الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

نزعة جنونية!



يُخيل إليّ أنه لا توجد ديانة قامت علي أسس روحية لاقت عند الإنسان قبول(اندثرت) بالمعني الكامل للكلمة,هناك ديانات تآكلت,توارت, سقطت أسمائها من سجل العقل الجمعي للإنسان,لا نعرفها إلا من علاماتها الممتزجة مع غيرها من الأديان,ومتداخلة في إبهام داخل الذاكرة البشرية,لكن لم تندثر لتكون نسياً منسياً...عموماً عمر الإنسان العاقل علي الأرض لا يبلغ من الامتداد ما يسمح باندثار دين اعتقده من قبل أجداده!
حسناً...تطور الإنسان وانتصب واقفاً مُستخدماً أطرافه لبناء حضارته البدائية-التي لا تبعد عنا كثيراً وياللدهشة لما نجد ممارسات مماثلة اليوم لما كان يفعله الجد العاقل الأول!-فوجد نفسه وحيداً جاهلاً ضعيفاً خائفاً من كل شئ,وفي الليالي الآمنة من الوحوش وبجواره ما يكفيه من الطعام بعد أن أشبع غريزته الجنسية,وكان العمر تقدم به علي الأرض وجمع مجموعة ملاحظات أولدت تلال من الأسئلة,بدأ يفكر في نفسه وفي الحياة,من أنا؟لماذا جئت؟من أوجد كل شئ حولي؟من أين أتيت وإلي أين يمضي؟ما مصير العالم؟من مات ودفناه تحت الثري أين ذهب,وكيف مات وما معني الموت؟.....ولا تزال تلك الأسئلة وغيرها تشغل الذهن الإنساني حتي اليوم وستظل تشغله حتي يشاء الله,ثم بدأ يشعر بقوة خفية تغلبه علي أمره,تتحكم في الطبيعة وتُزهق روحه وتنفخ الروح في أولاده,تجعله يشيخ و تفني الزمن وتعيد بناؤه,فعبد كل ما ظن فيه سر الوجود,ولأسباب اجتماعية وجنسية طغي الطوطم كمعبود عند الإنسان القديم,ولأسباب روحية عبد الموتي والأبطال,ولأسباب نفسية اتجه للرياح والشمس,ثم نظر للسماء....
طوال الوقت يشعر القلب الإنساني بغربته عن الأرض,يعلم من داخله أنه ليس من هنا وأن أصله ومرجعه في مكان سماوي,صوت ينادي بالرحيل والانتقال,والانتقال سيكون صعوداً؛لذلك لما نضج الإنسان وظهرت أديان تواكب التغير الذي طرأ عليه كانت كلها سماوية تتحدث باسم السماء واعدة أتباعها بالخلود مع الرب السماوي,وليست سماوية مختزلة في الديانات الثلاث الإبراهيمية,وحتي الفلسفات التي دعت للسمو الإنساني بعيداً عن مدركات الحس الخادعة,ولم تدع لعبادة إله ولم تفكر في السماء في بدايتها ولا في حياة بعد الحياة,مع الوقت ارتفعت وطُورت لتصبح ديانة لها متدينين! منذ أن تعلق بصر الإنسان بالسماء لم ينزل عنها.
ظهرت الحضارة السومرية بمعتقداتها التي اكتسحت الشرق ومن الشرق للغرب,وبقليل من المراجعة سنجد أن التراث الروحي العقائدي الشرقي متأثرا جداً بالدين السومري وتصوراته العقائدية,ومن الشرق ظهرت الديانات الثلاث الكبري!! أين الدين السومري وآلهته وأساطيره؟! ليس له وجود ذاتي منذ آلاف السنين لكن هل يمكن اعتباره (مُندثراً)؟! سنجد في سومر ما يكاد يتطابق مع معتقداتنا اليوم بشكل يثير الريبة قبل الدهشة,أعتقد أن سومر -كمصر- هي مفتاح سر الديانات والاعتقادات الإنسانية أو كما وصفها الباحث السومري صمويل نوح كريمر أن بها أصول الأشياء وأوائلها,وبتطبيق النظرية التساندية لا بد أن تنبني علي الأصول الأشكال النهائية.
ثم جاء الفراعنة بمعتقداتهم التي تتجلي أبرز صورها في المسيحية,مع التفكر في الحياة الأخروية التي لاقت عند الإنسان صدي قوياً,وتمأسست القطبية الخالدة(الثواب /العقاب) التي أثرت علي أغلب الديانات بعد ذلك إلا القليل ممن فهموا الرب علي أنه ليس إلا محبة مطلقة وأنه لم يخلق البشر ليعذبهم,ومنذ فترة قريبة أعلن بابا الفاتيكان أنه الجحيم ليس إلا تقنية أدبية في الإنجيل كقصة آدم وحواء...ولاحظ هنا اعتباره(أن كل الأديان تتطور حتي النصوص ليست مُطلقة).
وهذا سيأخذنا لمنطقة مختلفة,تشير أن الأديان التي تشعبت وتغلغت جذورها مؤخراً في العالم ولا يزال أهلها يحاربون بعضهم حيناً وأنفسهم أحياناً,استفادت وتأثرت ونقلت  من بعضها البعض,فلم تعرف اليهودية مثلاً  الحياة الآخرة بل سخروا منها وتهكموا عليها  ولم تذكرها أبداً في التوراة,لكن مع بداية كتابة التلمود ظهرت الحاجة لها أسوة بالدينين اللاحقين اللذان يعترفان باليهودية وتنكرهما اليهودية,وعلم الثيولوجيا المُختص بدراسة وتحليل المسيحية,تردد علي ألسنة فلاسفة اليونان ويعني معرفة الإله وكلمة ومثلها كلمتي"هرطقة"و"أرثوذكسية" يرجعان لأصول يونانية,ولم يستبعد المسيحيون استخدام كلمة إسلامية صميمة كما فعل أبا الفرج بن الطيب لما سمي كتاباً له"فقه النصاري" فاستفادوا من السابقين واللاحقين ولم يتخندقوا علي أنفسهم فضمنوا التجديد وشباب الفكر-بالطبع لم يمنع هذا أهل كل دين من إنكار وإبطال الديانات الأخري- وهذا يوضح أن الديانات التي تآكلت إنما تآكلت بفعل ما وقعت فيه من جمود وعدم تواصلها الفكري مع الديانات الأخري فأكلتها تلك الديانات هاضمة الكثير من أفكارها أما الديانة نفسها ما عادت تذكر,هذا يقربنا مما قاله ابن عربي ببصيرته الوهاجة النافدة لعمق الدين المتأملة لتغير الأحوال مع بقاء الحال الإلهي وأهاج عليه العامة –من ضمن ما أهاج-:"عقد الخلائق في الإله عقائداً       وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه",و:
لقد كنت أنكر قبل اليوم صاحبي      إذا لم يكن دينه إلي ديني داني
وقد صار قلبي قابلاً كل صورة        فمرعي لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف             وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أني توجهت           ركائبه فالحب ديني وإيماني
يتضافر قوله مع نجم الدين كبري لما يقول"الطريق إلي الله بعدد أنفاس الخالق",و الحلاج:
تفكرت في الأديان جد محقق         فألفيتها أصلاً له شعب جماً
فلا تطلبن للمرء ديناً فإنه             يصد عن الأصل الوثيق وإنما يطالبه أصل يعبر عنده              جميع المعالي والمعاني فيفهما
وجلال الدين الرومي:
نفسي! أيها النورُ المُشْرقُ لا تنأ عني... لا تنأ عني.
حُبِّي! أيها المشهدُ المتألِّقُ لا تنأ عني... لا تنأ عني.
أنظرُ إلى العمامة أحكمتُها فوق رأسي... بل أنظر إلى زنار زرادشت حول خصري.
أحملُ الزنار وأحملُ المخلاة؛ لا... بل أحملُ النور فلا تنأ عني!
مسلمٌ أنا ولكني نصرانيٌ... وبرهميٌّ وزرادشتيٌّ.
ليس لي سوى مَعْبدٍ واحدٍ... مسجدًا أو كنيسة أو بيت أصنام.
ووجهك الكريم فيه غايةُ نعمتي! فلا تنأ عني... لا تنأ عني.
أين ذلك التدين الرائق رغم كل نقد الناقدين و نقض الناقضين,من الفهم السلفي المتطرف المتعالي المُعادي لكل ما يخالفه,العاجز عن كل شئ إلا التسفيه والتحقير أو...القتل والتدمير وجز الرؤوس وجلد الظهور؟!
اتخذت الديانات صوراً مختلفة مع الزمن,تختفي صور قديمة لتحل محلها أخري جديدة بذات الصيرورة المُعبر عنها في التحولات لأوفيد:
رسمت لنفسي أن أتحدث
عن تحولات الأجسام في أشكال جديدة
فياأيتها الآلهة,أعينيني
فإن هذه التحولات هي صنيعك
فأعينيني بإلهامك,وقودي مسيرة هذه القصيدة
من بدايات العالم حتي زماني هذا

تاريخ الدين هو تاريخ الإنسان وليس تاريخ الإنسان هو تاريخ الدين,فقد يعيش الإنسان بلا دين لكن الدين لا يعيش بلا إنسان,فكان لابد من العقيدة الظاهرة في منظومة متكاملة من الأفكار والسلوكيات التي تنسب للديانة,العقيدة ضامن جيد لاستمرار الدين مع الجماعة والفرد,والمجتمع يؤثر في تلك العقيدة مثلما تصوغه هي,فالدين في اللغة العربية يعني الذل والطاعة والانقياد وسميت "المدينة" مدينة لأن طاعة ولي الأمر تُقام فيها,فكانت الفرصة سانحة للحاكم علي مر الدهر أن يعتبر نفسه أداة الإله أو الإله نفسه متأثراً بالصورة الذهنية الجماعية عن العالم السماوي الذي تصوره البشر,وأرادوا نموذج منه علي الأرض أو العكس,طبقوا نظامهم علي الأرض وتوهموا أن السماء تُدار كإدارتهم لمجتمعاتهم.لا غني للغالبية العظمي للناس عن الدين,فآمال الناس في الخلود مُنعمين,والتعويض عن الظلم الذي لاقوه والحرمان الذي عاشوا فيه علي الأرض بفضل الرب القادر علي العقاب والثواب,لايمكن للإنسان في الغالب أن يتصور أنه سيموت سدي,لابد من سر خفي وحياة بعد الحياة,هو يؤمن بالموت ولا يطيق العدم ولا يعترف به!
وصدق محمد إقبال وزادت صدقه سيدة الغناء أم كلثوم وملكته:
ومن رضي الحياة بغير دين    فقد جعل الفناء لها قرينا
النمل مثلاً أكثر انضباطاً وتخطيطاً من الإنسان,لكننا لا نعرف هل له دين أم لا؟!!فهل يمكننا القول أن الدين حصري علي البشر فقط,ولو لم يكن حصرياً فما هو دين باقي الأحياء علي الأرض وهل (اندثرت)عندهم ديانات هم أيضاً!!! ومجتمع النحل المتماسك في عجب هل له دين ضروري لاستمراره؟!  الإنسان هذا الكائن المرعب العجيب وحده هو من يصنع من الموت مأساة ومن الدين أداة قتل,لا يعيش في هدوء أبداً الصخب هو أساس حياته والخلاص مآل آماله,حتي ولو كان هذا الخلاص علي حساب غيره...معذور!
نظرية التطور التي ظهرت منذ الحضارة السومرية!ومرت علي كل الثقافات حتي بلورها داروين وانتشرت كحقيقة علمية,غيرت بعد انتشارها وإثباتها نمط التفكير البشري,لو كان الدين واحد أزلي في البدء أبدي للمنتهي,هل سيريح ذلك البشر وربما منع عنهم حروب ودماء باسم الدين؟الإجابة هي نعم علي شرط أنه بعد مرور العصور لن يصل إلينا اليوم,فالجمود والتفرد عدوان للحياة,كل شئ في الدنيا لابد أن يتغير...إلا التغيير ذاته.فكان لابد للأديان أن تتعدد وتنقسم لمذاهب ثم يأتي محل ديانة أخري تشبع حاجة الإنسان المتطور المتغير"أكثر شئ جدلاً" ليستمر جوهر الدين المرتبط بالإنسان ولو لم يخدم الإنسان فلن يرتبط به الإنسان.
التطور سمة الحياة,النص القرآني نفسه تطور منذ نزوله حتي وفاة النبي,آياته المكية إنما كانت لدين في طور البدء مستضعف يتحسس طريقه بين أعداء أقوياء ورسول باحث عن مؤمنين لدعوته,أما المدنية فكانت لدين قارب أن يبسط سطوته علي كل ما حوله فاحتاج لتشريعات تُدعم نجمه الصاعد,ومعاملات خاصه لنبيه الذي تغيرت مكانته وازداد أتباعه وعرض له بذلك مشكلات شخصية و عامة,حتي نزلت "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" وتلقاها عمر بن الخطاب بحسه التاريخي بالبكاء فسأله النبي"ما يبكيك ؟ قال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص, فقال: صدقت "دورة حياتية لا مفر منها ولا مهرب تدوس الأمم والأفراد غير مبقية علي شئ,صاغها أبو البقاء الرندي شعراً وهو يشهد سقوط الأندلس:
لكل شئ إذا تم نقصان      فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأيام كما شهدتها دول   من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي علي أحد  ولا يدوم لها علي حال شان
الحق أن مظاهر التدين هي التي اختفت-ليس تماماً!!-أما الدين نفسه كالمادة لا يفني ولا يستحدث من عدم.
              
وماذا عن النزعات الشريرة المفسدة المُنتجة من قبل مجتمعات أصابها الاختلال,وطبقات اجتماعية بغيضة استحوذت علي مقدرات البلاد والعباد,وفي أحيان كثيرة تصبغ نفسها بصبغة دينية؟
هي أيضاً لا تندثر وإنما تتحول لأشكال جديدة لها أساليب عصرية تسعي لقلب الطاولة علي الكل بعد أن غذاها المجتمع بلا وعي منه,حتي أصبحت وحشاً مستعد لالتهام من غذاه!
من تلك الحركات الاجتماعية الشريرة المجنونة ما قام به مزدك وأصحابه في بلاد فارس صاحبة الحضارة المبهرة,والتي يقف المرء احتراماً لثباتها في وجه الزمان فلم تتغير لغتهم وثقافتهم مع طوفان العرب بعد الإسلام ودخولهم لبلدان كثيرة,نشروا فيها لغتهم وعاداتهم بينما بقيت الحضارة الفارسية علي ماهي عليه,يستعيد مثقفوها كل فترة أمجادها كما نجد في سياست نامة لنظام الملك والشهنامة للفردوسي...علي عكس ما حدث للأسف في مصر,فنحن اليوم في حاجة لمن يترجم لنا آداب الأجداد العظام حكماء وادي النيل!!ونحتاج لمن يترجم لنا أعمال من ترجموا عنهم كمانيتون السمنودي المؤرخ المصري العظيم في عهد بطليموس فيلادلفيوس زمن مجد الأسكندرية!!
فارس...بلاد السحر والأساطير,البذخ والجوع,الاستبداد والأقطاع...مثلها مثل أي حضارة عظيمة عريقة,كانت مسرحاً لفصول تاريخية أصبحت مثالاً وعبرة لمن يعتبر وليس مزدك سوي فصل عابر من تاريخ بلد عريق...
الفساد وديكتاتورية السلطة,والعسف اللا محدود,وبؤس الطبقات الفقيرة.تحميل الجماهير ما لا تطيق,إلقاء عبء الخدمة العسكرية بظروف غير آدمية علي فئة مستضعفة وترك أولاد الأغنياء ينعمون,احتكار السلطة والمال والتضييق علي باقي خلق الله,الإقطاع والعبودية كأن الدنيا لا بشر فيها غير السادة و......و......و......كل ما حدث في كل عصر وأوان في كل مجتمع يتكرر تقريباً بنفس الطريقة,حينها إما أن يخرج من الشعب من يعيد للشعب حقوقه في ثورة تاريخية تبدأ بها البلاد نهضتها نحو شمس الحضارة الملتهبة التي تحرق من يبتعد عنها وينجو من يندمج فيها!أو يظهر من يقود المظلومين لعمليات انتقامية تخريبية يأكل فيها الجياع كل شئ,ويصبغها صبغة دينية حتي يريح ضمائر المنقادين له,يتداخل الديني مع الدنيوي فيقوم هذا المنقاد بفعل كل شئ وهو مرتاح البال ضامن الدنيا والآخرة,ولو فعل كمزدك بالأمس من سلب الأموال من أصحابها بل وأيضاً الزوجات وجعلهما مشاعاً!!
هو بذلك فعله يفوق الاستبداد السابق فقد استحوذ علي الحياة كلها في يده وفي يد اتباعه,لدرجة أن مزدك نفسه يطمع في زوجة قباذ ولا ينقذها منه سوي رجاء ابنها الصغير الذي سيصبح فيما بعد الحاكم الشهير كسري أنوشروان الذي سيقضي علي مزدك والمزدكية بحسب رواية شهيرة فيمنحه كهنة زرادشت اسم"أنوشروان"أي الروح الخالدة!هذا الاستحواذ الغبي يؤدي لدمار المجتمع فلو أصبح لضعاف العقول معدومي الهمة الحق في النساء والمال فلن يعمل أحد,وسيفقد المجتمع قوته العاملة فضلاً عن تمكينهم ما لا يفهمون فيه من الأعمال التي سيخربونها!
فضلاً عن كون مجتمع تحولت المرأة فيه إلي "شئ"يستحوذ عليه,مجتمع منهار لا مستقبل له ولا كيان...المرأة مانحة الحياة ومحرك الحياة وجوهر الوجود!
يخلط البعض عمداً بين أفعال مزدك الإجرامية التي كانت رد فعل مجنون مبالغ فيه عن إجرام سابق,وبين المذهب الاشتراكي,فيتخذون مزدك وأصحابه ذريعة للهجوم علي الاشتراكية,ولم يفهموا أن الاشتراكية إنما قامت أساساً حتي لا يحدث ما يؤدي لأفعال كأفعال مزدك,التي ورثتها بعده كل عصابات الطغاة في العالم حتي الملعونة التي نعاني منها اليوم ذات الاسم الكريه المقيت"داعش"التي تفوقت علي مزدك بمراحل فلم تبح النساء والأموال فحسب,بل تجرأت علي ما لم يدعُ له مزدك رغم فجوره واتخذت من الموت والذبح والدم لعبة يومية سببت للعالم غثياناً وقرفاً لتكرارهما اليومي فحل الغثيان والقرف محل الحزن والألم والهلع في بدء أفعال أولاد الأفاعي هؤلاء,وكلهم يدعون نبأ السماء,ولو تخيلنا لمزدك صورة فوتوغرافية فبالتأكيد لن نغفل فيها تلك النظرة المجنونة التي نراها في كل إرهابيي العالم الذين اتخذوا من أديانهم مطية,كما اتخذ مزدك من الدين المجوسي والزرادشتي غطاء له!
الدين الفارسي قبل الإسلام تعددت تسمياته لكن بقي مبدأ الثنوية عندهم لا يتغير(نور/ظلام,خير/شر,يزدان/أهرمن) وأيضاً المجتمع عندهم كان منقسماً لطبقتين بصورة بشعة,سبع أسرات كبري تتحكم في مصير البلاد يتبعها حكام الأقاليم والقري والأغنياء,والباقي حالهم كحال إخوانهم في كل عصر ومصر,سنجدهم في القرن الماضي هناك في روسيا القياصرة بقبضتها الرهيبة علي البلاد,وفي مصر في القري المستعبدة بيد العثمانيين وقسوتهم الفظيعة علي المصري البسيط,ثم الانجليز ولم يكونوا يفرقون عنهم!
سنراهم حولنا اليوم....لكن لنعد للماضي!!!
كان الانتقام ليكون درساً لكل حاكم استبد وطغي,لكن التاريخ يأبي إلا أن يكون هزلياً في بعض فصوله,فتتكرر الانتقامات في كل مراحله لنفس الأسباب!
في رواية  أن من قضي علي مزك قباذ الذي مالئها يوماً,وفي رواية أخري أنه ابنه أنوشروان,لكن أسباب ظهور المزدكية وهي الأخطر لم يظهر من يستطيع القضاء عليها,بل أن الساسة يساعدونهم من حيث لا يدرون-ويا لرحمة الله لو كانوا يدرون!!!!!!- ويؤكدون عظمة المعري حين يستطيع كل واحد منا دوماً أن يردد قاصداً إياهم مهما تغيرت أسمائهم!!
 "يسوسون الأمور بغير عقل، فينفذ أمرهم ويقال ساسة!
فأفٍ من العباد، وأفٍ منى.. ومن زمن حكومته خساسة!"

يعتبر الناس علي ما تعودوا من أديانهم المختلفة الإنسان ملاك ساقط لخطيئة جده تبعاً للحكاية الرمزية الشهيرة عن آدم,إلا أن تلك النزعات الجنونية العربيدة والرغبة المحمومة المسمومة في امتلاك ما لا يحق له تكشف عن عمق فساد وظلام الطوية الإنسانية وأيضاً هناك ما يكشف عن عمق صلاح و نورانية الطوية الإنسانية!وعلي كل ما زال صوت الأستاذ العظيم نجيب محفوظ يدوي في خاتمة الحرافيش وهو يناجي"حفيد عاشور الناجي"!أو بالأحري الإنسان الساعي لحياة يسودها السلام والاستقرار تكفل السعادة للكل:" لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة"حين ينفتح هذا الباب السحري,لن يعود لمزدك وأتباعه الذين حملوا إرثه حتي الساعة مكان,الأمل معقود بهؤلاء الذين"يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة"......وفي بلاد فارس تختبئ حكايات خبيثة داخل كل قصر و في حضن كل جميلة تنام حكايات أجمل!
أدأ        

السبت، 20 ديسمبر 2014

سيد درويش..." غني لي غنيوة"

سيد درويش..." غني لي غنيوة"
حين دق قلبه الدقة الأخيرة فجر 15سبتبمر بعد أن انتهي من نشيد التحية, الذي سيستقبل به سعد زغلول بعد منفاه الثاني علي يد الاحتلال الانجليزي,كان الشيخ سيد درويش البحر موسيقار مصر الخالد ومؤسس نغمتها العظيمة يحمل علي ظهره 31عاماً فقط,31عاماً!!...لكن الأفذاذ لا تقاس حياتهم بعدد سنوات أعمارهم هذا عمر قياس غمار الناس ممن عاشوا حياتهم لا يشغلهم سوي أنفسهم ولا يمدون أعينهم صوب عمل عظيم,الإسكندر الأكبر المحارب العظيم الذي كان سيغير الدنيا لو امتد به العمر لم تتعد سنوات حياته 32,وللأبد سيظل ذكره يشغل المؤرخين والباحثين وقادة الجيوش والأدباء....كما يشغل الشيخ سيد المطربين ومحبي الفنون وناقدي الموسيقي والسينمائيين وغيرهم ممن يعرفون قيمة سيد درويش.
قبل تلك الليلة الحزينة التي فارق فيها عالمنا والتي سنوردها لأن وفاته تشبه وفاة موتسارت الذي توفي هو الآخر عن35عاماً,لابد من العودة إلي الأسكندرية....
الأسكندرية ملهمة فناني العالم,تسمت في زمن مجدها القديم في عصر اليونان"مدينة الله العظمي"فهي عاصمة العالم في ذلك الوقت وعنوان ثقافته,أينما ولت الأسكندرية وجهها ولي العالم شطر ما تولي فتقوده نحو الحضارة بقيادة علمائها المتحضرين,منذ إنشائها علي يد الإسكندر و حكمها من قبل "بطليموس سوتير"أحد خلفاء الأسكندر الذي انسحب من معركة تقسيم إمبراطورية الإسكندر واكتفي بحكم مصر واهتم بفنونها وثقافتها من عاصمته الأسكندرية؛ربما لأنه احتمي بمصر ولم يرهقها كما فعل الفرس من قبله؛كان هو الوحيد من خلفاء الأسكندر الذي مات علي سريره في أمان,توالت العصور ولم يتغير سحر الأسكندرية هذا السحر الذي تلقاه سيد درويش في صباه وأبدع في سنوات عمره الذهبية قبل وفاته بست سنوات لما جاء إلي القاهرة بعد إلحاح من سلامة حجازي...
القاهرة في تلك الحقية كانت جائعة لأنغام سيد,صحيح في البداية سينصرف عنه الجمهور لعدم استساغته لمشروعه الفني العظيم,لكن سرعان ما سيعرف الناس قدره قيمة هذا الفنان الذي انتظرته مسارح القاهرة ليعمرها بأنغامه مع بديع خيري,وحين نقول مسارح القاهرة و شارع عماد الدين تحديداً فنحن نتحدث عن مشروع اقتصادي ضخم,شارع عماد الدين معقل الفنون في بداية القرن الفائت يوازي شارع برودواي الشهير في نيويورك ,يكفي أن نعرف أن يوسف وهبي اعترف أن مسرحه هو وحده حقق مليون جنيه مصري في سبع سنوات فقط من1923إلي 1929! مع العلم أن الجنيه المصري وقتها كان متفوقاً علي الجنيه الإسترليني!ومع يوسف وهبي تألق عظماء آخرون,كالريحاني وعلي الكسار ومنيرة المهدية وجورج أبيض,وخلف كل واحد من هؤلاء فطاحل المؤلفين والممثلين,كل هؤلاء وغيرهم أشعلوا شارع عماد الدين بالفنون والبهجة والمرح,وأيضاً بالدموع والتراجيديا,انطلقت فيه أصوات فناني مصر لشعب مصر,وطبعاً كان صوت سيد درويش وسط هؤلاء يلعلع معهم بوسيقاه.شارع عماد الدين تأخر نعيه منذ زمن طويل,رفض أن يُعلن موته وامتنع عن كتابة وصيته ؛لثقته بمجئ يوم تعود فيه أمجاده ويمتلئ كالماضي بالفنانين والجمهور فيخرج من بين تفاعلهم (الفن)أعظم ما خلق الله في أرضه!
من ضمن سلسلة مفاتيح الساعي للوصول لسيد درويش,تبرز ثورة 1919المجيدة وسط مفاتيح أخري كالأسكندرية وعشيقته جليلة وبديع خيري....لابد أن نتوقف طويلاً الآن مع ثورة 19,فبدونها لن نتمكن من فهم المجتمع المصري حتي اليوم,والغناء بالطبع جزء أصيل من نفسية المصري علي مر العصور وعنصر أساسي مرتبط بالمجتمع المصري وتحركاته صعوداً وهبوطاً.
ثورة 19واحدة من أهم لحظات مصر القرن العشرين ربما تتشارك لفظ"الأهم"مع حرب أكتوبر,نستشعر آثارها لليوم,وستظل الأجيال القادمة تتوارث آثارها حتي يحدث انقلاب شامل في الحياة المصرية كما حدث من من حوالي95عاماً,من أهم تلك الآثار عملية"تمصير مصر"فحتي الجيل الذي أفرزته ثورة 19كانت مصر غريبة عن نفسها,انحدرت من يد الأتراك للإنجليز في سلسلة حوادث مؤسفة اعتادت عليها مصر واستطاعت أن تنهض منها وتسير نحو الاستقلال في النهاية علي يد مصري آخر من نفس طينة عرابي المنكسر بالخيانة وسعد زغلول المنتقم له سماه أبوه جمال فكان جمال عبد الناصر.لم يكن سعد زغلول نفسه قبل ساعات قليلة من اندلاع الثورة يتصور أن يحدث ما حدث,لم يتخيل عبد العزيز باشا فهمي وهو يعنف الطلاب الثائرين وينتهرهم بشدة طالباً منهم أن يبتعدوا عن الساحة السياسية فقال:"المسألة ليست لعب أطفال,دعونا نعمل في هدوء ولا تزيدوا نار الغضب اشتعالاً عند القوم"...أجل لم يتخيل شخص واحد أن المصريين الذين ما زالوا يحملون عار هزيمة عرابي واحتلال انجلترا لمصر قادرون علي صناعة ثورة شعبية ترتج لها الإمبراطورية الإنجليزية التي لا تغيب عنها الشمس؛واحد فقط هو من أدرك قبل سنوات عدة أن مصر"تذوب شوقاً للثورة"كما قال,هذا الرجل قيل عنه "لم يوجد انجليزي يعرف مصر والمصريين أكثر منه",من هو؟الداهية المحتل اللورد كرومر!!!بل أن كرمر من اختار سعد ليكون وزيراً,لتنسج الأقدار لعبتها الساخرة في النهاية!
ها هو فلاح جديد(سعد زغلول) يظهر من بين المصريين يواجه الأسرة العلوية والإنجليز والأتراك ,يثأر بما فعلوه بفلاح آخر(أحمد عرابي) أراد رفعة وطنه وسعي لها مع أنبل رجال زمنه علي رأسهم الشهيد البطل محمد عبيد الذي أصبح ولياً بعد أن تناقل المصريون قصة موته منصهراً بحرارة المدفع الذي رفض أن يتركه وظل يضرب به الإنجليز حتي أذابته حرارته,وأخذ الخيال الشعبي يتوسع في أسطورته حتي آمنوا أنه ما يزال حياً بل ورآه بعض الناس في أكثر من مكان,والشاعر الجندي البارودي وخطيب الثورة العرابية عبد الله النديم وغيرهم من العرابيين الشجعان,كان سبباً في اشتعال شرارة الثورة بعد اعتقاله,فكان هتاف الشعب ينادي بحياة سعد زغلول الفلاح وإسقاط السلطان حفيد محمد علي الألباني الأجنبي"يحيا سعد ويسقط السلطان"كان هذا ما يتردد في مسمع السلطان.
كانت مصري تغلي بالثورة الشعبية بعد مرار لا مرار بعده,يكفي أن نذكر أن المصري كان يؤخذ عنوة ليخدم في جيش الاحتلال في الحرب العالمية الأولي ويقاتل في معركة ليست معركته تاركاً أهله ووطنه وحياته التعيسة المثقلة بالديون ليوضع في آتون الحديد والنار,من سن 14حتي 70كانوا في نظر الاحتلال مؤهلين لخوض الحرب نيابة عن إنجلترا!أخذوا الكثير وبعد انتهاء الحرب لم يعد منهم غير قلة!!!تلك القلة وجدت سيد درويش بموسيقاه يغني لهم بكلمات بديعي خيري:" سالمة يا سلامة آه يا سالمة يا سلامة
سالمة يا سلامة روحنا وجينا بالسلامة
سالمة يا سلامة
صفر ياوابور واربط عندك نزلني في البلد دي
بلا أمريكا بلا أوروبا مافيش احسن من بلدي
دي المركب اللي بتجيب احسن من اللي بتودي يا سطى بشندي
يا سالمة يا سلامة روحنا وجينا بالسلامة
سالمة يا سلامة
طرته ما طرته اهو كله مكسب حوشنا مال وجينا
شوفنا الحرب وشوفنا الضرب وشوفنا الديناميت بعنينا
ربك واحد عمرك واحد ادي حنا اهه روحنا وجينا ايه خس علينا
ياسالمة يا سلامة روحنا وجينا بالسلامة"
يحاول بديع ودوريش التخفيف من وطأة الحرب القاسية علي المصريين التعساء الذين قادهم حظهم لإجبارهم علي المشاركة فيها,ويستعيران اللسان المصري السليط الساخر في المواقف الحرجة"شوفنا الحرب وشوفنا الضرب وشوفنا الديناميت بعنينا
ربك واحد عمرك واحد ادحنا اهه روحنا وجينا ايه خس علينا
ياسالمة يا سلامة روحنا وجينا بالسلامة
سالمة يا سلامة"
منع الإنجليز ذكر اسم سعد زغلول,فاحتال سيد درويش ولحن"يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح!"لنعيمة المصرية,في دلالة علي أن إنجلترا بجيشها كله لن تغلب الموسيقار السكندري بعوده البسيط.لكن يظل النشيد الوطني الحالي من كلمات يونس القاضي وقوم يا مصري لبديع خيري خالدان في الوجدان المصري,والحق أني أبحث ,من ضمن ما أبحث في تراث الأجداد العظام عباقرة وادي النيل القدامي عن نص شبيه بنص بلادي بلادي وبقوم يا مصري,أستشعر أن هناك تاريخ عميق وراء هذين النشيدان,لكني لم أجد سوي صدي في أغنية أهو ده اللي صار"وإحنا نبقي الكل واحد والأيادي تصير قوية" يعود لكتاب الخروج في النهار المعروف خطأً بكتاب الموتي حيث نجد فيه عبارة شبيهة"لأنك صائر إلى هناك.. حيث الكل في واحد"وهي ذات العبارة التي بدأ بها توفيق الحكيم روايتة عودة الروح بها"عندما يصير الزمن إلي خلود,سوف نراك من جديد؛لأنك صائر إلي هناك,حيث الكل في واحد",عودة الروح هي تجلي أدبي لثورة 19 أبدع فيها الحكيم بفنه الروائي في التعبير عن أحداث الثورة كما فعل الشيخ سيد بفنه الموسيقي.
علي الرغم من أغاني الخمسينيات والستينيات الوطنية التي أغفلت اسم مصر لصالح العروبة!!!!!لم يجد الشعب المصري بعد النكسة ما يصرخ به سوي أن يغني في الشوارع وأمام بيت عبد الناصر ليلة التنحي الأليمة غير "بلادي بلادي"- قبل أن تصير نشيداً وطنياً بسنوات-:"
بلادي بلادي بلادي       لكِ حبي وفؤادي
مصر يا أم البلاد            أنتِ غايتي والمراد
وعلي كل العباد           كم لنيلك من أيادي
مصر يا أرض النعيم    سدتي بالمجد القديم
مقصدي دفع الغريم      وعلي الله اعتمادي
بلادي بلادي بلادي     لكِ حبي وفؤادي
مصر أنتِ أغلي درة     فوق جبين الدهر درة
يا بلادي عيشي حرة    واسلمي من كل عادي
بلادي بلادي بلادي     لكِ حبي وفؤادي"
كأن بديع خيري نام في حضن أمه مصر في ليلة من ليالي ثورة 19 وسألها بلغته العامية التي أبدع فيها"أمه توصيني أقول إيه لإخواتي؟"فقالت مصر صادقة:
قوم يا مصرى مصر دايما بتناديك"
خد بنصرى نصرى دين واجب عليك
يوم ما سعدى راح هدر قدام عينيك
عد لى مجدى اللى ضيعته أيديك
شوف جدودك فى قبورهم ليل نهار
من جمودك كل عضمة بتستجار
صون أثارك ياللى دنست الأثار
دول فاتولك مجد و أنت فوت عار
جبللي اى بلاد يا مصرى فى الجمال
تيجى زى بلادك اللى ترابها مال
نيلها جى السعد منه حلال بلال
كل حى يفوز برزقه عيشته عال
يوم مبارك تم لك فيه السعود
حب جارك قبل ما تحب تحب الوجود
ايه نصارى و مسلمين قال ايه و يهود
دى العبارة نسل واحد مـ الجدود
ليه يا مصرى كل أحوالك عجب
تشكى فقرك و أنت ماشى فوق دهب
مصر جنة طول ما فيها أنت يا نيل
عمر أبنك لم يعيش أبدا ذليل
يوم مبارك تم لك فيه السعود
حب جارك قبل ما تحب تحب الوجود
ايه نصارى و مسلمين قال ايه و يهود
دى العبارة نسل واحد مـ الجدود"
كل كتابات المستشرقين والمصريين الذين قسوا علي الشخصية المصرية ونقدوها بغلظة لسبب أو آخر لم يكونوا أكثر إيلاماً من بديع ودوريش وهما يقولان موبخين :" يوم ما سعدى راح هدر قدام عينيك
عد لى مجدى اللى ضيعته أيديك
شوف جدودك فى قبورهم ليل نهار
من جمودك كل عضمة بتستجار
صون أثارك ياللى دنست الأثار
دول فاتولك مجد و أنت فوت عار"
ولا تزال مصر تقول لأبنائها إخوة بديع خيري هذا الكلام من يومها لليوم!!
معني هذا أن سيد درويش قاد ثورة غنائية تساند ثورة شعبية فجرها سعد زغلول بنضاله الذي توج بهذا الانفجار الوطني الكبير,ومن تلك الثورة ظهر في مصر ما يُطلق عليه"جيل العمالقة"في كل المجالات؛لأن مصر بدأت تبحث عن نفسها وروحها,حتي جاء السادات بسياساته الغبية في السبعينيات وقضي بما سمي "الانفتاح"علي الثقافة والإبداع المصري واستسلم المجتمع عندها للغة المال والاستهلاك وهي لغة لم يبرع فيها غير السوقة والدهماء من الناس,فبدأ هبوط المجتمع الثقافي/الفني المصري إلي ما نحن فيه اليوم,ظلت مصر بعد ثورة 19تظهر أفذاذها وعظمائها في الثقافة والفن بضاعتنا المصرية الأصيلة,فمن بين الدول العربية مع احترامنا لها وتقديرنا لتاريخها تبرز مصر وسوريا والعراق ولبنان كأساس ثقافي يستند عليه بقية الشعوب التي اكتسبت اللغة العربية فسميت عربية مع دخول أهل شبه الجزيرة العربية فيها,بقيت تلك الدول علي مدار تاريخها الطويل منذ أن كانت مصر تتمجد بأمجاد الأجداد الفراعنة العظام,وكان العراق الممزق اليوم يتمجد بأمجاد السومريين,وسوريا الضائعة ولبنان حين كانا وحدة واحدة-حتي وقت قريب-يتمجدان بأمجاد الفينيقيين.
لما مات سيد درويش مات معه المسرح الغنائي في مصر,رحل من صنع من كلمات بديع خيري المصرية الأصيلة في أوبريت العشرة الطيبة لمحمد تيمور غناء أوبرالي يرقي للعالمية"يقطع فلان على علان
دي الناس بقت مالهاش أمان
أصحاب الشوم وحبايب اللوم
ستين خناقة يااخواتي في اليوم
لو كنت مللي بالك فيهم
م اللي عصاية تجريهم
ماكا نوش يموتوا في جلدهم
ويحاسبوا مني كلهم
إن كان صغار ولا كبار
يشوفوني يجروا بالمشوار
حتة لسان فشر التعبان
في الردح قوة الف حصان
ضرب وتلطيش
غيره ماعنديش
اللي له بخت ما يعرفنيش
ماحد يا اخواتي غلبني
على الشناكل لعبني
غير مضروب الدم دا هو
اللي ملقح هنا هوه
دايبه في هواه
قال مش عجباه
وحياة دهوه لانا مورياه"
أو في الدخلة الأولي"ولة يا بخاتي فتح عينك علي غنماتي"
هذا الأوبريت به تعريض واضح بالملك فؤاد وحاشيته وبه وردت الأغنية النموذج لكل من رفع الشعار الميكافيللي اللعين"الغاية تبرر الوسيلة" حيث يقول بديع خيري علي لسان الحاشية"عشان ما نعلا ونعلا ونعلا لازم نطاطي نطاطي نطاطي".
كانت الراقصة جليلة عشيقة سيد درويش وملهمته,وقد كان كموتسارت أيضاً يحب النساء ويتدله في حبهن,ويتخذهم منابع للإلهام الموسيقي,فقد كانت جليلة إحدي أشهر ملهمات الشيخ السيد دوريش,والروايات في هذا الصدد تؤكد أن جليلة هي حبه الحقيقي من بين كل النساء اللواتي عرفهن الموسيقار الشاب,خرج من قلبه العاشق"أنا هويت وانتهيت"وكفي به عشقاً!
وكما يقول كعب بن زهير:
"كل ابن أنثي وإن طالت سلامته       يوم علي آلة حدباء محمول"
لكن سيد درويش رحمه الله لم تطل سلامته,إنما اختاره الله لجواره بعد عمر قصير حافل,قصير بعدد سنوات,حافل بعدد المشاعر والأحاسيس والناس الذين عبر عنهم,أغانيه لكل فئات الشعب المصري تخبرنا أن هذا الرجل عاش علي الأقل ألف عام ليفهم كل هؤلاء الناس ويخاطبهم بلغتهم,فها هو ينادي علي الشيالين في الظاهر وعلي الشعب المصري في الباطن أثناء ثورة 19"شد الحزام علي وسطك غيره ما يفيدك",ويغني للصناع" الحلوة دي قامت تعجن في البدرية والديك بيدن كو كو في الفجرية يلا بينا علي باب الله يا صنايعية يجعل صباحك صباح الخير يا اسطي عطية"وللمراكبية"البحر بيضحك ليه"وللجنود"أحسن جيوش في الأمم جيوشنا وقت الشدايد تعالي شوفنا" وغيرها من الأغاني التي جعلت من الشعب المصري موضوعها وللشعب المصري ظهرت...بعد زمن "أمان يا للي"والقوالب الموسيقية المتحجرة والغناء الموجه للحكام,أو للدهماء من الشعب الذي يعتمد علي الإيحاءات الجنسية الساخنة والتأوهات المثيرة,نفض ابن درويش البحر النجار البسيط الذي مات وترك ولده يتيماً مع إخوته ينعجن وسط الحياة المصرية كل هذا؛ ليخرج لنا بجواهر فنية من واقع حياته القاسية التي عاشها,ثار علي الفساد الغنائي ومنهج التطريب السقيم بلا هدف ولا معني إلا لعرض إمكانيات الصوت,واحتضن عوده وبدأ يضرب علي أوتاره لمصر التي عشقها وعشقته مصر فأعطته لقب لم تعطه لأحد قبله ولن تعطيه لأحد بعده إلا لو وصل لمرتبته الفنية,لقب يثير الإكبار لمصري بسيط بفنه وجهده استطاع أن يُلقب بـ"خالد الذكر".
اختلفت الروايات حول سبب موت الشيخ فمن قال بالإجهاد بسبب تلحينه لنشيد استقبال سعد زغلول,ومن قال بتسميمه علي إيدي الإنجليز ومن قال بجرعة مخدرات زائدة أودت بعمره,ولكل منهم دلائله التي يجمعها,لنترك نحن عشاقه ومريديه كل واحد منهم يجمع دلائله ويسرد روايته....لنبكي بصمت علي ابن مصر العظيم,الذي مات قبل أن يسمع لحنه يتردد أمام سعد زغلول بكلمات بديع خيري:
مصرنا وطنا سعدها أملنا             كلنا جميعاً للوطن ضحية
أجمعت قلوبنا هلالنا وصليبنا     أن تعيش مصر عيشة هنية
عزك حياتنا               ذلك مماتنا

رحمك الله يا شيخ سيد...يا خالد الذكر....!
لو صدقنا رواية التسمم علي إيدي الإنجليز؛خاصة أنهم رفضوا تشريح جثته لمعرفة سبب الوفاة بالإضافة أن الريحاني منتج أوبريت العشرة الطيبة تعرضت حياته للخطر بسبب أوبريت العشرة الطيبة الكاشف لظلم الأتراك العثمانيين,سنكون أمام وفاة تشبه وفاة موتسارت,فقد سممه هو الآخر موسيقي حاقد,ولم يشيع موتسارت لمرقده سوي خمسة أشخاص فقط ليس من بينهم زوجته ؛ فالجو حينها كان بارداً جداً!!!!وسيد درويش هو الآخر لم يمش في جنازته سوي قلة من الناس؛لأنها جاءت مفاجئة بصورة صادمة وقبل ذلك لأن الشعب المصري كان مشغولاً بعودة سعد من منفاه!!!بعد عقود سيرثيه العظيم المظلوم نجيب سرور بسخريته اللاذعة الصادقة:" سيد يا درويش يا نابغة ليه تموت مسموم.. والشعب ملبوخ في رجعة سعد من منفاه.. ميت في يوم القيامة مين على المرحوم هيبكي.. والكل وشه زي قفاه"

صاغ بوشكين شاعر روسيا الكبير من وفاة موتسارت الغامضة علي يد سالييري الحاقد,مسرحية "موتسارت وسالييري",وأنتجت هوليوود واحدة من روائع ميلوش فورمان صاحب الفيلم الشهير"أحدهم طار فوق عش الوقواق"لجاك نيلسون,عن ثنائية موتسارت وسالييري بعنوان "أماديوس" وقد حاز هذا الفيلم علي ثمان جوائز أوسكار عام 85.
قال عنه روائي مصر الأعظم نجيب محفوظ"رفع مجد الموسيقى وتقدم بها تقدمًا كبيرًا، وحفلت حياته بالكثير من المشاهد والصور والقصص التي تصلح للسينما، وهي قبل كل شيء، وبعد كل شيء، دليل على الوفاء من جانبنا، ودليل على شدة الوعي الفني عندنا، وأنا لم أكتب قصة سيد درويش بعد، وإنما أتوق إلى كتابتها وفاء لهذا الفنان الكبير"فكانت حياة سيد درويش مادة درامية خصبة للسينما والمسرح والإذاعة,ولا يعزيها ذلك عن حرمانها من قلم أستاذنا العظيم نجيب محفوظ!!!
 في زمن سعيد مضي كانت مصر هي هوليوود الشرق كله,عام66 جسد الفنان المسرحي الكبير كرم مطاوع شخصية سيد درويش في فيلم يحمل اسمه من إخراج أحمد بدرخان,في تجربته السينمائية الأولي بأول فيلم عن حياة موسيقي مصري,السيناريو والحوار لمصطفي سامي وسامي داوود,الفاتنة هند رستم لعبت دور جليلة حبيبة سيد,وكعادتها لم تشعل قلب سيد درويش وحده,بل أشعلت قلوب المشاهدين كلهم!!من غني أغنيات الشيخ في الفيلم هو إسماعيل شبانة أخو عبد الحليم حافظ,وفق المخرج في الإستعانة بالأغاني واستخدامها في المواقف الدرامية بصورة متجانسة,كان الاستخدام الأروع لها,في مشهد جر أحد الفلاحين عنوة للذهاب للحرب وخلفه امه تصرخ" يا ضنايا يا ابني,يا عزيز عيني!!"لتتحول الصرخة لأغنية"يا عزيز عيني وأنا بدي أروح بلدي,بلدي يا بلدي والسلطة أخدت ولدي",وظفت الأغنية في مشهد النهاية بصورة مؤثرة,فنحن نري الفنان كرم مطاوع بأدائه المتمكن  يحتضر بعد دخوله حجرته شاعراً بقرب النهاية,بينما يري ظله مغنياً"ما دمت أنا بهجره ارتضيت,مني علي الدنيا السلام",ثم يسقط ميتاً والناس في الشارع يهتفون باسم سعد زغلول وتكون الأغنية الأخيرة في الفيلم"مصرنا وطننا سعدها أملنا" هي أغنيته الأخيرة في حياته القصيرة,في إشارة إلي أنه رحل بجسده الفاني لكن روحه خالدة في ضمير الوطن.
تقمص كرم مطاوع شخصية سيد درويش كما تقمص توم هيلوك شخصية موتسارت,وجدنا كليهما يعاني في حياته الشخصية من الفقر وقلة الحيلة والحرمان,ومع ذلك يمتعان الآذان بموسيقي خالدة وصفها سالييري الحاقد في الفيلم بأنها"صوت الله".
المسرح تلقي شخصية سيد درويش لكن التجربة لم تكن علي مستوي الموضوع,أما الإذاعة أضاف زكريا الحجاوي لكنزها الثري بكل المتع والفنون "قصة حياة سيد درويش"بطولة الفنان صلاح منصور,نسمعه وهو في قمة حالته الفنية,لإدراكه قيمة العمل وقيمة سيد درويش,(سنشاهد!)بصوته الشيخ سيد وهو يسرد حكايته,ويؤدي فصولها منذ ميلاده حتي وفاته,سنقابل معه نجيب الريحاني وجورج أبيض وبديع خيري والمنفلوطي....وجليلة(هدي سلطان)وأمه (آمال زايد)التي يعرفها المشاهدون من دور أمينة زوجة سي السيد,تلك الممثلة التي أتقنت دور الأم مع فردوس محمد بصورة تحير,هل كانتا تحاكيان الأمهات المصريات الحقيقيات في الحياة أم هن من قلدنهما بعد ذلك!!!
ستظل سيرة سيد درويش علي مر الأجيال مغرية للمعالجات الفنية...
عليه من الدنيا السلام,مثلما كان منه علي الدنيا السلام!!!