي فيها ما أكتبه لبنت أري فيها الجوهر الأنثوي الأمومي,أصل الحياة ومنتهي الوجود,لكنها أول مرة أهديه بطريقة مباشرة,علي الإنترنت وخلف الشاشة الحياة أسهل بكثير بالنسبة لشخص خجول صامت مثلي!
الآن...
أهديه إليها...إلي فرح التي لا تعرفني...لعلها تذكر دوماً أنها تستحق الأجمل والأفضل في الحياة...فياليت الحياة تدرك ذلك؛فتعطيها حقها!

مش بالكلام
 فيلم قصير
القصة السينمائية:
رنا  فتاة في العشرين ابتُليَت منذ منذ ولادتها بالصمم والبكم,مما عزلها طوال عمرها في عالم صامت أبرز ما فيه شعور دائم بالحسرة ممزوج بألم الفقد مع سوء تفاهم متواصل بسبب عدم قدرتها علي سماع الآخرين والحديث معهم,تتفاقم أزمتها للذروة بسبب ابتعاد الجميع عنها لعجزهم عن التواصل معها,مما يوقعها في مصيدة الاكتئاب المزمن,ولم يكن لها سلوي في الحياة غير القراءة والجلوس أمام البحر السكندري البديع تتأمل الأمواج و وجوه الناس.
طارق طالب جامعي,فرق السن بينها واضح لصالح طارق من ناحية العمر المتقدم,بسبب رسوبه الدائم لم يُنهِ تعليمه حتي سن متأخرة نسبياً لاقتناعه أن ما يُقدم له ليس إلا هراء يخجل منه ويحتقر ذاته كلما فكر أنه مجرم وضحية في نفس الوقت لأكبر جريمة تُرتكب في حق كل الأجيال,هو ما يجعله هو أيضاً معزولاً كعزلتها وتفاصيلها:القراءة بنهم,وتأمل وجوه البشر.
يراها كل يوم عند العصر علي شاطئ البحر.
يظنها طبيعية,تعاني من مزاج سئ كمزاجه,يحاول التقرب منها بانجذاب حسي,وجهها الجميل الهادئ,بياضها الحليبي,قدها المُلفت,شعرها المنسدل علي كتفيها متموجاً سارحاً حتي نهاية الدنيا.وعاطفي,الحزن البادي علي كليهما,الانعزال الجليدي الغارقان فيه عما حولهما,و رؤيته لأغلفة كتب تحملها معها دوماً(الحرافيش,ثلاثية غرناطة,دواوين درويش ودنقل,أجزاء من موسوعة قصة الحضارة,كتب سلامة موسي وزكي نجيب محمود,وروايات فتحي غانم وبهاء طاهر......,......,......"
كل هذا كان يدفعه للتقرب منها لا إرادياً,ضبط نفسه مهرولاً خلفها وهي تهم بالمضي وقلبه يكاد ينفجر من فرط الانفعال:
-لو سمحتِ يا آنسة هو الكتاب ده.....
لم تشعر به وواصلت طريقها بهدوء, توقف محرجاً,عاد وهو يغلي من الموقف.
دافعه للاقتراب منها لا يهدأ ويُسكره بخمر النشوة والأحلام الرومانسية.
ظن أن عيناهما التقت فابتسم,سقط قناع التجهم السابق في لحظة مصالحة مع الحياة...الواقع أنها لم تكن تنظر له.
بدأ يكتفي بمشاهدتها مُجبراً نفسه علي التزام حد البعد حتي لا يُحرم مما رضت به الحياة منحه...رؤيتها بخلفية من موج وسحب وشمس تموت لتبعث من جديد,برؤية جديدة!
تحولت مراقبتها لعادة يجتاحه أثنائها الشجن والألم,مما يجعل عينيه في ذلك الوقت ممتلئة بدمع محبوس.
تأتي مع العصر,بكتاب و علبة عصير,مُداعبة بأصابعها ميدالية علي شكل راقص صوفي علي الطريقة المولوية يداه مرفوعتان للسماء ,مُفرغة في الوسط فراغات تُشكل عبارة الشيخ الأكبرابن عربي:"كل مُحب مشتاق ولو كان موصولاً",تقفز علي السور الحجري بنشاط بعد شعورها ببهجة البحر كأنه كان في انتظارها ويحييها بأمواجه,وتحضنهانسمات رقيقة تعبث بحنان في شعرها الُمتراقص حول وجهها فتبدو أمامه كحلم يتمني ألا تمتد يد الزمان لتوقظه مفزوعاً.
حتي يوم جاء بعد موعدها بدقائق,عبر الشارع وهو ينظر إليها قبل أن يتسمر في المنتصف عند الرصيف الذي يقسم الاتجاهين,كانت تمسك الموبايل موجهة عدسته الأمامية لوجهها,وبيدها تشير بحركات التعبير عند الصم والبكم,ركز علي شفتيها فوجدهما لا تتحركان أصابع يدها فقط هي ما تتكلم به.
تقلص وجهه من الألم تعاطفاً معها,وكزّ علي أسنانه غيظاً من فهمه وحدسه اللذان تخليا عنه.
توقف لأسبوع عن المجئ......ولاحظت رنا غيابه!
في هذا الأسبوع كان سجيناً لرغبته في تعلم لغة الإشارة بأسرع وقت,لجأ للإنترنت للكتب الإليكترونية والمرئيات البصرية,حفظ كل إشارة,وقرأ في علم النفس حتي يتفهم مشاعر الشخص العاجز وحالاته المختلفة,وكيف يتطور الأمر منذ الطفولة حتي البلوغ الفكري,وكيف تكون عقدة النقص عند ذوي العاهات الدائمة وكيف تبلور سلوكهم ورؤيتهم لأنفسهم وللآخرين وللحياة...وللحب.لم يرحم نفسه طوال الأسبوع ولم ينم إلا آخر يوم حتي يبدو أمامها بصورة مناسبة.
لم يصدق نفسه للحظات لما رآها تلك المرة تبتسم له هو,تلفت ورائه مرتين ثم عاد ونظر لها كانت ما زالت تبتسم له بحنو حُرم منه طوال العمر,تلك المرة أكيد! ولم تصدق نفسها لما أشار لها بما يعني"كيف حالك اليوم",كأنها تراه لأول مرة.
(ملحوظة في السيناريو سيكون حوارتهما مسجلة صوتياً,نابعة من دواخلهما كل واحد يسمع الآخر بلا كلام منطوق!)
-الحمد لله.
ثم اقتربت منه حتي جاورته واحتك جسدها به بعفوية وهي تجلس.
- هو إنت كمان أصم؟
-لأ
-أومال بتتكلم لغة الإشارة إزاي؟
-عشان إنتِ بتتكلميها!
مالت باسمة بجانب رأسها في خفة ودلال,وتابع مغالباً اضطرابه لمباغتتها المفاجئة-السعيدة-:
-بس فيه لغة تانية بتجمعنا إحنا الاتنين.
قلبت كفها ليبدو باطنه ظاهراً في حركة استفهامية.
-لغة القلوب!اسمك إيه بقي؟
-رنا
لما تضحك يتوقف الزمان السرمدي ويسمع صوت الانفجار الكبير الذي نشأت عنه الأرض,ويتساءل:هل نظرية التطور حقيقة يا داروين؟!لو كنت رأيتها لخجلت من نفسك لما تعتبرها هي وأنثي الشمبانزي من أصل واحد!هذا انفجاره الصغير ومنه سينشأ.
هامساً لنفسه بلا أي إشارة:
-صوت واحد بس كان نفسي نسمعه سوا...أم كلثوم!








م/1                                                         ل/د

حجرة طارق
-اضاءة خافتة توحي بجو من الهموم والقلق.
-يظهر طارق متقلباً علي سريره مؤرقاً,مستعيداً في نفسه صوت والده يوبخه في غلظة.
صوت الأب:
هاتفضل كده طول عمرك فاشل,وهاتضيع حياتك بإيدك وهاتبقي مسخة في في بق الناس ومش بعيد يضربوا بيك المثل في الخيبة,جاتك خيبة فيك وفي اللي جابتك في يوم واحد!اتفوه علي دي
خلفة!

مزج

م/2                                                   ل/د
حجرة رنا
-نفس الإضاءة تقريباً علي شرط أن تبرز صورة منظر طبيعي للبحر السكندري.
-تظهر رنا أمام المرآة في ثوب منزلي تتأمل وجهها في المرآة وتستعيد في مخيلتها (صور)من أحداث طفولتها وابتعاد الأطفال عنها ورفضهم انضمامها لهم في اللعب.
قطع

م/3                                                ن/خ
شارع الكورنيش
-الصخب والحركة لا يهدآن مما يزيد من توترها الحساس,وتبدو في عينيها نظرة الخوف وهي تعبر الشارع المزدحم بسيارت تسير بسرعة كأنها أمام ماراثون جنوني للتسابق علي شئ تجهله
-تضطرب أثناء العبور تتقدم وتتأخر في وجل,حتي تكاد سيارة أن تصدمها.
السائق:
ما تحاسبي يا غبية يا بنت......
قطع
م/4                                           ن/خ
أمام مجمع الكليات  النظرية
-يقف طارق وسط مجموعة شباب يبدو بوضوح أنه يكبرهم في السن لحد كبير,يبدو بينهم غريباً بملابسه البعيدة عن البهرجة وذقنه النابتة في إهمال.
شاب1(يمط حروفه ويرقق صوته ليتحدث بطريقة أقرب للفتيات,علي اعتبار أنها الطريقة الشبابية للكلام):
ده الواد حسن بتاع مظاهرات الثورة هربت منه خالص يا مان,ده أنا شايفه امبارح ماشي سرحان كده,سألته بتعمل إيه يا بوب,لقيته بيعد بلاط الممر 22 23 24
شاب2(ضاحكاً):
هم السابقون ونحن اللاحقون,بس خلي بالك العبط يليق عليه.
شاب3(ساخراً بمرارة بالغة) :
-يا راجل انت عشت الدور ولا إيه؟إنت مفكر نفسك في كلية حقوق بجد؟! إنت في مصر يا عم الحاج,يعني لا تعليم ولا حقوق! خلص أيامك السودا دي وبعد كده تطلع علي أي حتة برة عشان تعيش بني آدم,ولو ماعرفتش-وغالباً ده اللي هايحصل-وفضلت هنا ماتجيبش عيال عشان هايشيلوك ذنب اللي هايشوفوه في البلد دي زي ما بنشيل دلوقتي أهالينا,الله يرحمك يا معري يا اخويا فعلا:
"هذا جناه علي أبي     وما جنيت علي أحد"
في نفس القصيدة يقولك إيه بقي:
"فلا ذنب يا رب السماء علي امرئ     رأي منك ما لا يشتهي فتزندقا" الناس كفرانة من زمان يا أبا
ما سمعتش موال البرنس أحمد شيبة وهو بيقول(يغني بصوت عال):"الله يسامحك يا أبي جنيت عليا وأنا صبي,يا أبا يا أبا يا أبا مانصحتنيش يا أبا"
-يدوس علي سيجارته بحذاءه في غيظ من كل شئ,يبصق علي الأرض.
طارق لنفس الشاب:
-ولاعة والله يا كابتن لو سمحت.
-أحاديث كثيرة متداخلة يبدو خلالها طارق  محاط ببالونة كبيرة تعزله عن كل ما يحدث أو يقال حوله.
قطع
م/5                                                    ن/خ
أمام البحر
-تظهر علي الشاشة رواية( ميرامار)في يد رنا,تفتحها بعد أن تخرجها من حقيبة يد عليها صورة مايلي سايرس في شخصية هانامونتانا فتنتقل معها الكاميرا لبداية الصفحة الأولي-يُراعي أن تكون طبعة دار الشروق حيث الغلاف الأمامي اسم العنوان والخلفي صورةالكاتب العظيم نجيب محفوظ:"الأسكندرية أخيراً.الأسكندرية قطر الندي,نفثة السحابة البيضاء,مهبط الشعاع المغسول بماء السماء,وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع"
-نري طارق متمشياً علي الشاطئ واضعاً سماعات الموبايل في أذنيه فنسمع صوت محمد منير قادماً من مكان بعيد"سيبوني أتوه وحدي عطشان أنا عطشان,الدنيا توب قدي وما أطيقش أنا الغطيان مركب تاخدني لبلاد بعاد,ولُقي يصادفني من غير ميعاد,زمان ياخدني لمكان وعطشان أنا عطشان,صادفني كتير وشوش قلوب زي البيوت طريق ما بعرفهوش يوماتي عليه بفوت"تلفت انتباهه من علي بعد جلستها الملائكية وتبدو لعينيه مُحاطة بهالة كهالة القديسين في الأيقونات الدينية المسيحية.
يتخطاها وهو لا يحيد ببصره عنها بينما هي لا تراه,يجلس في قرب نسبي منها,حتي تسقط الشمس حمراء مذبوحة في البحر,ولما تهم بالقيام يحاول اللحاق بها:
طارق(في خجل):
لو سمحت يا آنسة هو الكتاب ده........
-تسير بلا أدني اهتمام كأنه طيف يسير خلفها,يعود لمجلسه ووجهه متضرج بحمرة الإحراج.

-فوتومونتاج لجلسات مختلفة بنفس الهيئة,ومن بينها نلمح رنا تنظر له خفية في خجل أنثوي يأخذ القلوب.
قطع

م/6                                                  ن/خ
أمام البحر
-كالمشهد السابق,لكن رنا تبدو سارحة وعلي ركبتيها الظاهرتين من تحت جيب وردي, كتاب فوائح الجمال وفواتح الجلال لنجم الدين كبري تحقيق أستاذنا يوسف زيدان مقلوباً علي وجهه,وبين يديها ميدالية تلفها بين أصابعها في حركة آلية علي شكل راقص صوفي علي الطريقة المولوية بها فراغات في الوسط مُشكلة عبارة الشيخ الأكبر ابن عربي:"كل محب مشتاق ولو كان موصولاً",مكان طارق فارغاً ونشعر أن هذا هو ما يُحزنها تنظر للساعة وتمضي.
قطع
م/7                                             ل/د
 حجرة طارق
-مُنكباً علي جهاز اللاب توب في تعب بادٍ وتظهر عناوين كتب إليكترونية كلها عن علم النفس كـ:معني الحياة لألفريد أدلر,مهارات الناس لروبرت بولتون,علم نفس تقدير الذات  لناثانيل براند,موسوعة علم النفس لعبد المنعم الحفني,المخ الأنثوي لوان بريزنداين أبعاد الشخصية هانز إيزنك.
قطع
فلاش باك
م/8                                        ن/خ
-طارق يعبر الشارع لمجلسه اليومي بجوار رنا وفجأة ويتسمر في منتصفه,وعلي وجهه علامات الصدمة والألم.
-تنتقل الكاميرا لوجه رنا وهي تضع الكاميرا الأمامية للموبايل في واجهتها بيد وبالأخري تتكلم مع المتصل بلغة الإشارة.
-يعود طارق متثاقلاً.
قطع
م/9                                          ل/د
عودة لحجرة طارق
-نراه وهو يقلد حركات الإشارة عند الصم,وتقترب الكاميرا علي يديه المقبوضتين في وضع متقابل رافعاً وخافضاً الإبهامين في نفس الوقت,وهي حركة تعني "المُحب".
قطع
م/10                                          ن/خ
البحر
-يظهر طارق حليق اللحية,ناظراً لكفيه مُنشطاً إياهما علي الحركة,يجلس علي مقربة من رنا,التي تفاجئه بابتسامة لم يتوقعها,فيشير لها بأصابعه بما يعني"كيف حالك اليوم"تبدو الصدمة في عينيها,وما تلبث أن تقترب منه وتجلس بجواره,و يبدآن في الحديث بالإشارة مع الأخذ في الاعتبار أن الصوتين سيسجلان ويُسمعان في الفيلم صادران من دواخل نفسهما:
رنا:
-هو إنت كمان أصم؟
طارق:
لأ!
رنا:
أومال بتتكلم لغة الإشارة إزاي؟
طارق:عشان إنتي بتتكلميها!
-مالت بجانب رأسها الأيمن فانسدل شعرها بجانبها حاملاً نفحة عطر اصطدمت به
طارق:
بس فيه لغة تانية بتجمعنا!
قلبت يدها متسائلة
طارق:
لغة القلوب!اسمك إيه بقي؟
رنا(باسمة هيام واضح):
رنا
قطع
م/11                                          ل/خ

شرفة منزل رنا
-تتحدث بلغة الإشارة لطارق الذي يظهر علي شاشة هاتفها,ويضحكان في بهجة وتنتقل الكاميرا للداخل تدريجياً حتي تثبت علي صورة البحر الذي رسمت عليه رنا خطوط ساذجة لشخصين يجلسان علي سوره الحجري,وكتبت علي صورة الفتي طارق وعلي صورة البنت رنا
-النهاية-"


الجزء الأول
ستون متراً
1
ليت الدنيا هي ضحكة رنا وحسب,الضحكة التي يتوقف لها الزمان السرمدي وتجعل طارق يسمع صوت الانفجار الكبير,كأنه شاهد علي خلق الدنيا,إنما هي لغز عجيب لا حل له,لا التفسير الديني طمأن الإنسان ولا التفسير العلمي أكد له تصوراته.
بعد أن كان تقابلهما يومياَ في ميعاد ضمني اتفقا عليه بلا كلام,أصبح ميعاد متفق عليه,ينتظرانه كل يوم,في هذا الموعد فقط تتحقق آدميتهما ويصبح كل منهما إنساناً مكتمل النفس والروح,اشتاق يوماً لملامستها ومداعبتها مثلما يري العشاق يفعلون أسفل السور بين الصخور الصلدة,ولم تكن هي أقل شوقاً لمداعباته,حين عرض عليها النزول بين الصخور,أدركت مراده ولم تتمنع,ساعدها علي النزول واتخذا مكانهما,وبدأ يتحسس خصرها وهو ملتصق بها من الأمام يطبع علي خدها الناعم القُبل.
-ليس في الدنيا ما هو أجمل من الحب يا طارق.
-ولا في الآخرة!رغم كل النعم التي يحلم بها الناس في الجنة,يبقي الحب وحده هو الجنة الحقيقية,ما أتعس إنسان كُتب له الخلود ولم يكتب له الحب.
-لا أعتقد أن الإنسان سيخلد في الجنة ولا في النار الخلود لله وحده
-الخلود ليس الأبدية اللانهائية كما يظن الناس,الخلود في اللغة هو المكوث لزمن طويل في مكان ما,أنا عن نفسي لا أريده ولا أتمناه تحت أي ظرف,حينها ستفقد بشريتي معناها ولن أصبح الشخص الذي عشته في الدنيا,بالإضافة إنني لا أعول كثيراً علي مسألة الحساب هذه,أشعر أن فيها ظلم لا يعقل لشخص عاش عقود قليلة ثم يمكث في الجحيم أضعاف ما عاش في الدنيا!هل تصدقي؟!أعرف أناس بلغ بهم المرض النفسي لدرجة أنهم يريدون دخول النعيم ليستمتعوا بصرخات المعذبين في الجحيم...ما الذي جعلنا نتوقف عن التقبيل والتحسيس؟!هلمي لجنتنا يا حوريتي!
 جنّ عليهما الليل بين الصخور.اضطرا للنهوض بسرعة لمكالمة وردت من أم رنا تؤنبها علي تأخيرها.
قالت وهي تودعه:
-سرقنا الوقت؟
-الوقت هو من سرقنا؟!لا وحياة عينيك نحن من سرقنا الوقت وأكلنا الحياة في جوفينا
-طارق...أرجوك لا تتأخر في التقدم لي كما وعدت,أمي لا حظت تأخيري اليومي وبدأت تتساءل عما يؤخرني بلهجة لا تريحني.
انتهز وجود أخته المتزوجة التي طالما ألحت عليه في الارتباط في المنزل وبعد الغداء وهم جلوس في الصالة بعد أن مهدت له أمه وأخته الكلام مع أبيه,نظر له مطولاً وهم بقول شيئاً لكن أبيه عاجله:
-أخبرتاني بالموضوع,قالوا إنها صماء وبكماء؟هل جننت أم ماذا؟هل تريد أن تنجب لي حفيداً يرث من أمه عاهتها,وكليتك ماذا ستفعل بها يا فالح تعديت الثلاثين ومازلت فيها!كيف ستصرف علي نفسك وتدبر أمور زواجك(اختلس النظر لزوجته وابنته)أم تظن أن الزواج ليس إلا النوم فوق السراير(أشعل سيجارة)ثم أخبرني,هل هي جميلة للحد الذي تقبلها به صماء وبكماء,وقبل ذلك كيف تتحدثان,أم عرفتها علي الإنترنت كما يفعل شباب الفيس بوك وتويتر التافه؟
-تعلمت من أجلها لغة الإشارة ولم أعرفها علي الانترنت,وأحبها وسأتزوجها رغم أي مانع مهما كان ولن يثنيني عنها أي شئ,أما عن المخروبة التي تسمونها جامعة فسأتركها غير آسف إلا علي سنوات عمري التي ضاعت فيها وسأعمل ,وسأدبر تكاليف الزواج ولو اضطررت لبيع ذراعي أو ساقي أو حتي عيني.
نظر له الأب مبهوتاً,تكلم حازماً قاطعاً واثقاً كما لم يتكلم أبداً,وعيناه ملتمعة بملعة إصرار مخيفة,حتي خُيل له أنه لو اعترضه ربما تعدي عليه!ولم تكن أمه وأخته أقل اندهاشاً
-وافق يا بابا وادعُ له بالذرية الصالحة.
-دعني أفرح بولدي الوحيد وحقق له مُناه
-لكنه يقول أنه سيترك الكلية,لن يحصل علي شهادة يا أم طارق!
قلبه رقص من الفرحة,المشكلة الآن في الزفت الكلية.
-إنها ليست إلا شهادة زور أنا في غني عنها
-افعل ما بدا لك,أنت من ستتحمل مسئولية أفعالك.
رتبت رنا مع أمها زيارة أسرة طارق,بكت الأم وتمنت لو كان أبوها حياً يقف معها,فبكت رنا معها,وتذكرت أبيها الذي فارق الحياة قبل أربع سنوات في عز اضطرابات الثورة مريضاً بالقلب.
لم تشعر رنا بفظاعة عاهتها إلا بعد وفاته,انقطعت الصلة بينها وبين الدنيا,أمها لم تكن لذلك الحين أتقنت لغة الإشارة,وزميلاتها في المدرسة تفرقت بهن السبل وأصبحت مكالماتهن متباعدة,يوم موته,بكت ولطمت حتي أغمي عليها منهارة,كان منظر فتاة بكماء تتلوي من الأم في وسط طرقات المستشفي وهي تبكي وتئن كحيوان أعجم لا يفهم له مراد,مدر لدمع الممرضات اللواتي تحلقن حولها يحاولن تهدئتها,تمنت لو تنفس عن ألمها بالصراخ المدوي"بابا!بابا! لماذا تركتني؟لماذا يارب أخذت بابا مني؟أنا محتاجة له,رده لي لأجل خاطري,لأجل خاطر بنت مسكينة حرمتها من السمع والكلام,وحمدتك وقالت قدر الله وماشاء فعل,لا تيمتني يارب,أعد لي بابا أو خذني معه"ثم غابت عن الوعي...
حين عادوا من الزيارة زرغدت رجاء:
-البنت مثل القمر وقلبي انفتح لها يا أخي,الآن فقط عرفت سر تصميمك المخيف
تنهدت الأم:
-صدق من قال الحلو لا يكتمل,ما فهمنا منها شيئاً إلا ابتسامة لا أدري أهي ابتسامة كسوف أم قبول أم ترحيب؟كيف سنتعامل معها يابني؟
استاء طارق ولم يجد ما يجيب به
اعترضت سماح مقاطعة تفكيره في إجابة:
-لا داعي لهذا الكلام الآن ياماما,والله إني أشعر أن السعادة مكتوبة له مع هذه البنت.
أخيراً تكلم الأب:
-قرأنا الفاتحة والحمد لله,أنت تعرف الحالة وما فيها,ليس عندي إلا مبلغ ادخرته لك,سأقدم لك به علي شقة للسكن,أما الباقي فلن تجد عندي لك إلا الدعاء أن يعينك الله عليه...
خرج طارق للشرفة المُطلة علي جزء مظلم من جامعة الأسكندرية,وبصق ناحيتها بكل قوته متمثلاً فيها النظام اللاتعليمي كله,لعنها من قلبها وتحسر علي سنواته الضائعة فيها,وكاد يبكي شفقة علي نفسه وحياته التي اعتصرتها الأزمات.
دخل عليه أبيه بعد مكالمة أجراها مع صديق سمسار له:
-المبلغ لن يشتري إلا شقة صغيرة...ستون متراً.
هذا اللقاء علي الكورنيش اليوم له طعم أجمل,أنها الآن خطيبته,كل دقيقة يريان لبعضهما الدبل,يتأمل كل واحد منهما اسمه وهو يحيط بإصبع الآخر...أمسك طارق يدها فقبلها,وفعلت هي المثل,ولولا الخوف من الناس لاحتضنا بعضهما أمام المارة.
وضعت رنا ذراعها في ذراعه وطبطبت علي فخذه:
-جسدي يكفيه متراً واحداً ليكون حراً مادام حبك في قلبي وأنت بجواري.
عاد وقبل يدها.
ذهبت الأسرتان لشارع محمد نجيب حيث تقع الشقة التي ستجمع الولد والبنت,أنهت أم رنا الموضوع"مادام طارق سيصونها ويسعدها فكوخ معه أفضل من قصر لا مثيل له مع رجل لن تجد معه السعادة"خرجوا جميعاً وبقي طارق ورنا وحدهما في الشقة,كادت تطير من السعادة,ظلت تجري في المساحات الصغيرة,حجرتان وصالة,بمطبخ وحمام.
-هنا حجرتنا,وهناك حجرة الأطفال,أتريد ولداً أم بنتاً؟
-لا أريد أي شئ من الدنيا سواك
-الحمام لا يحتاج لترباس من سيجلس علي المرحاض سيغلق الباب بركبتيه! لا سيحتاج ترباس حين الاستحمام.
-ومن قال أن أحدنا سيحتاج ترباس حين الاستحمام,سنكون كلانا في الداخل معاً,لن يتحمم أحدنا وحده بعد اليوم.
بان الكسوف علي وجهها الجميل فزاده مرآه لذة.
-ما رأيك لنجرب الآن.
لم ينتظر الإجابة,أغلق الشقة بالمفتاح,وجذبها ناحية الحمام,وهي تتمنع عليه بدلال:
-عيب لم نتزوج بعد!
-لقد تزوجنا بشريعة الحب,تعالي لا تخافي.
جسدها العاري لم يثره جنسياً بقدر ما أثاره فنياً,يا سبحان الله,لا تقدر الطبيعة علي إتقان تحفة فنية كتلك وحدها لا,لابد من يد خفية تصوغ من خلالها روائع الجمال,النهد مكور مشدود منتصب الحلمات الوردية,الردف ثقيل جذاب مدور ضغط عليه بأصبعه فشعر أنه يغرز في قطعة جيلي شهية,فطبع عليه قبلة وعضه عضة خفيفة ضحكت لها رنا,خلع ملابسه فرأت هي قضيبه المنتصب ,أمسكت به بين يديها في شهوة,ووضعته بين شفتيها,فأصدر "آه" غريبة من نوعها,آه اللذة والمتعة المختبئة في ألذ ما خلقه الله لمتعة الإنسان,أدخلته في فمها وبدأت تمص.تأكد أنها مشاهدة جيدة للأفلام الجنسية,وأن قراءاتها تشمل الجنس وفنونه.
قبلها قبلة لسانية طويلة,ولبس كلاهما ملابسه ولم يستحما...
عرفت رنا بعد تلك الممارسة الفموية,مدي صدق ما ورد في كتب التراث الإيروتيكية وقصص ألف ليلة وليلة من التهاب الحب وتمكنه من القلب حتي الموت بعد الوصال الجنسي مع المحبوب.
تمتاز طيور الجنة بأنها تزين أعشاشها بما يتاح لها من زهور أو أي مادة تقع عليها وتصلح لإعطاء شكل جمالي للعش الصغير,والمحبون هم طيور الجنة البشرية,لا أرجل لهم تربطهم بالأرض ووساخاتها,لهم قلوب مجنحة يحلقون بها في سماء الحب,اهتمت رنا أول ما اهتمت بالزينة,وروود وفازات ولوح فنية وأصص مزروعات علي سور الشرفة,هكذا حلمت دوماً ببيتها منذ طفولتها,باع طارق اللاب توب والمحمول واكتفي بهاتف رخيص جدا,أرادت رنا هي الأخري أن تبيع هاتفها وكمبيوترها وخاتمها الذهبي,لكنه رفض بشدة ولم يسمح لها حتي بتكرار الموضوع,محتجاً أنه لن يسمح لها أن تتخلي عن أي شئ تملكه,لكنها من ورائه وعن طريق قريب لها باعتهم وأعطت ثمنهم له,ثار وغضب لأول مرة منذ علاقتهما,وأخذ يشير لها ويده تهتز من فرط الانفعال؛ما تصورت أن مشاركته تضحياته ستثير كل تلك العاصفة:
-الأهون علي أن أجوع ولا أدعك تحرمين من أدوات تسليتك واتصالك مع العالم.
ندم علي قول تلك الجملة؛لشبهة جرحها بها,ومع ذلك أكمل:
-زواجي منك كان من المفروض أن يمنحك لا أن يسلب منكِ
كانا في صالة بيتها الصغيرة,أمها راقدة متعبة علي السرير,بين الصحو والمنام.
-لو أرادت أمك الحديث معك,فكيف ستكلمك؟
ندم مرة أخري,وكان قرر من قبل ألا يشير من قريب ولا من بعيد لعاهتها لكن غضبه أنساه نفسه.
انحدرت علي خدها دمعتان,أذابا مقته للفقر والحاجة والعاهة والدنيا ,وحل محله الحب...الحب لرنا.
نزل علي ركبتيه:
-رنا,تمنيت منحك الدنيا في راحة يدك هذه(وقبلها)وها أنتِ تبيعين خاتمك الوحيد والكمبيوتر والموبايل.
-لا أريد من الدنيا إلاك,أنت دنياي وما عداك لا حاجة لي به.
قام وأخذ رأسها في حضنه,يمسه مساً  رقيقاً بوجنتيه,ويداعب خدها بأصابعه,ويمسح الدموع عن عينيها.
-رفع رأسها ناحيته لتري إشاراته:
-سامحيني.
-إنني لا أزعل منك مهما فعلت,الحب لم يترك في قلبي مكان لأي شعور سلبي مهما كان,الدمعتان كانتا فقط رد فعل علي إيذاءك لهذا الحب.
شربا آخر بقية من الشاي وقاما للشرفة.أيقظته رنا من سرحانه بالضغط علي ذراعه لينتبه لها:
-فيم أنت سارح؟
-لنقيم بهذا المال وبما سأشارك به فرح صغير,ولنشتري لك فستان أبيض جميل تتألقين فيه,ولتذهبين للكوافير
-هل أنت جاد؟
-وهل في هذا مزاح؟!
حقق لها أمنية حياتها التي ظنت أن قلة المال ستحرمها منها,فستان أبيض جميل وليلة حلوة وهو بجوارها ,ويلتقطان الصور وهما يضحكان في بهجة.أظهرت الممانعة,فوجدت منه تصميم مخيف كعادته من يوم عرفها,لو ظن أن شئ فيه سعادتها,لا يتراجع عنه كأن فيه موته,جرت علي حجرة أمها تخبرها فرحة أنهما سيقيمان فرحاً سترتدي فيه فستان العروسة.
في مصنع الرخام المتهالك في العامرية رأي طارق مآسِ جعلت مشكلاته تبدو تافهة بالمقارنة بمشكلات العمال فيه,خاف طارق أن يتحول هو أيضاً لمأساة جديدة تنضم لهم,أقل ما يصيبك في هذا العمل"الفتاق",وتتدرج خطورة الحوادث لتنتهي ببتر الأطراف أو الموت!
يغضب عوض الأحمر لو ناداه أحد العمال باسمه المجرد,فلابد أن ينادونه بالأستاذ عوض احتراماً لنيله ليسانس الحقوق"لولا الواسطة والظروف الاجتماعية والاقتصادية المنيلة,لكنت الآن وكيل نيابة لا تحلمون بالسلام عليه يا أولاد العاهرة","الكوماندا" نفسه,رئيس العمال لا يناديه إلا بالأستاذ ويظهر له سخريته الكامنة في طريقة نطقه لهذا اللقب.
تكبره عليهم يحمل في داخله جرحاً عميقاً من الحياة لا يهدأ ولا علاج له"اللعنة عليهم جميعاً هؤلاء المعفنين الجهلة,واللعنة قبلاً علي حظي الأسود الذي جعل زميل دراستي الساقط الحاصل علي مقبول بطلوع الروح يُعين,وأنا الحاصل علي جيد جداَ الذي نشر كتاباً في القانون الجنائي بعد تخرجه مباشرة يرميني فقر جيبي ومرض زوجتي في هذا المكان الحقير,عامل رخام...أنا الذي حلم أبي يوماً أن يراني علي منصة القضاء! يا لقسوة الزمن علي من يدوسه بأقداره"
عرف أيضاً سعد غزال,أو كما يطلق عليه بين زملائه"الغزو"شاب في سنه تخرج من كلية الآداب قسم الجغرافيا,يداري آلامه من الزواج بفتاة قبيحة لم يجد غيرها تقبل به,بحكي أساطير عن مغامراته العاطفية والجنسية,كل امرأة دعته للنوم معها,وكل فتاة أحبته وغازلته,سخر منه سيد الفولي وشخر في وجهه"أنا خائف لتكون نمت مع أمي وتطلع أنت أبي في نهاية الفيلم"وما أوقفته ضحكات العمال عن الاستفاضة في حكي التفاصيل,ولأول مرة مرة منذ مجئ طارق يضحك من قلبه.يركز جداً لما يتحدث عن النهود,يصف كيف يداعبها وكيف تتوسل له المرأة ألا يتوقف عن المداعبة بأصابعه السحرية,ويشك قلبه أن زوجته-المرأة الوحيدة التي ضاجعها في حياته-ممسوحة الصدر.
كانا من المدعوين في الفرح,جلس الغزو يجيل بناظريه بين المدعوات متأملاً رشاقة القدود وملاحة الوجوه,من مقعده بجوار العروس رأي الأحمر يرفع له إبهامة علامة علي حسن اختياره,همس الأحمر للغزو"ما كامل إلا محمد بن عبد الله,قمر بس من غير لسان وودان",أيد الغزو كلامه بهزة من رأسه وطافت في رأسه خيالات حياة أخري كان يحلم بعيشها مع امرأة...امرأة حقيقية.
رقصت رنا بين ذراعي طارق علي إيقاع صادر من نفسها,وبتلقائية وجد نفسه طيعاً في يدها يتراوح مع حركاتها,مستسلماً لتنقلاتها,رقصة بلا موسيقي ولا آلات,رقصة صدرت عن قلبين جمعهما أسمي ما في الوجود,لف يديه حول خصرها ووضعت يديها خلف ظهره,شحب الوجود وضاع,لم يبق فيه سواهما,تحول عامل الرخام إلي ملك علي الدنيا لا له فيها,ولا عليه لها,تجرد من الماضي والمستقبل وغنم من الحاضر لذته بين ذراعيها.
سمعا بعضهما بلا إشارة,كما يسمعانها بالإشارة:
-ليت الزمن يتوقف عند هذا الحد,لو مت الآن سأكون أسعد من عاش ومن مات.
شددت من احتضانها.
-بعد الشر عليك,سنحيا حياة طويلة سعيدة يملؤها الحب,وترفرف عليها السعادة ويأتيها الرغد من كل مكان.
-"يا ريت في كلمة أكتر من حبيبي".
-يا ريت...
...هي فعلاً ليلة العمر.
شعرت به داخلها,شعرت بأن الجزء الناقص في جسدها اكتمل,الجسد الذي كانت تخافه ككل بنت في المجتمع المتخلف العاجز عن فهم الحياة,تعيش حتي تلك الليلة بهاجس "الغشاء","الفتحة","الدم","الشرف المزيف",لم يفكر طارق حتي في رؤية نقاط الدم,المهووس بها الرجال كدليل للعذرية"العذرية التي ما اشتد ذكرها ولا شاع أمرها إلا مع فقد الرجال أنفسهم لشرفهم في معركة الحياة,فتحولوا للطرف الأضعف واختصروه في موطن عفته...الدم!يا للبشرية البغيضة وتاريخها الأسود مع الدم,يا لصور التدين الوحشية التي جعلت الرب هو الداعي للسفك,ولصور التخلف التي جعلت مصير البنت في نقطة دم قد لا تنزل منها لألف سبب,بعيداً عن التجارب الجنسية,بل قد لا تكون تمتلك الشئ المدعو"غشاء بكارة"أصلاً,أو يتم الإيلاج والفتح المبين للمسكينة الخائفة البريئة ولا يري منها النقطة المطلوبة,لا رنا أكبر من كل هذا الهراء المقرف,رنا هي أنا,هل أقبل أن يفتش أحدهم عن شرفي في جسدي؟!إنها نعمة الله عليّ وتكريمها واجب لتدوم ولا تضيع كما يضيع مني كل شئ"حرث أرضها ووضع نطفته في رحمها,أرضاها هي قبل أن يرضي نفسه,وتركها غائمة في دنيا من المتعة الحسية طفت علي روحها فغرقت في أحلام لذيذة استمرت بعد استيقاظها.
...هي فعلاً ليلة العمر.

مر أسبوع مكتظ بالعسل والشهد وكل ما هو جميل,بين عناق ومداعبات وقبلات مرت الساعات تلو الساعات,انتهت الإجازة,وعليه العودة للعمل,ليطعمها ويطعم نفسه,يكفي ما اقترضه من أخته ليعوض غيابه,وما استغنت عنه أمه من أثاث البيت القديم ليؤسس بيته,أما كان من الرائع أن يعوضنا الله عن سقوطنا من الجنة بسقوط الثمر علينا بلا هز النخل...هل كنا في الجنة يوماَ؟!
مدهشة هي رنا,كل يوم امرأة جديدة,كل يوم تجربة جنسية جديدة,أين تعلمت كل هذا؟!
قبل نزوله للعمل وبعد أن أغلقت رنا الباب,توجه ناحية الشقة المقابلة,لهم,رأي من يومين شابة تكبر رنا ببضع سنوات تتوجه إليها,وحدس أن عائلة لابد تسكنها,تسمر علي الباب...ياااااه!من شهور لم يسمع الأغنية الصادرة من الداخل,من يوم باع ما يملك من أجهزة إليكترونية وحرم من المشاهدة والسماع والقراءة"أداجيو"للارا فابيان,وقف ساهماً يستمع في سكون,من الأغنيات التي تمني سماعها ورنا في حضنه وهو في حضنها"

I don't know where to find you
I don't know how to reach you
I hear your voice in the wind
I feel you under my skin
Within my heart and my soul
I wait for you
Adagio
All of these nights without you
All of my dreams surround you
I see and I touch your face
I fall into your embrace
When the time is right I know
You'll be in my arms
Adagio
I close my eyes and I find a way
No need for me to pray
I've walked so far
I've fought so hard
Nothing more to explain
I know all that remains
Is a piano that plays
If you know where to find me
If you know how to reach me
Before this light fades away
Before I run out of faith
Be the only man to say
That you'll hear my heart
That you'll give your life
Forever you'll stay
Don't let this light fade away
Don't let me run out of faith
Be the only man to say
That you believe, make me believe
You won't let go
Adagio


رن الجرس,فواجهه وجه محاذر من فرجة صغيرة في الباب المغلق بسلسلة في الجزء العلوي من الباب,تساءلت العينان المرتابة:
-ماذا تريد؟
الفرجة أظهرت جزء من لوحة للسيدة العذراء تحمل بين يديها المسيح رضيعاً.
-إنني جاركم في الشقة المقابلة...عريس جديد.
-أهلاً
قالها وقد انفرجت أساريره نوعاً
-هل من خدمة؟
افتعل ضحكة وهو يقول:
-ألا يمكنك فتح الباب,لا تخف لن أخطف الكنبة وأجري.
فتح الباب فظهرت الصورة كاملة.
-كنت شاهدت فتاة تدخل هنا من يومين واعتقدت أنها تسكن هنا...إن زوجتي صماء بكماء ولو تفضلت بزيارتها وأنا في العمل للإطمئنان عليها وإيناسها دون أن تخبرها بمجيئي حتي لا تجرحها فسأكون شاكراً جداً.
-وكيف ستكلمها زوجتي؟
-سأملي عليها ورقة تقدمها لها وليتحدثا بالكتابة...هل هي هنا؟
ناداها"جانيت...تعالي"
جاءت ناظرة له في تساؤل فوضح لها الأمر,فتجلي في عينيها الترحيب.
-آسف يا مدام سأزعجك.
-وأي إزعاج إن الجار الجار ونحن هنا أقرب لبعضنا من أهلنا
قالتها في نبرة أسي,وتراجعت للداخل
-شكراً لك يا أستاذ...
مد له يده:
-علي اسمي علي
رنت جانيت الجرس فأضاءت الأنوار في حجرة النوم,فتحت رنا وطالعها وجه أبيض رقيق القسمات مبتسم في مودة"أنا جارتك في الشقة المقابلة وأحببت أن أتعرف عليكِ"دعتها رنا بإشارة منها للدخول مرحبة,دخلت جانيت ومعها كراس صغير لزوم المحادثة,كما انفتح قلب رجاء لرنا انفتح قلب جانيت أيضاً,يكفي تلك النظرة البريئة الصادرة من عين صافية في وجه ملائكي مزين بابتسامة تخلب الأرواح,أثناء شربهما الشاي بالنعاع وسط عدة جمل تعريفية ومجاملات نسائية حول الأناقة الشخصية والمنزلية,لاحظت رنا أن جانيت لا تتوقف عن ملامسة الصليب الصغير المعلق في رقبتها,كتبت:
-أكيد هو هدية من شخص عزيز...
استفهمت جانيت بيدها عما تعنيه,وضحكت لما أشارت رنا للصليب.
-هدية من زوجي علي
حاولت إخفاء استغرابها,لكن إيماءات وجهها فضحتها
-إنها حكاية طويلة...سأختصرها لك,أنا من البحيرة جئت الأسكندرية لألتحق بكلية التجارة,عرفت في المجمع زوجي المسلم الذي من المفترض أنه يدرس الفلسفة في كلية الآداب,نما الحب بيننا عن طريق الجلسات والنقاشات,فوجدنا حبنا ببساطة كماء ونحن السمك لو حرمنا منه سنموت,بعد تخرجنا اتفقنا علي الزواج,لو طرحت هذا الأمر علي أهلي ذوي الأصول الصعيدية,سيقتلونني فوراً,هربت منهم وتركت لهم ورقة,أخبرهم فيها بما نويت فعله,وجئت للإقامة مع زوجي في الأسكندرية في خوف من وصول أقاربي لنا وحينها كما تعلمين في تلك الأمور وتقرأين في الأخبار...أنا لست نادمة علي اختياري,ذيلت نهاية الورقة التي وضعتها في حجرتي بما ورد في العهد القديم"فقال آدم":هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي.هذه تدعي امرأة لأنها من امرئ أخذت".لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته.ويكونان جسداً واحداً"... والمرأة أيضاً تفعل كالرجل...
آخر جملة كتبتها قبل أن تودعها لتذهب لابنتها الصغيرة النائمة في سريرها"أنا سعيدة جداً أني تعرفت عليك,أنا هنا وحيدة ولا جليس معي طوال النهار وقسم من الليل الموحش,وأشعر أننا سنصبح كأختين"لا يختلف حال رنا عن جانيت قبلتها رنا مودعة أمام الباب وعادت كل منهما لشقتها.
حين عاد طارق أبدي إعجابه بما سمع:
-كقصص الأفلام!
-الحب أقوي من الدين والأهل,بل لا دين ولا أهل من غير حب.
أخذت الصلات تنمو بين الشقتين مع مرور الوقت,تعلمت جانيت من رنا وطارق العديد من الإشارت التي سهلت لها التواصل مع رنا وقللت لحد ما من كتابة كل شئ,تقريباً طوال الفترة التي يغيبها طارق تقضيها مع جانيت,وجانيت سعيدة بصديقتها الوحيدة,مع انقضاء عام أصبحت أختها الصغيرة,يتعاونان في شئون المنزل ويهتمان بأمر لارا الصغيرة,وتتسلي رنا بمشاهدة الأفلام والبرامج المترجمة والدخول علي الانترنت في شقة جانيت المرفهة جداً بالمقارنة بشقة رنا التي ليس فيها إلا راديو صغير قديم كان ملكاً لطارق قبل الزواج!!
انتقلت الصداقة عبر الزوجتين للزوجين,أحياناً يعود طارق فلا يجد رنا في الشقة,يذهب لها ويلتقي بعلي,كلمة في كلمة بدأت تتكون صداقة.
-إنك معجب بلارا فابيان لدرجة مرضية,لا ينقطع صوتها من البيت وصورتها في الصالة تكاد تغطي الحائط.
نظر لصورتها, مستلقية علي بطنها رافعة قدميها لأعلي مستندة علي معصمها الأيسر,ترتدي فستان أسود يتماشي مع الأريكة القطيفة المستلقية عليها,علي شفتيها مشروع ابتسامة,لا تبين إن كانت أساسات أم أنقاض.
-أجل "Je suis malade"...مرض جميل الصورة والصوت...جادلت زوجتي كثيراً لتسمية الطفلة علي اسمها,كانت تريد تسميتها كريمة علي اسم أمها.لارا فابيان من نعم الله علي إنسان القرن الواحد و العشرين,تغسل عيوننا وآذاننا من وجوه وخطب أهل السياسة والحرب القبيحة,أرشح لارا فابيان لرئاسة الكوكب؛ليعم السلام وتنتهي المأساة.
-إنني أشبهها لحد كبير بماجدة الرومي
-والسيدة ماجدة أيضاً لا تقل عنها عظمة فنية,ليتبادلا رئاسة الكوكب كل أربع سنوات ولتكن الفلسفة الوحيدة المعترف بها:
-إيه العمل في الوقت ده يا صديق
غير إننا عند افتراق الطريق
نبص قدامنا علي شمس أحلامنا
نلقاها بتشق السحاب الغميق
تنهد من قلبه المكسو بشواظ من نار الفلسفة التي غواها:
-يا سلام يا ست ماجدة...
ظهرت رنا في أول الطرقة الصغيرة الضيقة تبتسم في مودة لهما,فلامس بأطراف أصابعه هامته محيياً في ترحيب.
.......
توقف طارق عن شرب السجائر-يستقبل العزومات بصدر رحب طبعاً- والجلوس علي المقاهي وابتياع الملابس الجديدة؛ ليشتري لرنا قطعة شيكولاتة فاخرة,أو يدخل عليها بعلبة جاتوه أو يحوش معها لتشتري لنفسها هاتف جديد عالي الإمكانيات,حرم نفسه من أي رفاهية ممكنة,لدرجة ضنه تلميع حذائه أو حلاقة ذقنه وشعره عند حلاق!نفي نفسه حتي يقلل قدر الإمكان من حرمانها.
-جلسة حشيش لن تغرم فيها مليماً واحدا,قطعة حلوة حصل عليها عوض الأحمر وعزمك عليها معي.
هكذا همس له الغزو في الثواني التي يتوقف فيها صاروخ التقطيع عن الدوران محدثاً عاصفة غبار في وجهه,وصوت يثير المخاوف الكامنة.استقبل طارق العرض بارتياح.
الحشيش يشبه عتلة حديد صلبة توضع في قلب تروس العقل المتشابكة الدائرة في المخ والتفكير,توقفها فيهدأ المتعاطي,لا يفكر ولا يشعر إلا بخواء كبير يشكله كيفما شاء,صفاء ذهني نادر يسببه الحشيش,يجلو عن الروح أدرانها ويعود الإنسان مرة أخري لحالته البدائية الطبيعية بدون تعقيدات الحضارة والتربية والتنميطات وأساليب البرمجة التي تبرمج عقول البشر,الجسد يهدئ الروح ويحلقان في جو من اللامبالاة.
أخرج الغزو هاتفه الموصل بواي فاي من عند الجيران,يبحث عن أغنية محمد رشدي"قطر الحياة" لكنه عجز عن التوصل إليها لسطله.
هتف عوض الأحمر وهو يخرج الدخان:
-اسمع ...اكتب محمد رشدي 2015وستجدها!
-لكن رشدي مات من زمان يا أستاذ عوض.
-لا ياراجل؟!...لم يخبرني أحد!
-وجدتها...
علي خلفية الأغنية,تراجع طارق الجالس علي الأرض بظهره للوراء ليريحه علي الكنبة وقال ساخراً:
-منذ قيام ثورة 25يناير حتي اليوم ,المشروع الوحيد المثير للجدل والاهتمام,هو تقنين تجارة الحشيش"الله.الوطن.الكيف" صدقوا في الثالثة والبقية الكل فيها كذاب.
تمادي في السخرية,حدق في وجه عوض:
-اسمع يا عوض,أنت لست أستاذاً ولا يحزنون,إنني لا أعترف بأي شهادة مصرية ولا حتي شهادة "لا إله إلا الله"...إنه مجتمع كذاب فاسد شهاداته كلها زور,ملعونة مؤسساتكم من ساسها لرأسها.
الحشيش يطلب الصمت مع طارق لا كلام ولا سماع,توقف عمل المخ بنجاح.جري علي السرير بجوار رنا النائمة,حضنها من الخلف وطلعت الشمس وهو يحيطها بذراعيه,صحت وظلت في السرير فترة مستمتعة بالدفء المنبعث من جسده الملتصق بها.
النهار نهار شم النسيم,بعد محايلة رضي طارق أن يذهبا مع علي وجانيت؛لتمضيته علي البحر سوياً,استيقظ طارق من ليلته الثقيلة السابقة ومع مداعبات رنا بدأت تروس مخه تعمل من جديد,رنا مؤمنة أن أجمل ما يستيقظ عليه الزوج مداعبة جنسية من زوجته,وبالفعل تجئ تجاربها مؤكدة تلك النظرية!
عند شاطئ سيدي جابر,جلسوا علي الصخور المكعبة في مرح ظاهر,أعطي الأربعة ظهورهم للدنيا والناس وكل الهراء البشري,واستقبلوا بوجوههم البحر والأمواج,لم يحظ طارق من سنوات بمثل هذه اللحظة الصافية.جاءه صوت علي كأنه يكلم نفسه"من يصدق أننا كنا في البحر يوماً؟أي قدر قاس أخرجنا نحو الشاطئ لنظهر بهيئتنا الحالية علي صورة بشر,كنت يوماً طحلب سعيد لا هموم عنده,ولا قوانين ولا أحزان,أو سمكة لا صياد جائع يطاردها بسنارته,كنت يوماً كل الأحياء علي ظهر الأرض وها أنا الآن أسوأها علي الإطلاق!!"حاول تجاهله لكنه استمر وهو يجيل بصره بين البحر والسماء"هل من المعقول أن يكون كل هذا بلا صانع,إنني لو أخبرتك أن المايوه علي هذا الولد الذي يسبح هناك وجد وحده لن تصدقني,فكيف بكل هذا"جاراه طارق بكسل"من مواصفات جنتي أن أجد فيها الإجابات عن الأسئلة التي تؤرق الإنسان" ضحك بمرارة وقال"الإنسان!!ما أبشع هذه الكلمة,وما أجملها!"تدخلت جانيت في الحديث معاتبة مداعبة"حذار أيها الفلاسفة أن يشط بكما العقل نحو الكفر أو الجنون,من يعلم أين كنا أو كيف سنصبح,دعا الرب والدنيا في حالهما واهتما بدنياكما الصغيرة,"ولا تقف ما ليس لك به علم",ابتسم طارق لها ساخراً في ورع مسرحي"يا سلام يا شيخة جانيت,الله يفتح عليكِ".الوحيدة التي تمتعت بالنظر والنسيم والجمال في الطبيعة,هي رنا,تركتهم يتكلمون وهي ساهمة سارحة في دنيا الله وليس علي بالها إلا"ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار".
ألقت جانيت برأسها علي كتف علي وهي تهمس:
ليت الحياة تصفو لنا كصفاء المتوسط.
جاءت موجة عالية نثرت عليهم رذاذها مسح علي قطرات الماء فوق عدسات النظارة:
-المتوسط لم يعجبه الكلام يا ستي,سامحها يا بحر ساذجة لا تعرف أن الحياة لا تصفو إلا لأحمق أو مجنون أو جاهل.
رن موبايل علي فلم يسمع منه سوي"حقاً؟! شكراً لك يا خالي,سيكون عند حسن ظنك...لا أضمنه برقبتي."
نظر نحو طارق ورنا بفرح وهو يقول:
-مبروك من الغد ستعمل معي في معرض سجاد خالي,حادثته في الأمر ولم أرد إخبارك حتي يكون القرار نفذ,وستقبض مثلي!
وقعت المفاجأة علي طارق بغتة فلم يدر ما يقول,أخذ يتمتم:
-هذا كثير يا علي...إنني...
-لا تقل شيئاً.
في ثانية كانت جانيت تشير متهللة,لرنا المتسائلة ففهمت ما يقولانه,أشرق وجهها بابتسامة غارت منها الشمس وخجلت.
-سيعود في وقت مبكر عن ميعاده ومرتبه أكبر وعمله أريح بكثير.والأهم سيصبح زوجانا زميلا عمل.
-مبروك يا حبيبي
التقط الجمع المولي ظهره للبحر, صورة سيلفي بهاتف جانيت التي أصبحت في المقدمة,وخلفها رنا تتوسط طارق وعلي ذراعها مشبوك في ذراع كل منهما,بعدها تبادلت رنا وجانيت المواقع,رأت في زاوية الشاشة رجل عجوز يغطس ويقب في الماء بحيوية يحسده عليها الشباب,ودعت الله في سرها أن يديم عليهم الصداقة والجيرة وألا يفرقهم ولا يدخل بينهم عداوة ما كانت الحياة, التقطت لهم صورة بنفس الوضع السابق,جانيت بين علي وطارق تشبك ذراعها في ذراعيهما ويبتسم الأربعة للكاميرا في سعادة.
عام 1930أسس جوزيف سموحة اليهودي العراقي الذي هاجر إلي مصر قادماً من مانشستر عام 1917شركة لتجفيف الأراضي,ضمنت نشاطها تجفيف ملاحة رجب باشا التي اشتراها,وبالفعل نجحت الشركة في مهمتها وجففت 425فداناً,أصبحت فيلات سكن وحدائق فاكهة,وتحولت لمدينة تسمت باسم منشئها الثري صديق الملك فؤاد الشخصي"مدينة سموحة",واليوم هي منطقة سموحة حيث معرض السجاد الذي يدخله طارق اليوم لأول مرة في حياته آملاً في فتحة رزق جديدة,وطاقة نحو نور يضئ له حياته المادية المعتمة لدرجة تقرب العدم.
"هناك نوع سجاد يا رنا اسمه علي اسمك,أجل!وهناك سجاد:فرح,وياسمين,وهند,وأيضاً غوايش"
علي المكتب المواجه لمدخل الباب المكتوب عليه"ادفع مكيف هواء" يد الحاج فهمي اليمني الحاج محسن أو كما يطلق عليه العاملون سراً-ومن بينهم ابنه-"طبيخة",صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يلعلع في أرجاء المكان مع تهليل المستمعين في التسجيل كأنه لاعب ماهر أحرز هدفاً!! "وأن ليس للإنسان إلا ماسعي,وأن سعيه سوف يري,ثم يجزاه الجزاء الأوفي,وأن إلي ربك المنتهي".
-طارق يا حاج محسن الذي سيعمل معنا
-أهلاً يا أخويا بك وبه
قالها باستهزاء ظاهر,تثاءب وهو يشير باستهانة:
-هيا أخرجا البضاعة مع العمال.
"العمال هناك غلابة مثلي,منهم شاب سوري صغير مات والده وهرب مع وأمه وأخته من الحرب للأسكندرية,هيئته المستكينة تدمي القلوب,مثال صارخ علي وحشية المجرمين التي يعاني منها الأبرياء,اللعنة علي الحرب,اللعنة علي الشر...الوضع السوري هو الجنون البشري منطلقاً نحو لانهائية العذاب."
-منطقة بنت كلب خرفانة يا عمي,من 1400سنة لا تسير إلا في قطبية (السنة/الشيعة),عصر النانو وتفتيت الذرة في الغرب,وفي الشرق عصر "جئتكم بالذبح",وتفتيت الإنسانية باسم المذاهب,هذا ما نفلح فيه...بيتنا في حمص,صاروخ نزل عليه سواه بالأرض,أبي يضرب بالنار في رأسه فيسقط أمامي.
عينه تلتمع بالدمع فيمسحها مسرعاً,تعود أن يكون رجلاً صلباً لأجل أمه وأخته,وأكمل:
-ملاعين كلاب النار خوارج العصر وملاعين السلطويين بعساكرهم ودباباتهم,لم تحصد سوريا منهم إلا الدمار والانهيار.
كانوا جلوساً في ساعة الصباح يفطرون في دكان السرفلة الملحقة بالمعرض,كلمة عابرة من طارق عن عذاب اللاجئين السوريين في مصر,جعل فارس يتدفق في الكلام,راقبه علي بإشفاق خاصة لما التمع في عينه الدمع وهو يتكلم عن مقتل والده.
-كأن أبي صاحب مطعم وكنا شبه أثرياء كل طلباتنا مجابة,والآن أين نحن؟أنا لا يهمني نفسي وحق الله ما يمزقني ويثير في داخلي نكد الدنيا كله أختي الصغيرة التي هوت من الذري إلي الثري وأمي المحزونة علي وفاة أبي وسوء المعيشة.
كان مكبوتاً ينتظر أي مناسبة ليفضفض عن نفسه,استمعا له يشكي ويحكي في صمت وإشفاق,ولم يجدا إلا كلمات التسرية وإبداء الأمل في العودة إلي سوريا يوماً.
ضحك فارس وهو يشرب الشاي الزردة,الذي تعلمه وأحب شربه من علي الذي عوده عليه:
-كان اللاجئون الفلسطينيون في سوريا يتفكهون علي عودتهم بنكتة تقول:"قبل الهرب من وجه العصابات اليهودية طلب أب من ابنه احضار كيلو سكر معهم,رفض الابن وقال"يكفي نصف كيلو فغيبتنا لن تطول",وضحك ضحكة تشبه البكا وتراءت له حياته الماضية كذكريات,تسرب الشك فيها حتي أنه تساءل,هل عاشها يوماً.
عرج طارق مع علي قبل عودتهم للمنزل لمحل طيور وأسماك زينة"لن نتأخر,أريد إهداء رنا هدية بمناسبة العمل الجديد",دخل عليها بقفص فيه عصفورتين,صفقت بيديها فرحاً وبدأت ملاعبتهما,قال لها وهو يخلع قميصه مداعباً:
-إنك فهمتي الموضوع خطأً!هؤلاء لنتعشي بهم.
فأشارت له وتعابير وجهها تنضح بالازدراء العابث:
-يا سلام!دمك خفيف!
صفعها علي مؤخرتها قبل أن ينتزعها من عصافيرها,و يحملها وهي تقاومه باسمة في رفض كاذب,القاها علي السرير وقفز فوقها وهو يضحك:
-أتدرين السبب في قصر عمر العصافير؟لأنهم يتسافدون كثيراً,فيموتون غارقين في بحر من العسل المصفي...
وهوي علي شفتيها الوردية بقبلة خدرتها وأشعلت نهديها,فأخذت كفه ووضعته عليهما...وغرقا في بحر من العسل.
مع كل ليلة يقضيها في حضن حبيبته يزداد إيمانه أن الحياة ليست إلا وهم وخيال,الحقيقة الوحيدة فيها الحب,يقسم الناس لقسمين,قسم يحب وقسم لا يحب...هكذا ببساطة.ويغني مع نفسه في خفوت مستحضراً روح ليلي مراد"واللي ماطالشي نصيب في الحب ماطال شي,في الحب ما طال شي,يا أعز من عيني يا أعز من عيني"
مع كل لية تقضيها في حضن حبيبها,يزداد إيمانها أن العمر لا يملؤه إلا الحب,الباقي كله مهما بلغ بريقه لا يسد ولو نقرة صغيرة في روح الإنسان,الأكل شهوة قوية ومصدر حياة الإنسان,وماذا بعد أن يأكل أغني غني أجمل طعام؟سيستمتع به لحظتها وقد يظل الطعم اللذيذ في فمه دقائق,وبعدها تجئ ساعة إفراغ المعدة المقرفة,قد يصاب بالإمساك أو الإسهال,ويظل يعتصر معدته لتفرغ فضلات طعامه وهو يتوجع من التخمة والإفراط.
حتي الجنس بدون حب,مجرد أطلاق سائل من المؤلم وجوده في جسده,ويود التخلص منه,فيقذفه في أي رحم ويعود بعدها هامداً فاتراً,كأنه تخلص من وحش كان يطارده.
"كلا قبلة واحدة من حبيبي تغنيني عن ألف وجبة لا مثيل لها وألف ألف رجل,الحب لا يفرغ من القلوب أبداً...
كتف طارق أريح عليه رأسي المجهدة أجمل من ريش النعام,كلمة حلوة صادقة وهو يطبطب عليّ تغنيني عن كل خزائن بنوك الأرض"
جلس طارق علي لفة سجاد مفروشة في الظل خارج المحل,ليشعل سيجارة ويتسلي بمنظر الشارع ويملي عينه بجمال السكندريات الفاتنات,مع كل امرأة أو فتاة يتأمل محاسنها تشرق منها ما يذكره برنا ومع المقارنة تحصل رنا علي لقب الأجمل,غصباً عنه تصير هي الأجمل!
من باب العمارة المجاور خرج الدكتور مصطفي يبرطم بكلام غير مفهوم وهو يحكم معطفه الطبي الأبيض حول جسده ويقبض علي السماعات المتدلية حول عنقه, أول ما رآه كأنه ما صدق وجد إنساناً يكلمه:
-لا يمكن!!مستحيل!مجتمع هذا أم مرستان كبير؟!لا لا هذا كثير.
هيئته تشي بأنه طبيب حديث التخرج في أول حياته العملية,عرف فيه طارق أحد زملاء الطفولة القدامي,كانا في المدرسة سوياً لكنه لم يول هذا الأمر اهتمامه,ولم يتذكره مصطفي
-ماذا حدث يا دكتور,وحد الله,تعال اجلس.
جاء له بكرسي من الداخل,وطلب له واحد ليمون.
-تصور,بالأمس يأتيني طفل في الثامنة عليه أعراض سكر بيّن أسأل أمه عما جري,تخبرني أنها سكرت في شقتها ونامت تاركة زجاجة الخمر علي الطاولة فجاء الولد وقلدها وشرب بقية الزجاجة وتقول"والنبي يا دكتور فوقه",واليوم يأتيني طفل محروق في يده يبكي علي صرخة واحدة,وبعد أن ضغطت علي أخته الكبيرة لمعرفة السبب,بكت وقالت"بابا يعاقبه لأن الولد شقي,هكذا ربانا كلنا"هل تلك تربية؟هل المعاقبة بالحرق بالنار يا كفرة؟ّ! ثم يلومون داعش...آسف لأنني أزعجتك,لكني كنت فائراً من الغيظ والذهول.
-لا إزعاج ولا حاجة,كان الله في العون,الطب متاعبه لا تحصي.
-ومكاسبه تحصي علي أصابع اليد الواحدة...إيييه,الحمد لله.
-لا يوجد مكسب أسمي من دفع الألم عن إنسان.
-عند حق...استأذن أنا.
-والليمون؟
-آلام الناس لن تنظرني حتي أشرب الليمون.
-مع السلامة
تابعه بعينيه وهو يدخل من الباب الذي خرج منه,وعاد يتأمل اسكندرية وبنات اسكندرية.
وقفت أمامه بنت مرآها يبعث في النفس الراحة,ووجهها يجلب الطمأنينة للروح,وكلها علي بعضها تجبر كل رجل أن يتمناها,رفع رأسه ناحيتها فجاوبته بشفة باسمة وعين محزونة لم يفلح البسمة المصطنعة في تغيير نظرتها الكئيبة,وقالت بلهجة شامية جلبت ريح دمشق وحلب لأختهما الأسكندرية:
-لو سمحت يا عمو فارس موجود؟
-لا راح يحمل بضاعة وسيأتي بعد قليل,من أنت؟
-زنوبيا
-أخته؟
-أجل.
-يا أهلاً!اتفضلي يا حبيبتي اجلسي, سيجئ عما قليل
قال"حبيبتي"بأبوة وتقبلتها هي بمعني عاطفي جعل عينيها تلمعان ببريق الرغبة في الحب والحياة.
بنت قد يزيد عمرها عن السابعة عشر قليلاً,فارت قبل أوانها فمن يراها يلحقها بصاحبات العشرينيات,نهد راسخ وردف مكور ثقيل أعطياها جسد امرأة بالغة,ومن تلك اللحظة سيبدأ تعلقها بطارق!
جلست علي نفس الكرسي الذي جلس عليه الدكتور مصطفي منذ قليل,سألها مرحباً:
-ماذا تشربين؟...أم نأكل سوياً آيس كريم؟
لم تجب خجلاً واكتفت بتوجيه نظرة حائرة...
قام طارق يضحك ويقول:
-نأكل ونشرب...حتي يجئ فارس...أتريده في أمر طارئ؟
-كلا أردته في موضوع أرسلتني أمي لأخبره به,موضوع يخص شأن منزلي بسيط,لكنها متمسكة به...هاتفه مغلق فاضطررت للمجئ!
عبر الشارع ليشتري الآيس كريم,وتركها تتمني لو لم تأت حتي لا تراه,وقررت أن تفتش في يده عن دبلة الزواج,لما رأتها اعتراها يأس تجلي في صوتها المتردد وهي تجيب علي سؤاله"اشتريت بالشيكولاتة والفانيليا,أيهما تفضلين"
-أي حاجة.
أعطاها واحدة فتقبلتها شاكرة.
-إن اسمك جميل وعظيم بالضبط كالمرأة التي تسمت به من قبل.
تجلي الاهتمام في عينيها:
-أنت الوحيد منذ جئنا مصر الذي لم يسخر من اسمي!أوتعرف حكاية زنوبيا؟
-لا تفكري في هؤلاء السفهاء ماهم إلا نتاج لاتعليم منحط أطاح بعقولهم...زنوبيا زوجة أذينة التي وقفت في وجه امبراطورية الرومان,وأنشأت إمبراطورية عظيمة تمكنت من الوصول حتي هنا(دق بقدميه علي الأرض)حتي الأسكندرية,ثم انكسرت علي يد أورليان كما انكسرت من قبل جدتها كليوباترا علي يد أوكتافيوس,حين سمع أورليان أن مجلس الشيوخ يتهكم عليه لعجزه عن هزيمة امرأة,فأرسل لهم قائلاً"يتحدث الرومان أني أحارب امرأة,لكن لا ريب في أن الخطر كان أخف لو كنت أحارب رجلا؛لأنه يستحيل عليّ وصف استعداد هذه المرأة للحب"تلك المرأة نفسها التي جعلت مجلس الشيوخ يصيح مستنجداً بأورليان"نجنا من فيكتوريا,نجنا من زنوبيا!أغثنا من التدمريين"قاصدين فيكتوريا ملكة الغال...ماذا يمكن أن يقال علي امرأة كزنوبيا ألهمت الشعراء والروائيين والمسرحيين؟!يا بختك باسمك الجميل يا زنوبيا.
تابعته معجبة بكلامه المتدفق عن زنوبيا كأنه ينقل من كتاب.
-وماذا أيضاً؟أكمل.
-أكمل ماذا؟
-الحديث عني
استدركت بسرعة:
ـأقصد الحديث عن زنوبيا.
-لا أنتما بالفعل واحد إنها جدتك,ومن يدري ربما كانت أنتِ في حياة أخري...ها قد جاء فارس!
جاء بصحبة"الكلارك"والكلارك لقب أطلقه العمال علي عامل معهم لعملقته التي لا تقل عن قوته,لم تخف زنوبيا دهشتها لمرآه وتتبعته بعينيها وهو يهجم علي زجاجة مياه مثلجة أفرغها كلها في جوفه دفعة واحدة ثم خرج يطلب المزيد,كتب فارس الحسابات والأنواع والمقاسات في دفتر المحل وفي ركن منه وقف مع أخته يتكلمان في خفوت.
قال له علي وهما يدخلا البضاعة في الداخل تمهيداً لإغلاق المعرض:
-أود لو مررنا في طريقنا بكافيتيريا عند محطة سيدي جابر ربما أجد فيها أستاذي القديم.
نظر في ساعة الحائط فوجد العقرب الصغير عند الحادية عشر,وورد علي ذهنه سؤال لم يجد له إجابة"لماذا سميت عقارب الساعة بهذا الاسم العجيب,هل لأن الزمن يلدغنا ويسممنا ببطء حتي يوردنا قبورنا؟!"
الكافيتيريا شبه فارغة,دفع علي الباب ودخل متجهاً لطاولة منعزلة في زاوية بعيدة جلس عليها أستاذ الفلسفة الكبير زايد سليمان وحيدا,مغمض العينين وعلي شفتيه آلة البان فلوت يعزف عليها معزوفة"مونامور"لم يجرؤا علي الجلوس وهما يريان خيوط من الدمع تنساب علي وجهه,كان مازال مغمض العينين وهو يقول"دعاني الآن",خرجا وطارق يسأله من هذا الرجل ولم يبكي؟
-هذا أستاذي في الفلسفة طرد من المخروبة المسماة جامعة وأنا في سنتي الأخيرة؛لأنه أردا أن يعلم الطلبة التفكير الحقيقي والتمرد علي أفكار المجتمع المصري المتخلفة البلهاء التي تكاد تقتله وهو لا يشعر,زوجته ماتت منذ فترة طويلة انعزل بعدها,حتي علمت من يومين أنه خرج من بيته لأول مرة منذ عشر شهور,هنا كانا يجلسان وعلي آلة البان فلوت هذه كانت تعزف له هذه المقطوعة,كانت امرأة فاتنة ليس في الشكل الحق أنها كانت بعيدة عن جمال الملامح,لكن لها روحاً تفتن من يعرفها,ويجعله يتمني ألا يفارقها أبداً,كانت أماً لكل تلامذة الدكتور زايد,الدكتور زايد,أنا بكيت يوم ماتت ومشيت في جنازتها وكأن جنازة المرحومة أمي تعاد مرة أخري...
قاطعه صوت القطار يصفر بوحشية للفراق:
-هاهو اليوم مطروداً من وظيفته لأنه أراد للشباب أن يتعلموا في مكان من المفترض أن يكون فيه تعليم,وحيداً بدون رفيقة مشواره ,يعزف علي آلتها مقطوعتها المفضلة ويبكي!
لم يكن الدكتور زايد وحيداً,هو يشعر بوجود فريدة بجواره هو لا يعزف بل هي من تعزف له,بنفس طريقتها تغمض عينيها-يشعر أنها تراه!-وتملأ رئتيها بالهواء وتنساب نغماتها من شفتيها كأن الملائكة تعزف معها,وترفرف عليهما بجناحيها...يشعر بروحها مع كل أنبوبة في البان فلوت"فريدة لا تتوقفي يا ملاكي عن العزف..."
أرسل النادل يناديهما فعادا وجلسا,تعرف علي طارق وسأله عن مؤهله فقال أنه توقف عن الهراء الجامعي وطلق شهاداته الزور,فجاوبه باستهانة:
-أحسن! الجريمة المسماة"تعليم" شئ مخجل وحقير وسافل ومقرف وفاسد ومفسد. عندك حق هي فعلاً زور,لا تصدق أي شهادة في هذه البلد ولا حتي شهادة لا إله إلا الله...
جذب نفساً من الشيشة الموضوعة بجواره,وعابثه باسماً:
-هل تعرف أن "الله"هو الاسم الذي أطلقه العرب قبل الرسالة المحمدية علي إله القمر الإله الأكبر في العائلة النجمية العربية التي كانت تضم اللات زوجة له ومناة وهبل كأبناء لهما؟ثم جاء النبي بتوحيد هذا الإله فقط وعبادته دون شركاء وشفعاء وقاتل قومه علي ذلك وقاتلوه؛لأنه كان في نظرهم ديكتاتوراً جاء في وسط مجتمع متعدد الآلهة والأرباب, يريد أن يلغيهم من مكة وبذلك سيكون هو الشفيع الوحيد عند الله...وهذا بالضبط ما حدث!
-لا لم أكن أعرف.
-أحسن!لا يهم أن تعرف هذه الأشياء فهي لا تفيد الناس بقدر ما تضرهم,ألم تتساءل يوماً عن سبب وجود الهلال علي مآذن المساجد واتخاذه شعاراً للدين,وارتباط الإسلام بالفلك والقمر خصوصاً,وتشابهه المدهش مع دين الصابئة؟!
قال علي وهو يشرب العناب المثلج:
-أنا سعيد أنك بدأت تخرج من عزلتك يا دكتور,كم أود لو تجمعنا حولك كالماضي,تتكلم وتحاضر وتنير عقولنا كأيام الجامعة.
-الجامعة...أقذر مكان في مصر بعد السجون. يقوم عليه مجموعة من الجهلة الأميين خربوا عقول الشباب وجعلوها كعقولهم الغبية,إنها خاتمة المطاف في منظومة تخريبية ممنهجة لتدمير العقل والشخصية المصرية الداخل فيها مفقود والخارج مولود!نجحوا بفضل الشيطان في إنجاز ما عجزت عنه الأعداء المتوالية علي مر العصور,وأصبحت البلاد خراباً يجلس علي تله هم وأمثالهم,ما يحيرني من سنوات طويلة:أيهما أسوأ الحكومي أم الخاص؟!...الحمد لله أنهم طردوني,لو لم يكونوا فعلوا لظننت أنهم يعتبرونني واحداً منهم!تخيل منظومة بنت قحبة فاشلة كهذه هي من تقرر مصير الأجيال المتلاحقة.لو كان هناك عدل لحوكم في ميدان عام كل المسئولين عما وصلت إليه حالة التعليم في هذا البلد المنكوب.ما يغيظيك يا أخي ويشعرك بالقرف ويدفعك للغثيان؛رؤيتك لأناس من أبناء هذه العاهرة العجوز-اللاتعليم الهرائي-مصدقين أنفسهم ويظنون أنهم متعلمين,لا تعرف هل تشفق عليهم لجهلهم حتي بمعني التعليم أم تصفعهم علي أقفيتهم وتبصق علي وجوهم,هل هم بلا دم أو بلاد دماغ؟!...جريمة وحق كل ما هو حق في الدنيا...منهم لله من أفسدوه,دُمِر التعليم فتدمرت البلاد بما فيها ومن عليها...البهائم في بلادي يقومون بدور الأساتذة!الحمير في بلادي يلقبون بالدكاترة...آه يا بلاد الجهل المركب والتخلف المزمن,آه يا بلاد لم يعد فيها حتي"الميديوكر"وأصبح وجوده مفاجأة سعيدة تصيب الواحد منا,آه يا بلاد جامعاتها ليست إلا قطعة خراء كبيرة علي أرضها...أقسم بالله ثلاثاً إنها عملية إجرامية من الطراز الأول,معامل الحيونة المسماة "مدارس/جامعات"أخطر خطر علي المجتمع المصري,تنخر فيه وتحطم أبنائه وتجعل من الأغبي والأبلد والأحمق والأسوأ,صاحب الدرجات الأعلي,والأذكي الأفهم والأفضل يدعو الله أن ينجيه منها ومنهم بسرعة,ليرحل بعيداً ويتركها لهم؛ليدمروا جيل جديد...وهكذا!!!جريمة لخلق أسوأ إنسان.
رآه طارق:شيخ أبيض الشعر هزيل الجسد,أميل للسمار,له نظرة نافذة عميقة تثبت علي عينك فلا تستطيع إلا أن تشيح بنظرك بعيداً خوفاً من أن تقرآ ما يجول في نفسك,له ابتسامة هي نفسها ابتسامة أبو الهول الساخرة من الزمن الذي يسخر من البشر!
-هل نوصلك في طريقنا يا أستاذ؟
-لا ابني سيمر ليصحبني؟مع السلامة أنتما.
وقفت أمامه ببدلة رقص من الساتان الرخيص,رُسم علي الصدر والخصر كفين حمراوين.
-من أين حصلتي عليها؟
-اشترتها لي جانيت.
اقتربت منه ووضعت كفيه مكان الكفوف المرسومة علي الخصر:
-لأرقص لك.
انسلت منه بخفة قبل أن يقبل رقبتها وراحت ترقص,دُهش من أين جاءت بهذه الإيقاعات التي يتداعب عليها جسدها,وتذكر أين شاهد هذه الرقصة...فيلم قديم لتحية كاريوكا! نسختها رنا بإتقان جعله يترحم علي تحية وفن تحية العظيم,لم يقاوم رغبته للرقص معها,وراحا يتراقصان سوياً حتي قلدتهما العصافير في القفص,وشاع في الشقة جو من البهجة يكفيها لألف عام,شعت من روح تحية كاريوكا ورقص العصافير الأربعة كلٌ مع من يحب...في الشقة المقابلة كان يحدث نفس الشئ,المرأتان اتفقتا ورتبتا وفوجئ الزوجان مفاجأة سعيدة,جعلتهما يستقبلان صباح اليوم التالي في العمل بروح مرحة لم تخل من فكاهة علي التافه والعظيم من الأمور وكلاهما يتعجب كيف انبثت فيهما البهجة في نفس اليوم.
أصبح الجلوس مع زايد سليمان إحدي متع طارق في الحياة,الرجل عندما يكون رائق المزاج لا يكف عن الكلام وكل كلمة بألف كلمة,يمكنه الحديث عن أي موضوع فلسفي أو أدبي كما يتحدث عن أمر شخصي يفعله في بيته أو هواية يمارسها,عالم حقيقي من الممكن أن يترك رواد الكافيتيريا طاولاتهم ويستأذنون في الجلوس معه يستمعون له,ساعة أو ساعتين وتتحول الكافيتيريا لقاعة درس,الناس تهفو للمعرفة وللأسف لا يوجد راع واحد للمعرفة في مصر,يركز دوماً مع الشباب صغير السن,يناقشه ويستمع له في أبوة حانية,ويهتم بهم أكثر من أي شئ,في معمعة النقاش لو قال أحدهم كلمة مهما كانت تافهة,يميل عليه باهتمام شديد ويسمعها منه ويرد عليه ويناقشه فيها.
في إحدي هذه الجلسات عرف طارق, كريم زايد سليمان,مخرج سينمائي له فيلم واحد,فاز في عدة مهرجانات عالمية ولم يشاهده إلا قلة من المصريين,سمعه يحكي عن سيناريو كتبه,يعطله فقط بحثه عن وجه جديد"إنني أحلم بالعمل في السينما,أريد أن أصبح ممثلة...من أحلي أنا أم ميرفت أمين في شبابها؟!"قالتها أمامه زنوبيا مرة في المرات التي تعمدت فيها المرور عليه في المعرض والوقوف للحديث معه,تكلمه عن نفسها وتريد أن يفصح عن نفسه,في البداية ظنها بسبب وحدتها وانعدام وجود أصدقاء لها في مصر,ومع الوقت استشف متأخراً من النظرات والنبرات ما تضمره له زنوبيا,فأشفق عليها ولم يرد كسر قلبها ولا خداعها,فأشفق علي نفسه ولم يدر ماذا يفعل!
-أعرف فتاة سورية جميلة تحب التمثيل هل لك أن تراها؟
-يا ريت.
اتصل بها واتفق معها علي الذهاب لمقابلة مخرج سينمائي طلب أن يراها.
-هل تمزح أم تسخر؟!
-لا هذا ولاذاك أتكلم جد.
لبست أفضل ما تملك وقضت النهار كله أمام المرآة,وفي المساء كانت في الكافيتيريا بحضور الدكتور زايد,الذي هتف أول ما رآها قادمة في صحبة طارق:
-يا سلام...والله لن تحصل علي الدور غيرك.
قال كريم وهو يمد يده لها بالسلام باسماً:
-لن أوقع قسم بابا...
عرف أنها لن تصبح بطلة فيلمه فقط,بل بطلة حياته كلها.
في البروفات تكشف لها كريم ووجدت فيه مبتغاها,أحبته,عرفت معني الحب الحقيقي وأدركت أن ماكانت تكنه لطارق ليس إلا احتياج للحب وتمنت ألا يكون لاحظ ما كانت تبديه نحوه.
في يوم العرض الخاص,حضر طارق ورنا-شرح لها قصة الفيلم بعد ذلك- وعلي وجانيت وبالطبع فارس وأمه,تصفيق حار بعد الفيلم وإشادة من النقاد بأداء زنوبيا ظهر فيما بعد في الصحف والمجلات,تحولت اللاجئة السورية إلي نجمة سينما,وتوّج النجاح بالزواج من كريم,طلبت من طارق أن يكون شاهد علي العقد ووافق بسرور وهو يقبلها علي جبينها مباركاً.
-مبروك يا حبيبتي.
-الله يبارك فيك يا عمو

"شبنا ونحن شباب"هذا لسان حال الجيل الحالي في مصر,جيل من دمار ودم وجهل,لا راع ولا مسئول,انهيار تام بدأ في اللاتعليم الهرائي الذي تعرضون له تبعه انهيار في كافة مناحي حياتهم,جيل أصبح الانتحار سواء بالرغبة أو بالفعل علامة مميزة له,جيل فقد إنسانيته وتهاوت حياته للحضيض,أقصي أحلامه هي أبسط حقوق أي شعب في بلد متحضر.هكذا دارت الأفكار في رأس علي يتابع شلة من الشباب وقفت علي الرصيف المجاور للمعرض يتحدثون حيناً ويتلفتون أحياناً بحثاً عن قد رشيق,أو صدر ناهد,أو ردف يهتز,جاءت أحاديثهم غاية في المرارة والبؤس.
-ألن تذهب لمعهد جوتة لدراسة الألمانية كما كنت تتمني,لتسافر ألمانيا؟
-ألمانيا!!(ضحك كأنه يصرخ!!!)كلها أحلام وطموحات!!؟ثم معهد جوته إيه بس؟!!من أين أجئ بـ11ألف جنيه ثمن الكورس الكامل؟!لماذا أذهب؟!بل لماذا أعيش أصلاً!أنني أتمني الموت حتي أرتاح من حرماني من كل ما تمنيته!
-اللعنة إن الدكتور عندنا لمادة اللغة العربية,لا يعرف شيئاً عن اللغة العربية,أفكر جدياً في صفعه علي قفاه وليكن ما يكون!
-ليس المطلوب منه أن يعرف اللغة العربية...المهم أن يهذي ويقول أي كلام بائخ ليُضيع سنين حياتك معه وخلاص...ومبروك عليك شهادة الحمورية من هذا الحمار يا حمار!!التعليم المصري هو العار...
-أجل,هو العار يا ابن العاهرة!
أبو المصائب في مصر التعليم,وأي حديث عن أي مصيبة آخر وترك الجذر الكارثي,لن يجدي البتة,سنقطع فرع ليخرج من جديد...لو تمكن الطالب المصري شبه الواعي حتي من إرسال رسالة للمجتمع المتدمن في أوروبا ستكون"أنقذونا من اللا التعليم المصري,نطلب حق اللجوء التعليمي لديكم".
نادي علي علي طارق قبل أن يدخل شقته بعد أن رأي رنا مع جانيت جالستان في الصالة علي الأرض,حولهما عيدان من خشبية وورق ملون وصمغ ولصق.
تبدت نظرة متسائلة في عين طارق لرنا فأشارت:
-كل سنة وانت طيب...رمضان بكرة.
قال علي مبتهجاً غير عابئ بإشارات رنا التي لا يفهمها:
-فانوس أكيد يا سيدي.
انهمك الأربعة في عمل الفانوس,وبعد ساعات قرب الفجر,اكتمل تماماً,زاهي الألوان جميل الرونق عليه,ذهب طارق ورنا لشرفتهما المجاورة,تلقي طارق حبل تعليق الفانوس من جانيت ,ثبته في جدران الشرفة وفعل علي المثل,فتدلي فانوس رمضان علي الجدار مضيئاً يبشر بشهر جديد...شهر من حياتهم التي لولا الحب ما كانت,ولضاعت قلوبهم في زحام الحياة وصخب المدينة التي فقدت معالمها وتحولت لمسخ مشوه بفعل أعداء الجمال.
وسيصبح عيدهم عيدين,سيظهر حمل رنا مبشراً بمولود جديد تستقبله الحياة,ستجد فيه لارا صديق...وحبيب...
لكنها حكاية أخري...