الخميس، 29 أكتوبر 2020

سينما مروان حامد...المرحلة الأولي

 

1-كان لابد للي لي أن تضئ النور:

تتأتي عظمة الفنون الإنسانية من كونها قادرة علي نزع الأقنعة التي يختبأ داخلها الكائن الإنساني,متحصناً في أوهامه وخيالاته من الحقيقة المرة التي لايقدر علي إدراكها سوي الفنان؛لذلك يصبح هو الأكثر معاناة بين بني البشر,لأنه اقترب ورأي,ذاق وعرف,تألم وعاني,الحقيقة العارية البشعة لا يستطيع الإنسان الغارق في اليومي والمعتاد والفاقد للدهشة مواجهتها,لابد أن يطمرها بين أطنان الزيف والأكاذيب والغرور حتي يحتفظ باحترامه لذاته وقدرته علي الاندماج والتأقلم,ويعيش علي أمل أنه رجل طيب ويوماً ستجازيه الحياة خيراً,متعامياً عن باطنه ومتجاهلاً قوانين الحياة نفسها,أما الفنان بأدواته المختلفة يستطيع التحديق إلي الهاوية المظلمة للإنسان حتي يُدمي عينيه ويتأزم عالمه فيدفع ثمن المعرفة غالياً,لكنه لا يقدر أن يفقأهما كما فعل أوديب عندما تجلت له الحقيقة البشعة حين سمع قصته المشئومة من فم الراعي,لا يقوي علي الصمت لأن الصمت خيانة لشخصه ومجتمعه,وقبل أي شئ آخر لفنه,كينونته وسر وجوده.

هكذا كان يوسف إريس,في قصته(أكان لابد يا لي لي أن تضيئي النور),حيث يتقمص شخصية عبد العال إمام جامع الشبكشي في الباطنية,وكر المخدرات وقبلة المساطيل,يظن عبد العال أنه أفضل وأرقي من مجموعة الحشاشين حوله,وبغرور الشباب يخيل له أنه المختار السماوي لهداية الحي ليترك جلسات الكيوف ويتجه نحو الصلوات الخمس,قبل أن يواجه حقيقته بل وحقيقة كل رجل عندما تضعه الحياة علي محك المرأة,وخاصة إذا كانت فاضحة الجمال...وخاصة إذا كانت لي لي,يظهر المعدن الأصلي سواء بمقاومة الإغواء الأول للرجل أو بتجاوزه,وعبد العال كذكر وحيد جائع للجنس ومكبوت من جهة المرأة,لا يتمكن من مقاومة ذلك الجسد الفائر الذي يراه من المئذنة وهو يبدأ آذان الفجر,لي لي تدعوه لجسدها وهو يدعو الناس للصلاة,وكلاهما ينجحان في دعوتهما!يحتشد الناس علي إثر الابتهالات العميقة الصادرة من  قلب عبد العال مناجياً ربه معلناً ضعفه وقلة حيلته,وعندما يتحقق حلمه في تجميع الناس للصلاة وامتلاء المسجد المهجور لأول مرة,يهجر هو المسجد والناس سجود خلفه ويذهب إلي فاتنته لي لي التي تغلق في وجهه الباب.

يقتبس مروان حامد في فيلمه الأول (لي لي)تلك القصة التي كتبها يوسف إدريس عام1970لينقلها بلغة السينما علي الشاشة كفيلم قصير بطولة عمرو واكد(الشيخ عبد العال)ودينا نديم(لي لي),في امتزاج الأدب بالسينما تلتهب الحواس الفنية وفي الغالب يكون الناتج عبقرياً,فأجمل أعمال السينما هي التي جعلت من الأدب عامودها الفقري لتقترن الكلمة مع الصورة والصفحات مع المشاهد ويتحول المقروء إلي مرئي فتزداد المتعة وتتوالي المشاعر والأفكار من الجهتين.

مروان حامد من قراء الأدب المدركين لضرورته وحساسيته بالنسبة للعاملين في مجال السينما,تعلق بالعديد من الأدباء ومن ضمنهم كان يوسف إدريس وبسبب وعيه الفني,وإيمانه بفن السينما وحب الأدب ظهر فيلم لي لي جرئ المعاني,ومروان كإدريس كلاهما فنان يحمل همومه الخاصة وهموم الإنسان العامة,جريئان يقولان ما يعتقدانه,كل في زمنه وعلي طريقته,مروان مخرج صادم في أعماله التي تناقش قضايا المجتمع المتحلل والمتهاوي,المجتمع الذي ينظر لأصحاب العمائم علي أنهم رجال الله المخلصين ويصدقونهم ويتركون في أيديهم حياتهم ومعاشهم,ولو ظاهرياً كي يرضون ضمائرهم القلقة,فالتهبت قروحه وهو يشاهد الشيخ عبد العال المفتون بصاحبة الجمال الشيطاني,وكلمة شيخ هنا ليست في موضعها فأشباه عبد العال في الأساس لقبهم المناسب "الفقهاء"فالشيخ كلمة تطلق في الثقافة العربية علي الحكماء والعلماء مهما كان سنهم وتخصصهم في العلوم المفيدة لحركة التقدم البشري,فقد كان ابن سينا هو"الشيخ الرئيس"وقد كان طبيباً وفيلسوفاً,ولم يعرف عنه اهتمامه بالأمور الفقهية التي تشغل عبد العال,لقب شيخ كبير عليهم ولا يلائمونه علي الإطلاق,فهم الفقهاء الذين غرقوا في الكتب القديمة المليئة بالقضايا الهامشية التي يثيرون حولها الجدل رغبة منهم في السطو علي عقول البسطاء.

وكما بدأ إدريس قصته من النهاية,يبدأ أيضاً الفيلم من النهاية,الكل في انتظار الإمام ليقوم من السجود الطويل,الكل تحت سلطته المطلقة لا يجرؤ أحدهم علي رفع رأسه وإلا ضاع الثواب والأجر,أحد المصلين يستعين بقصة سليمان والجن الذين ظلوا يعملون وهو ميت حتي نخرت السوس عصاه وتبين لهم أنه مات,وهنا إشارة إلي قراءة خاطئة للدين أدت لكوراث لا حصر لها,فعبد العال ليس سليمان والمصلون ليسوا الجن,لكنه القراءة التي تريد استعادة كل شئ دون تمحيص ولا فهم,وتحويل الرمز الديني بالعنف والإكراه إلي شئ عملي ملموس في الحياة,وهو أمر مستحيل.

عمرو واكد في بداياته مروان حامد في بداياته ودينا نديم تخوض تجربتها الوحيدة أمام الكاميرا,روح الشباب الخلاقة في الأداء التمثيلي والرؤية تفرض نفسها علي كافة المشاهد,الموضوع نفسه الذي اختاره جرئ يحتاج إلي أرواح وثابة تثري فن السينما.

نعرف عبد العال من عبد العال نفسه!فهو يقدم نفسه كشاب أزهري يحلم بإصلاح الناس عبر التوجه الديني,مانسمعه في التعليق الصوتي ليس الراوي العليم بل البطل الذي تنتظره المفاجأة التي ستقلب حياته,إنها رؤيته لنفسه القديمة التي ستنهار مع اصطدامها بالغريزة الأساسية للإنسان...الجنس...أصل الوجود وأطهر فعل عندما يكون في النور بدون استخفاء أو خجل,وأحقر سرقة عندما تكون تلصصاً في الظلام,ظروف عبد العال أوقعته في الجنس الحقير,جنس العاجزين,فهو لا يستطيع المقاومة ولا الهرب,وأجبن من أن يقوم بفعل حقيقي,مروان حامد وواكد يوضحان طبيعة الحرمان الذي يعاني مه سواء في حديثه عن أحفاد ابن المعلم حنتية(سامي العدل) المولودين بدوان زواج شرعي,أو من نظراته إلي لي لي,حيث الشبق المكبوت المحرم يطق من العينين المحرومتين,تقدم لي لي نفسها كجسد شهي تقف حدوده ند النظر,إنهما تاييس حي الباطنية وبافنوس الراهب الساقط من علياء الملكوت ليتمرمغ في شهوات الأرض,غير عابئ بأي شئ سوي تاييس نفسها,لا يهمه المسيح ولا الملكوت ولا كل ما أفني فيه عمره,ربما كانت هذه الشخصية التي كتبها أناتول فرانس في رواية(تاييس)في ذهن يوسف إدريس وهو يصوغ شخصية عبد العال,الذي جعله يدلي باعترافه تاماً غير منقوص,وهو يترك الصلاة في القبلة التي تراءت له فيها لي لي كأنثي مغوية فيترك صلاته وسجوده ويقفز من النافذة ليطفئ حرمانه ويودع أوهامه,مروان حامد يدرك أن الجنس هو عقدة عبد العال وليس رغبته في هداية الناس,فهاهم الناس ورائه قد تركهم وهرع نحو ما يبتغيه حقاً,وقد جسدت دينا ندي شخصية لي لي نصف المصرية نصف الإنجليزية الثمرة المحرمة علي الحارة والمكرسة للإنجليز,ذات الجمال الملائكي إذا أحبت والشيطاني إذا أرادت,بصورة كانت تنبئ عن موهبة قوية تمد السينما بنموذج نسائي غير معهود في تاريخها لكنها فضلت مجال تصميم الملابس للسينما والتليفزيون,في مشاهدها مع عمرو واكد تتجلي السطوة الأنثوية المكشوفة علي الذكورة المختبئة في شرنقة الورع,يتكشف الزيف وتستعلن الحقيقة,صحيح أنه يقاوم عندما ينغلق عليهما باب الشقة لكنها ليست مقاومة المختار بل مقاومة المضطر,عندما تبرز من خلفه فجأة بنظرة جريئة تنفد إلي داخله,أما وهي ممدة علي الفراش تحت الضوء الساطع لا يكبت جماح رغباته أكثر من ذلك,هي في النور متوائمة مع نفسها معلنة عن حقيقتها وهو علي المئذنة في الظلام يتدثر به خوفاً من الانفضاح,إن المئذنة في العمارة الإسلامية في بعض التحليلات ترمز إلي القضيب المنتصب والقبة إلي المرأة الحامل,وهذا ليس إساءة كما يتبادر إلي العقول السطحية,الجنس والتناسل آية من آيات الله لمن يتفكر في الخلق والحياة,لكننا تعودنا أن كل شئ يسئ لنا وكأننا نطبق المثل السائر"اللي علي راسه بطحة بيحسس عليها,الجنس ورموزه  يحيطان بالشاب من كل ناحية,فليس له إلا أن يذعن لكن لي لي تصده,فهي لا تريد دروس في الصلاة كما في القصة ولا في اللغة العربية كما في الفيلم,إنها تريد أن تضئ النور فقط,لذلك يردد عبد العال متحسراً عدة مرات في القصة"أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور؟!"إنها لم توقد نور حجرتها وتستعرض جسدها إلا بغرض الكشف عن سيطرة الغريزة علي عقل الإنسان,نور لي لي هو النور المكبوت بفعل ألف قانون وقانون,شرع في الأساس للحفاظ علي الملكي وليس هناك ملكية للرجل الشرقي أعز عليه من المرأة,وعندما تضئ لي لي النور وتتكشف يصبح عبد العال في الظلمة,في القصة ينطلق عبد العال ولا يعود تاركاً المصلين ليتحولوا إلي نكتة تروي وقد ظلوا سجداً حتي جاء من ينبههم,لاحظ الرمز في الحكاية كلها وكيف حول عبد العال الناس الذين سلموا له السلطة الروحية إلي نكتة!,أما بعد أكثر من ثلاثين عاماً من كتابتها وفي رؤية مروان حامد,فقد استشري النفاق إلي درجة أن عبد العال يجد في نفسه الجرأة علي الرجوع واستكمال الصلاة بينما المساطيل خلفه يتململون.

فيلم من 40دقيقية يمكنه الكشف عن عشرات الأفكار التجليات إنها عبقرية السينما وعبقرية مروان حامد,الذي سينطلق بعد ذلك بفترة قصيرة لإخراج أحد أهم الأعمال السينمائية المصرية منذ بداية القرن الحالي.

2-الشهادة السينمائية:

الأفلام الخالدة في السينما المصرية التي حققت جماهيرية واسعة وحققت نجاحاً فنياً بارزاً,هي تلك التي عكست زمنها وتجلت فيها أمراض عصرها وتحولت إلي وثائق سينمائية,أصبحت مرجعاً للحالة الاجتماعية والسياسية في مصر بدءً من فيلم العزيمة لكمال سليم,مروراً بأعمال صلاح أبو سيف وحسين كمال وغيرهم من المخرجين إلي فيلم"عمارة يعقوبيان"المقتبس من رواية تحمل ذات الاسم للكاتب علاء الأسواني,صاحب القدرة الفنية علي الغوص في الذات البشرية وتحسس مناطق ضعفها وأماكن الوخز من وجع الحياة,بتعاطف شديد يمنع القارئ من إدانة أي شخصية,فالفهم عدو الإدانة,,بل نتقبل الروح الإنسانية بخيرها وشرها,بتلك النغمة العازفة علي مواطن الجمال والقبح في الذات جالت كاميرا مروان حامد في المجتمع المصري أثناء حرب الخليج الثانية,وإن لم يظهرذلك الحدث في الفيلم عكس دوره الكبير في الرواية,يقدم من خلال نجوم ونجمات مصر شخصيات صاغها سينمائياً الكاتب الكبير وحيد حامد,من تحولت أعماله عبر حوالي 50عاماً إلي من أفلام شرحت المجتمع المصري وبلورت أزماته وقضاياه إلي أعمال تنبؤية تحققت في السنوات الأخيرة,فهو أكثر حذر من خطر المتطرفين في أعماله وهوجم من الإسلاميين وغيرهم من عديمي الوعي بالخطر الكامن بفعل الإرهاب المتولد عن قناعات دينية,وظنوا أنه يبالغ في تصويرهم بشكل كاريكاتيري ومع بروزهم علي الساحة منذ عام2011اكتشفنا أن حتي وحيد حامد لم يتمكن من الوصول إلي مدي السلوك المنحط المتدثر بالمظاهر الدينية الكاذبة.

يحكي الأب والابن-وحيد حامد ومروان وحيد حامد-حكايات من قلب المجتمع القاهري,معروفة سلفاً وسُمعت بأكثر ن طريقة,لكن الفن هو وحده القادر علي فتح أحشاء الحكايات مهما تم تكرارها وترديدها,باحثاً عن الكيفية التي أدت للصائر المختلفة لبني البشر:

-العجوز والصبية:

زكي الدسوقي(عادل إمام)أحد بقايا العصر الملكي الذي يحن إليه ويعتبره الزمن الجميل لمصر,في المونولوج الشهير "احنا في زمن المسخ",مشهد آسر بلا شك يبرز قدرات فنان مخضرم كعادل إمام,يخطب بدون جمهور وسط ظلام القاهرة المخيف,لنتوقف لحظة لنقول كلمة عن العصر الملكي:أجل كانت مصر في حالة جيدة بالنسبة للتعليم والثقافة ثروة الأمم الحقيقية,قبل أن يتهاوي التعليم ويتحول إلي سراب يفرز لنا عقليات جاهلة غير مؤهلة للإنتاج,تحمل شهادات,...شهادات...شهادات كثيرة بلا عدد لكن نادراً ما تجد شخصاً متعلماً ومؤهلاً للتميز وصناعة شئ حقيقي,ولو وجدته فسيكون ثائراً وناقماً علي تجربته في نظام اللاتعليم,أناقة في الأوبرا وعظمة في حفلات المسرح,لكنها كانت وبالاً علي الفلاحين وبسطاء الناس في المدن,سنعود لنستشهد بالفن,فيلم الحرام والبطاطا التي تدفع عزيزة ثمنها حياتها,رواية الوسية-سيرة ذاتية-,مشاهد وحوارات الحرمان من الطعام في فيلم الزوجة الثانية,رواية الأرض والفيلم المأخوذ عنها والقهر الواقع علي الفلاحين,التوغل الإنجليزي وخشونته مع المصرين في بين القصرين,لوحة رعاياك يامولاي لعبد الهادي الجزار,لكن سلبيات ثورة يوليو جعلت الصورة في ذهن البعض بأن مصر كانت أرض الأحلام قبلها,بينما جدودنا البسطاء كانت سياط الأسرة المالكة تلهب ظهورهم,طبقة واحدة كانت تستمتع هي طبقة زكي الدسوقي أي طبقة الباشوات وأبنائهم,لذلك يمكننا تفهم النوستالجيا المطوية في نبرة صوته,مع انحدار الذوق العام عند كافة الطبقات!والزيادة الرهيبة في عدد السكان التي أدت لتفشي التشوهات الاجتماعية والاختناق المعيشي,حيث أن الزحام ستار لفعل كل الموبقات,هي مرثية لزمن انتهي وكل ما ينتهي يصبح جميلاً لا لشئ إلا أنه لم يعد له وجود.

يتعلق زكي ببثينة السيد(هند صبري)حبيبة وفتاة أحلام طه الشاذلي(محمد إمام)وتبادله المحبة والإعجاب,وتنسي طه الذي رفض في كل الشرطة بسبب مهنة والده ويتحول إلي عضو في أحد التنظيمات الإرهابية حتي يتم اغتصابه بواسطة أحد الضباط فيعزم علي الانتقام,وفي نهاية قصته يموت بجوار جثة مغتصبه,في مشهد مشحون بالمعاني حول الظروف الاجتماعية القاهرة التي جعلت من رجلان لهما نفس الهدف في الحياة بالعمل في البوليس إلي قاتل وقتيل,وفي ظروف أخري ممهدة لكانا زميلان للدفاع عن الوطن.

جمعت زكي الدسوقي وبثينة مشاهد رومانسية من أجمل اللقطات التي صورتها السينما المصرية للعلاقات العاطفية,عجوز مثقف علي شفا الموت وصبية تتفتح للحياة يشوب سلوكها أدران جيلها,يجمعهما الحب المطلق دون انتظارنتيجة,بثينة تم انتهاك جسدها في سبيل عشر جنيهات,عشر جنيهات كافية ليتم إفساد برائتها الأولي والاحتكاك بها حتي يفرغ صاحب المحل سائله علي ملابسها,ثم تبكي قهراً واحتقاراً لذاتها,تجد في زكي الرجل الذي يحترمها ويعطف عليها فتمنحه نفسها دون مقابل بلا اشمئزاز أو قهر ابتسامة هند صبري وهي تحلم بالسفر تشف عن مدي الأسي التي تعيشه الشخصية,مجرد الحلم جعلها تقبل علي الحياة بعدما دفنت كل ما حلمت به يوماً,القبلات بينهما صادرة من أرواح مجروحة,تطبطب علي بعضها,غريبان في الحياة وجدا المرسي,لم يعودا سوي رجل وامرأة في حالة حب حقيقي,قبل أن تهدم طمأنينتهما دولت"إسعاد يونس"شقيقة زكي الدسوقي بضبطهما سوياً بالفعل الفاضح طبقاً للقانون!وفي النهاية يتزوجان في مشهد ختامي حيث يسير الزمن في حالة نسبية مدهشة الماضي بجوار المستقبل في آن وحد...إلي المجهول حيث لا يدريان ولا يدري أحد...

-الحاج تاجر المخدرات:

الحكاية الثانية بطلها الحاج عزام(نور الشريف)ماسح الأحذية السابق والنائب البرلماني حالياً,وكمال الفولي(خالد صالح)أحد كبار رجال الدولة ويمكن تمييزه في شخصية حقيقية كانت إحدي الوجوه البارزة في نفس الحقبة,يصطدم الطرفان بعد وفاق,كمال هو المسئول عن دخول عزام البرلمان مقابل مليون جنيه,مبلغ طائل بمقاييس التسعينيات فقد كان وقتها هو مبلغ الأحلام حيث يسأل المواطن عما يفعله لو كان يملك مليون جنيهاً,فيعدد قائمة متعددة من المهام,قبل أن يتحول المليون لمبلغ عادي لا يثير كوامن الرغبات.

مشاهدهما سوياً كاشفة لطبيعة الحياة السياسية في مصر وقتئذ فضلاً عن كونها متعة فنية بين قامتين في الفن التمثيلي لكل مدرسته وتجربته,وكما يقتل الحاج عزام أبناء الناس بالمخدرات,يضطر لقتل جنينه في أحشاء زوجته الثانية سعاد"سمية الخشاب"لأن زواجهما كنا بهدف الانتفاع المحض,هي تستمع بأمواله وهو يستمتع بجسدها,في صورة عقد زواج ليشبع حرمانه الجنسي,وهو زنا مقنن يشجع عليه المجتمع لكنه لا يتسامح مع قصة حب أو قبلة ممتلئة بالوفاء والمودة!

المثلي:

مثلما قهر المجتمع بثينة وسعاد,يقهر حاتم رشيد"خالد الصاوي"لأن مثليته مرفوضة أو علي الأقل غير مرحب بها,عجيب هذا المجتمع الذي يقدمه مروان حامد,يتوائم مع التشوهات الكبري لكنه يثور حين رؤية شخص قادته ظروف نفسية وجينية قهراً ليندمج في الحياة المثلية,وربما يصبح هو سبب البلاء الجماعي المحيق بمن حواله.

شحاعة تحسب لخالد الصاوي أن يتقبل دوراً رفصه ممثلين عدة قبله,ولأن الصاوي فنان حقيقي استطاع تقديم النوازع الداخلية للشخصية المثلية,فهو لا يبحث عن الجنس بقدر بحثه عما يعوض حرمانه العاطفي,مشهده في محاكمة والديه يثير التعاطف معه لأنه عارف بمدي تشوه نفسيته,فهو الطفل المنبوذ الضائع في أسرته وظل حتي قتله علي يد مجرم التقطه كما التقط الجندي الساذج عبد ربه الذي عوضه عن نموذج العطف السابق المتمثل في خادم الأسرة النوبي,وظل هو ذاته مجرد طفل منبوذ في المجتمع ولكن علي صورة رجل بالغ,وفي عام2009يقدم مروان حامد طفل آخر يعاني من النبذ والضياع والقهر ليسرد حياته بطريقة ملحمية ويجعلها سيرة أسطورية تروي علي لسان صديقه عشري.

3-إبراهيم الأبيض...مشاهد:

حينما يجئ أوان كتابة تاريخ السينما المصرية بدءً من انهيارها إفلاسها الفني والإنساني منذ أوائل الألفية الثانية,حتي عودتها الحميدة بأفكار ومواهب أبناء مصر-أمثال صناع هذا العمل الفذ-سيجد الدارسون جواهر قليلة تتلألأ في عيون المؤرخين والناقدين وسط ركام من الهراء والسفاهة,سيكون لأحمد السقا جوهر واحدة في فقط في مسيرته الفنية حتي اليوم بفضل أداؤه لشخصية إبراهيم الأبيض تحت إدارة مروان حامد الذي استخرج منه أداء متميز حقيقي ومؤثر,بعيداً عن الأداء المفتعل الذيي عرف به ليدشن من أحمد السقا فناناً وليس ممثلاً يقوم بأدوار البطولة في أعماله الأخري.

هوجم الفيلم بشدة بسب سطحية التفكير وغياب النقد الجاد علي الساحة الفنية,وهوجة تعليق أمراض المجتمع وعيوب الشخصية الوطنية علي فيلم أو مسلسل,وكأن كل الأمور تسير في منحاها المثالي حتي جاءت أفلام العنف والبلطجة فحولت الشخص المسالم إلي قاتل وسفاح,وجعلت الأمهات تقتل أبنائهن!!لكن الزمن(الحكم الحقيقي علي الأعمال الفنية)أنصفه وقد كان المؤلف عباس أبو الحسن محقاً عندما أعلن إن إبراهيم الأبيض هو بصمته في التاريخ,بصمته في قلب كل محب لفن السينما,ولأن هذ العمل استثنائي فإنه يحتاج إلي رؤية مغايرة قليلاً,قد يجانبها الصواب وقد تصيب بقدر الإمكان...

المشهد الأول...الموت قهراً:

الإضاءة كابية مقبضة تنذر بالويل القادم,العذاب الذي لن يردعه زوج مغلوب علي أمره(صبري فواز)وزوجته(حنان ترك)وطفل مسكين كلهم فزعوا علي صوت طرقات أشبه بدقات قدر بيتهوفن,الخوف في عين الزوج والزوجة والطفل المنكمش علي السرير,تشير له ألا يفتح الباب,لكن من يرد القدر إذا جاء له يسعي,يفتح الزوج فيباغته مهدي بدور(باسم سمرة)بشومته الغليظة التي أخذ عنها لقبه,وخلفه رجل وامرأة(سوسن بدر),يسقط الزوج مشجوج الرأس وتراه زوجته من فتحة في الجدار الخشبي بعدما هرعت للداخل,فتصرخ مولولة بينما الزوج يستعطف بنبرة الرجل حين يقهر"إيه اللي حصل لكل ده يامعلم؟"

إنه انتقام شبيه بانتقام آلهة قاسية في الميثيولوجيا القديمة,تصبه علي رؤوس أشخاص بدر منهم محاولة لدفع الظلم...وأصل الحكاية طفلان سمير ابن المعلم المصاب بمتلازمة داون والآخر هو إبراهيم قبل أن يصبح بفعل تلك الليلة المشئومة إبراهيم الأبيض,إبراهيم يجلس بجوار سمير علي سلم منزلهما,يريد مشاركته في اللعب مع قطته,فيصرخ سميرمستنجداً بأمه,فتنهال بالضرب علي إبراهيم ظناً منها أنه يضرب ابنها,فتخرج أم إبراهيم تحاول استنقاذ ابنها من براثن الغضب العلوي القادم من أعلي السلم,لكن المرأة المتسلطة يبدو إنها لن تكتفي أبداً,فتلطمها لتدفع الأذي عن انها,ولأنها لطمت صاحبة الجبروت,ستكون حياة زوجها وأسرتها فداء لكرمة أم سمير المهانة,التي تعود لتنهال بحذائها علي والد إبراهيم,فيموت الرجل ليس من الضرب,بل من القهر والذي اللذين شعر بهما وهو مستسلم لمركوب زوجة المعلم أمام زوجته وأولاده,فتقرر روحه أنها لم يصبح لها مكاناً في هذا العالم بعد اللحظة فمات كمداً,فتهرب القاتلة,وينفي المعلم التهمة عن عصابته ويقرر أن يعمل معه إبراهيم من الغد.

حنان ترك...نظرات معتقة بالرعب المكتوم بفعل رعب آخر يتمثل في مهدي وعصاه"تنزل بدور تاخد ا في الصدور"خسارة كبري أن تضيع موهبة كتلك بفعل أفاقين يقنعون فنانات مصر بأنهم في الطريق الضال,ويرهبونهم ثم يرغبونهم في الاعتزال والاحتجاب,إنها واحدة من أخطر الوسائل لضرب الثقافة المصرية وتفريغها,وللأسف ليس عندنا فنانات يمتلك الوعي والثقافة الكافيان لمواجهة تلك الهجمات بفعل انهيار التعليم الذي يشكل عقل الإنسان ويصيغ شخصيته علي أساس من الفهم والمنطق,بل ربما يظهرن نادمات يعلن التوبة!!!التوبة عن صياغة مشاعر الإنسان وأحاسيسه وقدرته علي التذوق والنقد,لصالح جماعات متطرفة هدفها إخلاء الساحة من المنافسين لتغدو وحيدة تتلاعب بنفوس وعقول الشباب الصغار!

سوسن بدر...توازي محمود المليجي في قدرته علي أداء الشخصيات الطيبة والشخصيات الشريرة,عجينة هائلة من الإبداع التمثيلي يزيدها مرور الأيام نضجاً وتألقاً.

صبري فواز...لقطات معدودة وإبداع يليق بدور البطولة,درس في إتقان العمل حتي ولو كان علي مقاس أصغر من موهبة صاحبه.

المشهد الثاني...الجري:

قاتل أبيه الذي لم يمش في جنازته فحسب بل تكفل بها أيضاً,يضربه هو هذه المرة لأنه تجرأ علي النوم بجوار سيدته الصغيرة,وفي تلك اللحظة يقتله إبراهيم بأول سلاح أبيض يستخدمه للدفاع عن نفسه وسط السواد الحالك,يركض من صبيان المعلم القتيل,وفي لقطة يقفز في الهواء معلقاً بين السماء والأرض,وعندما يهبط علي الأرض يتحول إلي الشاب إبراهيم الأبيض الشقي المطارد من الشرطة في مونتاج متوازي مع صديقه عشري(عمرو واكد).

المشهد الثالث...التحذير:

أثناء الهرب من الضباط والمخبرين يضيع كيس المخدرات من عشري,وفي هذا المشهد تتبلور علاقة عشري بإبراهيم,عشري التابع,الذراع اليمني,الصديق المخلص,لكنه لا يمتلك جرأة وتخطيط إبراهيم وهو قانع بذلك يعرف حدوده,سارق الكيس سيد شيبة أحد صبيان عبد الملك زرزور(محمود عبد العزيز)يقرر إبراهيم العودة للمكان الذي قتل فيه والد حورية(هند صبري)لا يفت في جرأته تحذيرات عشري,حيث يتنبأ له بالهلاك وفتح طاقة جهنم عليهما,لا يتراجع ويخرج عبر الطرقات المتربة الضيقة,يمشي في البر ويخوض البحر ليذهب نحو قدره المنتظر.

المشهد الرابع...جبل الأوليمب:

يواجه إبراهيم وحيداً عصابة الزرازير بأجمعها,البطل في تلك المشاهد ديكور الفنان أنسي أبو سيف صاحب الإبداع التشكيلي المعبر عن الحدوتة كلها,يثب إبراهيم فوق الأسطح ويقتحم المنازل,يواجه ويفر ويقف وحده أمام الجميع علي خلفية من موسيقي هشام نزيه,وحدك يا إبراهيم وقد تعلمت من أبيك ثمن الضعف والهوان...وحدك أمام الآلهة الصغار حتي يتكاثرون عليك ولا ينقذك منهم سوي زيوس القاطن علي الجبل المتحكم في عالمك,يخرج عبد الملك مهاباً ويطلق رصاصاته في الهواء كما كان يطلق زيوس الرعد ويسأل وهو عالم ألا مجيب"حد له شوق في حاجة؟!"يصعد إبراهيم نحو الجبل,فيخاطبه عبد الملك"أنا حييتك تاني"شخصية عبد الملك تمثل القدر أو السلطة المطلقة علي الإنسان هو الكاشف لما في النفوس"روح هات الكيس ياشيبة"قالها بمجرد النظر بالعين,بإشارته يعيد إبراهيم للحياة وبأخري يسلبها من شيبة.

المشهد الخامس...حورية حورية:

لكي تكتمل الأسطورة تظهر حورية فتاة ممتلئة حيوية ومشاكسة تليق علي شخص إبراهيم يعرف إبراهيم نفسه أمامها"ضيف تقيل وأوان مرواحه جه" جملة تضع بذور النهاية مع اكتمال المثلث العاطفي رجلان وامرأة,بعد الضرب والطعن والتوتر يمنحنا مروان حامد لحظات شاعرية بين إبراهيم وحورية,إبراهيم لا يجيد الكلام المعسول يسألها,يأكل الحمام وهي تنتظر أن يداعب أحلامها ومشاعرها كبنت تسعي للحب والاهتمام لكنه حين ينطق يسألها"عمرك سوقتي عربية",وبالاستعانة بصاحب صاحبه يختطفان من الدنيا لحظات سعادة بريئة وهما يلهوان في مدينة الملاهي التي أضاءت أنوارها تحت تهديد السلاح,ويتصل بها جنسياً لأول مرة وحين يسأله عشري وهو المطلع علي سيرة إبراهيم.

عشري:حورية حورية يا إبراهيم؟!

فيجيب الأبيض بسعادة العاشق المفارق لكل الهراء الأرضي:

إبراهيم:حورية حورية ياعشري!

المشهد السادس...الجثة:

يخون الجارحي ابن عبد الملك(خالد كمال)والده بمساعدة غنام(نضال الشافعي)ويستطيع إبراهيم إحباط المؤامرة ويعود ظافراً,يكشف عبد الملك بقدراته الخارقة الحقيقة,توزيع الضوء عليه يوحي بسلطته المطلقة علي الجمع المرتعب,وحين يتشجع إبراهيم وينطق عن طريقة موت غنام يقاطعه علي الفور كأنه يعرف ما في ضميره"أيوة...أنا قولت كده برضه"وفي ذلك المشهد يتراءي لعبد الملك في أبراهيم ما لم يجده في ولديه,فيعمده أحد أركان عصابته ويطير صيت إبراهي,وتتعرف عليه أم حورية لا بصفته ابن القتيل بل بصفته قاتل زوجها والد حورية.

المشهد السابع...السجين:

إبراهيم وحورية ممزقان بين حبهما وسطوة زرزور الرهيبة"مش هايسبنا في حالنا"تقولها حورية في أسي,لكن الأقدار تتحالف علي علاقتهما لتفسدها,تعرف حورية بأن إبراهيم هو قاتل أبيها,وعندما تموت أمها تذهب إلي كنف عبد الملك وتتزوجه بشرط ألا يمسها,حورية هي عقدة ومفتاح عبد الملك,الإنسان الذي يمتلك كل شئ لكنه يظل ناقصاً,يظل محروماً,يظل متوجعاً,إنه يهواها ويهيم بها,وفي حالات الحب لا القوة ولا الترهيب لهما أي أثر,أنه يريدها أن تمنحه وتعطيه,لا يريد أن يسلب ويغتصب متعته وحسب,يطيح بكل من يقترب منها,ويظهر زرزور في الظلال والزوايا كسجين لحب حورية التي يعشقها ولا يقدر علي امتلاكها,يقرر بعباراته التي أصبحت قاموساً شعبياً له صدي واسع بين المشاهدين"عشمي إن ذوقي يكسفك"وينتظر الهبة والعطاء,هنا تعلو عليه حورية درجة وتعري جانبه الإنساني رجل عجوز متهالك علي حب امرأة تنفر منه.

المشهد الثامن...اللغز:

محمد أبو الوفا فنان مسرحي وفناني المسرح علي شاشة السينما يعرفون بسيماهم,من إتقان وبلاغة وقدرة علي التفسير الحركي والشفهي لبواطن الشخصية,بعدما ترك إبراهيم زرزور ليذهب للحاج فارس أو بتعبير عشري"خرج من عند عزرائيل وراح لملك الموت",يشترط عليه حل فزور لبدء العمل معه,مونولوج مع مونتاج مع موسيقي يكتبون قصيدة لدواخل إبراهيم التي لم تستوقف الحاج فارس...أمه...منديل حورية...الدم والنار...الهذيان...ضرب الرأس في الحائط,وحل اللغز إبراهيم وقطع لسان زوج ابنة المعلم فارس,فهو الأسد وزوج الابنة الضبع الدحلاب الوسخ,يحل إبراهيم اللغز أو هكذا يفك الكاتب مؤمن المحمدي أسرار الكلام في سلسلة"ألف مشهد وشهد"المفيدة والممتعة,ويتعمد إبراهيم بدم جديد.

المشهد التاسع...الخيانة:

تصبح حورية هي الكل في الكل"ربنا يكفيك شر الراجل لما يحب مرا"هكذا قال غنام لإبراهيم قبل الطلعة الأخيرة التي لم يعد منها,يسلم لها عبد الملك,وتدبر مع عشري خطة للإيقاع بإبراهيم,عشري يخضع لأنه خان إبراهيم من قبل-أول مرة في كل شئ هي الصعبة وبعدها يكر الخيط إلي ما لانهاية-عندما اعتدي علي حورية وهي في فراش إبراهيم تشم رائحته,الصراع الآن يدور بين ثلاثة رجال علي امرأة واحدة,عشري يريد امتلاك قوة إبراهيم في رمز حورية,عشري يغتنم فرصة دخول إبراهيم السجن ليصبح هو إبراهيم الأبيض ويتقمص دوره بين نفس الأحضان التي احتوت إبراهيم,عشري لن يكون أبداً كإبراهيم بين الناس لكنه يستطيع للحظات لو تمكن من احتلال جسد حورية,لكنها تتغلب عليه في صراع بين الأنوثة والذكورة في تصوير متمكن سينمائياً,وتسلب مال إبراهيم وقلادة أمه.

المشهد العاشر...الانتهاك.

يضع إبراهيم زرزو علي المحك حينما يهاجم بيته,رغم كل جرائمه نراه ينام بكل طمأنينة حينما توقظه الخادمة لتخبره بهروب حورية,فيستيقظ شارداً ويبقي ذليلاً في انتظار عودتها,زرزور في جبله المنيع في مأمن من قوات الشرطة الكثيفة,لكن إبراهيم وعشري يتمكنان من هتك أسواره ووضع سلاح علي رقبته,فيكون بينهما ما ليس منه بد,ووسطهما حورية وعشري.

أحمد السقا...في شخصية إبراهيم الأبيض ظهرت قدرته علي الخلق الفني المتوارية بفعل مخرجين باهتين,لم يتمكنوا من إدارته وقصص قائمة علي السطحية والافتعال لم تقدم له شخصية بأبعاد إبراهيم الأبيض.

محمود عبد العزيز...قدم عبد الملك زرزور في سلاسة تبدو سهلة لكنها تحتاج لمجهود وخبرة في الفن التمثيلي للتعبير عن شخصية غامضة ذات قدرات عجيبة وأسلوب تهكمي ساخر يحمل في طياته مضامين فلسفية عميقة.

عمرو واكد...لكل ممثل دور يعتبر دور عمره,ودور عمر واكد شخصية عشري,حيث اختطت صورة جديدة لرجل العصابات المصري بعيدا عن محاكاة أفلام الجريمة الأمريكية.

هند صبري...تتلون بكل ألوان الأنثي,المسكينة والمتسلطة,المغوية والمحرمة,العشيقة والناقمة,شخصية حورية نفسها تحمل تناقضات هائلة,عالم خاص وحده,مع إبراهيم تتوهج بالملابس الزاهية والعين المتألقة,ومع عبد الملك تبدو قاتمة وكئيبة,إنها الدنيا يوم لك في حضنك,ويوم آخر تعاديك وتدبر لك المكائد.

سيد رجب ومحمد أبو الوفا...من المعجونين بالفن في الكواليس الخلفية لسنوات طويلة,لم يظهروا لعين مشاهد السينما إلا بعدما عركتهم الحياة,فظهرت خبراتهم لتنير شاشة السينما المصرية.

المشهد العاشر...مساكين أهل العشق:

إبراهيم كأدهم الشرقاوي,لا يهزمه سوي الخيانة أما المواجهة بشجاعة فهو بطلها,يجرجر عشري إبراهيم إلي كمين عبد الملك,والغريب أن عشري يحذر إبراهيم من نفسه ويخبره أنه قبض ثمن الخيانة,وللمرة الثانية يتجاهل إبراهيم التحذير,بل يعتبره نكتة,كيف يخون الظل صاحبه؟كيف يخون القلب صاحبه؟كيف يخون عشري إبراهيم,حتي ظهور المرآة فيفهم إبراهيم اللعبة...البلطجية حينما يريدون تأديب أحدهم يظهرون له وجهه الذي سيدمرونه للأبد في مرآة حيث يري نفسه لآخر مرة كما عهدها,وعندماينظر إبراهيم في المرآة الشوهاء,يتحدث بين السكر والإفاقة"بعتني بكام ياصاحبي؟خمس بواكي شوية علي إبراهيم الأبيض!"يسقط كوب الشاي من يد صاحبه المرتجفة,ويتكاتف عليه الجميع مرة أخري ولآخر مرة,بالخيانة ينالونه ويقتلونه بالبطئ,حورية تهرع نحو إبراهيم وقد أدركت فداحة رغبتها الغبية في الانتقام,غير عابئة بنظرات زرزور المهددة فيطلق عليها النار,وبتعابير وجه استحق عليها محمود عبد العزيز لقب الساحر يبكي عليها ويقتلها من جديد في قلبه,ووسط الدم والنار وكما عاش إبراهيم يموت وفي حضنه حورية,الأمنية التي طلبها أثناء حياته ولم يبلغها إلا ساعة موته.

يموت العاشقان وحيدان,لا بواكي لهما...وسبب التراجيديا كلها لعب عيال...رغبة إبراهيم في اللعب بالقطة التي تحولت إلي أسد عملاق افترس الجميع!ويتحقق معني البيت الشعري للأصمعي في المفتتح:

مساكين أهل العشق حتي قبورهم           عليها تراب الذل بين المقابر

الجمعة، 2 أكتوبر 2020

"الكهف"...العودة لفن السينما

 

لسنوات عديدة,ظلت حجة تصوير الواقع في الحارة الشعبية ذريعة أساسية لكافة السقطات الفنية,وعرض القبح بصورة مفارقة لكافة معايير الجمال السينمائي,والسينما كما يعرفها عشاقها جمال صافي يتألق في العيون والأرواح,حتي وهي تعرض أسوأ الصفات وأبشع القضايا,تظل الصورة والقصة محتفظتان بحلاوتهما في نفس المشاهد,علي عكس مدرسة العشوائيات السينمائية المتحججة بالعشوائيات السكنية,يعرض فيلم الكهف للمؤلف سامح سر الختم والمخرج أمير شوقي معاني إنسانية رقيقة في نفس العالم الشعبي الذي خرجت للتعبير عنه أعمالاً في غاية السوء,وكملحمة شعبية يتضافر فيها الضعف البشري مع قسوة القدر مع الرغبة في الخلاص,تتوالي أحداث الفيلم بين مشاهد البداية تحت أمطار غزيرة في الشوارع وظلام حالك في البيوت,ومشاهد النهاية حيث الضياء الكاشف المُحرج للإنسان المتعري المتهالك بفعل ماضيه المتسلط علي حاضره بضراوة,فيمنع النور من التسلل لباطنه المظلم.

يشتكي بعض النقاد والمشاهدين من كون الفيلم ليس له بناء واضح وأسلوب السيناريو مرتبك في الحكي,وللأسف نحن نفتقد إلي الناقد الواعي الدارس وللمشاهد المتفهم لأسباب عديدة علي رأسها انهيار تام لمنظومة التعليم الخربة,لهذا السبب نجد أفلاماً لا تتخير كثيراً عن حواديت المصاطب الساذجة ممزوجة ببعض البهارات المحببة لعقلية المشاهد المعاصر تنال منه الإعجاب الكامل,لأنها لا تستدعي التفكير...التفكير ما هذه الكلمة الغريبة علي أسماع المواطن المفتقد حتي للبديهيات المنطقية ناهيك عن التذوق الفني.

قديماً قال العرب باستحالة وجود ثلاثة أشياء:1-الغول 2-العنقاء-3 الخل الوفي,الخيط الجامع للقصص الثلاث في الفيلم هي غياب الخل الوفي,صادق(ماجد المصري) وعبدالله (محمود عبد المغني)وخيانة زوجة الثاني له مع الأول,صفاء(روجينا)وثقتها في مسعود(ميدو عادل)النذل لم يحفظ سرها واستهان باطمئنانها له,ومع نفس النذل تخدع نعمة(مي سليم)ولا يكتفي بذلك بل يصور علاقتهما بالموبايل!وهي الظاهرة العجيبة في العلاقات العاطفية والجنسية هذه الأيام لتحويل أخص خصوصيات الإنسان إلي أداة دنيئة للابتزاز.من خلال القصص الثلاث يتأمل المخرج والمؤلف في ابن آدم الضائع في الكهف.

لماذا الكهف؟هل هو كهف أفلاطون حيث الظلال هي الحاكمة ويستحيل معرفة أي شئ عن الحقيقة الغائبة عن العقل البشري المغرور,أم كهف النفس الإنسانية الغارقة في العتمة,أو ربما الكهف في القصة الدينية حيث يعمل كآلة زمن يعود منها الماضي لينغرس في واقع جديد,أم الكهف هو العالم نفسه الذي سيهرب منه علي ابن صفاء في المشهد الأخير إلي مكان مجهول ولا نعرف هل سينجو وسط زحام العالم وسقوطه المريع وانحلال الالتزام الأخلاقي بين البشر وفي نجاته نجاتنا,أم سيدخل إلي كهف آخر؟أسئلة كهذه هي ما تجعل للأفلام قيمة فكرية وفنية حققهما المخرج أمير شوقي رغم كافة المضايقات التي تعرض لها قبل الفيلم وبعده,مع مجموعة من الفنانيين قدموا أداء جماعي أبرز إمكانياتهم التمثيلية,حتي متوسطي الموهبة بينهم استخرج منهم المخرج أداء أفضل مما قدموه في أعمال أحري.

عبقري هو المثل الفرنسي القائل"ابحث عن المرأة"يمكن تطبيقه علي 99%من أحوال الرجل في الحياة,المرأة هي المركز الأساسي في عالم الرجل وإن أنكر أو تهرب أو ادعي غير ذلك,بعد اكتشاف خيانته من قبل صديق عمره مع زوجته وهو يراقبهما في صعف مخز,يذهب عبد الله لزيارة قبل والديه كعادة المصريين في الاستنجاد بالموتي ومن ولي زمنه وغاب تحت التراب كإرث قديم لتقديس الموت في مصر القديم,وهناك يتعرف علي عصابة القبور منتهكي حرمات الموتي علي رأسهم المقرئ الحالم أن يصبح ابنه علماً من أعلام التلاوة المصرية الخالدة في سماوات الإبداع الصوتي,عبد الله الخجول الذي يعاني من ضيق ذات اليد وعدم الثقة في نفسه يتحول إلي أحد أركان العصابة بل ويأخذ دور الفتوة داخلها,وطارق المنحرف الشقي يصبح متصوفاً من ذوي العمائم الخضراء في انقلاب مصيري لكليهما,لنكتشف أن الدور الوحيد للمظاهر الخادعة هو تكفين حقيقة الإنسان حتي مجئ المواقف المصيرية فتنبعث من بين الأكفان الجوهر الأصيل الكامن في نفس كل شخص,من الخير ينمو الشر ومن الشر يتلألأ الخير.

صفاء الهاربة من أهلها مع ابنها بعد زواج لم يقتنعوا به تسلم أسرارها إلي مسعود شبيه صادق إلا أنه لا يحمل بذرة الخير التي نمت من قلب صادق,يفضحها ويفسد علاقتها مع صادق وفي نفس الوقت يكتشف طه(إيهاب فهمي)خيانة زوجته القديمة من فيديو لها علي مسعود,فيهرع الاثنان في نفس الوقت لقتله لتلويث شرف صفاء بالقول وشرف طه بالفعل,وهو يزعق في الحارة بأن صفاءملكيته الخاصة!وفي خضم ذلك يعود عبد الله للانتقام مضرجاً في دمع بعد معركة علي مناطق النفوذ في القبور!!فيقتل صادق الذي يحتضنه ويموتان سوياً كما عاشا سوياً.

التأليف:

أول تجربة لسامح سر الختم في التراجيديا والموضوعات الجادة,بعد العديد من الأعمال الكوميدية محدودة المستوي المسايرة لطبيعة السوق المصري للأسفل,لكنه أجاد بصورة تجعلنا نعيد النظر في الموهبة الكامنة لدي مؤلفي السينما والندم علي إهدار موهبتهم في أعمال أقل من قدراتهم ولا تناسب حجم ما يكنونه من أفكار فلسفية ومشاعر إنسانية,لتضيع مع الضحكات الساذجة التي تعني للمنتجين أموال أكثر.

صياغة جيدة لمعاني كبري قدمها في أماكن محدودة للغاية ومحلية لأقصي درجة وشخصيات تعبر عن النموذج المصري العادي ليست تلك البلهاء المستجدية للضحك بحركات غريبة ولا تلك التي تحيا في شقق وقصور فخمة تتوه في حجم ثرائها الكاميراً,ولا المسحوقين وأصحاب الفاقة والعوز القاتل لكل إحساس جميل!البنت التي تسعي للزواج والاستقرار,الأرملة المتحملة لعبء الوحدة في مجتمع لا يتورع عن الإساءة للوحيدات وتحلم برجل يشاركها رحلة الحياة والأحلام,الشاب الطيب الذي يخطئ مضطراً ويندم صادقاً,والعديد من الشخصيات الزاخرة بالقضايا الاجتماعية.

الإخراج:

العمل الأول للمخرج الواعد أمير شوقي,ولأن هذا الرجل صاحب فكر ومؤمن بالسينما كفن وأداة,سيجد الكثير من المعوقات والمصاعب,أهيب به ألا يتراجع أبداً,لأن المعركة طويلة وقاسية في ظل الظروف الحالية,وعلي كل شخص جاد يحلم بتغيير حقيقي ومؤمن برسالته أن يحارب كل في مكانه وموقعه,فالعالم المنهار يحتاج إلي بنائين ومرممين,وليس كالسينما ومخرجيها من يقدر علي تعويض من نفقده كل يوم من نزيف في الروح والثقة في المستقبل,بإدارته لهذا العمل الفني وتشكيل صورته الفنية المتألقة وسط ركام فظيع وبائس من العك السينمائي,يثبت أمير شوقي جدارة فائقة,كصاحب عين سينمائية حقيقية تعرفنا علي أنفسنا وتكشف مساوئ الواقع مهما بلغت قسوته لأن مجتمعنا بالفعل في الحضيض علي كافة المستويات,لكننا استنمنا لأفلام لا تخرج عن الكباريهات وبضعة مشاهد ركيكة تضع علي مذبح الإفيهات تاريخ السينما المصرية بل وكرامة الإنسان نفسه,واقعنا الردئ يحتاج إلي مخرج مثقف يضعه في وجوهنا,يدمي أعيننا وقلوبنا لأن التغيير يحتاج أحياناً إلي قسوة شديدة خاصة من الأصوات المعدودة التي ظلت قابضة علي جمر الفن والأدب والثقافة.

التمثيل:

-روجينا:عندما ينضح الفنان بعد تجارب متنوعة,يفوح منه عطر الموهبة المصقولة بإزميل العمل والاجتهاد,روجينا في الآونة الأخيرة بدأت تنشر في أعمالها عطراً من ذلك النوع المميز في نظرة عين أو نبرة صوت أو تعبير وجه صامت ينم عن الألم أو الحيرة,في دور صفاء الأم الأرملة من أصول ريفية الهاربة من كهف قديم لكهف جديد بحثاً عن أمان مزيف وحلم بعيد,تحجز لنفسها مكانة في سلسلة الموهبات المحفورة في ذاكرة السينما المصرية.

-ماجد المصري:هناك أدوار تنادي علي أصحابها,وصادق كان ينادي علي ماجد المصري ليستعرض قدراته كممثل مخضرم,عندما خان صاحبه وندم كان صادقاً,ولما توجع وسلك الطريق الصوفي كان صادقاً,ولما مات بيد صديقه وهو يحتويه في حضنه كان صادقاً.

محمود عبد المغني:وجه مصري أصيل وصاحب مزاج في اختيار أدواره,يقرأ الملامح النفسية للشخصية كأي ممثل يحترم نفسه ويحترم جمهوره,ينفعل معها بصدق بينفعل معه المشاهد,وفي دور عبد الله الصديق المغدور به,يقدم نسختين من شخص واحد,القديمة الضعيفة المهزوزة المتكلة علي غيرها,والأخري المتفجرة بطاقات الغضب والعنف.

إبراهيم نصر:مشاهد معدودة وأثر يدوم,هكذا كان إبراهيم نصر في الفيلم,صباحاً المقرئ ومساء مستبيح القبور وساتر جرائم القتلة,فيلسوف الموت وصديقه,لكن عندما يفجعه في موت ابنه تسقط كافة الأفكار ويبقي الحزن والأسي.

مي سليم:لا ينتقص من الفنان ألا يكون فائق الموهبة مادام يطور نفسه باستمرار,ومي سليم تفوقت علي نفسها في دور نعمة وعبرت عن الأنثي المقهورة سواء بالخيانة أو بالضرب,ولم تسقط في فخ الفجاجة الذي يسقط فيه اللواتي حاولن تأدية دور الفتاة الشعبية في الآونةالأخيرة,وكأن الفتاة الشعبية هي عنوان الوقاحة.

إيهاب فهمي:تمكن من ملامسة نفسية الإنسان المقهور الذي يمارس القهر الواقع عليه علي الحلقة الأضعف منه,فشخصية طه تمثل شريحة عريضة لمجتمعنا مصابة بالهوس الديني,وتغطي عيوبها بقشور الدين,دون أن النفاد إلي اللب الحقيقي المتمثل في الرحمة والتسامح وتقبل الآخر,فهو يريد الحجاب والنقاب لزوجته كأداة للسيطرة عليها,لأنه عاجز جنسياً ولا يجد سوي الضرب والإهانة كي يستر عجزه الفاضح أمامها,ومع ذلك لا يخلو من مناطق إنسانية تجعله يعود إلي الروح الإنسانية المتحررة من الأدران,فيكتشف رجولته من جديد,لكنه في النهاية يسقط أيضاً ضحية الخيانة فيقرر قتل مسعود ويشتبك معه في بينما زوجته ترقبه من النافذة بعدما أشبعها ضرباً.

الإنتاج:تحية إلي شركة الريماس...