الاثنين، 25 مايو 2015

موضوع أولي منه ألف موضوع!

لا أتحمس كثيراً لبحث المذهب الديني لجابر بن حيان الذي يُنسب له 1700كتاب,وقيل أنه تسمي بجابر لأنه جبر العلم وأعاد تنظيمه,وسميت الكيمياء باسم "صنعة جابر"نسبة له وكان مرجعاً لجامعات أوروبا,واستخدم المنهج العلمي في تجاربه قبل أن يتبلور معني المنهج العلمي ويصبح هو نفسه علماً يدرس.
ولا لمذهب ابن سينا الذي كان كتابه في الطيب يلقب في الغرب"بإنجيل الطب"وفلسفته أكبر من أن نمر عليها في كلمة صغيرة جداً كهذه,وعقليته الفكرية مخيفة لمن يتأمل فيما انتجته,وسمي بالشيخ الرئيس وهو كل عمره 50عاماً!
ولا لنصير الدين الطوسي الفلكي الفقيه البيولوجي الذي كان أثره علي كوبرنيكوس صاحب الثورة الفلكية أقرب للاقتباس من أن يكون توارد خواطر!!
ولا للسهروردي المقتول,بشاعريته وأسلوبه القصصي البديع الذي اعتمد علي الواقعية السحرية والرمزية لحد محير.
هناك ألف موضوع أولي للحديث عنهم قبل موضوع ماذا كان مذهبهم الديني,حياتهم وعلمهم فيها كنوز مخبوءة في التراث هي الأجدر بنا للبحث والتأمل,لكن مادام السؤال عن المذهب,فلنضطر للمرور علي مذاهبهم بسرعة,لأن الحكاية لا تستأهل الوقوف طويلاً!
تتلمذ ابن حيان علي يد جعفر الصادق أحد أئمة الشيعة المعروفة بالاثني عشرية,مع أن التاريخ لا يعرف منهم إلا 11فقط و الثاني عشر المشكوك في وجوده لأن الإمام المنسوب إليه لم يكن ينجب,يعتقدون أنه دخل لسرداب وهو طفل صغير,وسيعود في آخر الزمان!!
كان جعفر فوق علمه الدين وخاصة في الحديث النبوي أحد علماء الكيمياء,وكان شيعياً علي المذهب الإثني عشري,وكان حيان والد جابر هو أيضاً مناصر للشيعة علي حساب الأمويين ودفع حياته ثمناً لمناهضته الحكم الأموي,أحبه ابن حيان ولازمه وفي كتبه يصرح أن علمه هذا يرجع إلي النبي وعلي بن أبي طالب وجعفر الصادق,عاش في عصر هارون الرشيد حتي قيل أن غناه من عمل جابر,والكيمياء حينها كانت شهرتها بين الناس في إحالة المعادن إلي ذهب,ابن سينا والكندي لم يوافقا علي تلك الفكرة والفارابي وقف منها موقفاً وسطاً أما فخر الدين الرازي وأيضاً ابن حيان أيدها,ويطالب ألا يتصدي للكلام في علم الكيمياء إلا من استوفي دراسته فيها,ومع نكبة البرامكة هرب إلي الكوفة ولم يعرفوا مكان مختبره إلا بعد ذلك وهم يهدمون فيها بيتاً.
السهروردي كان شيعياً إسماعيلياً ممن ينادون بالإمامة,وكانت هذه هي إحدي مبررات تصديق صلاح الدين علي قتله,خالط الإسماعيلية وكان واحداً منهم وداعياً لعقيدتهم,وقيل أنهم أبعدوه عنهم وحذروه لأنه يجاهر بالنشاط الدعوي لها في مواجهة سلطة الدولة مما قد يعرضه ويعرضهم معه للخطر,وهو فعلاً ماحدث,ليموت وهو في السادسة والثلاثين أو الثامنة والثلاثين علي اختلاف الأقاويل تاركاً ورائه خمسين كتاباً ورسالة بالعربية والفارسية.
الطوسي الذي اعتبره ابن خلدون أحد أعظم علماء الفرس,انتمي للطائفة الإسماعيلية ثم تحول بعد ذلك للإثني عشرية.
أما ابن سينا الفيلسوف المشائي بل ورئيس المشائية الإسلامية, فقد طعن طعناً شديداً في عقيدته لآراء تتعلق بالقرآن والنبوة والوحي,لكن الشيعة اللإسماعيلية تحسبه واحداً منهم,ويقول الزركلي"كان ابن سينا - كما أخبر عن نفسه - هو وأبوه من أهل دعوة الحاكم من القرامطة الباطنيين".


المذهب الحقيقي لهؤلاء العلماء هو المنهج العلمي,الذي غزوا به عقول العالم,عكس الأحفاد اليوم الذين تعتبر المذهبية الدينية بديلاً لهم عن المنهج العلمي والعلم وكل شئ إلا الطائفية البغيضة التي مزقت البشر ودمرت نقوش الحجر!!

الأحد، 24 مايو 2015

أنا تدمُر...أنا زنوبيا!

حاولت التهرب-قدر ما أمكنني!- منذ اندلاع الحرب الأهلية المجنونة في سوريا,عن متابعة أخبار هذا العالم القاسي المقرف,الذي يموج بالدم والوحشية,ومع ذلك ما زالت تطاردني وجوه ونظرات الأطفال البؤساء في البلدان المنكوبة,وهي تنطق بالفزع والحرمان,ولو مر علي لحظة صفاء نادرة جداً في حياتي تعكرها ذكري المعذبون في الأرض من أهل تلك المنطقة التي لن تري خيراً في العاجل أبداً مادام فيها المذهبيين ومرتزقة الدين والحرب,وصناع الشر الأعظم باسم الله الرحمن الرحيم,المشاركين إبليس عرشه الملعون يحركون الفتن والمصائب, عليهم لعنة الله ومن والاهم ومن يدافع عنهم ومن يبرر لهم بحق كل نقطة دم وكل دمعة حزن وكل صرخة ألم وكل هجرة قسرية وكل حرقة قلب أم علي وليدها وكل تفرقة بين حبيبين وكل مستقبل ضاع وكرامة امتهنت وحياة تحولت لجحيم ومنزل كان عامراً بالأهل والطمأنينة سوي بالأرض وكل ليلة باتها مظلوم يدعو عليهم,طبعاً أول هؤلاء الملاعين تلك المسوخ الشوهاء المريضة التي تطلق علي نفسها اسم داعش,التي لم تكتف بسحق البشر فتحولت بكل قوتها المجنونة المدعومة من القوي العظمي في هذا العصر حقاً وصدقاً ويقيناً,لسحق الحجر الذي نُقشت عليه أروع سجلات التاريخ؛لتصبح بلدن الحضارات العريقة ممسوحة الذاكرة معدومة الأمجاد!!لهفي علي التراث السومري والعربي في العراق التي اشتق اسمها من العراقة!ليت جلجامش يخرج عليهم فيخلص البشرية من رجسهم ودنسهم,لهفي علي التراث الفينيقي والعربي في سوريا,وحمي الله أرض الأجداد في وادي النيل من أن يمسها رجس هؤلاء بسوء!
لكن الأخبار تأبي إلا أن تنفجر في وجهي دامية كئيبة حسيرة في كل صفحة علي الإنترنت,فمن بين الأفعال التي لا توصف في حق البشر ولا يمكن الكلام عنها؛لأن الكلام في هذه الحالة وقاحة والرءوس تقطع والصبايا والنساء يباعون كجواري وإماء ويغتصبن باسم إله بغيض يتصوره هؤلاء في خيالهم المريض يأمرهم بذلك كما يزعمون,والحق أن نفوسهم الخربة هي ما تصور لهم ذلك ليتحرروا من كل قيد علي رغباتهم الدموية السادية القذرة في القتل والسفك والاغتصاب والتعذيب-من بين تلك الأفعال-ترد الأخبار بأن داعش يأجوج ومأجوج الزمان قادمة من كهوفها المظلمة لتدمير مدينة تدمر....المدينة التي يعني اسمها في اللغة العمورية"بلد الأبطال"وفي اللغة البابلية"البلد المعجزة الذي لا يقهر" ينتهي تاريخها المجيد علي يد مجرمي عصابة داعش وصبيانها عبيد شهواتهم وملذاتهم,الذين لو وجدوا رجلاً واحداُ في المنطقة يتصدي لهم لفروا مذعورين كأطفال يجري ورائهم خفير بعصا غليظة!!لهم الحق أولاد الأفاعي هؤلاء أن يتبجحوا بقولهم"باقية وتتمدد",اللهم ما اجعل كيدهم في نحرهم ونج عبيدك من خبثهم,واحفظ أرواح سكان مدنها,وانتقم ممن زج باسم في جرائمهم الشنعاء التي سقطت أمامها حصون الإنسانية-الهشة أصلاً-التي حاولت الحضارة تثبيتها في النفوس.
أضعف الإيمان هنا أن نتكلم-وليس لي غير الكلام مع نفسي والكتابة مع حروفي حيلة وتنفيس عن أوجاع ذاتي-عن تدمر وملكتها العظيمة الشبيهة لحد هائل مع الملكة السكندرية كليوباترا,في طموحها وانكسارها ولا عجب فمن المؤرخين من يعتبرها جدة لها عن طريق الأم.
نتكلم في محاولة لمقاومة محو الذاكرة المنهجي الذي بدأ في اللاتعليم الهرائي الذي نتعرض له,وتوج بطلاً علي يد الخارجين من فجوة زمنية من صحراء بدوية منذ آلاف السنين,مدججين بسلاح اللسان السليط واليد الغشيمة والقوة الغاشمة لإعادة تشكيل الحاضر نحو الهاوية,وتغيير معالم التاريخ الحي الشاهد علي اندثار أمثالهم ممن تحدوا الحياة الإنسانية وحاولوا قسرها لتتماشي مع أهوائهم الدنيئة التي لا تعرف غير البطن والفرج وبين فترات الفتك بالناس بين كل شهوة وشهوة يقومون بهواية تدمير ما لا يقدر بثمن ولا يمكن شرح أهميته؛لأن شرح أهميته لا يكون إلا للحمقي وزمن النانو والإنترنت والهجرة نحو الفضاء لا يعرف الحمقي,فقط نحن المسمون بالعرب لاستخدامنا اللغة العربية من نعرفهم ونهيأ لهم سبل الركوب علي ظهورنا والسير بنا نحو الجحيم والعذاب والجهل,بينما الغرب وأوروبا,أدام الله عليهم عزهم؛لأنهم يستحقونه بجدارة علمهم وإنسانيتهم وفهمهم الراقي للثقافة ورعايتهم لكل ذي روح يتسابقون في مشهد مفرح نحو المعرفة والعلم وتيسيير حياة الإنسان للأفضل ليكون"علي هذه الأرض ما يستحق الحياة".
...لا!الأفضل أن نخرس نحن تماماً فلا نستحق حتي الكلام,ونعطي الكلمة لتدمر وملكتها زنوبيا...لنستعيدهما من النسيان والفناء المهددين به علي يد صبية داعش الأشقياء.
أنا تدمُر

زارني الشاعر الإيطالي أوجينيو مونتاله,فكتب قصيدة عني أسماها "ثري تدمر"يقول فيها:
لما هبطت ثري تدمر
مابين أقواس ناصعة ونخيل
وخزة في الحلق حذرتني
ستخطفين روحي
لما نزلت من علياء الربوة
هذه سلال السمك
أسنان كالمنشار
انقبض قلبي
لما غادرت ذري الشفق
إلي متحف من جليد
ما بين مومياء وخنفس
ألمت بي فاجعة يا حياتي الوحيدة
ما بين حجر رمل وشمس وطين وخزف قدسي
اندلعت شرارة
أصبحت رماداً
ولدت من جديد
في تدمر"
لابد أن يولد من جديد فيّ,فأنا مدينة من أصول البشرية القديمة,أواسط العصر الحجري القديم التي يعرفها علماء الآثار باسم الفترة اللفوازية أي بين ستين وأربعين ألف سنة مضت عرفت الحياة ونشأت عندي وبفضل الماء-ومن غيره؟!-من نبع أفقا الذي تغذيه ثمانية آبار استوطنني إنسان النيادرتال والإنسان العاقل.
أنتم اليوم لا تعرفون عن تلك الفترة شيئاً؛فلم يذكرها تاريخكم المدون,فلنطو الزمان حتي نصل إلي بوابة النور الإنساني...الكتابة!
أطلق آخر ملوك الأكاديين"شاركالي شاري"علي أبنائي اسم"الشعب الآموري" حوالي عام2210ق.م ,أما الملك السومري جوديا فيذكرهم باسم"سكان جبل بشري"ومن هذا الجبل كانت تجلب له أحجار البناء,تعرفون هذا الأمر بفضل القطع الفخارية المكتشفة في معبد بعل,تعرفت علي السومريين والتقت ثقافتي بهم عن طريق التجارة التي أنعشتني وكانت قوام دولتي وجعلت لي وضع اقتصادي متميز وعرفتني بثقافات العالم المختلفة حيث احتككت بها واحتكت بي,عرفت ازدهاري التجاري منذ بداية القرن الأول الميلادي ووصل أوجه عند سقوط مدينة البتراء عاصمة الأنباط عام 106 حتي القرن الثالث لما دمرني أورليان 273,فنشطت الطرق التجارية القديمة وأخذت تنطلق من الفرات حول الصحراء باتجاه حلب.
كبير معبوداتي هو الإله بعل الذي عبده عرب شبه الجزيرة قبل مجئ الإسلام وجاء ذكره في القرآن الكريم"أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين",عرفته أيضاً  حضارتي بابل ومصر العريقتان,احتل هذا الإله مرتبة الإله الرئيس,تم تدشين بناء معبد له عام 33ق.م ينهض فوق معبد قديم عنه شيد عام 44,كما عرفت عبادة مناة واللات,وعبادة نابو إله الحكمة.
موقعي الجغرافي المميز بين الإمبراطورية الرومانية والفارسية,أعطاني أهمية سياسية والصحراء المحيطة بي كانت درع قوي في وجه الغزاة,حدث تقارب بيني وبين روما في عهد الإمبراطور هارديان الذي منحني حقوق كحقوق روما كحق الملكية المطلقة والحرية الكاملة في الإدارة السياسية ولقبني بالمدينة الحرة وخولني سن ضرائبي وجبايتي بنفسي,في عام41حاول مارك أنطونيو غزوي,فارقني أهلي وأخذ الرماة وعبروا الفرات,ومن الضفة المقابلة أخذوا يمطرون الرومان بوابل من السهام وهم المشهورون كرماة بارعين.طوال هذا الوقت كانت تبعيتي للرومان صورية فقط حتي جاء الإمبراطور تارجان فألحقني بالمقاطعة العربية التي أنشأها,كانت الإمبراطورية الرومانية تهب حكمها لمن يتمكن من الوثوب علي العرش والحفاظ عليه دون اعتبار لأي شئ آخر؛لذلك حكمها عربي من ليبيا يدعي سيبتيموس سيفيرس,وزوجة له من حمص ابنة الكاهن الاعظم لهيكل إيلاغابيل عرفت باسم جوليا دومنا,مع ذلك لم أتأثر أنا اللهم إلا أنه فرض علي أبنائي التجنيد الإجباري كما فرضه علي بقية مدن الإمبراطورية,لكن ولده كراكلا لما تولي الحكم أعطاني لقب"المُعمرة الرومانية"وسواني بروما من حيث الإعفاء الضريبي؛فازدهرت الحالة المالية في الداخل مما تيسر لي إنشاء بوابة"قوس النصر"في شارع معبد بعل,وبنيت المدافن الفخمة التي اصطلح علي تسميتها"البيوت-المدافن".
ثم ظهرت الأسرة الأذينية تحكمني في بلورة واضحة لهوية المدينة العربية,التي استقلت ذاتياً وظلت تابعة اسمياً لروما,ورأس تلك الأسرة التي فكرت في الاستقلال عن الرومان والفرس وتكوين دولة عربية قومية موحدة هو أذينة بن خيران,ساعده علي ذلك الاضطرابات التي اجتاحت روما وضعضعت هيبتها التي كانت شبه مقدسة,فقد برع الرومان براعة تضرب بها الأمثال في الحكم والقانون والسياسة,فجعلوا لروما مالها من صيت مهيب يسيطر علي رعاياها وعلي المقاطعات التي دخلت تحت سيطرتها.
...وهنا زنوبيا أحق بأن تتكلم عن نفسها وزوجها.
أنا زنوبيا

أنا زنوبيا سليلة كليوباترا والزباء,التي ظن المؤرخون أنها هي أنا وخلطوا بيننا بسبب تشابه الاسمين,حكايتي تختلف تماماً عن حكاية الزباء وما حدث لها.
أنا زنوبيا زوجة الملك أذينة الثاني ابن أذينة بن خيران الذي قتله الرومان,عن طريق الإيعاز لرجل يدعي روفينوس,فشكي زوجي أذينة للإمبراطور فالريان وطالبه بالانتقام من هذا الرجل,وكما هو متوقع لم يلق الإمبراطور بالاً له,ففكر بالاستعانة بعدو الرومان للانتقام لمقتل ابيه,فأرسل رسله إلي الملك سابور محملين بالهدايا,لكن غروره أبي عليه أن يقبل هدية زوجي فرمي هداياه في النهر ومزق رسائله,غضباً من تجاسره علي مكاتبته وإهدائه الهدايا,وأعلن أنه لو كان يأمل في عقوبة خفيفة علي فعلته أن يأتي له وهو مغلول في الأصفاد وإن لم يفعل فسيهلكه ويهلك أهله ويدمر مدينته تدمر!!
اشتعل زوجي غضباً لأهانته التي تلقاها من سابور,فحشد جنودة وجمع القبائل الموالية له ومعها حاميات رومانية كانت في المدينة وتوجه لمقاتلة هذا المتغطرس,لاقاه وهزمه هزيمة نكراء هدأت غضبه لكرامته الجريحة وشرفة العربي.
تزايدت انتصارات زوجي العسكرية فمنح نفسه لقب ملك الملوك,ومنحه الإمبراطور الروماني لقب إمبراطور جميع الشرق,تميز زوجي بالتسامح الديني فمنع تعصب الوثنيين ضد المسيحيين أتباع الدين الجديد وكف اضطهادهم لهم ومنح لهم حرية بناء الكنائس حيث شاءوا وأعطي لكل طائفة حريتها الدينية,وفي  وليمة عيد ميلاده التي أقامها في حمص قتله ابن أخيه معن الذي ظن أن أذينة استلب الملك منه,وقتل معه ابنه الأكبر من زوجة أخري هيرودوس,لكن سيوف حمص انتقمت لمقتل ملكها منه,وأصبحت أنا وصية علي "وهب اللات"ابني ووريث أبيه أذينة.
دوماً كنت محبة للعلم والثقافة,ألفت كتاباً عن تاريخ مصر,وأتقنت اللاتينية واليونانية والآرامية,وجعلت حولي علماء العصر وفلاسفته وعلي رأسهم الفيلسوف "لوجين"الذي كان معلم أبنائي ورفيق تأملاتي الفكرية وموضع استشارتي,ولقربه مني ومن حكمي أعدمه الرومان حين سقطت تدمر في أيديهم.
قلما اعتليت الأسرة المحمولة علي أكتاف العبيد,أفضل أن أكون علي فرسي,أخطب في جنودي بصوتي الرنان أو أصطاد الوحوش مع زوجي,وفي عهدي حُصنت الأسوار التي استعصت علي الجيش الروماني أيام الحصار,وعمرت الصحراء وأجريت المياه وشققت الطرق.
آمنت أن الفرس كالروم لا يعرفون إلا مصلحتهم ولو أردت السيادة لتدمر فستكون بيد شعب تدمر,احتفظت لابني بألقاب والده مما أغضب روما,براعتي في الحكم والإدارة زادت من حقد روما علي تدمر,فبعثت جيشها لغزو مملكتي لكني قاومته ورددته هارباً,وفي أثناء مطاردته  أنشأت الحاميات التي وصلت لحدود أنقرة!لم يغب عن بالي خطر الفرس الذين يتحينون الفرص للانقضاض عليّ,فأمرت زنوبيا علي نهر الفرات.
انتصاراتي العسكري أرعبت الرومانيين ولما تولي أورليان منصبه في الحكم صاح به مجلس الشيوخ:"نجنا من فيكتوريا و زنوبيا,أغثنا من التدمريين"ذكروا معي فيكتوريا ملكة الغال.
خرج أسطول الرومان من الأسكندرية لمواجهة القوط,فانتهزت الفرصة السانحة وبتشجيع من المصريين عن طريق مراسلتهم التي حرضوني فيها علي تحرير مصر من الرومان,أرسلت قائدي زبداي علي رأس سبعين ألف جندياً لإسقاط حاكمها وإقامة حامية فيها.
قرر أورليان القضاء علي,فحشد حشوده وتحديته أنا عندها تحد سافر,فمحوت صورته من علي النقود وأمرت بضرب صورة ابني وهب اللات علي النقود بدلاً منه,ولقبت نفسي بالملكة وجعلت لقبي وابني في الاسكندرية هو لقب إمبراطور الرومان"أغسطس".
استطاع القيصر استرداد الأسكندرية في أول ضربة مزلزلة وجهت لي فأصبح طريق الجنوب أمامه مفتوحاً للهجوم علي تدمر,وخسرت أنا مورداً اقتصادياً وموقعاً استراتيجياً هاماً.
وبدأ يسترد المدن التي أصبحت تحت إمرتي,فبدأ الأعداء الداخليون وعلي رأسهم اليهود,يبثون إشاعات لتدمير روح الجنود المعنوية ونشر الفزع والرعب بين الجنود, قالوا أن هزيمة تدمر أمر إلهي انتقاماً منها علي مشاركة جنودها ورماتها في هدم هيكل اليهود,ونقلوا عن حبرهم يهوذا قوله"الإسرائيلون سيحتفلون في أحد الأيام بعيد,هو عيد هلاك ترمود التي ستهلك كما هلكت ثمود"وترمود هي نفسها تدمر.
استخدم أوليان الخديعة في معركة انطاكية فأوهم الجيش أنه ينسحب فطارده مبتعداً عن قواعده العسكرية,ثم  باغتهم بالهجوم عليهم ولم يقدروا علي المراوغة لثقل أسلحتهم وخيولهم مقارنة بالرومان,فانكفؤوا مرة أخري عائدين إلي أنطاكية,فغادرت المدينة مسرعة لأن أهلها لم يكونوا معي وخاصة المسحيين الذين يعادونني لانحيازي إلي جانب بولس السيميساطي حين قرر مجمع انطاكية عزله من وظيفته,لكنني جعلت منه الرئيس الروحي والديني في أنطاكية,وفي اليوم التالي دخلها أورليان,وتقهقرت من حمص التي حدثت فيها مقتلة عظيمة بين الجيشين وغنمها أورليان إلي حصون تدمر التي أشرفت علي تجهيزات حصونه بنفسي وخاصة وضع المجانيق عليه وعبأت آليات الدفاع علي أسواره ووزعت عليها الرماة التدمريين البارعين.
طال الحصار حتي وصل إلي مسامع أورليان تهكم شيوخ روما عليه لعجزه عن هزيمة امرأة-آه لو يعلم الرجال من هن النساء علي حقيقتهن لتغير العالم في أعينهم!!!-فأرسل لهم قائلاً"يتحدث الرومان أني أحارب امرأة,ولكن لا ريب في أن الخطر كان أخف لو كنت أحارب رجلاً؛لأنه يستحيل علي وصف استعداد هذه المرأة للحرب"
عرض علي أورليان استسلامي مقابل سلامتي بعد أن ذاق جيشه العذاب في مواجه حصوني لكني أجبته متهكمة رافضة مستعدة للحرب حتي النهاية,ازداد مدد جيش أورليان كثرة,فصممت علي الذهاب بنفسي نحو فارس لطلب العون,لكن القيصر علم بخروجي فاقتفي أثري وقبض علي فرسانه وأنا أهم بركوب زورق ليوصلني للشاطئ الآخر من الفرات.
علم التدمريون بالقبض علي وكان جوع الحصار وتعبه أنهكهم ففتحوا أبوابهم للرومان الذين قبضوا علي حاشيتي واستصفوا أموالي,وفي طريقه للعودة إلي روما علم بثورة التدمريين علي حاميته التي تركها,فعاد ودك المدينة وقوض الأبنية وهدم الأسوار وأعمل في السكان السيف,وقبل دخولي روما أسيرة فعلت ما فعلت جدتي كليوباترا من قبل,شربت السم هرباً من العار ولو كنت دخلت لكنت دخلت ذليلة أمام مركبتي التي أعددتها لدخولي لروما منتصرة ظافرة...
مت وتركت التاريخ يذكرني كامرأة وقفت في وجه امبراطورية وكافحت من أجل شعبها ورفعة بلدها,والآن أري الصبيان الملاعين من شياطين الأنس يهددون مدينتي وآثاري العظيمة بالتدمير كما فعلوا من قبل,وعلي قلعتي الشامخة يرفرف علمهم الدنس بدم وشرور فظيعة...الآن فقط أشعر أني هزمت وأن كل مجهوداتي ضاعت في يد أحفاد بلهاء انشغلوا بالمذاهب والأديان وتقاتلوا علي من فيهم سيدخل الجنة!!بينما الأشرار يتكونون في رحم مدنهم ليقضوا عليها,يقضوا علي أمهاتهم! الآن فقط تبكي زنوبيا علي ما جري لمدينتها المهددة بالضياع من السجل البشري,وصدقوني لو استمر هذا الحال,سنجد هؤلاء المجرمون يهددون الهرم وأبي الهول ومعبد الكرنك وآثار الفراعنة العظام.
أنا ملهمة الشعراء والروائيين والمسرحيين,أحتاج الليلة بالذات لمن يرثيني ويرثي تدمر التي صرخ منصور الرحباني في مسرحيته عنها: تدمر سقطت سقطت يا وجع الشعراء
فعلى الصخر وجوه رسمت من دمع و دماء
و أنين ما زال صراخاً يعصف بالصحراء
زنوبيا زنوبيا زنوبيـا . . .
فلتبقى الأشعار سيوفاً في أيدي الشعراء
ولتبقى الثورة احلاماً في نوم الفقراء
و الثوار رجاء ولدوا لا أسماء
و الثوار رجاء ثاروا لا أسماء
و هبوا النصر و راحوا لا أسماء


أ


السبت، 9 مايو 2015

المشائي والمعتزلي

لطالما استغربت من المناوشات التي تنشأ بين أناس يعتقدون أن الأدب والعلم في حلبة صراع علي العقل الإنساني,فريق يؤيد العلم علي حساب الأدب,وفريق يؤمن بالأدب علي حساب العلم,ويبدأ الجدال بينهما حول الأفضلية!!
أؤمن بأن العلم والأدب وجهان لعملة واحدة(الصدق/الحقيقة/الإنسان) كلاهما,يبحث عن نفس ما يبحث عنه الآخر,ولكن اختلفت الآليات ونقاط الانطلاق نحو الهدف,هما قدما الإنسانية نحو تحررها من سطوة الجهل والخواء,وطريقة أساسية لاستعادة إنسانية الإنسان المفقودة,أو بالأحري الإنسانية التي يحلم بها ولم يبلغها بعد رغم جهاده الطويل الأليم!
يعبر كتاب الحيوان للجاحظ عن هذا المعني بوضوح,لو كان في الأدب العربي عشرة من الأوائل فلابد أن يذكر الجاحظ من ضمنهم,أديب حقيقي يملك ناصية اللغة ويطوع البيان لما يريد توصيله,مصداقاً لقول الله تعالي"الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان"ذكر البيان مباشرة بعد عملية خلق الإنسان,كأنها هي الشاهدة علي إتمام خلقه,والإنسان مجرد فرع من شجرة الحياة المعقدة,أي هو حيوان,والحيوان وصف يطلق علي كل حي,فليست سبة ولا شتيمة,وعند الجاحظ مواصفات الخلق مسرودة بالبيان الذي علمه الله للإنسان!
براديجم علمي جديد يقف في مواجهة براديجم أرسطو,وكفي بالجاحظ شجاعة أن يقف في وجه أرسطو سيد الفلسفة لقرون طويلة,لدرجة أن ابن رشد اعتبر خلق الله لأرسطو عبرة علي وجود الإنسان المفكر الكامل,ولا ينكر أحد عبقرية أرسطو المتفردة,لكن في العلوم الطبيبعية تتبدي لنا آراؤه مثيرة للضحك وللسخرية,وقد كنت قبلاً لا أصدق ما أجده من مقولات أرسطو وأظن أن هناك خطأ ما في النص,ووجدت الجاحظ نفسه في الحيوان يعتقد أن المترجمين أخطأوا في ترجمة آراؤه!!
الجاحظ مبدؤه في منهجه العلمي التجريبي القائم علي الملاحظة والاستنتاج ثم وضع نظرية مستندة لمشاهدة علمية"لا تشفيني إلا المعاينة",هو رجل يعتمد علي الشك ليصل لليقين" فاعرف مواضع الشّكّ، وحالاتها الموجبة له، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له."وهنا يتجلي لنا مذهب الجاحظ المعتزلي,فهو بالعقل يقبل وبالعقل يرفض,يناطح أرسطو ومع كل رواية يستخدم ألفاظ مثل"قالوا,زعموا....,......,"فالجاحظ يدرك جيداً أن الحقيقة العلمية ليست في النصوص والروايات بقدر ما هي موجودة في التجارب والنظر العقلي والعمل اليدوي,فهو يقوم بإجراء تجاربه ويسأل الجزارين والصيادين والحواة وأصحاب الطيور والأفيال عما يجدونه.ويأتي العلم الحديث ليقارب الكثير من استنتاجات الجاحظ وينفي ما كان يتعقده أرسطو.
في متون الجاحظ ومتون أرسطو عن الحيوان ووصفه عديدة, اختلافات عديدة تبعاً لطريقة تفكير وللإنصاف أيضاً معارف كل عصر منهما,فما توفر من معارف للجاحظ تزيد بالطبع عما كان في عصر أرسطو,ويبقي الاختلاف الأساسي اختلاف منهجي في طريقة البحث والتناول والقدرة علي الاستنتاج,الجاحظ لم يكن رد فعل علي أرسطو وإنما كان له نداً,مستخدماً الصبغة الأدبية في كتاب علمي.
المشائي والمعتزلي يجمعهما , النهم للمعرفة في شتي مجالاتها,واهتمامهما بشركاء الحياة علي الكوكب والرغبة في دراستها وفهمها وهو ما يتضح في شغفهما بفروع أفراد العائلة الأرضية.