السبت، 13 مايو 2023

مخطوطة فوينيتش... لغز أم خدعة

 في العالم الكثير من الموضوعات الملغزة العصية علي التفسير والمحصنة أما محاولات الفهم الإنساني، تعجز أمامها البشرية حتي اليوم الحاضر رغم الوثبات العلمية الهائلة التي تحققها الدول المتقدمة، بداية من حقيقة قارة أطلس الغارقة التي اختفت بين طيات التاريخ عقب دمارها، ولا أحد يستطيع أن يجزم إذا ما كانت القصة صحيحة أم من وحي خيال أفلاطون ليضرب أمثلة لآرائه الفلسفية كما عودنا في محاوراته الشهيرة، مروراً بالأهرام العظيمة في مصر، والتساؤلات اللامتناهية حول حضارة وادي النيل والحضارة السومرية والصينية وأسرار الشرق عموماً، مروراً بألغاز التاريخ الأوروبي والعربي، لقد شملت الألغاز عالمنا ويمكننا القول أننا نعيش في عالم من الغموض التام، فلا نعرف حقيقة أكثر الأشياء التصاقاً بنا، فما هو الزمن؟ وسر الجاذبية؟ وأين موقعنا في الفضاء الفسيح؟ وماهي طبيعة المخ البشري ذلك الجهاز الصغير الموجود في أدمغتنا شديد التعقيد والحساسية، ومن بين تلك الألغاز المنتظرة الشخص القادر علي حلها مخطوطة قديمة، يرجع تاريخها للقرن الخامس عشر قابعة في مكتبة جامعة ييل بالولايات المتحدة الأمريكية، بعد رحلة طويلة قطعتها بين المكتبات والأديرة، مخطوطة غامضة كتبت بلغة غريبة ورسوم سريالية أعجزت علماء التعمية وفك الشفرات، منذ اكتشافها علي يد جامع الكتب والآثار البولندي ويلفريد فوينيتش عام ١٩١٢ في، عندما باعت الجامعة الجريجورية في إيطاليا بعضاً من كتبها حين واجهت عجزاً مالياً اشترها فوينيتش بمبلغ غير معروف،ووجد مع المخطوطة رسالة ترجع تاريخ كتابتها إلي ١٩أغسطس١٦٦٦ مرسلة من جانيس ماركوس رئيس جامعة براغ إلي العالم اليسوعي أناناسيوس كيرتشر، جاء فيها أن الكتاب اشتراه رودلف الثاني إمبراطور براغ مقابل ٦٠٠دوكاتيه، وكان كيرتشر أحد خبراء حل الشفرات وتم إرسالها له علي أمل أن يفهم فحوي تلك المخطوطة المحيرة.

 الشئ الوحيد المؤكد عنها اسم مكتشفها في القرن العشرين، وأنها كتبت في الخامس عشر في السنوات الواقعة بين ١٥٠٤و١٤٣٨ حسب الفحص الكربوني الذي أجرته جامعة أريزونا لتحديد عمرها عام ٢٠٠٩،وبذلك تنسف أحد النظريات القائلة بأن كاتب هذه المخطوطة هو فوينيتش نفسه مستغلاً خبرته في عالم الآثار والمخطوطات! وهي واحدة من عشرات النظريات التي تحيط بتلك المخطوطة، فقد اعتبرها البعض مخطوطة سحرية كتبت بلغة الجان أو الملائكة، وآخرون قالوا إنها علوم جاءت من الفضاء الخارجي لتصف الحياة العجائبية لسكان العوالم الأخري.

 تعددت الأسماء التي وردت كمؤلفين محتملين لهذه المخطوطة، فافترض أن الفيلسوف الإنجليزي والراهب الفرانسيسكاني روجر بيكون الذي عاش في القرن الثالث عشر، ويعتبر أول أوروبي في القرون الوسطي يؤمن بالمنهج العلمي هو من صاغ المخطوطة علي تلك الشاكلة، لكن المتخصصين في أعمال بيكون يستبعدون تلك الفرضية وهو ما أعتقده فوينيتش نفسه، وذكر اسمي العالم الإنجليزي جون دي ووسيطه الروحاني إدوارد كيلي اللذين عاشا في بوهيميا، وأرادوا التكسب من الإمبراطور ببيع المخطوطة له، وهكذا تتعدد الرؤي حول تاريخ المخطوطة. 

أما إذا فتحنا المخطوطة نفسها فمن المستحيل التوصل إلي شئ قطعي... بل من المستحيل التوصل إلي أي شئ علي الإطلاق، المخطوطة كما ذكرنا كتبت بلغة غير معروفة، وفي السنوات الأخيرة عرفنا عن طريق الكمبيوتر أن تلك اللغة تشبه العبرية القديمة بنسبة ٨٠%، أما الرسوم فلا يمكن معرفة ما الذي تمثله، اتجاه الكتابة من اليسار إلي اليمين وعدد حروفها ما يقرب من ١٧٠ألف موزعة علي ٢٤٠صفحة، ويمكن تقسيم أبوابها استناداً علي شكل الرسومات إلي: 

1- قسم الأعشاب 2- قسم الفلك 3- قسم الأحياء 4- قسم الكونيات 5- قسم الصيدلة 6- قسم الوصفات 

ويعلمنا تاريخ البحث العلمي أن تعدد الآراء حول أي موضوع لإيجاد إجابة محددة عن الأسئلة التي يفجرها معناه أنه لا توجد له إجابة حقيقية، ولذلك ستبقي مخطوطة فوينيتش أحد الألغاز التي تطرح نفسها مع كل جيل، وفي كل مرة تتقدم فيها وسائل البحث العلمي في سعيها الدؤوب لاكتشاف المجهول.... ولكني أحياناً أتخيل أن تلك المخطوطة عبارة عن خدعة متقنة كتبها راهب منفرد أو مجموعة من رهبان القرون الوسطي، بهدف السخرية من العقل البشري وغريزته التي تريد إضفاء معني علي جميع ما يحيط به، وإيجاد تعريف وتفسير لكل الموجودات حوله، حيث أوهموا الناس أن تلك اللغة المخترعة لغة مجهولة ولابد أنها تعني شىئاً ما، وأن تلك الرسومات السريالية تشير إلي عالم مواز لعالمنا، أو أنها أحجية لحل أحاجي أخري أكثر غمومضاً، وبالفعل نجحت خطتهم وظلت مخطوطة فوينيتش تطرح نفسها كلغز وليس كخدعة بالغة الإتقان والتعقيد.

هوميروس وعالمه

 

 إن أجمل الأوقات للقارئ المحترف أو للشخص الذي يهوي الإطلاع عموماً هي تلك الساعات التي يقضيها مع أدباء وفلاسفة اليونان، فتلك البلاد نمت فيها شجرة العبقرية وطرحت ثمارها الحلوة التي مازلنا نستمتع بمذاقها حتي يومنا الحالي، وستظل البشرية تعود إلي حدائقها البهيجة للأبد، وكيف ننسي أسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس وما قدموه علي خشبة المسرح من شخصيات، وهل يمكن أن نسقط من حساباتنا سقراك وأفلاطون وأرسطو، وكل اسم فيهم ساهم بنصيب أساسي في كل ما نشغل به أذهاننا من مشكلات فلسفية وحياتية، إن تلك الأسماء هي الأشهر في الثقافة اليونانية، ونحتاج لعشرات الصفحات لذكر بقية أسماء مبدعي اليونان في جميع المجالات، ومجلدات ضخام للحديث عنهم جميعاً وعما قدموه من أفكار شكلت وعينا بذواتنا وبالواقع من حولنا، وعن صياغتهم للمفاهيم الفنية التي نسير حتي اليوم في الشعر والدراما.

 وأول من يذكر من نوابغ الإغريق العظماء رجل أعمي من جزيرة خيوس خامس أكبر جزر اليونان من حيث المساحة،هو البادئ لكل شئ في حياة الإغريق العقلية وهو المنشد لأول عمل أدبي عرفوه، عرض فيه دينهم وعاداتهم وحكاياتهم وسير أبطالهم، هذا الأعمي الذي أضاء الدنيا من حوله اسمه هوميروس، وذلك العمل اسمه الإلياذة ثم ألحق به الأوديسة، ومنذ ذلك اليوم البعيد الذي قال فيه هوميروس الأبيات الأولي من إلياذته "غني لي يا ربة الشعر عن غضبة أخيليوس بن بيليوس المدمرة، التي ألحقت بالآخيين مآسي تفوق الحصر، ودفعت إلي العالم الآخر(هاديس) بأرواح الكثيرين من المقاتلين البواسل، بينما جعلت من أجسادهم لقمة سائغة للكلاب وكل أنواع الجوارح، وهكذا تحققت مشيئة زيوس." انشغل الناس بالرجل وبعمله وعكفت أجيال متواصلة منذ ما يقرب من 28 قرناً علي دراسته، علي اعتبار أنه عاش في القرن الثامن قبل الميلاد علي أرجح الظنون، ومازالوا يجدون في شخصيته وإلياذته أحد أكثر الألغاز غموضاً في تاريخ الأدب كله، لدرجة أن بعض الباحثين ينكرون وجود شخص يدعي هوميروس من الأساس، وقد بدأت جذور المشكلة الهومرية أو السؤال الهوميري من المدينة التي بدأ منها الكثير من الموضوعات الخطيرة التي رسمت للعالم مصير مغاير، مدينة الأسكندرية ومدرستها التي راجعت نصوص الإلياذة وقسمتها إلي ٢٤كتاباً بحروف الأبجدية اليونانية لطولها الاستثنائي، البالغ ١٦ألف بيا ييغطي فيهم هوميروس الأيام الأخيرة للحرب بين الجيش اليوناني القادم بسفنه المجوفة عبر البحر، وأهل طروادة الغنية بالذهب المحمية بالأسوار العالية، بعد حصار ومعارك دامت ٩سنوات وفي العاشرة يغضب أخيل من أجاممنون قائد الجيش، بعدما سلبه محظيته لتندلع مشاجرة بينهما بسبب امرأة، مثلما اندلعت الحرب المدمرة بسبب امرأة أخري هي هيلين زوجة مينيلاؤس شقيق أجاممنون عقب هروبها مع باريس ابن برياموس ملك طروادة! 

قبل الدخول إلي عالم الإلياذة الساحر، أريد ضم صوتي الواهن إلي مؤيدي وجود هوميروس فالدلائل عليه أقوي من التشككات فيه، فقد ذكره هيرودوت في تاريخه وحدد يوم وفاته وجعل آلهة اليونان من صنعه هو و الشاعر هسيود، وورد عند شيشرون خطيب روما، والمؤرخ المدقق ثيوكيديس، ولم يكن العهد بينهم قديم جداً كي يتشككون في وجوده، وظاهرة الشك في وجود بعض الشخصيات التاريخية موجودة في كل الثقافات فالعرب تشككوا في الشعر الجاهلي وقائليه، والغرب تشكك في حقيقة شكسبير ومسرحياته، وشكسبير ولد في القرن السادس عشر، أي قبل حوالي أربعة قرون فحسب....وعموماً أي شخص أو مجموعة تكتب مثل تلك الملحمة وتتنازل عنها وتنسبها لشخص آخر لينال وحده المجد أبد ابدهر؟! 

لم تكن الملحمة كلها نتاج خيال وإبداع هوميروس وحده، بل تؤكد الحفريات التاريخية حقيقة الحرب الطروادية، وأيضاً نشأت قبل الإلياذة أساطير تدور حول تلك الحرب تأثر بها هوميروس كما تأثر ببعض العناصر الشرقية من مصر القديمة وبلاد الرافدين، تظهر في تفاصيل ما يقصه من حكايات تخلب الألباب وتهيج المخيلة، مثل قصة موت بارتوكلوس صديق أخيليوس التي تذكرنا بموت أنكيدو صديق جلجامش أحد أهم أبطال أساطير بلاد الرافدين، وبالطبع دخلت علي الملحمة زيادات وقصصاً جانبية، كعادة كل النصوص الشفاهية قبل حفظها بالكتابة. 

حازت الإلياذة شهرة ومكانة لم يحتلها عمل أدبي آخر وكانت بمثابة كتاب مقدس عند اليونانيين، يحفظونه عن ظهر قلب ليتعلموا منه اللغة والشعر ويعرفون تاريخهم من هوميروس معلم الأمة ولسانها البليغ، و يصدقون كل ما فيه ومنه أخذوا عقيدتهم اللاهوتية عن الآلهة القابعة فوق جبل الأولمب تخطط مصائر البشر وترسم لهم حياتهم وموتهم وسلوكهم، لذلك نجد القدرية أحد أهم ملامح الإلياذة وهو ماتردد أصداؤه في المسرح اليوناني الذي نهل مؤلفوه من قصص الإلياذة والأوديسة، وكان أكثر التعبيرات شهرة حول تأثيرها ما قاله أسخيلوس" إن مسرحياتي هي فتات من مائدة هوميروس"، الآلهة هي المتحكمة في أهواء البشر ومشاعرهم" وأرسل زيوس إريس الشريرة إلي سفن الآخيين السريعة، وكانت ترفع شارة الحرب بيدها ووقفت علي سفينة أوديسيوس السوداء الضخمة، وقفت في منتصفها تماماً ، حتي يصل ما تعلنه إلي كلا الناحيتين، إلي حيث توجد خيام أياس التيلاموني، وإلي حيث توجد خيام أخيليوس، فقد سحبوا سفنهم إلي أبعد مسافة ممكنة معتمدين علي شجاعتهم وقوة أيديهم. وعندما وقفت الربة هناك صاحت بأعلي صوتها، ووضعت في قلب كل واحد من الآخيين رغبة عارمة للحرب والقتال الدائم، وفي الحال شعروا أن الحرب أكثر بهجة من أن يبحروا إلي أرض الوطن الحبيبة في سفنهم المجوفة، وصاح ابن أتريوس عالياً وأمر الأرجيين أن يستعدوا للحرب، ثم لبس سلاحه البرونزي اللامع"(الكتاب ١١،الأبيات ١-١٥). 

وأي وصف للقدر يوازي شاعرية" ولم يكن ميروبس يريد لولديه أن يخوضا الحرب المدمرة للرجال. ولكن الأخوين لم يصغيا لرأيه علي الإطلاق لأن أشباح الموت كانت تغريهما بالذهاب إلي قدرهما"(الكتاب الثاني، بيت ٨٣٥). 

متعة قراءة الإلياذة تتجدد مع الزمن، فعن تجربة شخصية كل عدة سنوات أتشوق للإطلاع عليها، رغم إني علي علم بمجريات الأحداث من البداية للنهاية، إننا نعتقد أن الشقة واسعة بيننا وبين الأسلاف القدامي، ونتصورهم مختلفين عننا، ربما في الظاهر فقط هذه الفكرة صحيحة، أما المشاعر والأخلاق والأحاسيس، فنحن نري نفوسنا عارية في تلك الملاحم القديمة الحلوة، ذات الرنين العذب الذي يملأ الأفئدة، وخاصة إلياذة هوميروس وروحها الطفولية البسيطة في سردها وأوصافها، إنها تروي غضبة رجل واحد دارت في فلكها عشرات القصص بلغ ذكر فيها حوالي ١٠٠٠أ اسم شخصية و ٥٠٠مكان! الفارق بييننا وبين مستمعي الإلياذة أنهم كانوا شديدو الإعجاب بأخيليوس مدمر المدن ومحطم الحصون وسالب الأرواح من الصدور، الرجل الذي يساوي جيشاً كاملاً، المحارب الذي غضب لكرامته ومجده دون أن يلين أو يرضخ لأي توسلات، حتي يعاقبه القدر بقتل صديقه بارتوكلوس علي يد هيكتور بطل طروادة، فينتقم منه ويمثل بجثته، إن أخيليوس يبدو لنا اليوم متوحشاً يمثل مفهوم البطولة في زمن هوميروس وزمن حرب طروادة، أما قراء العصور الحديثة، فيجلون هيكتور الأب والزوج والابن والمواطن الذي يدافع عن مدينته وأسرته ووالديه، في خضم هجوم اليونانيين العاتي، ووقف حائط صد أمام فيضان الدم والدمار الذي أحاط بأسوار طروادة حتي قال القدر كلمته الأخيرة وقتل علي يد هيكتور، إنه أكثر شخصية أعجبت بها في الإلياذة كلها، أكن احتراماً شديداً لذلك الرجل وأضعه فوق جميع أبطال الإلياذة، فأخيل نصف إله غاضب معربد، وأجاممنون طامح للمجد والسلطان، ومينلاؤس زوج يسعي للانتقام من زوجته التي خدعته، وباريس شقيق هيكتور فتي عابث، وأوديسيوس شخصيته ستظهر في الأوديسة وليس في الإلياذة وسنعجب به هو الآخر، حين نشهده يكافح في سبيل العودة بزوجته بينلوبي وابنه تليماخوس طوال ١٠سنوات تاه فيها بين الأمواج...هيكتور هو من يستهويني بين أبطال الإلياذة، اهتز فؤادي في عدة مشاهد كان هو بطلها، أولها مشهد وداعه لزوجته أندروماخي، إن ذلك المشهد مزلزل حقاً، إنه يعرف أن قدره الموت، كما يعرف أخيليوس أن الموت ينتظره هو الآخر، لكن شتان بين سبب موت كل واحد منهما، إن المشهد الوارد في الكتاب السادس كفاصل بين الطعنات والضربات ومناظر الدم المسفوح والأشلاء الممزقة وحشرجات الموت ومشاهد المعارك كما صورها هوميروس بدقة فائقة، يحكي عن عودة هيكتور كي يطلب من نساء طروادة أن يبتهلن للربة أثينا كي ترفع البلاء عن مدينتهن بينما أثينا وهيرا أشد الربات حنقاً هي طروادة، بسبب باريس الذي لم يحكم لهما بالتفاحة الذهبية جائزة الجمال، ومنحها لأفروديت عندما وعدته بأجمل امرأة في الكون، وهكذا نري أن كل تحركات الرجال وسعيهم في الحياة يتمحور حول المرأة وهي حقيقة نراها في حياتنا اليومية، ينتهز هيكتور فرصة وجوده في المدينة كي يري زوجته وابنه للمرة الأخيرة فبحث عنهما ولم يجدهما".... فأسرع هيكتور من البيت وعاد أدراجه من الطريق نفسه عبر الممرات المحكمة البناء. وبعد أن قطع المدينة الكبيرة وبلغ بوابات سكاياي، حيث كان ينوي الخروج إلي ساحة المعركة، أقبلت زوجته وافرة العطاء تجري للقائه أندروماخي ابنة إئيتيون الباسل الساكن في ثيبي(طيبة) بجوار بلاكوس الكثيفة الأشجار وكان سيداً علي شعب كيليكيا، إذ تزوج ابنته هيكتور ذو الدرع البرونزي. 

ها هي تلتقي به ومعها خادمة تحمل علي صدرها الطفل الجميل ابن هيكتور اللطيف. فكان علي صدرها كأنه نجم يتلألأ. وكان هيكتور يحب أن يسميه سكاماندريوس، لكن الآخرين كانوا ينادونه أستياناكس، لأن هيكتور وحده كان حامي حمي إليوس. فابتسم هيكتور في صمت عندما رأي طفله، لكن أندروماخي اقتربت منه وهي تذرف الدمع متعلقة بيديه ومخاطبة إياه: "آه يا زوجي! قوتك هي التي ستقضي عليك، إذ لا ترحم طفلك الرضيع، ولا ترحمني أنا، حيث عما قريب سأمسي أرملتك، بعد أن يجهز عليك الآخيون ويفتكون بك، ومن الخير لي أن أهبط تحت الأرض قبل أن تضيع مني، فلا راحة لي بعدك إذا حان أجل. ولن يبقي لي شئ سوي الآلام بعد أن فقدت أبي وأمي الملكة. أبي قتله أخيليوس الإلهي، بعد أن دمر مدينة كيليكيا المنيعة وثيبي ذات البوابات الشاهقة. قتل إئيتيون ولكنه لم يسلب أسلحته إذ حالت الرهبة دون الفعل. ولكنه أحرقه مع أسلحته رائعة الزينة وكدس فوقه الركام، ومن حوله غرست عرائس الجبل بنات زيوس حامل الدرع أيجيس، أشجار الدردار أما إخوتي السبعة الذين كانوا يعيشون في قاعاتنا، فقد رحلوا جميعاً إلي مقر هاديس في يوم واحد، قتلهم جميعاً أخيليوس الإلهي سريع القدمين، قتلهم وهم يمشون الهويني يرعون أغنامهم ذات الصوف الأبيض، أما أمي التي كانت ملكى في بلاكوس الكثيفة الأشجار فقد جاء بها أخيليوس إلي هنا مع بقية الغنائم، ولكنه بعد ذلك أطلق سراحها في مقابل فدية لا حصر لها، ثم قتلتها أرتميس ربة القوس في دار أبيها، فأنت لي يا هيكتور الأب والأم الرؤوم، أنت لي الأخ وأنت الزوج الهمام. فلتكن عندك رحمة بي، وابق هنا عند البرج، لكي تحيل طفلك يتيماً وتترك زوجتك أرملة، أما حشدك فليتحصن بجوار شجرة التين البرية، فهناك مكان لحماية المدينة، إنها أسهل نقطة للاختراق وانطلاق هجوم الأعداء، وسبق أن جاء إلي هذا الموقع الثنائي أياس وإيدومينيوس الأشهر وولدا أتريوس وابن تيديوس الباسل ثلاث مرات، وحاولوا الاختراق، سواء بناء علي مشورة أحد العرافين البارعين أو كما دلتهم قلوبهم".

 فرد عليها هيكتور العظيم ذو الخوذة اللامعة:

 "يا زوجتي لقد فكرت مثلك في كل ذلك، ولكني أستحي من الطرواديين وزوجاتهم ذوات الثياب الطويلة، إن تقاعست عن المعركة كالجبناء، وقلبي لا يحتمل لأني تربيت علي البسالة دائماً، وأن أقاتل في مقدمة الطرواديين لأصون مجد أبي العظيم ومجدي. وأنا علي يقين بقلبي وعقلي أن أليوس المقدسة ستقع لا محالة، وسيقع برياموس وقوم برياموس للرمح الرمادي. ولكن لا مصائب الطرواديين، ولا فجيعة هيكابي، ولا أحزان الملك برياموس أو إخوتي الكثيرين النبلاء الذين سيمرغون في التراب بأيدي أعدائهم، ليس كل هذا هو الذي يفزعني، بل فجيعتك أنت إذا ما ساقك أحد الآخيين المسلحين بالبرونز بعيداً، وسلبك الحرية وأنت تولولين، ثم تعملين علي النول في أرجوس بأمر إحدي السيدات، أو تحملين الماء كرهاً من نبع ميسيئيس أو هيبيريا، أو تثقل كاهلك ضرورة أو أخري لا تحتمل. وقد يقول قائل وهو يراك تبكين: هذه زوجة هيكتور الذي بز في القتال كل الطرواديين مروضي الخيول، يوم التقي الأبطال في القتال حول إليوس. قد يقول قائلهم ذلك وتزداد فجيعتك، إذ تفتقدين رجلاً مثلي يصد عنك غائلة يوم العبودية. فدعيني أموت، ودعي ركام التراب يغطيني، ولا أسمع صراخك وهم يسوقونك إلي ذل الأسر".

 هكذا قال هيكتور المجيد ثم مد كلتا يديه إلي ابنه، لكن الطفل صرخ وغاص في صدر مرضعته ذات النطاق الجميل خوفاً من مظهر أبيه الحبيب ومن البرونز ومن ذؤابة خصلة شعر الحصان وقد رآها وهي تهتز بعنف مخيف علي قمة الخوذة.فقهقه أبوه الحبيب وأمه الملكة. ونزع هيكتور الخوذة عن رأسه ووضعها ببريقها علي الأرض، وقبَّل ولده المحبوب وهدهده بين يديه وابتهل لزيوس والآلهة الآخرين قائلاً:

 "أي زيوس، ويا أيتها الآلهة، ليكن ابني هذا مثلي مبرزاً بين الطرواديين، باسلاً في القتال، قوياً في حكم إليوس. وليقل قائلهم يوماً ما أثناء عودته من ساحة الوغي: إنه أكثر بسالة من أبيه. ليكن من نصيبه أن يقتل أعداءه ويعود للوطن بالأسلاب المخضبة بالدماء ليسعد قلب أمه" 

هكذا قال ووضع طفله بين ذراعي زوجته الحبيبة، فضمته إلي صدرها الحنون وهي مبتسمة باكية بالدموع، وعندما رمقها زوجها أشفق عليها وداعبها بيديه وسماها باسمها قائلاً:

 "رجائي ألا تسرفي في الحزن داخل قلبك من أجلي يا زوجتي الحبيبة. فلن يبعث بي أحد إلي هاديس إن لم يكن هذا هو قدري، ولا أحد يتملص من قدره المحتوم نبيلاً كان أم وضيعاً، وهو قدر مرسوم للمرء منذ ولادته. عودي إلي بيتنا واعتني بشئونك من نول ومغزل، ومري وصيفاتك أن يقمن بواجباتهن، أما شئون الحرب فللرجال، لكل الرجال، ومن شأني أنا قبل جميع من يقيمون في إليوس". 

هكذا قال هيكتور المجيد والتقط خوذته ذات الذؤابة من خصلة شعر الحصان، وعادت زوجته إلي بيتها وبين الحين والحين كانت تنظر خلفها، وظلت تذرف الدموع مراراً، فلما بلغت القصر متين البناء، قصر هيكتور قاتل الرجال، وجدت وصيفاتها الكثيرات فأثارت بينهن الشجن والنحيب فشرعن يولولن علي هيكتور في قصره، مع أنه كان لا يزال علي قيد الحياة، إذ كن يتوجسن خيفة ألت يعود أبداً من المعركة، فلا هو بقادر علي أن يتحاشي القتال، ولا أن يفلت من أيدي الآخيين".(الكتاب السادس، الأبيات ٣٩٠-٥٠٠). 

أوردت هذا المشهد الطويل لأنه يعطينا فكرة واضحة عن طبيعة فن هوميروس، ويجعل القارئ يمقت الحروب، لقد ذم هوميروس الحرب وأغدق عليها أوصافاً قاسية وبشعة، ومع ذلك هذا المشهد الذي يفيض رقة بين هيكتور وزوجته وطفله الصغير يثير كوامن الأشجان الإنسانية، ويهيج كراهية الحروب التي تدمر كل ما هو جميل في النفس الإنسانية، يصعب تخيل ذلك الأب الحنون الذي يخلع خوذته ضاحكاً لأنها تخيف طفله الصغير، هو ذاته هيكتور قاتل الرجال الذي يخوض معارك دامية أمام أسوار طروادة ويروع جيش اليونانيين بالكامل منذ أن اعتزل عنهم أخيليوس غاضباً وتركهم فريسة لسهامه ورماحه، وإذا وضعنا الصورتين متقابلتين نعرف الكثير عن النفس الإنسانية في تقلباتها الفوارة. 

المشهد الثاني -وأنا أطلق علي الأبيات الشعرية المقتبسة وصف "مشهد" لأن هوميروس يصور الأحداث كأنه سينمائي من طراز فريد لا مثيل له- الذي يثير العواطف مشهد توسل ابوه برياموس وأمه هيكابي له كي لا يواجه أخيليوس،لكم هيكتور يقاتله في النهاية بعد محاولة بائسة للهرب" وكان الشيخ الأشيب برياموس هو أول من رآه بعينيه منطلقاً عبر الوادي، مارقاً كالنجم البازغ في موسم الحصاد، تلمع أشعته البراقة بين العديد من النجوم في ظلام الليل الحالك، يطلقون عليه"كلب أوريون". وهو الأكثر بريقاً في السماء، ولكنه نذير شؤم فهو يحمل الكثير من الآلام لأولئك البؤساء الفانين. هكذا لمع بريق البرونز علي صدر أخيليوس وهو يجري، وعندئذ انتاب الشيخ الأشيب نوبة بكاء شديد، ثم صاح متوسلاً إلي ابنه الحبيب كان رابضاً أمام الأسوار، راغباً بلهفة في منازلة أخيليوس، فتحدث الشيخ الأشيب علي نحو يثير الإشفاق ملوحاً بيديه لابنه، قائلاً:

 " أيها الابن الحبيب، هيكتور، لا تواجه ذلك الرجل بمفردك، من دون الآخرين، كيلا تلقي مصيرك المحتوم مقتولاً علي يد ابن بيليوس، فهو الأكثر قوة، والأشد بأساً . ليته لم يكن محبوباً علي هذا النحو لدي الآلهة، مثلما الحال بالنسبة لي! فعندئذ سيكون جسده الممد علي الأرض دون دفن طعاماً للكلاب وجوارح الطير. وبذلك تزول عن قلبي تلك الآلام المبرحة، ذلك الرجل الذي حرمني العديد من أبنائي البواسل، فقد قتل البعض، وباع البعض في الجزر النائية، فالآن لا أستطيع أن أري ولدي، ليكاؤن وبوليدوروس، بين الطرواديين المندفعين إلي داخل المدينة، و هما من أنجبتهما لي لاؤثوي، أميرة النساء. فإذا كانا علي قيد الحياة في معسكر جيش العدو، فسوف أفتديهما فيما بعد بالبرونز والذهب، ولدينا منه بالداخل الكثير، حيث كان الشيخ المسن ألتيس، ذائع الصيت قد قدمه هدية زواج ابنته أما إذا كانا قد ماتا، وهما الآن في منازل هاديس، فالألم لقلبي وقلب أمهما. نحن من أنجبناهما. وسيكون بقية الحشد أقصر إذا نجوت من الموت علي يدي أخيليوس،نعم يا بني هيا واسرع إلي داخل الأسوار لتنقذ الطرواديين والطراوديات ولكي لا تمنح المجد العظيم ابن بيليوس، وحتي لا تفقد أنت نفسك حياتك الغالية.أكثر من ذلك لتشفق عليّ، أنا التعس، أبوك سيئ الحظ، الذي لا يزال علي قيد الحياة. فهذا للأب ابن كرونوس، سيبتليني في شيخوختي بمصير مؤلم، وبمشاهدة العديد من الكوارث: أبنائي الذين يلقون مصرعهم، وبناتي اللائي يسحبن سبايا للعبودية، حجرات نومنا الخاوية وأطفالنا الصغار الذين يسحبون في خضم الصراع القاتل، زوجات بناتي اللاتي يسحبن بأيدي الآخيين سبايا. ثم أراني أنا نفسي في النهاية تجرني تلك الكلاب المتوحشة أمام البوابة الأمامية، عندما تنزع روحي بطعنة سيف برونزي حاد أو رمية سهم، علي يد أولئك الكلاب الذين قمت بتربيتهم في القصر وإطعامهم من أطايب مائدتي، الذين كانوا يحرسون بواباتي وسيشربون من دمي دون توقف، ثم يتمددون أمام عتبات بوابات القصر، ويشتعل غضبهم فالشاب يليق به أي مصير: أن يقتل في القرية، وأن يخترقه البرونز الحاد وأن يرقد عارياً بلا دفن، نعم كل الأشياء تتناسب معه وتكرم مثواه. أما عندما تلوث الكلاب الشعر الأشيب وتعبث في اللحية البيضاء، وتحط من شان الشيخ العجوز الذي لقي حتفه في القتال، فإن ذلك يجعل رثاءنا أشد إيلاماً علي النفس لموت أولئك التعساء".

 قال الشيخ الأشيب ذلك، ثم جذب شعيرات رأسه الأبيض بيديه فاقتلعها. ولكنه لم يسنطع إقناع هيكتور، ومن ناحية أخري فقد أخذت أمه في النحيل، زارفة الدمع الغزير، وفكت طيات رداءها ثم كشفت عن ثديها بيدها، وخاطبته باكية بكلمات مجنحة، وقالت: "ولدي هيكتور، أظهر الاحترام لثديي هذا ولترحم شيبتي. فأنا لم أمنع ثديي هذا لترضع ولو لمرة واحدة ليهدئ روعك. تذكر ذلك، أيها الابن الحبيب، وقم بقتال ذلك الرجل العدواني من داخل الأسوار، ولا تقف في مواجهته هناك، إنه قاسي القلب، لأنه إذا ما قضي عليك فلن أبكيك وأنت علي فراشك، أي صغيري الحبيب، يا من ولدت، كما لن تبكي زوجتك التي منحتك الكثير من هدايا الزواج، ولكن بعيداً عنا نحن الاثنتين، وبالقرب من سفن الأرجيين حيث ستلتهمك الكلاب حادة الأنياب"

)الكتاب ٢٢،الابيات ٢٥-٩٠). والمشهد الثالث مشهد زيارة برياموس لأخيليوس متوسلاً أن يمنحه جثة ابنه كي يدفنها، هنا يصل هوميروس إلي ذروة عمله بإدانة الحرب والقتل، وأعتقد أن ذلك هو المغزي الباطني للإلياذة، إن أخيليوس الذي قتل العديد من أبناء برياموس وعلي رأسهم هيكتور، يستقبل في خيمته الأب الذي يذكره بوالده العجوز الذي تركه وجاء إلي الحرب الملعونة، ويتأثر عندما يقبل يديه راجياً أن يلبي طلبه، يضع أخيليوس جثمان هيكتور بنفسه علي عربة برياموس، ويتناول مع الأب المكلوم العشاء متوحدين في حزن عميق، مدركين أن الحرب والكراهية لا طائل يرجي من ورائهما، فهي لا تخلف المجد والشهرة كما يحلم الرجال، بل لا تخلف سوي الموت والفراق وفقد الأحبة وتشقق الأرواح، وسيل الدموع المرة من القلوب الجريحة، وصياح النسوة المغتصبات وصراخ الأطفال وهم يلقون بهم من فوق الأسوار وحزن الآباء علي الأبناء، ولوعة الصديق علي صديقه، ويلخص هوميروس فلسفته في تعاسة البشر علي لسان أخيليوس وهو يستقبل برياموس في معسكر اليونان" آه،أيها التعس، لقد كابدت الكثير من الآلام! كيف تحملت الحضور إلي سفن الآخيين بمفرك، في مواجهة الرجل الذي قتل الكثير من أبنائك البواسل؟ لك قلب من حديد. ولكن هيا إذن واجلس علي المقعد، ولندع أحزاننا تهدأ داخل قلوبنا، علي الرغم من الألم المرير. فلا طائل من ذلك البكاء المدمر. فهذا هو ما قدرته الآلهة للبشر التعساء، بأن يعيشوا في ألم مرير، بينما هم أنفسهم بلا آلام. فعلي عتبات معبد زيوس توجد جرتان كبيرتان مليئتان بالهدايا، أحدهما مليئة بالخير والأخري مليئة بالشر. فأي امرئ يمنحه زيوس المتمتع بالصاعقة، هداياه المختلطة فتارة يصطدم بالشر، وتارة أخري ينعم بالخير أما من يمنحه مصير الأحزان، ويجعله محط احتقار، يطارده الجوع المفترس فوق الأرض المقدسة، يهيم علي وجهه دون اكتراث من الآلهة والبشر".

 (الكتاب ٢٤،الأبيات ٥٢٠-٥٣٠). إن الإلياذة في رؤيتي ليست عملاً لمجيد الحرب، إنها عمل لشجب الحرب التي تودي بالأرواح البريئة للهلاك، وتفقد الدول والأمم أبنائها، المشهد الوحيد الذي جمع ملك طروادة مع بطل اليونان مشهد لا يمحي من الذاكرة أبداً، إنه صورة حية لما يمكن أن يكون عليه الإنسان من وحشية ونبل في نفس الوقت، والمشهد الختامي لجنازة هيكتور والكل يرثيه حتي هيلين سبب الحرب، تستعرض شهامته وتذكر إنه لم يؤذها بلسانه قط عكس البقية باستثناء برياموس، أما زوجته فبكائها وتنبؤاتها لمصير ولده اليتيم تصيب المرء بالقشعريرة، لهذا الحد الحرب قاسية وبشعة وغير آدمية، لا يوجد فيها منتصر ولا مهزوم الكل هزم بصورة او بأخري، وفقد ما لايمكن استرجاعه إلي الأبد، وفي النهاية نعيد التفكير في الحياة لأن الشعر حقاً هو "نقد الحياة" كما قال الأديب الإنجليزي ماثيو أرنولد.

 للإلياذة خصائص مميزة نستعرضها موجزة في النقاط التالية:

 - لقد حفلت بالعديد من الخطب التي تمثل فن الخطابة اليوناني، ومن الأجزاء الممتعة في الإلياذة سماع خطبة بليغها، تتلوها خطبة للرد عليها علي نفس مستوي البلاغة. 

- يصور هوميروس الحرب الطروادية في إطار كوني، يحمل معاني لاهوتية وإنسانية عميقة، كان لها بالغ التأثير في التراث اليوناني. 

- لم تظهر شخصية المؤلف ولا أي إشارة لها في الملحمة وأحياناً نجد بعض السهو والنسيان من هوميروس. 

- السمة العامة لأبطال الإلياذة كما لاحظ النقاد، أنهم مقهورين كلهم يخوضون حرباً لا يريدها أحد ولا يمكن وصف أحدهم بالشرير، مايجعل الملحمة شعورياً أكثر تعقيداً. 

- هوميروس هو الأب الروحي للأدب الغربي كله، لقد تأثر به فرجيل في الإنيادة وهي ملحمة رومانية تسرد قصة آينياس أحد محاربي طروادة الناجيين، وقصة تأسيسه لروما، وجون ميلتون في الفردوس المفقود، وسرفانتيس في دون كيشوت، وجيمس جويس في عوليس. 

- استلهم هوميروس مادة تشبيهاته من حياة البسطاء، وكلها مدهشة في صورها، وخففت حدة العنف في الإلياذة.

 - تعتمد الكثير من وحدة الحدث في الإلياذة علي الثنائيات المتقابلة، فأخيليوس في مواجهة هيكتور، وزيوس أمام هيرا، وطروادة تصارع سفن اليونان، الحياة مقابل الموت، والواقع يقهر الآمال، والغضب يغلي والشفقة تنساب، فعلي سبيل المثال البيت الأول خصصه هوميروس لأخيليوس وغضبته، والاخير لهيكتور بعد وصف جنازته" والتفوا جميعاً حوا وليمة جنائزية كبيرة في قصر الملك برياموس ربيب الآلهة. وكانت تلك هي مراسم دفن هيكتور مروض الخيول". 

- يمدح أرسطو هوميروس لأنه استطاع الجمع بين الوحدة والتنوع، وأنه يختفي وراء أشعاره ويقدم شخوصه ويقدم شخوصه بأقوالهم وأفعالهم المباشرة، مع رسم ممتاز لشخصياتهم، كما أعجب بخياله الواسع ويعتبره أول الشعراء وأكثرهم نضجاً، ويري الإلياذة ملحمة عاطفية يغلب عليها الانفعال، فالأحداث تنبع من غضب أخيليوس من أجاممنون وحزنه المفجع لموت صديقه، ما ولد عند أخيليوس رغبة جامحة في الانتقام من هيكتور.

 - أبطال هوميروس علي وشك الفناء، وهم يعرفون ذلك، مع ذلك يواجهون مصائرهم مككللين بمجد شعري يضفيه عليهم هوميروس. 

- الإلياذة نتاج الثقافة الشفهية، لم يتم جمعها في نص معتمد إلا بأوامر من طاغية أثينا بيسيستراتوس في القرن السادس ق.م، وقد كان إنشاد ملاحم هوميروس تقليداً ثابتاً في مختلف العصور، ويشير هيرودوت إلي أثر الإلياذة في التوجهات السياسية وتشكيل الرأي العام لأبناء الشعب اليوناني، تعتبر الإلياذة والأوديسة أول النصوص المكتوبة باليونانية. 

- من الناحية الفنية والأدبية تعتبر الإلياذة مدرسة الأدباء عبر العصور، ولم يتعد أفلاطون الحقيقة عندما قال أن من يفهم ويدرس الإلياذة دراسة جادة وواعية، يهيمن علي أساليب الفنون كله، وعن نفسي طالما تمنيت معرفة اليونانية القديمة التي استخدمها هوميروس، لأنهل من ذلك النبع الفياض مباشرة دون حاجة لوسيط ترجمة، وأن يتلو لساني نفس الكلمات التي نطقها لسان هوميروس. 

- خلفية الإلياذة التاريخية تشير إلي أن الأحداث وقعت في العصر البرونزي، قبل ٤٠٠أو ٥٠٠سنة من العصر الهوميري الذي عاش فيه هوميروس.

 لا يمكنني إنهاء الكلام عن الإلياذة دون ذكر أول معرفة لي بها، ولم تكن عن طريق القراءة بل المشاهدة... إن هوليوود كانت من المصادر الاساسية لنواة ثقافتي الأولي، بما في ذلك من إيجابيات وسلبيات، ساهمت في تشكيل وعيي بالعالم من حولي، منها عرفت العديد من الموضوعات لأول مرة، ومررت بمختلف الأحاسيس، وسمعت عن شخصيات تاريخية لم أكن أعرف عنها أي شئ في بداية مراهقتي وتفتح مداركي، منهم أبطال حرب طروادة، كما شاهدتهم لأول مرة من خلال فيلم Troy الصادر عام ٢٠٠٤من إخراج ولفجانج بيتيرسن، والسيناريو لديفيد بينيوف، ومعهما شاهدت أخيليوس في شخص براد بيت، وهيكتور علي صورة إريك أبانا، وهيلين الجميلة في ملامح ديان كروغر، وأوديسيوس هو شون بين وكنت أتمني وجود فيلم خاص بالأوديسة من بطولة شون بين، وباريس في وسامة اورلاندو بلوم، وبرياموس جسده الفنان المخضرم بيتر أوتول.

 ذلك الفيلم أحد أشهر الأعمال الهوليوودية الملحمية، يروي بصرياً احداث حرب طروادة، دون أي ذكر للآلهة عكس العمل الأصلي الحافل بأدوار آلهة الأوليمب الفعالة، جعلها معركة بشرية خالصة رجال ضد رجال، مع تأكيده علي بشاعة الحروب واعلاؤه للقيم البشرية النبيلة، وذلك من أسرار جماهيريته بجانب الإنتاج الضخم والأداء الاحترافي، فنحن نري مشاهد خراب طروادة حية، من كانوا يرقصون ويمرحون في الأمس ظناً منهم أن الجيش اليوناني رحل، لم يكونوا يعلمون أن الحصان الذي أدخلوه للمدينة ممتلئ بالجنود، كحيلة من حيل أوديسيوس الداهية، وسيكونون بسببه مع حلول الليل، مقتولين و منتحرين خوفاً من السبي، ومغتصبين في الشوارع ينتزع من أحضان النساء أطفالهن ويقذف بهم من أعلي الأسوار، ومحترقين بالنار الملتهبة، ونعرف كيف تغيب الحرب العقول وتجعل الإنسان وحشاً لا عقل ولا قلب له، ليس فيها أي بطولة ولا شاعرية كما ذكر هيكتور لباريس وهما علي السفينة العائدة لطروادة.

 احتفظ الفيلم بالروح الأصلية للملحمة، بشر مدفوعون إلي حرب مدمرة، تحرمهم من سعادتهم وهنائهم، ربما لو تقابلوا في ظروف أخري لكانوا أصدقاء مقربين، وليس أعداء سيوفهم علي رقاب بعضهم البعض، إن أخيليوس وهو يجهز جثة هيكتور لأبيه يبكي عليه وعلي نفسه وعلي بارتوكلوس وعلي صفعات القدر، ويناديه بكلمة"أخي" ويعده بلقاء قريب في عالم هاديس، بل لا يتورع عن امتداح برياموس ويصفه بأنه ملك أفضل من أجاممنون الذي يحارب في جيشه، وفي النهاية يموت الأبطال ولا يبقي في المشهد الأخير سوي أطلال طروادة، وجثة أخيل علي المحرقة يتصاعد منها الدخان، وصوت أوديسيوس معلقاً في الخلفية" إذا حكوا قصتي فدعهم يقولون أني عرفت العمالقة، رجال نهضوا وسقطوا كحنطة الشتاء، لكن أسمائهم لن تفني، دعهم يقولون أني عشت في زمن هيكتور مروض الخيول، دعهم يقولون إني عشت في زمن أخيل". وعند انتهاء تجربة القراءة أو المشاهدة يتردد في الروح الحزينة والقلوب المتألمة صدي كلمات هوميروس كما جاءت علي لسان زيوس في الكتاب ١٧ بيت٤٤٥" حيث لا يوجد في تصوري، من يستحق الشفقة بين الكائنات التي تتنفس علي وجه الأرض وتتحرك أكثر من الإنسان"