الاثنين، 17 يناير 2022

مشكلة اسمها"الضوء"

 

مشكلة اسمها"الضوء"

1905من الأعوام البارزة في علم الفيزياء المدهش والنضالي خلال القرن العشرين,لم نعرف لها شبيه سوي ما حدث في 1666وكان بطل العام إسحق نيوتن,وقد أمضاه في بيت أمه بقرية وولستروب بعدما أغلقت كامبريدج جامعتها عقب انتشار الطاعون الدبلي,وأثناء ذلك أسس للفهم العلمي لحركة الكون من حولنا,بوضع قانون الجاذبية الذي ينص علي أنه"توجد قوة تجاذب بين أي جسمين في الكون,تتناسب مادياً مع حاصل ضرب كتلتيهما وعكسياً مع مربع المسافة بين مركزيهما"وابتكر حساب التفاضل والتكامل الذي يعرف بأنه دراسة رياضية للتغير المستمر,وقام بالتحليل الطيفي للضوء,مشككاً في المفهوم السائد حينئذ القائل بأن الضوء الأبيض متجانساً,ومن خلال تجربة المنشور الزجاجي الشهيرة,لاحظ أن شعاع الشمس حين يخترق المنشور يتفكك إلي مجموعة ألوان مختلف تسمي الطيف,تعتمد هذه الخاصية بشكل أساسي علي الأطوال الموجية للألوان المختلفة,حيث تسبب المنشور في انحراف كل لون بزاوية معينة طبقاً لطوله الموجي,هذه الإسهامات جعلت منه الاسم الأشهر في دنيا الفيزياء,وينسب له الفضل في دفع التقدم العلمي منذ القرن السابع عشر حتي وضع الإنسان قدمه علي القمر بفضل قوانينه العلمية,وأصبح العالم مستقراً في عين معظم العلماء وشبه مفهوم ومتوقع,فلكل فعل رد فعل مساوي له في المقدار ومضاد له في الاتجاه,والزمن يسير في اتجاه واحد إلي الأمام كالسهم,محطاته الماضي والحاضر والمستقبل,لا يمكن تفويت أحدهم للحاق بالأخري,والسبب يؤدي إلي النتيجة,القوة تؤثر علي الأجسام,ومن الناحية النظرية يمكن تفسير كل شئ,حتي أنه ينسب للورد كيلفن-الفيزيائي صاحب الأعمال المحورية في مجال الثيرموديناميك والكهرومغناطيسية,والذي تم إطلاق اسمه غلي وحدة قياس درجة الحرارة المعادلة لدرجة مئوي-أنه قال في خطاب له بالجمعية البريطانية لتقدم العلوم عام 1900"ليس هناك جديد يمكن اكتشافه في الفيزياء الآن,ولم يبق إلا مزيد ومزيد من الدقة في القياس".

من نيوتن إلي العالم التجريبي الإنجليزي مايكل فاراداي إلي الفيزيائي الأسكتلندي جيمس كلارك ماكسويل إلي العالم الألماني ماكس بلانك,مرت التجارب العلمية بأيام تاريخية,ستمهد لثورة أينشتين في عام المعجزات1905,أكثر أوقات أينشتاين إبداعاً وألقاً,ففيه أصبح الشاب ذو السادسة والعشرين عاماً خصماً لنيوتن بكل مايعنيه من ثوابت علمية درجت عليها البشرية لقرون,وليس ذلك بمستغرب علي من يدرك شخصية أينشتاين المتمردة علي السلطة والقيود,وروحه المتوهجة بالحلم والشاعرية,فنظرية النسبية لأينشتاين كنظرية التطور لداروين كلتاهما لا تخرجان إلا من عقل فنان ذو خيال اتخذ العلم مجالاً للإبداع والعمل,لا تقيده النظريات الشائعة يحدق في العالم بعين الدهشة لا بعين التعود والمجاراة والفارغة,مثبتين أن الشخص الذي يفكر بصورة مستقلة هو القادر علي ترك بصمة حقيقية في مجاله.

ولندرك مدي الزخم الذي أطلقه أينشتاين في المجتمع العلمي ذلك العام,لنستعرض علي لسان أينشتاين للمفاهيم الأساسية للأوراق العلمية التي نشرها وهو موظف في مكتب براءة الاختراعات بمدينة بيرن السويسرية,يخفي أوراقه العلمية ويتظاهر بالعمل المكتبي كلما اقترب منه أحد,في خطاب أرسله لزميه كونراد هابكيت أحد أعضاء أكاديمية أوليمبيا كما سمي أينشتاين رفاقه المهتمين بالعلوم والفلسفة,ساخراً من الأكاديميات التي عاني فيها ووقف أعضائها أمام جموحه العلمي,وسخطه علي المفاهيم البالية المتمسكون بها,يذكر خطته العلمية الطموحة المتمثلة في أبحاثه الجديدة"يتناول الأول الإشعاع وخواص طاقة الضوء,وهو بحث ثوري جداً,كما ستري إذا أرسلت لي بحثك أولاً,والبحث الثاني هو تحديد للأحجام الحقيقية للذرات...والثالث يثبت أن الأجسام التي لا تزيد عن 1000/1من الملليمتر,والمعلقة في السوائل,تتحرك حركة عشوائية ملحوظة ترجع إلي حركة حرارية.وقد رصد حركة الأجسام المعلقة بالفعل علماء وظائف الأعضاء,وأطلقوا عليها اسم الحركة البروانية.والبحث الرابع هو مجرد مسودة بسيطة حالياً,وهو يتناول الديناميكا الكهربائية للأجسام المتحركة التي تستخدم تعديلاً نظرية الزمان والمكان".

البحث الرابع هو الخاص بالنسبية,أشهر أعمال أينشتاين لكن ما يصفه بـ"الثوري"بحثه في كمات الضوء,لأنه من المسائل الجدلية فقد كان العلماء مقتنعين أن الضوء عبارة عن موجات؛لذلك لابد أن الكون يحتوي علي مادة غير مرئية أسموها الأثير منتشرة في كل أرجاؤه و هي التي تحدث التموجات مثل الماء الذي يحمل الموج في المحيط,لكن أينشتاين أعتقد أنه علي الرغم من صحة ذلك الأمر في الغالب إلا أنه توجد شروط معينة يتحول فيها الضوء إلي جسيمات عرفت فيما بعد باسم الفوتونات,لا تستقر علي الإطلاق بل تتحرك علي الدوام,ويعبتره العلماء بالفعل أكثر الأفكار ثورية في تاريخ الفيزياء,وقد سببت الفوتونات حيرة أينشتاين,وبدأت تلك الحيرة مبكراً حيث اختار له عنوان"وجهة نظر إرشادية تتعلق بانبعاث الضوء وانتقاله",معتبرها مجرد "وجهة نظر إرادية"ليست فرضية مثبتة,وقد ظل أينشتاين حتي نهاية حياته يعتبر الفوتونات والنتائج المترتبة عليها بكل ما حملته من ارتباك واضطراب وأحياناً لامعقولية"إرشادية".

بعد تأمل أعمال فيليب لينارد وماكس بانك لوقت طويل,استخدم"ثابت لانك"وربطه بالنتائج الضوئية للينارد,وأعلن العبارة الأكثر جرأة التي كتبها في أبحاثه التي بلغت حوالي 3000ورقة علمية"وفقاً للغرض الذي ندرسه هنا,فعندما ينتشر شعاع من الضوء من نقطة ما فإن الطاقة لا تتوزع علي نحو متصل في فراغ متزايد,بل تتكون من عدد محدد من كمات الطاقة التي تتمركز في مواقع ثابتة في الفراغ,والتي لا يمكن أن تنتج أو تمتص إلا كوحدات كاملة".

نظرية نيوتن الكلاسيكية تتضمن أن قوة الدفع أو الزخم لأي جسم تشترط وجود كتلة له,وهناك علاقة مباشرة بين الكتلة والزخم,ومع ظهور معادلات ماكسويل عرف العالم أن الفوتونات لها أيضاً نصيب من الزخم,مع أنها لا تمتلك كتلة وهنا أدرك أينشتاين وجه القصور في نظرية نيوتن.

ومع السنين سيكتشف النتائج الغير منطقية من وجهة نظره لميكانيكا الكم,والطبيعة المزدوجة للضوء باعتباره موجة تتنكر علي شكل جسيم أو جسيم يتظاهر بأنه موجة,وسيقول في خطاب كتبه قرب وفاته لميكيلي بيسو أحد أصدقاء عمره"هذه السنوات الخمسون التي أمضيتها في التفكير والتأمل لم تقربني أكثر من إجابة السؤال:ما هي كمات الضوء؟"

زمن البهجة والجراح

 

زمن البهجة والجراح

الأسكندرية من المدن المنذورة للبهجة والجراح,انقضي زمن البهجة وأيام اللوحة الكوزموبوليتانية الخالدة في الضمير البشري,وماكانت تمثلة الأسكندرية من معان للتعايش وتقبل الآخر وانصهار الكل في واحد بين ذراعي حاضنة كبري,تحط عليها الطيور من كل أرجاء العالم فيجدون فيها متعة الروح والقلب,وابتدأ عصر الجراح بتلاشي الوجه الجميل لمشروع الإسكندر الأكبر القديم,واستعلان القبح واستيلاء التطرف علي براح التنوع الإنساني وروعة الوحدة البشرية.

لقد فتنت الأسكندرية أدباء العالم ومثقفية من العصر الهيلليني حتي النصف الأول من القرن العشرين,رحلت الذكريات ورحل مواطنيها ذوي الأصول المختلفة والديانات المتعددة,ولم يبق فيها سوي جيل جديد نما وسط التشوه الذي أصاب مدينتهم الأم بطريقة مفزعة,بعدما قُطع الطريق إلي عالم البحر المتوسط فسيح بحضارته المبهرة,وشق أعداء الجمال سرداب خانق قتل الأسكندرية التي أحببناها وتحولت إلي ذكري,منفذين بالضبط الاتجاه المعاكس لما نادي به العميد طه حسين في"مستقبل الثقافة في مصر"أو ربما لم يعرفوا طه حسين من الأساس,بل استمعوا إلي أدعياء التدين وتجار الدين ينادون بما يخدم أهدافهم الخبيثة...والثمن؟ندفعة يومياً من أعمارنا وأحلامنا وطموحنا لدولة مدنية حديثة,العلم قوامها-وحديث التعلي في مصر يثيرالحزن والبكاء المر-والحرية الفكرية ساحاتها السامقة تتجول فيها عقول المواطنين حرة من كل قيد.

عن زمن البهجة والجراح يكتب الأديب الكبير ثلاثيته عن الإسكندرية,كأحد أبنائها الذين سمعوا ذكرياتها العذبة وهي ماتزال طازجة تحيا في قصص كبار السن,وحضروا السنوات الأخيرة من عظمتها الغابرة,وعاشوا سنواتهم التالية يشاهدون الانهيار التدريجي لمدينتهم التي يباهون بها,كما انهارت أشياء عدة وأصبحنا عرايا مما كان قبل عقود خلت يزغلل عين الرائين من الألق.

1

"لا أحد ينام في الأسكندرية"درة أعمال إبراهيم عبد المجيد,عمل مشحون بالقصص التي انسابت لوعيه من أبيه ومن مجايليه حول الحرب العالمية الثانية التي دار فصل منها في القطر المصري عند مدينة العلمين,معارك جحيمية أحالت الرمال جمراً وأصبحت السماء تمطر الحمم والنيران,اختار بدء تأريخه الفني للمدينة انطلاقاً من فترة مفصلية حاسمة من القرن العشرين,وهي التي ترتبت علي نتائجها عالمنا الحالي,فبعد العلمين اختفت الإمبراطوريات العجوز(بريطانيا-فرنسا-وانهار طموح ألمانيا),وظهرت دول شابة لها تفكير جديد وأساليب مغايرة(الاتحاد السوفييتي-الولايات المتحدة).

يسافر عبد المجيد في الزمان والمكان إلي برلين,أول شخص نقابله في الرواية الفوهرر النازي أدولف هتلر,ويضعنا علي الفور في جوه الروائي منذ الفقرة الأولي كعادة الأدباء الكبار في الأدب العالمي"كان هتلر يدور حول مبني المستشارية في برلين,عاقداً يديه خلف ظهره,محنياً قليلاً,في حالة من التأمل العميق,لكنه أيضاً زم شفتيه مما أبرز شاربه محدباً قليلاً,وفتح عينيه في غضب ازداد لمعانهما.في الحقيقة كاد صدره ينفجر ورأسه,وهو ذاهل تماماً عن حراس المبني الواقفين,وحراسه هم الذين يدورون خلفه,كان يفكر لو يستطيع أن يمسك برئيس حكومة بولندا يعصره عصراً.

اليوم هو الخامس والعشرون من أغسطس,الجو صحو فوق برلين...."

من السحر الروائي جاءت هذه الافتتاحية التي تذكرنا بأساتذة الفن الكبار,الذين يخلقون اللحظة الفنية مباشرة وبتلقائية كميلاد فجر جديد أو اختفاء وجه القمر تحت سير السحاب أو ارتداد موجة إلي حضن البحر,هاهو تولستوي يبدأ أنا كارنينا"الأسر السعيدة كلها تتشابه أسباب سعادتها..أما العائلات التعيسة فإن لتعاسة كل منها سبباً خاصاً يختلف عن أسباب تعاسة غيرها!

وقد كان كل شئ مضطرباً في أسرة أوبلونسكي,فالزوجة اكتشفت أن زوجها علي صلة آثمة بفتاة فرنسية كانت تعمل مربية لدي الأسرة,وقد صارحته الزوجة بهذا النبأ وأنذرته بأنها لن تستطيع الاستمرار في العيش معه تحت سقف واحد.....".

وماركيز في مائة عام من العزلة"بعد سنوات طويلة وأمام فصيلة الإعدام,سيتذكر الكولونيل أوريليانو بوينديا ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه أبوه للتعرف علي الجليد.كانت ماكوندو آنذاك قرية من عشرين بيتاً من الطين والقصب مشيدة علي ضفة نهر ذي مياه صافية...".

ونجيب محفوظ في ملحمة الحرافيش"في ظلمة الفجر العاشقة,في الممر العابر بين الموت والحياة,علي مرأي من النجوم الساهرة,علي مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة,طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة في حارتنا"

وفلوبير في مدام بوفاري"كنا في حجرة الدراسة,عندما دخل الناظر يتبعه تلميذ جديد لا يرتدي الزي المدرسي,وفراش يحمل قمطراً كبيراً,فاستيقظ من كان نائماً,وانتصب كل منا واقفاً,وكأنه فوجئ علي حين غرة برقيب علي عمله!

وأشار إلينا الناظر بالعودة إلي الجلوس ثم التفت إلي المدرس قائلاً في صوت خفيض:"مسيو روجيه,هذا تلميذ أوصيك به.لقد التحق بالسنة الخامسة.....".

تلك البداية تلقي ظلالها علي مصائر أبطال روايتنا,هتلر سيحيل الدنيا صراعاً شرساً,وفي خضم هذا الصراع يظهر صراع أصغر يقضي علي قصة حب رشدي وكاميليا بسبب اختلاف العقائد,وفي ليلة قريبة لنفس الليلة التي أراد فيها هتلر عصر رئيس حكومة بولندا,يوجه لمجد الدين سؤالاً, وهو بعد في قريته التي لا يرفعا هتلر ولا رئيس الحكومة البولندية"لماذا لا تسمح لنا بالقتال,إنها نفس الرغبة المسيطرة علي قلوب الرجال علي مر التاريخ واختلاف الأجناس,القتال والحرب لا يهم إذا ما كانت في برلين,موسكو,واشنطون,لندن,أو في قرية مصرية تملؤها أبراج الحمام,في الأسباب الدولية للحرب العالمية هي الرغبة الألمانية في الثأر لهزيمة قواتها في الحرب العالمية الأولي وشروط معاهدة فرساي القاسية التي اقتطعت منها مستعمراتها,وفرضت عليها أزمات اقتصادية حادة,وفي روايتنا الرغبة في القتال تتشابه مع الفارق في الشعور المحرك,رغبة العمدة في الانتقام من البهي أخو مجد الدين,المغوي للنساء بوسامته وجاذبيته الذي التي جعلت القرية تغلي غيرة علي حريمها,وتدبير البهي لمقلب المحكمة الشرعية حيث فضح أسرار الأزواج ومعهم العمدة,فيفور القتال ويجري سلسال الدم حتي يحل الخراب علي الأسر المتقاتلة,إنها نفس الأسر الإنسانية التي تتحارب وتفني بعضها البعض!"قبل هذه الليلة الأخيرة لمجد الدين بيومين كان الرد الذي طلبه هتلر قد جاءه إعلاناً سريعاً بالتعبئة بين الشعب البولندي,ونداء من رئيس وزراء بولندا إلي شعبه,بأن يقف خلف جيشه دفاعاً عن الحرية والشرف.

انتهت المدة إذن,ولم يعد هناك مفر من دوران آلة الشر,وفي صباح تلك الليلة الأخيرة لمجد الدين,بالضبط في الساعة الرابعة وخمس وأربعين دقيقة,بدأ الهجو الكبير علي بولندا".

يهرب مجد الدين مع زوجته زهرة إلي الإسكندرية لاحقاً بأخيه البهي الذي سبقه إلي هناك,وفي القطار يستمع هو الرجل الوديع إلي حوار يدور بين راكبين"ولقربهما من مجد الدين كان يسمعهما.

-لن تتركه فرنسا ولا إنجلترا,إنها بداية حرب عالمية جديدة.

-وهذا ما يجعلني أضحك بشدة.

-ماذا تقصد بهذا الضحك؟أقول لك حرب عالمية سيموت فيها ناس.

-أقصد أننامنقولون للعمل بالإسكندرية نفس يوم هجوم ألمانيا علي بولندا,هذه مسألة مقصودة,اتفاق مع هتلر.

راح مجد الدين يسمع الكلام مندهشاً.كان يعرف مما يتناثر في القرية,ومما يقوله الراديوالضخم الذي نادراً ما يستمع إليه,أن هناك استعداداً للحرب,إن ألمانيا تثير المشاكل مع الدول الأخري,وإن الناس تخشي قيام حرب جديدة تكون أشد فتكاً من الحرب السابقة.لقد نسي هذا كله خلال الأيام السابقة.هاهو يعود إليه.لذلك أنصت لكلام الرجلين."مجد الدين يخرج رغبة في النجاة من حرب صغري كي يقع في الحرب العالمية الثانية,يتفادي العمدة ليواجه قوات روميل ومونتجومري!..أي قدر عجيب تكتبه الحياة لأطفالها الضائعين!.

السرد يتوازي بين ثلاث مستويات:

1-مجريات الحرب العالمية الثانية وأحداثها المهولة,نتابع أهم تقلباتها وأخبارها.

2-الحالة العامة المحلية في ذلك الوقت من حوادث وسينما وفنون وإعلانات,كما جاءت في الصحف وإدراجها في المتن الروائي مثيراً البسمة والأحزان.

3-الأحداث التي يواجهها شخوص الرواية:مجد الدين,زهرة,أم حميدو ,الست لولا والست مريم,الأسطي غبريال,الصافي نعيم,بريكة,البهي,حمزة,ديمتري,رشدي وكاميليا في الحياة الشخصية من حب وفقر وبحث عن عمل جيد,وتأثير الحرب العالمية علي سكان المدينة ككل.

وكعادة الأعمال الجميلة في الفن الروائي,يصعب تصنيف"لا أحد ينام في الإسكندرية"هل هي رواية عن الحرب؟مرثية للإسكندرية؟أم هي ذكريات الكاتب وتأثير حكايات أبيه في فترة مبكرة طفت علي السطح وخرجت بصورة عمل روائي,وخاصة أن مجد الدين سيعمل في السكة الحديد,وسيذهب إلي العلمين مع صديقه دميان ويشهدان المعركة الطاحنة وهو نفس مامر به والد المؤلف؟

إنها كل ذلك اجتمع له الصفة السردية المناسبة ليحتل مكانه في ترتيب أهم 100رواية,يضم الحس الكوني والاهتمام بمصير الجنس البشري,متضمناً تفاصيل الحياة في ذلك العهد ببناء فني زادته شخصياته المميزة العصية علي النسيان سبكاً وروعة.

مجد الدين وزهرة اللذين قدما للأسكندرية أغراب ومالبثا أن اندمجا في جو المدينة,وعلاقتهم مع أسرة ديمتري وزوجته مريم وابنتيه كاميليا وايفون,وصداقة دميان النادرة بمجد الدين,مثال واقعي غير متكلف لما كان يكتنف الإسكندرية من جو لا يعرف التعصب ولا التعالي,فالتطرف عموماً يحمل في جوهره الخبيث,أن شخص أفضل من الآخر وفئة تتميز عن فئة وحقيقة واحدة والأخري مزيفة,ودوجماطيقية مدمرة للأفراد والمجتمعات,قد يمكن تفهم تلك الآفة في دول أخري أما مصر...مصر بتاريخها المتسامح الحاضن لكل أمم الأرض وأديانه,وموقعها بين العالم وقربها من الجميع,فكارثة أن ينتشر فيها ذلك الفكر الغبي,فمعتنقيه يعيشون هنا بأجساده فحسب,أما أرواحهم وعقولهم ففي دول أخري وعصور أخري انساقت إلي تلك الأفكار السامة,يحاربون طواحين الهواء كالحمقي,ويحرمون كل شئ وينغلقون علي كل شئ.

بالفن يوضح لنا إبراهيم عبد المجيد معني العيش في مصر بين المصريين,ووحدة النص الديني وتقارب الروح البشرية,وسط طلعات طائرات جيوش المحور والأرض تهتز والسماء مشتعلة"قال الشيخ مجد الدين وأعاد(وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون),ويعيد ويرتفع صوته ويهتز مع ضوء القمر يكشفه للجميع,بينما هو ذاهل عنهم تماماً,وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون),وبدأت زهرة تردد خلفه وصوته يعلو,والست مريم تردد"نعم نسألك يا الله ضابط الكل لا تدخلنا في التجربة لكن نجنا من الشرير",وديمتري يردد معها:"نعم نسألك أيها الرب إلهنا لا تدخل أحداً منا في تجربة.هذه التي لا نستطيع أن نحتملها من أجل ضعفنا,بل اعطنا أن نخرج من التجربة أيضاً لكي نستطيع أن نطفئ جميع السهام المتقدة ناراً التي لإبليس"ويرتفع صوته وترفع الست مريم صوتها,ونجنا من الشرير إبليس بالمسيح يسوع ربنا,آمين.ومجد الدين يرفع صوته أكثر يا ربي لا تترك بيني وبين أقصي مرادك مني حجاباً إلا كشفته ولا حاجزاً إلا رفعته ولا وعراً إلا سهلته ولا باباً إلا فتحته يامن ألجأ إليه في شدتي ورخائي,ارحم غربتي,آمين يارب العالمين.ويبدأ مجد الدين قراءة القرآن الكريم بعد الدعاء ولا يزال يهتز ويعيد ديمتري معه ابتهالاته,ويختلط الكلام فتسمعه فلا تدرك منه إلا أنه حالة روح صادقة ضارة متبتلة بكل الجوراح لله المخلص.(يس*والقرآن الحكيم)أيها الرب إلهنا(علي صراط مستقيم)لا تدخل أحداً منا في تجربة(تنزيل العزيز)نجنا من الشرير(ما أنذر آباؤهم)من أجل ضعفنا(علي أكثرهم فهم لا يؤمنون)نخرج من التجربة(وجعلنا من بين أيديهم سداً)التي لإبليس(فهم لا يبصرون)آمين آمين.

وتأتي الأصوات من الشارع,رجال وشباب ونساء مذعورات وأطفال يبكون."

جذور الأديان والاعتقادات كلها تكمن هنا في مصر,فإن لم تحتو هي الكل تحت سمائها وفوق أرضها,فدلوني علي دولة أخري تحمل نفس الميراث وتقدر علي حمل تلك الرسالة...ابحثوا فلن تجدوا!

ويودع مجد الدين صديقه دميان الذي يموت في طريقهما للهرب من جهنم البشرية التي اشتعلت في العلمين بسورة الرحمن,وبين كل آية وأخري يردد"دميان.دميان".

تلك هي الروح المصرية كما صاغها التاريخ قبل أن يهاجمها طيور الظلام ببث الكراهية والنفور من الآخر أياً كان هذا الآخر,فكل مختلف هو مخالف ومن ثم تصبح مدينة عالمية كالأسكندرية مدينة الصراع الطائفي!!!

تعاطف مع جميع الشخصيات ووزع عليها من قلبه وروحه,وأعتقد لو كان سرد جزءً مما يعتمل في نفس قواد وجيوش القوات المتحاربة,لجعلنا نتعاطف مع الفريقين معاً,هؤلاء الغرباء الذين تركوا بيوتهم وأراضيهم وعائلاتهم ليقتلوا بعضهم البعض علي رمال بلاد بعيدة لم يجر في خيالهم أن يزوروها يوماً ما,كما تمكن من تصوير الخوف وظلام الصحراء وضرب المدافع والدانات والجو الخارجي للمعركة بصدق,كان سيغوص في تفاصيل الحياة والموت ومفارقات الأقدار بنفس الصدق.

وفي لحظات بهيجة وعلي طريقة السينما التي يعشقها إبراهيم عبد المجيد,وذكرياته معها دافئة ومؤثرة لأبعد مدي,تبدأ حيوات الشخصيات بعد الحرب نشيطة ومتفائلة بالغد"وظهر الخواجة ديمتري أمام منزله ومعه عدد من العمال سرعان ماراحوا يزيلون ما تهدم استعداداً لبناء البيت من جديد,وظهر جندي الجيش المرابط الذي كان يشتري اليوسفي من أم حميدو.فجأة فوق رأسها يضحك ويهز رأسه ويقول:

يابتاع اليوسفندي.

ماتقول لي العشرة بكام.

وضحكت أم حميدو,وجلجت ضحكتها وقالت وهي تهز كتفها:

العشرة اليوسفندي

ياحبيبي ببلاش

وزيادة

فرقص أمامها وأمسك يديها وقال:

أنا عايز الزيادة يا أم حميدو بالحلال.

ولم ترد طامنت رأسها,وأغمضت عينيها فانكفأ عليها يحتضنا ويقبلها وهي جالسة ففزعت,ودفعته بعيداً وهي تنظر إلي الشارع.

وافقت هذه المرة علي الزواج.هي غير مصدقة عودته وهو غير مصدق موافقتها وأدرك رشدي أن ألمانيا إذا هزمت مرة ستهزم كل مرة,فصار علي يقين باقتراب انتهاء الحر وسفره إلي باريس...."

ويختم الرواية"-لا أعرف كيف ستكون الأسكندرية دون دميان,ولا كيف ستكون عندي القدرة علي العودة إلي العمل دون أن يكون معي.

ومسح دمعه الذي ترقرق لكنها لم تشأ أن تثنيه عن العودة إلي المدينة التي ذهب إليها من قبل مكرهة,وتركتها إذ خلفته وراءها..

ستذهب هذه المرة راضية مسرورة حتي لو لم تجد الناس,كما كانوا بنفس الروح الصافية والمرح.المدينة البيضاء زرقاء البحر والسماء ستعيد الروح لأبنائها.

قالت:

-نسافر في الصباح الباكر هذه المرة

قال:

-طبعاً...دخول المدينة بالليل أمر صعب.(دخل مجد الدين وزوجته وهما المتحدثان في تلك الفقرة المدينة ليلاً,في وصف آسر يشف عن حساسية المكان والاغتراب في أدب عبد المجيد)

وكانت نذر الشتاء قد أتت متعجلة,فهطل مطر كثير غزير لم ينقطع بالليل والنهار,واستمر لعدة أيام لكن أحداً لم يضج,والحركة لم تنقطع,والمحلات لم تغلق,وأصوات الراديو لم تنخفض في المقاهي,لقد بدا للجميع أن السماء تغسل المدينة.لقد كانت السحب عالية وبيضاء وتلك كانت معجزة,فمن أين حقاً يأتي كل هذا المطر,وعندما جاءت موجة من السحب السود واستقرت فوق المديني,نسي عامل محط الكهرباء الرئيسية في كرموز أن يقطع الكهربا عن مصابيح الشوارع بالنهار,فظلت المدينة مضاءة بالنهار والليل.كان الناس قد أزالوا اللون الأزرق من فوق نوافذ البيوت وواجهات المحلات,وكشافات السيارات,وترك الجميع النور في البيوت والمحلات بالنهار والليل أيضاً.صارت الإسكندرية مدينة من فضة تسري فيها عروق من ذهب."

إنها رؤية فنية رآها عبد المجيد في خياله الأبداعي,وأمل حارق يحدوه أن يري مدينته مدينة الفضة والذهب,هكذا يحلم الفنان ابن الاسكندرية بأيام طاهرة تغسل فيها عروس البحر المتوسط من أدران الفساد,والتعصب,والهمجية,لتعود لشبابها الأول"مدينة من فضة تسري فها عروق من ذهب"

استغرق لكتابتها ست سنوات,بين البحث والقراءة,والسفر والترحال في الصحراء الغربية,لزيارة أماكن الحرب,مشي حافياً في الرمال,وزاره صيفاً وشتاء كي  يعايش التجربة كاملة,وكله انصب في قالبه الروائي البديع,بعدما خاض بروح المغامرة تجربته الفنية والشخصية لتولد هذه الرواية من رحم الإخلاص والدقة والعمل

إن الألم هو الشعور القادر علي إبداع الفنون والآداب,وإبراهيم عبد المجيد أحد من يتألمون لجراح هذا الوطن,وينقلون نبضات قلوبهم الموجوعة علي الورق لتعبر عليها أجيال الحلم والأمل,خمسون سنة قضاها أديبنا مهموماً ولولا الهم ما أبدع,وفي خلال السنوات تغير كل شئ للأسف للأسوأ,وبقي إبراهيم عبد المجيد قيمة جيب الاحتفاء بها,وإعادة اكتشافها وتقديمها لأجيال أصبح الإبداع لديها سراباً يسوقها إلي مشارب سامة,متغافلين عن حقيقة الأدب الذي يمثله إبراهيم عبد المجيد مع أقرانه من القامات السامقة في تاريخ الأدب العربي.

إن هذا الأديب يريد استرجاع الفردوس المفقود الذي عاشت فيه الإسكندرية قبل الهجمة الهمجية التي أطاحت بكل جميل في مصر,وهو يعاني الآن المرض بحكم السن-أطال الله في عمره-لكنه لم يتوقف يوماً عن الكتابة والتدوين والمواجهة والمراجعة,زاده في ذلك ثقافة أصيلة أساسها تعليم حقيقي ذاب الآن من مصر تماماً وكان هذا التعليم الجيد هو الأرض الطيبة التي أنجبت لنا عظماء مصر في مختلف المجالات,وتجربة حياتية غنية في سنواته التي قضاها في الإسكندرية أو القاهرة,ساعدته عين الأديب الكاشفة التي تستلهم إبداعها من الحياة حولها وتجلياتها عبر الأشخاص والأحداث,سيرة عمر تناثرت بين الروايات والمقالات لو جمعناها في كتاب واحد لصارت شهادة علي عصر بدأ مع الزمن الناصري إلي الآن.

تمثل أعماله إضافة حقيقية للأدب المصري,ولهذا الميزان مقياس صادق,فكل عمل فني لابد أن نزنه بسؤال:كم كنا نخسر لو لم يكن موجوداً,وما الذي أشبعه فينا روحياً وإنسانياً,أعمال إبراهيم عبد المجيد التي تراوحت بين الرواية والقصة والمقال والسيرة الذاتية المستترة في أحاديثه عن تجربته الأدبية وعشقه للن السينمائي,لو لم توجد لخسرت ثقافتنا المعاصرة الكثير,لقد كتب أهم أعماله في زمن ردئ أصبحت فيه الثقافة تهمة والوعي جريمة والكتابة والقراءة فعل يثير الريبة,فمثل مع بهاء طاهر وصنع الله إبراهيم وإدوارد الخراط وغيرهم أبطال حقيقيين,أبدعوا أفكارهم وسردوا حكاياتهم في جو غير مشجع علي الإطلاق,فهذه إحدي دروسه التي ألقاها علينا دون كلام,إخلاص للفن والأدب,وعشق للحياة لا يفني,ولو أتيحت له الظروف المواتية لقام بدور فعال في المؤسسات الثقافية لكن ظروف بيئته التي طالما تشكي منها في أعماله,كانت ترفض أمثال هذا الرجل فكيف يعمل مع أناس يعتبرون التمثيل والرسم والغناء من المحرمات,وكيف في الأساس وصلوا إلي الكيانات الثقافية المصرية...لكن كما نقول"محدش عارف الخير فين!"فبهذا النبذ استطاع أن يكرس جهده وطاقته للفن الروائي,فكانت (ليلة العشق والدم),(بيت الياسمين),(المسافات),(البلدة الأخري),(قناديل البحر),(شهد القلعة)(وفي كل أسبوع يوم جمعة),(طيور العنبر) و(الإسكندرية في غيمة) المتممتان للثلاثية,وكتبه(ما وراء الكتابة),(أنا والسينما),(غواية الأسكندرية)وترجمته لـ(مذكرات عبد أمريكي) لفريدريك دوجلاس,وغيرها من الأعمال التي أمتعتنا وسدت ثغرات عميقة تعاني منها الثقافة المصرية الحالية التي تئن من العطش الفكري,وتعاني الفراغ الكبير برحيل الكبار عن عالمنا دون وجود من يخلفهم في مجالاتهم علي اختلافها,وقاومت الضربات العنيفة التي توجه لقوتنا الناعمة لفرض القيود عليها والإجهاز علي ماتبقي منها,إن تلك التجربة تذكرني بابن خلدون الذي دأب علي البحث عن منصب أو مكانة سياسية في بلاط الخلفاء-كاتبنا كان مستعففاً-ولما يأس قر في قلعة بني سلامة يدون ما سيثير شغف العالم من الشرق إلي الغرب والشمال والجنوب,مستشرفاً آفاق جديدة للحياة البشرية في كتاب سيترجم لكل اللغات ويدرسه كل مهتم بالعلوم الإنسانية نعرفه نحن بلغتنا العربية باسم(مقدمة ابن خلدون)...إبراهيم عبد المجيد نفسه شبيه بأبطال رواياته,مصري تمزق في مراحل عديدة,لكنه بطريقة ما يعود من جديد...ينهض لأن قراؤه ومحبيه ينادون باسمه.