الجمعة، 28 أغسطس 2020

اللص يطارد الكلاب

 

من السجن الصغير إلي السجن الكبير خرج سعيد مهران عازماً علي إقامة ميزان العدالة,في عالم امتلأ بالخيانة والشرور,انهارت فيه المبادئ وأصبح الفائز فيه هو الشخص القادر علي التلابعب والجحود والاستحواذ علي ماليس له بدون وجه حق,وللسخرية سعيد مهران ليس إلا لصاً احترف سرقة مساكن الأثرياء,بتوجيه من رؤوف علوان الرجل الذي أضاء وعيه ومنحه عيناً جديدة يري بها العالم,ليبدأ رحلة سلب من يعانون من السمنة المالية المفرطة لعلهم يتخففون من الأوزار التي يحملونها.

هكذا يستعيد نجيب محفوظ حادثة حقيقية شغلت الرأي العام في أواخر الخمسينيات,وهي حادثة محمود أمين سليمان اللص الذي امتلأت الصحف بأخباره وازدحمت الأفواه بحكاياته,اتخذت سيرته منحي مشابه لروبين هود اللص النبيل الذي يسرق من الأغنياء,وقد كان مثقفاً استطاع التقرب من مشاهير عصره وذو مهارة إجرامية فائقة,ارتكب بفضلها عدة جرائم من ضمنها الانتقام من محاميه الذي شك أنه يقيم علاقة مع زوجته في النهاية يسقط صريعاً برصاص الشرطة المصرية.

بلغة فنية وحس فلسفي يغوص فيما وراء الظاهر يستوحي محفوظ من هذه الشخصية الثرية روايته"اللص والكلاب",وقد مات البطل الحقيقي وولد سعيد مهران الخارج من السجن,وفي نفسه شهوة الانتقام من كل الخائنين,زوجته نبوية وصبيه عليش اللذين دبرا إيقاعه في قبضة البوليس,ورؤوف عنوان الحانق السابق علي الأغنياء المتحمس لسرقتهم وعندما يصبح هو نفسه غنياً,يتحول إلي أحد الكلاب التي تطارد سعيد وتطالب بسرعة القبض عليه,عنوان الرواية يحيل إلي وقائع مطارد بوليسية بين اللص والكلاب في البداية اللص من من يطاردة الكلاب البشرية,وفي النهاية ينقلب الموقف فيصبح اللص هو الطريدة للكلاب الحيوانية المتتبعة رائحته دون أن يصيبها كلل كالذي يصيب البشر فييأسون ويستسلمون لمصيرهم بين الوداعة والسخط,والعجيب أن الكلاب الحيوانية تتفوق علي البشر في مهامهم سواء اللص الذي يخطئ صيده أو الكلاب البشرية التي لا تعرف سوي غريزة الخلاص لهدفها الشخصي فقط.

محفوظ أحد العالمين بخبايا النفوس البشرية,يكتب روايات تلك المرحلة من أدبه بتقنية المونولوج الداخلي,يستخرح من الشخصيات مكامن خيباتها وهزائمها,يسرد حياتها من جديد بدمج الماضي وذكرياته المحشورة في الوعي واللاوعي ليقذف بها في ثنايا الحاضر كقدر لا يمكن الإفلات منه,الماضي هو ما يسوث المستقبل بمقود الحاضر,الخيانة والظلم هما ما يجعلا نفس سعيد مهران ثائرة علي الجميع,تريد القصاص بأي ثمن,يخرج من السجن باحثاً عن ابنته وبيته وكتبه لا يخرج سوي بقطرات لا تشفي ظمأع,فيتجه إلي المسدس ومن المسدس والرغبة المستعرة في محو شعور الظلم والخيانة بالدم,يغرق في سلسلة من التخبط الأعمي والفشل الذريع يريد أن يرفع عن نفسه الظلم,فيظلم أبرياء لا ذنب لهم إلا أنهم وجدوا في المكان والزمان الخاطئ!

مع كل رحلة يخرح من أجلها سعيد لينال انتقامه المشتهي,يعود وقد أصاب بريئاً!إنه عبث أقدار نجيب محفوظ القديم في مرحلته التاريخية يعود بشكله العصري وليس عن طريق نبوءة من كاهن,بل بنسيج من ظروف اجتماعية ونفسية جعلت الأبرياء يحلون محل المجرمين والوضعاء يستولون علي المراكز العليا"اذهب إلي الجبل حتي يهبط الظلام.لا تغادره حتي يهبط الظلام.تحاش الضوء ولذ بالظلام.تعب بلا فائدة.ذلك أنك قتلت شعبان حسين.من أنت يا شعبان؟.أنا لا أعرفك وأنت لا تعرفني.هل لك أطفال؟.هل تصورت يوماً أن يقتلك إنسان لا تعرفه ولا يعرفك.هل تصورت أن تقتل بلا سبب؟.أن تقتل لأن نبوية سليمان تزوجت من عليش سدرة؟.وأن تقتل خطأ ولا يتقل عليش أو نبوية أو رءوف صواباً؟.وأن القاتل لا أفهم شيئاً ولا الشيخ علي الجنيدي نفسه يستطيع أن يفهم.أردت أن أحل جانباً من اللغز فكشفت عن لغز أغمض"

رغن أن الخطة موجودة والإرادة صلبة لا تلين والرغبة في معاقبة الخونة صادقة,إلا أن الأقدار تعمي عين سعيد مهران كلما أراد أن يوجه رصاصته نحو الطريق الصحيح,فإذا بها تنحرف وتقتل الأبرياء,مرة عامل ومرة بواب كأن للخيانة مساربها التي يحتمي بها الخونة فلا يصيبهم رذاذ العدالة أبداً,رؤوف علوان في سموه الاجتماعي كصحافي شهير مؤثر في الرأي العام,ونبوية وعليش في هروبهم واختفائهم ببراعة من طريق الزوج المغدور به,لعبة قاسية تلعبها الأقدار معه وتعميه حتي عن نور التي تهبه قلبها وتتمني أن تحيا معه بقية عمرها,بعيداً عن شقاء الانتقام ووضاعة العمل في الدعارة,إلا أن سعيد ليس في قلبه سوي مرارة الغدر به وسرقة ممتلكاته وابنته من زوجته وصبيه الخائن,أو سرقة المبادئ القديمة التي لقنها له رؤوف علوان حول فلسفة السرقة,بأسلوب منمق بالثقافة والمبادئ الثورية حتي أنه اعتبر أن البلاد تحتاج إلي مسدس وكتاب,لماذا؟المسدس للتكفل بمثالب الماضي والكتاب لينير المستقبل!وعندما يتسلق السلم الاجتماعي يصبح أشرس كلب يطارد سعيد مهران وقد أصبح مصدر تهديد له.

وفي النهاية يتكاتف الكلاب لينالوا من اللص صاحب الرؤية الفلسفية والاجتماعية,المتخذة من السرقة تعبيراً واقعياً عن تهاويم البحث عن عالم أفضل"وغاص في الأعماق بلا نهاية.ولم يعرف لنفسه وضعاً ولا موضوعاً ولا غاية.وجاهد بكل قوة ليسيطر علي شئ ما,ليبذل مقاومة أخيرة,ليظفر عبثاً بذكري مستعصية,وأخيراً لم يجد بداً من الاستسلام فاستسلم بلا مبالاة..بلا مبالاة..".

تاه سعيد بين عالمين عارم يرفضه(زوجته نبوية-ابنته سناء-معلمه القديم رؤوف)بينما هو منجذب إليه بفعل عواطف شتي,وعالم آخر يأتيه من خارجه(نور كحبيبة-المعلم طرزان كصديق حقيقي-الشيخ علي الجنيدي كمعني نوراني غارق في المعاني الصوفية.

كلا...الانتقام...لعنة أوريست وهاملت لا تريد التخلي عن أبطالها وضحاياها لابد أن تصرعهم...

اللص والكلاب هي أول رواية كتبها محفوظ بعد أولاد حارتنا وذلك السياق له دلالة في المشروع المحفوظي ككل,سعيد مهران أحد الأولاد التائهين الباحثين عن العدالة والحق لكن رصاصته الطائشة زادت من الخراب والقهر,لم يبرد ناره حبيبة ولا صديق كأثمن ما يحصل عليه الإنسان من عوض عن لطمات الماضي الأليمة,ولا كلمات الشيخ علي الجنيدي الغامضة التي لم تكن تستغلق علي أبيه عندما يسمعها من الشيخ,عالمه النفسي صاخب متلاطم غير قادر علي فه عباراته التي تحتاج لقلب لم يلوث بالحقد والكراهية والرغبة في القتل.

تهاوي سعيد مهران أخيراً وقد انصاع لقدره الذي يطارده ولم ينجح في تحديه وتغييره,وهل نجحت حميدة في زقاق المدق من قبل,هل نجحت الأسرة في بداية ونهاية؟وكيف كانت نهاية صابر الرحيمي في الطريق,شخصيات محفوظ قدرية لكنها كلما حاولت الإفات من قدرها يستحكم عليها بأنيابه حتي يدميها...فراشة تحوم حول النار حتي تحترق بها.

 

السبت، 15 أغسطس 2020

انتحار بيت قديم

 


العصفور السعيد

تقدم العصفور خطوة ليقف ملاصقاً للنافذة تماماً,ينظر من خلالها إلي البنت الصغيرة مفطورة القلب,تبكي بحرقة,يسمع تنهداتها من الخارج,يحزن العصفور لبكاء البشر,ويتألم معهم رغم أنه لا يجد سبباً للحزن,السماء واسعة والأرض كذلك تسع الجميع ليحيا فيها,فما بال هؤلاء البشر يكدرون بعضهم ولا يرتاحون إلا إذا ألحقوا الأذي بغيرهم,نقر نقرتين علي الزجاج,لم تنتبه البنت وراحت تعض الوسادة مقهورة ودموعها الساخنة تجري وتزوم من الوجع,زادت شفقة العصفور وزقزق لعلها تتلهي عن بكائها,ظل يزقزق ويغني ويضرب بجناحيه طوال الليل,حتي هده التعب وارتمي علي ظهره في يأس وإجهاد,شاهد الدنيا من تحته تموج بخلق كثير,يطوف الناس حول أنفسهم فقط لا يهتمون بغير فائدتهم,غير عابئين بما ينطوي عليه العالم من آلام,قرر أن يكون أفضل منهم,واصل الليل بالنهار,مع طلوع الشمس كان يغني ويرقص سعيداً منتشياً,يغني للبنت النائمة ظناً منه أنها نامت علي صوته,رقص حباً في الطبيعة والسماء,وكلما ارتفعت الشمس زادت حرارة أداؤه,لم يتحمل قلبه كل هذه السعادة والتعب وسقط ميتاً علي الإفريز.

عند الظهيرة والشمس في عز شبابها,فتحت البنت النافذة,وصرخت هلعاً عندما وجدت العصفور ميتاً,جاءت أمها جرياً تستطلع ما حدث,أحضرت عصا المكنسة الخشبية المكتسية بالسواد عند رأسها,ودفعته ليهوي إلي الأرض,ارتطم بالأسفلت وعلي وجهه الميت ابتسامة يعرفها من يجيد قراءة التعابير العصفورية,قفزت قطة رماها صبي عابث بالحجارة نحو الرصيف,تأملته للحظة,وتدلي رأسها نحوه,التقطته بين أسنانها وغابا عند المنعطف.

2

انتحار بيت قديم

اليوم يهدمون البيت بعد حياة مديدة امتدت مائة عام,وقف عامل بارز العضلات تحت الشمس المحرقة,رفع المطرقة الضخم بساعدين مدربين,هوي فوق رأس المنزل توجع البيت من الضربة,قلقت الذكريات وتوجست بقايا أرواح كل من عمروه,تتالت الضربات,عشرات السواعد تجلد البيت بلا شفقة,بكاء البيت طغت عليه أصوات المطارق وزعيق المارة وجعير أبواق السيارات,يتمني لو يسمعه أحد ويعفو عنه صرخ بصوت واهن تردد في جب الفراغ العميق:

-لا زلت قوياً ويمكنني العيش مائة سنة أخري,صاحبي الأول بناني كما ينبغي,كان علمه في رأسه وعمله في يديه وضميره رقيب,لماذا تريدون هدمي وكل ما حولي هو ما يستحق الهدم قبل فوات الأوان,مع أول هزة سيقع فوقكم وساعتها ستحتاجون لي,اتركوني أعيش رحمة بكم يا ناس.

همدت المطارق,ظن أنه نجح في إقناعهم,فرش العمال السمر المغبرين بالتراب علي وجوههم وملابسهم,ملاءة مهترئة,وجلسوا حول طعام الإفطار يأكلون ويتحادثون,يؤنسون وحدته الآن إذن,سامحهم علي طرقاتهم المؤلمة,وراح يستمع لأصواتهم في شوق من فقد الحس والصاحب...آه...ضربة أخري,استسلم البيت للأمر الواقع,جمعت بقايا الأرواح نفسها وخرجت للشارع وسط الغبار والحر,أما الذكريات فقد تكومت علي نفسها وقد قررت أن ما يجري علي البيت يجري عليها.

جاء البلدوزر في النهاية ليهدم الدور الأول من جذوره,بمجرد أن لامس حديده البيت الذي فقد قواه,سقط من تلقاء نفسه منتحرا,مخلفاً ورائه سحابة هائلة من التراب الناعم,ثار في الجور وهاجم كل ما في طريقه,أغلقت الحوانيت أبوابها وأغلقت المنازل شبابيكها وجري المارة,خوفاً من العاصفة الترابية وبعد خمودها,عاد كل شئ لحاله...ولم يعد البيت القديم.

3

النبضة الأخيرة

العجوز في غرفة العناية موصول به أسلاك في الأنف والصدر,ممدد علي السرير,هو الذي لم يمكث يوماً في مكان,طاف الدنيا وحكي كثيراً عن متعته الجارفة وهو يهبط في بلاد الجليد من علي سلم الطائرة متدفئاً بالخمر وأحضان النساء,معلقاً جاكتته علي إصبعه فوق كتفه,وعن مغامراته في بلاد الفرص يركض حول نوادي القمار ولاعبيه يربح من ذلك وينفقه علي تلك,وعن ركوبه للفيل في الأدغال وتمايل جسده واهتزازه مع حركته,كان يختبر الشباب بسؤالهم عن عواصم الدول وكالعادة لا يجب أحد,فيستفيض هو في الكلام عن الجغرافيا والتاريه والعالم وما يحوي من جمال ومناظر,يحملهم بلسانه إلي ما سمعوا عنه ولم يروه,يسرد عليهم ما يلهب رغبتهم في التجوال,لعلهم يعيشوا حياة كالتي عاشها أو قريب منها.

يبدو هادئاً بعد فوران طويل,ليس بجواره مخلوق,نسي في غمرة طموحه وتقافزه في أرجاء الأرض,أنه يحيا وحيد ليس بجواره أحد وعندما أفاق كان الوقت فات,القلب ينبض نبضاته الأخيرة,أخيراً سيستقر العجوز هذه المرة في بلاد بعيدة جداً,لها تذكرة ذهاب فقط,ها هي يمنحها له جهاز قياس ضربات القلب بخيط طويل وصفارة مزعجة تستعجله لرحلته الأخيرة...وداعاً أيها العجوز ستعيش بعد حكاياتك حتي يلقاك آخر من سمعها منك.