الأحد، 25 فبراير 2024

الفلسفة الرواقية... دعوة للسعادة

 

 

 

بعد سنوات قضاها المفكر البريطاني جيلبرت موري، بين الدراسات الكلاسيكية،والتدريس الأكاديمي والكتابة المسرحية، قال بوضوح "إنك لن تقع علي شئ تحت الشمس لا يمت إلي الفكر اليوناني بصلة" وتلك العبارة أصدق وصف لأثر الحضارة اليونانية علي العالم الغربي بأسره.

للحضارة اليونانية روافد شرقية عدة علي رأسها الحضارة المصرية القديمة، حيث تشرب اليونانيون معتقدات ونظريات منبعها العقل المصري، ثم صبغوها بلغتهم وأساليبهم، فالإلياذة الهومرية مرآة تاريخ اليونان وأساطيرهم، قد نظمها هوميروس تأثراً بالملحمة التي أنشدها الشاعر بنتاؤور ممتدحاً رمسيس الثاني أحد ملوك الأسرة١٩، حين انتصر علي الحثيين في موقعة قادش، وكانت الإلياذة هي حجر الأساس في صرح الحضارة اليونانية الشاهق،والنقطة الأولي والألمع في بحر الثقافة اليونانية، فمنها تولد المسرح والشعر في العقلية اليونانية وبذرت بذور شجرة الفلسفة، التي وصلت لنضجها علي يد الثلاثي سقراط وأفلاطون وأرسطو، فبينما كانت الحضارة اليونانية تشرق شمسها علي الشعوب والأمم المختلفة، كان الفلاسفة تتوغل عقولهم في أسرار الكون والحياة، ومع وفاة الإسكندر الأكبر، وتقسيم مملكته الشاسعة بين قواده، أصاب بلاد اليونان ضعف ووهن شديدين، فلم يعد أخيل هو البطل المثالي في عين اليونان، وتهاوي الطموح الفلسفي الذي بذل له سقراط حياته حين أعدم، وسعي من خلاله أفلاطون لبناء يوتوبيا تليق بحياة البشر، وعمل بدافع منه أرسطو علي تبويب العلوم وتصنيفها ووضع أسس المنطق والتفكير، حتي لقب بالمعلم الأول، وحل مكان كل ذلك فلسفة شرقية جديدة علي يد زينون القبرصي سميت بالفلسفة الرواقية، لأنه كان يحاضر في رواق نقشت أعمدته بريشة الرسام بوليجنوت، وتسربت علي يده لليونان من مهدها في تربة الطاوية الصينية، كما ظهرت علي يد الحكيم"لاوتسي" وقصد بها إرشاد البشر للعيش بطريقة تتوائم مع الكون،وتعليمهم طريقة ينشدون من خلالها الراحة النفسية،فأحد مبادئ الطاو الأولية يهدف إلي التعايش بتناغم مع الطبيعة الكونية دون تدخل فيه،وترك الأمور تسير نحو مجراها المقدور.

وكانت الرواقية تلائم الشخصية اليونانية المهزومة لتجد فيها ملجأ وملاذاً من عذابات الحياة وآلامها الرهيبة،خاصة مفهوم الأباثيا،والذي يعني الانسجام مع الحياة وتقبل ضربات القدر،بانشراح صدر ورضا مطلق بالمصائب والنكبات،لأنها قضاء إلهي يسير العالم بمقتضاه،فالسعادة الحقيقية حالة نفسية لا تؤثر فيها المسببات الخارجية،وإنما استعدادنا النفسي هو ما يصور لنا الحوادث خيراً أو شراً،فالأحكام التي نطلقها علي الأمور هي ماتصيبنا بالسعادة أوالشقاء،وعبر عن ذلك الفيلسوف الروماني إبكتيتوس"إن الذي يصيب الناس ويؤثر في حياتهم ليست هي الأشياء نفسها،بل آراؤهم عن الأشياء،فلو كان سقراط يري الموت شراً بوقع الرعب منه في قلبه،لكن سقراط لم يكن يري الموت شراً فأقدم عليه غير مبال"،وذلك يتطابق مع نظريات علم النفس.

كما وجدوا العزاء والسلوي في"الأتراكسيا"الأبيقورية،وتقديمها للسعاذة في صورة سلبية للذة،فاللذة الأبيقورية الشهيرة كما تعرفها المدرسة الأبيقورية التي أسسها ابيقور،وسميت بفلسفة الحديقة لأن أتباعها كانوا يرتادون حديقة ليتقابلوا فيها،قد فهمتها الجماهير بصورة مغلوظة تماماً،فلم تكن تعني الانغماس في شهوات الجسد،بل كانت سعياً للتحرر من الألم،فالألم يهيج العقل وينبغي للعقل أن يكون في حالة سكينة وطمأنينة،فراحة البال والسعادة لا يأتيان إلا عن طريق الزهد والانسحاب من العالم،إذن فالصلة بين الأباثيا والأتراكسيا يكمنان في تشابههما إلي حد ما ومرحلة ظهورهما التي واكبت غروب شمس اليونان،فقد كانتا دعوة للسعادة عن طريق الخضوع لما هو كائن وتقبل ماسيكون،كي تصفو النفس وتتسامي عن آلام الحياة.

والأمم كالأفراد،حين تموت يرثها غيرها،وقد ورثت الإمبراطورية الرومانية،التراث اليوناني ومن ضمنه الفلسفة الرواقية،وقد لمع في سماء الرواق أسماء رومانية مثل إبكتيتوس العبد،والإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس،والخطيب شيشرون،والكاتب المسرحي والفيلسوف سينيكا،فقد كانت هي أعظم فلسفة مؤثرة في الوجدان الروماني، جمعت بين العبد إبكتيتوس والإمبراطور أوريليوس.

إن الأخلاق والسلوك في الفلسفة الرواقية،قد اتفقا مع مفهوم الأخلاق والتصوف والرهبنة،في المسيحية والإسلام لأن الديانتين قد جاءتا لخلاص البشر من فك الحياة مدبب الأسنان مسموم الأنياب وهو عين الأباثيا،ولننظر لما ذكره الشهرستاني عن زينون في كتاب الملل والنحل،فلن تجد في آراؤه أي فرق عن المواعظ الذي جاء بها السيد المسيح والنبي الكريم محمد،فقد كانت الرواقية دعوة إلي الفضيلة والتحمل التحكم في النفس،ولنقل مثل ذلك عن بقية الرواقيين:"رأي زينون فتي علي شاطئ البحر محزوناً يتلهف علي الدنيا،فقال له:يا فتي ما يلهفك علي الدنيا؟لو كنت في غاية الغني وأنت راكب علي لجة البحر وقد انكسرت السفينة وأشرفت علي الغرق،كانت غاية مطلوبك النجاة وتفوت كل ما في يدك؟ قال نعم،قال:لو كنت ملكاً علي الدنيا وأحاط بك من يريد قتلك،كان مرادك النجاة من يده وتفوت كل ملكك؟قال نعم،قال فأنت الفتي وأنت الملك الآن،فتسلي الفتي"،" وقيل له:أي الملوك أفضل:ملك اليونانيين أم ملك الفرس؟قال:من ملك غضبته وشهوته."،"وسئل ما الذي يهرم؟قال:الغضب والحسد،وأبلغ منهما الغم"،"ونعي إليه ابنه فقال:ما ذهب علي ذلك،إنما ولدت ولداً يموت،وماولدت ولداً لا يموت"،"وقال محبة المال وتد الشر،لأن سائر الآفات تتعلق بها،ومحبة الشهوات وتد العيوب،لأن سائر العيوب متعلقة بها"،"إذا أدركت الدنيا الهارب منها جرحته،وإذا أدركها الطالب لها قتلته"،"وقيل له وكان لا يقتني إلا قوت يومه:إن الملك يبغضك فقال:وهل يحب الملك من هو أغني منه"

من المدرسة الرواقية اقتاتت العقلية البشرية،حتي مجئ المسيحية،وما زالت أصداؤها تتردد حتي العصر الحالي،وسبب تأثيرها الهائل إنها نجحت فيما سعت إليه المذاهب الفلسفية والتيارات الدينية،بالسيطرة علي الانفعالات وتحقيق السعادة،باعتبارها حالة داخلية لا تنشأ عن مؤثر خارجي،فهي دعوة للفرح بتجاهل الدنيا،لأن أمرها ليس في أيدينا بل تحت إرادة خالقها،والظواهر المؤلمة كالمرض والموت والشقاء والإهانة والحرب تتبع قوانين الطبيعة،فعلي الإنسان أن يتصالح مع قدره،فلا شئ يحدث مصادفة،كل ما يحصل هو ضروري ولازم ولا فائدة من الشكوي والأنين أمام القدر،بل ويجب تلقي الأحداث المفرحة في هدوء تام،ويطلق اليوم صفة"الهدوء الرواقي"علي الإنسان الذي لا ينجرف مع أحاسيسه أياً كانت،أي إنها محاولة لاستئصال الشهوة والهوي ووأد الرغبة،وقد تم تعريف الفلسفة برمتها بأنها إماتة للشهوة لأن القضاء علي الشهوة هي طريق الفضيلة، كما إن الرواقي عليه ألا يعرف الحسد والغيرة،لذلك نادي إبكتيتوس بالمساواة بين بني البشر،

السعادة متاحة لجميع الناس وليست حكراً علي الملوك والأغنياء،وليست هبة من السماء للمجانين والبلهاء،بل يمكن لكل شخص الحصول عليها،لو تخلص من عادة إطلاق الأحكام علي قوانين الحياة الجبرية، فجميع الآلام مصدرها عدم الانسجام بين الإنسان والطبيعة،أو بين الإنسان والناس،أو بين الإنسان ونفسه.

والحكيم في نظر أهل الرواق،هو شخص لاتتسلط عليه الأهواء والانفعالات،أو بمعني آخر رجل لا يدع نفسه الأمارة بالسوء تقوده نحو المهالك،فيتحقق المثل اليوناني"إن الحياة هبة الطبيعة،ولكن الحياة الجميلة هي هبة الحكمة"،لقد سعت البشرية للخير الأسمي فمنهم من قال إنها المعرفة...الصحة...الحب،وغير ذلك أما ماركوس أوريلسوس الرواقي العميق،يري الخير هو الصبر وحسن الخلق بالتحكم في النفس،عندما أوصي في كتابه"التأملات":"كن مثل الأرض في البحر، تنكسر عليها الأمواج بلا انقطاع وهو ثابت وطيد يخمد من حوله جيشان الماء أفتقول" ما أتعس حالي اي إذا أصابني هذا؟ "لا بل قل" ما أسعدني إذا أصابني هذا الأمر ومازلت خالياً من الحزن والأسي،لم يحطمني الحاضر ولم يخفني المستقبل"فقد ينزل هذا المصاب بأي إنسان ولكن ليس كل إنسان بقادر علي أن يحتمله من غير ألم.لماذا إذن تبتئس بالمصاب أكثر مما تستبشر بقدرتك علي احتماله"،ويتفق مع رأي إبكتيتوس حين نسمعه يردد"إن كل شئ هو رأي من الآراء،وفي مقدورنا أن نري في أي شئ الرأي الذي نريد".

بالتزامن مع ولادة المسيح،ولد الفيلسوف الروماني سينيكا،ومنذ صغره انجذب للصوفية الفيثاغورية،وتأثر بمذاهب فلسفية ودينية عدة وبعد رحلة من التقلبات الفكرية استقر علي شاطئ الرواقية الرحيب،اقتبس من أعماله كُتاب المسيحية المبكرة،وقد كن لن ترتليان أول من كتب عن المسيحية بلغة لاتينية إعجاباً كبيراً حتي اعتبره"واحد من في معظم الأحيان"لأن المسيحية وجدت في آرائه توائماً مع معتقداتها،كما وجدت في الفلسفة اليونانية عامة تمهيداً للرؤي اللاهوتية والأخلاقية التي تعرضها،بل لفرط الاتفاق بين رسائل سينيكا مع الأخلاق المسيحية،قيل أن سينيكا كان يراسل بولس الرسول حتي تم اكتشاف أن تلك الرسائل مزيفة،والرابط بين رسائل سينيكا ورسائل بولس الرسول للمسيحيين والذي جعلهما كأنهما يصدران من منبع واحد،نشأة بولس في طرطوس التي شاعا فيها الفلسفة الرواقية،فمزج بولس بين الفلسفة الرواقية والدعوة المسيحية لأنه وجد فيهما نفس الروح،كما درس القديس أوغسطين والقديس جيروم أعماله،وإذا نظرنا علي سبيل المثال للرسائل التي كتبها في منفاه،نجدها لا تبعد عن التوجه المسيحي الأخلاقي،فعن الزهد والقناعة كتب"ليس الفقير من يملك القليل،بل من يلهث خلف المزيد" وعن الإخاء والإنسانية والمحبة العامود الأساسي للمسيحية والإسلام وهدف الحياة الرواقية قبلهما"أول شئ تعدنا به الفلسفة هو الشعور بالرفقة والانتماء للإنسانية"أما حين يريد الراهب المسيحي أو الصوفي المسلم الوصول إلي الأباثيا واللاهوي، يجرد نفسه من الإهواء ويقضي علي الأفكار الباطلة الصادرة من نفسه،ويتحرر من كل الشهوات وحينها سيدرك تعريف سينيكا للأباثيا بأنها تشكل" عقلاً منيعاً أو فوق كل معاناة"،وكأننا نسمع أحد الوعاظ حين نسمعه ينادي بالمساواة والإنسانية"يقول الناس"إنهم عبيد"،لا بل بشر"إنهم عبيد"ولكنهم يشاركوننا السقف نفسه"إنهم عبيد"لا بل بالتعبير الأدق زملائنا في العبودية،لو إنك تأملت مرة أن الأقدار تحكمنا بقدر ما تحكمهم"،"عامل من هم دونك كما تحب أن يعاملك من هم أدني منك"،"لا أحد يستطيع أن يعيش حياة سعيدة إذا كان لا يفكر سوي بنفسه،ويوجه كل شئ نحو غاياته يجب أن تعيش للشخص الآخر إن شئت أن تعيش لنفسك"،"أما الإنسانية فهي الصفة التي تمنع الإنسان من التعالي علي رفيقه،أو من أن يكون حاداً في الكلمات وفي الأفعال وفي العواطف،ويبدي الكرم واللطف للجميع"،"الرحمة التي تعصمك من دم شخص آخر وكأنها دمك،لمعرفتك بأنه ليس للإنسان أن يهدر الإنسان"،احرص علي الاعتناء بالروح جيداً،أفكارنا وكلماتنا تنبع منها،ونشتق أسلوبنا وتعبيرنا وحتي طريقة مشيتنا منها.إذا كانت الروح سليمة وصحية فإن أسلوبنا سيكون ثابتاً وقوياً وخصباً،ولكن إذا تداعت الروح فإن كل شئ،في شخصيتنا ينهار معها.

إذا سلمت الملكة يعيش النحل في انسجام

وما إن تموت،تثور الخلية(من أشعار فرجيل)

الروح ملكتنا.ومادامت غير متأذية،سيظل الباقي حولها مطيعاً وخاضعاً،وإن ارتعشت لحظة،ففي اللحظة نفسها يتداعي كل الباقي".

ويجئ المسيح ويلقب"المعلم الحكيم"،ويعلن"جئت لأخلص العالم"وفي عصر المسبح كان العالم في أشد الحاجة للخلاص والطمأنينة والسعادة الإخوة الإنسانية،التي دعا لها فلاسفة اليونان وروما،ومن مدينة بيت لحم في فلسطين يدوي صوت المسيح بالمحبة لبني البشر،فالإنسان هو الكائن الأغلي في الحياة،وهو الساكن الأبدي في قلب المسيح حتي أنه أطلق علي نفسه"ابن الإنسان"ومن فوق الجبل يصوغ موعظة خالدة مليئة بالتطيويبات الطيبات،ففي إنجيل متي الإصحاح الخامس خلاصة الأخلاق وروح العزاء الذي تقدمه الأديان لمداواة المجروحين في هذا العالم،وتطبيباً لجراح البسطاء والفقراء، فبينما كانت سياط الرومان تلهب الظهور،وجباة الضرائب يسلبون اللقمة من فم الجائع،والسيف هو السبيل الأوحد للتفاهم،نهض المسيح مبشراً بعالم جديد"طوبي للمساكين بالروح،لأن لهم ملكوت السماوات.طوبي للحزاني،لأنهم يتعزون.طوبي للودعاء،لأنهم يرثون الأرض،طوبي للجياع والعطاش إلي البر،فإنهم سيشبعون.طوبي للرحماء لأنهم يرحمون،طوبي لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله.طوبي لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون"ويعرف المسيح أن القلوب هي مكان التقوي الحقة"فإن قدمت قربانك إلي المذبح،وهناك تذكرت أن لأخيك شيئاً عليك.فاترك هناك قربانك قدام المذبح،اذهب أولاً اصطلح مع أخيك،وحين إذن تعال وقدم قربانك".

وحين يتقدم بطرس ويسأله"كم مرة يخطئ إلي أخي وأنا أغقر له؟هل إلي سبع مرات؟

فيجيبه"لا أقول لك إلي سبع مرات،بل إلي سبعين مرة سبع مرات"أليس ذلك ما أراده ابكتيتوس حين ينصح في المختصر"أخوك ظالم لك،لا تأخده من هذه الجهة وإنما خذه علي أنه اخوك وعلي أنكما قد غذيتما من ثدي واحد".

ومن مكة تشرق علي العالم المعمور شمس النبي الهادي محمد بن عبد الله،معرفاً نفسه"إنما أنا رحمة مهداة"،وحين يريد الله إبراز جوانب العظمة فيه يتخذ من خلقه دليلاً"وإنك لعلي خلق عظيم"يوضح ماهية الصبر وفضيلة الاحتمال"إنما الصبر عند الصدمة الأولي"ويعلم الناس كيف يتناغمون مع الكون للوصول إلي الأباثيا"ارض بما قسم الله لك تكن اغني الناس"وعن تقبل القدر يبين" إن عظم الجزاء مع عظم البلاء،وإن الله عز وجل إذا أحب قوماً ابتلاهم،فمن رضي فله الرضي ومن سخط فله السخط".

ويأمر بمعاملة العبيد برأفة"هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم،فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل،ويلبسه مما يلبس،ولا  تكلفوهم ما يغلبهم،فإن كلفتموهم فأعينوهم،ومن لك يلائمكم فبيعوهم،ولا تعذبوا خلق الله"،حتي النداء يدعو لتغييره مراعاة لشعورهم"لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي،وليقل فتاي وفتاتي"،وعن المساواة يضرب مثلاً صادقاً" كلكم سواسية كأسنان المشط"،وفي خطبة الوداع،ينبه وقد شعر بحلول الأجل"أيها الناس إن ربكم واحد،وإن أباكم واحد،كلكم لآدم وآدم من تراب،أكرمكم عن الله أتقاكم،ليس لعربي فضل علي عجمي إلا بالتقوي، ألا هل بلغت اللهم فاشهد"وتمتد رحمته لكل المخلوقات"دخلت امرأة النار في هرة"ويسأله السائل"يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً؟" يجيب"في كل كبد رطبة أجر"

تتسلل الأباثيا لجدران الأديرة وتصبح غاية يسعي لها الرهبان،فالراهب عند القديس أكليمادوس"هو ذاك الذي يستعد ليصير مثل الملائكة بدون هم ويشق عنه ثوب العالم"والبابا شنودة الثالث يجد في الرهبنة"الحماية والملاذ من حياة العالم الملئ بالتقلبات والاضطرابات،الغير مستقر في معظم أوقاته،الغير مضمون،المجهول العواقب"ويفسر الرهبنة الحقة بأنها"ليست هي أن يصلي علي طالب الرهبنة صلاة الموتي،إنما الرهبنة في حقيقتها هي أن يموت قلبه عن كل ما في العالم"أي إنها راحة الأباثيا التي تتردد علي ألسنة الصوفية وهم يعرفون حالهم بقول سهل بن التستري"الصوفي من صفا من الكدر وامتلأ من الفكر،وانقطع إلي الله من البشر،واستوي عنده الذهب المدر"، وأبو التراب النخشبي"الصوفي لا يكدره شئ ويصفو به كل شئ"أما سمنون المحب فيقول"التصوف هو ألا تملك شيئاً،ولا يملكك شئ".

في الأدب العربي والغربي القديم،تتردد أقوال الرواقيين بأشكال  مختلفة،فالمتنبي عندما ينشد:

ليس الخوف إلا ماتخوفه الفتي

وما الأمن إلا مارآه الفتي أمناً

إنه نفس كلام إبيكتيتوس عن الأحكام الشخصية التي ينشأ عنها السعادة أو الحزن،وفي اليونان يخاطب الشاعر ثيوجنيز أحد رفاقه:

تعلم يا سيرنس،تعلم أن تكون هادئ العقل

ووفق بين مزاجك وبين الجنس البشري والطبيعة البشرية

وخذ تلك الطبيعة كما تجدها

فهي مزيج من العناصر فيه الطيب وفيه الخبيث

هكذا خلقنا كلنا وليس في الإمكان أبدع مما كان.

 

الأربعاء، 21 فبراير 2024

جزيرة اسبروو... فانتازيا صاغها الواقع

 

جزيرة اسبروو... فانتازيا صاغها الواقع

 

للقصص التي تدور في البحر بين الأمواج والجزر سحراً خاصاً، بقي متوهجاً لا يخبو بريقه منذ أن عرف الإنسان فن السرد والحكاية، ففي مصر القديمة مازالت تحمل قصة الملاح الغريق متعة فنية فريدة، وستظهر فيما بعد بصورة مختلفة في عوالم ألف ليلة وليلة، ومع أوديسيوس التائه في البحر المتوسط بعد غضب الإله بوسايدون عليه تبدأ أحداث ملحمة الأوديسة لهوميروس شاعر اليونان الأول، وتنتهي بعودته لأرضه إيثاكا وزوجته بنلوبي بعد سنوات طويلة عاني فيها الضياع والشقاء دون أن يرسي علي بر، وحين ظهرت قصص السندباد، وعبد الله البحري وعبد الله البري وغيرها من قصص ألف ليلة وليلة، المرتبطة بعالم البحر طغي سحر المغامرة البحرية علي العقل الانساني، وظهر في الأدب الغربي روايات عديدة اتخذت من المغامرة البحرية موضوعاً لها، خاصة مع التقدم الملاحي الهائل وظهور البوصلة التي كانت احدي الركائز الأساسية لحركة الرينيسانس الأوروبية، وأشهر تلك الأعمال رواية روبنسون كروزو لدانييل دافو.

وللأسف يفتقر الأدب العربي المعاصر لحد كبير لأدب البحر، رغم أن العالم العربي يمتد من المحيط للخليج! صحيح عندنا عملاقين هما صالح مرسي وحنا مينا كتبوا عن البحر، لكن كيف يصنع اسمان فقط تياراً أدبياً.

رواية"جزيرة اسبروو" مغامرة فانتازية اتخذت من البحر مصدر إلهام لها، وقد انطلقت الروائية هيام بيومي من حادثة واقعية تجري كل يوم، فالشاب مصطفي مهاجر غير شرعي محشور في مركب، هرب من بلاده بحثاً عن حياة أفضل... ليس هناك ما هو أكثر واقعية من حياة مصطفي، حتي إننا في الفصل الأول نعتقد أننا أمام رواية اجتماعية، وسيظل الخط الاجتماعي متواجداً حتي النهاية لنتبين المحيط والمشكلات الاجتماعية والتربوية التي صاغت شخصية مصطفي الأقل من عادية، المثيرة للشفقة، والمقولبة في نمط الهروب كحل للمشكلات، وقد رسمت الروائية ذلك الجزء بصدق شديد وحرفية عالية، فأنا شخصياً أعرف أشباهه من ضحايا مجتمع قاس منحرف الاتجاهات والآراء، وفهم خاطئ للأبوة أو عدم فهمها علي الإطلاق، ومع غرق السفينة التي تقله مع غيره من الطامحين بحياة آدمية، كالرجل الأسمر الذي قال عنه لنفسه"لابد أن الحرب التي يبدو أنه هارب منها أصعب من الحرب التي نحن فيها وكلاهما مر حقاً، نهرب داخل أنفسنا حين يشتد صراع الحياة ونغلق قلوبنا قهراً حين تتكرر الندوب" يجد نفسه في جزيرة تجسد مفهوم الغرابة الأدبي، وسرعان ماسيندمج القارئ في الأحداث، وسيستكشف شخصية مصطفي التي ستتحول إلي النقيض، فهو يتخد من الهروب والجبن مبدأ يتحكم في حياته، لكنه في النهاية يواجه نفسه ويواجه المخاطر المحيطة به، وتلك نظرية نفسية تعرف باسم fight or flightوهي استجابة الإنسان والحيوان أمام الخطر، فإما يهرب او ويواجه، وفي ميزان الأخلاق ذلك مقياس الجبن أو الشجاعة، يحدث ذلك بعد إداركه" إن القتل ليس إخراج الروح من البدن بل إنه أسهل فالقتل الحقيقي أن تذبل رويداً رويداً حتي آخر قطرة وبعدها لا يهم بماذا تقتل".

تلك الرواية تستحق القراءة والمناقشة، فآفة الحياة الأدبية والفنية، التي أصبحت مجرد بوستات علي منصات التواصب الاجتماعي هدفها الدعاية والمجاملة الفجة أو السخرية المنفلتة، تركز علي أعمال في غاية الرداءة وياللعجب تكون رداءتها وسخرية الناس منها سبباً في شهرتها ونجاحها! وهو مايحطم المنطق لشظايا! بينما الأعمال الجيدة تتواري كأنها تعاقب علي جودتها!

لا تخلو الرواية من أخطاء لغوية وأسلوبية مزعجة، يقع اللوم في ذلك علي الكاتبة كما يقع بنفس الدرجة علي دار النشر، التي أهملت مراجعة الرواية، أما ما نلفت له نظر الكاتبة كي تستفيد منه في الجزء الثاني-إذا كان لكلامي أي فائدة علي الإطلاق-، هو العناية باللغة لأقصي حد وبذل مجهود حقيقي فيها، فاللغة هي اللبنات المكونة للصروح الأدبية، وعندما تخون الكاتب لغته لا يحظي بالقبول المطلوب، ويحدث عكس ذلك أحياناً قد تكون الفكرة متواضعة والموضوع مستهلك ولكن اللغة القوية تغطي علي عيوب كثيرة، وتجنب التكرار في الوصف، وإلي إبطاء الإيقاع السردي قليلاً فهي تريده أن يكون لاهثاً كي يصبح مشوقاً، وبذلك تغفل الكثير من التفاصيل المهمة في الحبكة و، وتقع في مغالطات منطقية، فالفانتازيا ليس معناها عالماً دون قوانين أو منطق بل هو عالم له قوانينه المختلفة، وننتظر الجزء الثاني علي أمل أن يتلافي عيوب الجزء الذي سبقه.