الخميس، 29 يناير 2015

رسالة في التجرد

رسالة في التجرد
-أي طريق أسلك يا نفسي؟اتبعت عيني فعميت اتبعت سمعي فصممت اتبعت عقلي فهديت...وضللت,فكنت بين بين!
-قلبك يا إنسان
-ومن يدلني علي قلبي؟
-فقط...اهدئ وتجرد من شواغل الدنيا,وانصت لباطنك...في باطنك الحقيقة!باطنك يدلك...
جريت نحو باطني...
فلم يستطع بياني غير التعبير عن شذرات من المعاني
بداية وقبل الذهاب نحو باطني سأذهب تجاه العقل والنظر في الظواهر,وأستدعي فكرة التصوف كما بلورتها التجربة الروحية...
التصوف معني مجرد قبل كل شئ,كل عاطفة صادقة نحو تصور معين لمطلق ما أياً كان هذا المطلق يتم ترجمتها في اللغة العربية باسم"تصوف", الذين نذروا أنفسهم واسترخصوا كل غال في سبيل الوصول هدف سامي هم متصوفة,منهم من اتجه للخالق ولكل دين اسم لهذا الخالق,ومنهم من اتجه للرسم,للأدب,للموسيقي,التمثيل ,للعلم...لأي نوع من الفنون,فعاشوا بأرواحهم فيه وتركوا أجسادهم نهباً لصغائر الحياة,جردوا ذواتهم من كل ما هو مادي دنئ,وسموا بأرواحهم نحو المطلق اللانهائي,وطبعاً يعجر ابن آدم أن يصل للنهائية أو يثبت مطلقاً,لكن طريقهم هو ما برعوا فيه,أنشأوا ببصيرتهم طرقاً صوفية,ليست لتلك الطرق أسماء ولا مقرات,وإنما لها وصلات شعورية,يتصل بها محبوهم ومن تأثروا بهم,فمنهم من خلا لله,ومن من خلا لأدبه,ومنهم من حلا للوحته,ومنهم من خلا لأغنيته ومنهم من خلا لدوره...الله ما أجملهم حين نتذكرهم!هؤلاء الذين ندين لهم بعلومنا وفنوننا...هؤلاء هم الصوفية.
مئات التفسيرات كتبت في الأصل اللغوي لكلمة "الصوفية"أقربها التفسير القائل بارتدائهم الصوف فعرفوا به فكانوا صوفية.وهذا عجيب أن يُعرف أهل الباطن بظاهرهم!لكن الجنيد يحذرهم"إذا رأيت الصوفي يعني بظاهره فاعلم أن باطنه خراب"عرف الناس اسمهم قبل الإسلام ربما لأن كل من زهد في الحياة وسعي للنور الباطني لبس الصوف اقتداء بالمسيح بن مريم,وجاء النبي محمد وعرف عنه ارتداؤه للصوف,فلم تكن الكلمة غريبة علي اللغة العربية قبل الإسلام, الصوف عرف بأنه رداء النساك والعباد الفقراء لله ويتأفف منه الملوك والأغنياء,فكان علامة علي مفارقة الصوفي للدنيا وإقباله علي ما ينفر منه أهلها,الخراف والماعز والحملان يحميها الصوف من الحر والبرد والمطر والرياح,فكأنه يحمي جسد الصوفي من شهوات الدنيا الحسية ويضعه في عازل عن كل إغراء شهواني تهفو إليه نفسه...مدهشة هي كائنات الله في تشابهها!
يتنبه التوحيدي بألمعيته لصغار النفوس ممن يتشبهوا بظواهر التصوف,وهم من التصوف في أمد بعيد,فيؤنب رجلاً جاهلاً ارتدي زي الصوفية:
أيا كاسياً من جيد الصوف نفسه        ويا عارياً من كل فضل ومن كيس
أتزهي بصوف وهو بالأمس مصبح        واليوم أمسي علي تيس

الأدب الصوفي له مذاق جميل,لا يزخرف اللفظ بقدر ما يُجمل المعني,يبتعد عن التصريح الذي يحرق الشعور السري بالمعرفة,وينحو للرمزية في كلماته,استخدموا كلمات عدة,كان معناها عندهم يختلف عن معناها المعجمي المعروف,ومن تلك الألفاظ الملغزة"التجريد".
وأي تجريد...تجريد من الـ"الأنا"الضيقة القاصرة,سعياً وراء فضاء الحقيقة المحجوبة,والحقيقة عند الصوفية بكل أنواعهم,كالكاتب في أدبه والرسام في مرسمه والعالم في مختبره والممثل علي مسرحه والموسيقي مع آلته,لا وجود لها في هذا العالم المادي المحسوس,بل هي أمر لا يمكن الوصول إليه بالأدوات العادية المستخدمة في الحياة البشرية,حتي العقل بكل جلاله يعجز عن الوصول لتك الحقيقة,العقل للفلسفة والتفلسف.القلب والروح هما أدوات الصوفي التي بدونهما لا يصبح أصلاً صوفياً,وتلك الأدوات تحتاج لتجريدها من علائق الدنيا وشهواتها,تحتاج قطع الصلة مع "النفس في الجسد الخبيث"علي حد قول المعري,وهو أحد المتصوفة الكبار في تاريخ الإنسانية,فضلاً عن كونه متشائماً عظيماً وحكيماً أعظم!!
التجريد عند الصوفية لا يكون إلا بالتوبة,وليس التوبة بمعناها المباشر الفقهي,لكن التوبة عن الشهوات,والأسف علي الرغبات,التي يعانون منها الأمرين في سبيل التخلص منها,نفس ما عاني منه القديس أوغسطين حينما وجد نفسه بين عالمين قويين يجتذبانه عالم الجمال الإلهي نحو الله,وعالم المادة الحسية التي تثقله نحو العالم المادي المحسوس,الفاقد للحقيقة والمعني.هو عينه ما عاناه الإمام الغزالي "لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة حتي يحمل علي جند الشهوة حمله فينفرها عشية.فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلي المقام,ومنادي الإيمان ينادي الرحيل الرحيل!فلم يبق من العمر إلي القليل وبين يديك السفر الطويل,وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل"!!
يعود التصوف إلي أول إنسان بصر بقلبه وشاهد بروحه عالم ما وراء المادة,وأدرك بوحي الإله الكامن فيه أن هناك حقيقة محتجبة خلف غلالة من الماديات حوله,وللأسف هذا الإنسان لم تعرفه مدونات البشر,لكن علينا أن نشعر به في دواخلنا,فكل من يسعي بعاطفة قوية نحو عالم روحاني عن طريق الفن أو الدين,إنما هو أحد ورثة هذا الإنسان الذي نرجو أن يكون وفق في بحثه عن تلك الحقيقة-هل يمكن أن يوفق أي إنسان,وهل لو وفق هل سيبقي إنساناً؟!-
مشكلة الإنسان الوجودية,ليست فلان ولا علان,ولا هذا ولا ذاك,مشكلة الإنسان تكمن فيه هو,كل إنسان هو أزمة نفسه وهو حلها,هذا فهم يتطلب وعياً علي درجة عظيمة,وفهم متطور لمشكلة الحياة عموماً-الحياة التي دفعنا لها من أرحام أمهاتنا,ببذور من نطف آبائنا-الصوفي يدرك هذا جيداً؛لذلك تجرد من (نفسه/مشكلته)وأصبح يردد مع الهندي ما قاله في قصة هندية حين جرفه التيار نحو جرف صخري وأيقن بالهلاك بعد أن استنفذ كل قواه وطاشت كل محاولاته,ونقشه نيكوس كزانتزاكس المتصوف الأدبي علي قبره"لا أطمع في شئ...لا أخاف من شئ...أنا حر"هكذا راح الهندي يغني في نهاية حياته,أما الصوفي فيغني هذا في بداية حياته...وهو ينطلق للامتناهي تاركاً كل دنيا البشر للبشر,بصراعاتهم الصغيرة,ومخاوفهم الساذجة,وأفكارهم التافهة,ذاهباً لمبتغاه الروحي,ناعياً ما مضي من عمره الضائع في دنيا الحس,حيث تقبع أحط غرائز البشر,وأقذر سلوكياتهم,وأفظع أعمالهم,وأقبح صورهم...ما أجمل لحظة الانعتاق هذه نحو الفناء في الأبدية!!!لو لم يكن وصف أبي الفتح البستي:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا             وظنوه مشتقاً من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غير فتي               صافي فصوفي حتي لقب الصوفي
جاء في مرحلة متأخرة من تاريخ الصوفية لكان هو الأولي بتعريف الصوفي المتجرد لروح تصوفه,سواء في ظاهره أو باطنه.
الفنان الواصل كالصوفي المتواصل,يصاب هو الآخر بـ"حالة الخرس"فكما يعجز الصوفي عن وصف مشاهداته الروحية,يعجز الفنان عن وصف الكيفية صاغ من خلالها عمله الفني,فأهل التعبير يعجزون عن التعبير بكيفية التعبير!!
التجريد الإماطة عن القلب كل ما من شأنه أن يعوق وصوله لمبتغاه الروحي,وما أصعب تلك الإماطة في حياة هي أصلاً عائق!الحياة شبيهة-وهو شبه مقرف جداً!لكنه حقيقي جداً- بمطعم فخم جميل,به أكلات ممتعة تثير كل أنواع الشهوة,فتلك أكلة لتظلم أخيك,وتلك لتغتصب ما ليس لك,وتلك لتتكبر علي الآخرين,أما هذه فلتؤذي الآخرين نفسياً,وتلك لتغش,وتلك لتسرق,وهكذا...مع مرور سنوات العمر العمر سيتنتهي وقت الأكل,ويحين وقت إخراجه,كل تلك الشهوات ستخرج علي شكل فضلات آدمية خارجة من الأمعاء بكل قرفها,وتصبح مثيرة للغثيان بعد أن كانت مثيرة للشهوة,حينها فقط سيدرك الإنسان كم كان مغفلاً ولا يهم إن كان متديناً أو لا,فمهما كان سيكون شقياً لو أضاع حياته في السعي وراء تلك الأكلات الشهوانية المدمرة,وما أسعده لو خرج من المطعم كله,وانتظر لعل الله يرزقه من عنده؛ثواباً علي تجرده من السباق خلف الرغبة والشهوة اللتان تدمران صاحبهما,لكن من يستطيع الخروج من المطعم,ومن يدله علي باب الخروج؟!صاحب القلب الذي لا يري بعينه ولا يسمع بأذنه ولا يمشي بقدميه,بل يغمض حواسه ويمسك شهواته ويترك نفسه لقلبه الذي جرده,فيهديه لباب النجاة,لأن وقت إخراج تلك الشهوات سيكون وقتاً بشعاً وسيموت الكثيرون إما إمساكاً أو إسهالاً أو من الرائحة الكريهة!!!
حينها سيفهم معني"اللهم اهدنا فيمن هديت,وعافنا فيمن عافيت,وتولنا اللهم فيمن توليت وقنا واصرف عنا شر ما قضيت"
تتردد كلمة التجريد في المعجم علي في أكثر من منطقة معرفية,ففي الصرف تعني تجريد الكلمة من الزوائد,وفي النحو تعرية الكلم من العوامل اللفظية,وفي التفكير تعتبر عملية ذهنية بأن يعزل الإنسان موضوعاً ما ويفكر فيه.
من أراد المعني المجرد,فعليه بالتجريد



تجردت من كل ما بداخلي عن رغبة لا عن أمر,فانزاح عني كل محسوس حولي فازدادت بصيرتي نفاذاً لعمق الحياة,فوجدت...وجدت نوراً نبع من مشكاة عقلي فتوهج باطني وشاهدت...شاهدت؛فزهدت.
ماذا كان بداخلي فأتعبني وناء حمله علي كتفي فبكيت؟ قناطير مقنطرة من الشهوات والرغبات والمطامع والمخاوف والرياء والغرور والخبث....و.....و......و...... وكل ما يمتلئ به قلب الإنسان حتي يطغي علي روحه فيؤذيها فتنتقم منه بعذاب أليم,كانت الشهوة تشويني والرغبة تعربني والطمع يدوّخني والخوف يقتلني والرياء يجنني والغرور يغرر بي نحو العذاب والخبث تزكمني رائحته العفنة,وكل ما كان بداخلي من قذارة بشرية تجردت منه...
حسناً....أنا كاذب فلو تجردت كلياً من القذارة فكيف لي أن أعتبر نفسي إنساناً عادياً,الإنسان العادي قذر حتي يثبت العكس!
إنما أحلم أن أتجرد.
في يوم بعيد أذكره جيداً,كنت أنا الذكر الوحيد علي الأرض,ومعي حبيبتي نسير في الغابة,نحمل حبنا في قلبينا لا نملك في هذه الدنيا سوي الحب,عاريان منسجمان نأكل ونشرب ونعلب في النهار,وفي الليل ليس لنا سكن سوي الحضن,قالت لي حبيبتي ولم يكن لنا أسماء بعد:
-حبيبي...أشعر بوجود شئ يتحرك في بطني
لمست بطنها وخفت لأول مرة في حياتي,لم أخف من الوحوش ولا من الظلام,فلم أكن أفكر أبداً في نفسي,إنما كنت أمام الوحش أحمي حبيبتي بكل ما قوتي فأصارعه ولو بيدي العارية,وأعضه بأسناني حتي تكاد تتفتت,فيخاف من جنوني اللامحدود في مواجهة ما يهدد امرأة قلبي ويهرب مذعوراً,وفي الظلام كنت أحضنها وأظل أغني لها حتي تنام وأبقي أنا ساهراً حتي تطلع الشمس.في تلك اللحظة عرفت الخوف,عرفت أن هناك كائن آخر في بطنها,هذا الكائن سيخرج منه بطنه حياة جديدة,ولن تعد الحياة كما كانت,وبعد بضعة أشهر أصبحنا ثلاثة ثم خمسة ثم عشرة ثم مائة ثم خمسمائة ثم توقفت عن العد...وبدأت أشعر حولي بالقذارة,فانسربت داخلي وحتي اليوم وأنا أود أن أتجرد منها!

في ليلة سوداء جللها القمر بتاج أبيض,أخبرني أخي برغبته في الزواج وسمي لي اسم المقصودة,فلعنت يوم ولادته!كانت تلك الفتاة التي في ضميري وقررت أن أذهب لأبيها في الغد,قال"كنا نحب بعضنا من الصبا وانتظرنا حتي أصبحت قادراً علي دفع مهرها!تلك البدعة الجديدة في حياتنا! كأني سأشتري قطعة أرض أو ثور جديد!"فلعنت يوم ولادتي أنا...من الصبا!,طمأنته أنني الكبير وسأساعده في كل ما يطلبه أبيها حتي ولو طلب القمر في السماء,فالقمر لا يليق به إلا قمر مثله!شكرني وهرول ليبلغها الخبر...شيعته بقلب نصفه سعيد لسعادته ونصفه يغلي بالحقد عليه!ومن ليلتها وأنا أشعر بالحقد وأتجرد منه كل يوم ليعود لي من جديد!

في عام أغبر انقطع المطر,وجفت الضروع وصرخت النساء والأطفال من الجوع,مشيت نحو النهر فوجدت أسماك ميتة علي الشاطئ,فاندفعت ناحيتها جائعاً أكلت واحدة نيئة من شدة الجوع,وخبئت الباقي في ملابسي,وجريت نحو كوخي,صاح بي أثناء جرياني رجل ضخم الجثة مشعر الجسد بشع المنظر والرائحة,وقعت علي الأرض من فرط خوفي من هيئته,أمسكني من قدمي ورفعني بيد واحدة وأنا أتوسل أن يرحمني,صرخ في"لماذا قتلت الأسماك يا مجرم؟!أعطني ضحاياك,وأدلة جرمك"ارتعبت أكثر لما ظهر لي جنونه,لكني ماطلت طمعاً في ما يسد جوعي يوم أو يومين"لا أعرف عما تتكلم"صفعني بقسوة علي وجهي حتي كادت رقبتي أن تنكسر في ضربته الغشيمة,فأخرجت له الأسماك,فالتهمها وهو يضحك"أنت قتلتها وأنا سأدفنها"ضربني بقدمه حتي أبعدني عنه لأمتار,ولما أفقت من قوة الضربة كنت سعيداً جداً,فلقد أبقيت لنفسي سمكة واحدة....ومن يومها وأنا ذليل طمعاً في أي مكسب أتجرد من الطمع فتغريني المكاسب وأشتاق للذة الذل أمام القوي الذي قد يمن علي بسمكة بلا ضرب أو صفع!
في زمن غابر,كان غبار المعركة يعمي عيني الملتهبة,والشمس تحرق جلدي وصرخات القتلي تصم أذني,وتذبح قلبي الدامي,تهالكت علي ركبتي الجريحة,وضحكت من كل قلبي فجأة,ضحكت حتي الدموع,أي جنون؟!علام يقتل الإنسان أخيه الإنسان؟!يقتل شخصاً لم يقابله في حياته في ومضة واحدة,لم يعرف اسمه لم ير حتي وجهه,يراه مرتدياً زي العدو,فيباغته بضربة لو لم يضربه ستضرب فيه؟!حتي تلك اللحظة لم أكن قتلت أحداً,تحاشيت الضربات ولم أوجه لمخلوق طعنة تسلبه حياته,رميت سيفي ونمت علي الأرض,أنظر للسماء متسائلاً"لماذا ؟!" آخر ما رأيته لمعة تضوي أمام عيني بضوء الشمس,ولم أعرف إلي أي اتجاه تدحرجت رأسي...وإلي الآن أنا أتجرد من كل معركة اضطررت لخوضها إما قاتل أو مقتول!
اشتيهتها من ليلة مارأيتها ترقص في الماخور,تدور حولي بقدها المياس,آخذة بيدي تتحسس بها جسدها,مومس داعرة لا تشبع من ولوج الرجال داخلها,كلما ولج رجل تبعته بآخر,وآخر الليل كنت أنا الأخير,رائحة الزنا تفوح من فراشها كأنها تزني من ملايين السنين,لقبها المحبب "الزانية"لا تستجيب لرجل إلا إذا دعاها به,أخبرتني أن هذا اللقب يثيرها لدرجة الجنون,كانت مازوخية أجبرتني علي ضربها وإهانتها طوال الليل وكلما ضربتها زاد هيجانها حتي أنهكتني,وحين طلع الصباح,ردت لي مالي,وقالت"تكفيني المتعة ثمناً...لقد أحببتك,تعال كل ليلة",خرجت من الماخور وأشعلت فيه النار,خصيت نفسي وانقطعت في صحراء التوبة,لكنها مازالت تحضر في أحلامي مشتعلة تريد احتضاني وأنا أهرب منها....تري هل تجردت بالإخصاء من شهوة الزنا؟!
حرمت من النوم لسبعة ليال وفي الثامنة تجلت لي شهوات أسلافي الدنيئة,صعقت من فرط الدناءة التي يعيش فيها الإنسان,رأيت جد قديم يشبهني تماماً,راكباً علي شخص آخر كأنه حماره,ويضربه بعصا صغيرة ليركض أسرع,لما وصل ناحيتي,حاول التخفيف من دهشتي"كان دوماً يتكبر عليّ في الدنيا,فجُعل اليوم تحتي"لم يزل تقززي من بشاعة الموقف,فنزل عنه وأطلقه وقال"رأيت عقاب من يتكبر علي الآخر,فزادت همومك يا مسكين,سيضاعف الله لك العذاب ضعفين لو تكبرت علي مخلوق من مخلوقاته,فقد عرفت,وليتك جهلت"استيقظت وأنا اتجرد من الكبر,وككل شهوة أصيلة في نفس الإنسان كان تجردي منه يخلع عني جلدي الملتصق به كجزء من جسدي,مع كل تجرد كان دمي يسيل وأنا أصيح"أيتها الأرض والسماء,يوماً سأرحل عنكما جميعاً وأعود لمكاني الأول"ولا يسمعني غير فراغ هائل يجيب علي بترجيع صوتي مرة أخري.
الأفلام حلم جميل.أدركت ذلك منذ كنت صبياً؛فسعيت لإتقان صنعة السيناريو المرهقة,ففهمت أكثر وأكثر كيف تصاغ الأحلام علي الشاشة,صحيح أن سحر السينما القديم الذي كان يدوخني فقدته بعد أن اطلعت علي ألاعيب الساحر,إلا أن شغفي بالسينما لم ينقطع يوماً,جلست في قاعة العرض المظلمة لتهيئة جو الأحلام,وبعد عدة مشاهد ممتلئة بلقطات سخيفة تافهة,كدرتني؛لأنها ذكرتني بمشاهد حياتي الواقعية...ظهرت علي الشاشة,فاتنة,جميلة,صبوحة,بهية.فصفق الجمهور بكل قوته,وصفقت معهم بكل قوتي,هاهي فتاة أحلامي الجميلة تظهر نائمة علي ظهر مركب فخم,يداعبها شاب وسيم ويدهن جسدها الطري بالمرطبات لتزيده طراوة ونعومة,كل المشاهد كانت ضعيفة فنياً عدا مشاهدها,كلما ظهرت انتبهت كل حواسي وعشت معها في الحلم,بعد انتهاء العرض لامتني زوجتي التي كانت بجواري:"تلك المرأة كلما ظهرت بمياصتها وجدتك انجذبت لها بروحك,أحدثك فلا تسمعني حتي أحرجتني مع المرأة في الكرسي خلفي التي كانت تشاهدنا أكثر من مشاهدتها للفيلم"احتضنتها وقلت"لأنها تذكرني بك يا حبيبتي...يا فتاة أحلامي وواقعي"ابتسمت فحمدت الله أنها لن تفسد الليلة,وعدت أفكر في الممثلة الفاتنة...ومازلت أتجرد من النفاق.
رفعت وجهي للسماء وقلت "اللهم جردني حتي ألقاك كما خلقت أول مرة,طفلاً بريئاً فتبتسم وترحم عذاباتي في الدنيا,وتدخلني في رحمتك وأنا أقفز سعيداً كطفل مبتهج براحة ولعب بعد كد طويل"


الجمعة، 16 يناير 2015

التكذيب والبراديجم

مشكلة ملغزة ولغز مشكل هذه الحياة,عاني الإنسان طوال حياته ليتفاهم معها,ولما وصل لدرجة من المعرفة أهلته نوعاً ما أن يتواصل مع الظواهر من حوله,ويعرف بعضاً من تاريخه التطوري المدهش,وبصرته بعين واحدة بما تحمله نفسه العجيبة,أصبحت تلك المعرفة نفسها مشكلة,وأصبح العلم يمثل علماً في حد ذاته فظهر علم الابستمولوجيا أو علم المعرفة,والميتودلوجيا أو علم المناهج التي من خلالها يتم التأسيس للعلم.
قال أفلاطون أن العلم هو"كل صادق ومبرر",ومن يومها وكل العلماء يحاولون إثبات صدق نظرياتهم وتجاربهم,وتبرير النتائج التي وصلوا إليها,فنشأ جدل لا حل له بين الباحثين في علم العلم ومناهج المناهج!!حول الطرق التي يمكن الحكم من خلالها علي تلك النتيجة بأنها علم أو لا علم,صادق ومبرر أم يمكن تكذيبه ودحضه.
الذات+الحواس+العقل+الخبرة+المادة موضوع البحث,هذه هي أعمدة العلم الرئيسية,كل هؤلاء يمكنهم تأمل المادة التي هي موضوع البحث والخروج منها بنتيجة منطقية.
ولو سلمنا بالرأي الذي يقول أن المعرفة تحل المشكلات وتجعل الحياة أوضح,سنجد أنفسنا أمام مشكلة حل المشكلة وهي أسئلة من نوعية:ما هي المعرفة؟متي يعرف الإنسان؟كيف يعرف؟وماذا يعرف ليعرف؟وهل في إمكانية الذات الإنسانية في الأساس أن تصل لمعرفة أو حقيقة؟,أو سلمنا بأن المعرفة تزيد عدد المشكلات أمام الإنسان وتجعل الحياة أكثر صعوبة من ذي قبل فسنكون أمام ذات المشكلة أما لو رددنا مع تيمون الشكاك"أنا لا أدري ولا أدري إنني لا أدري" حينها سنكون.... أمام نفس المشكلة!فهو وصل لمعرفة أيضاً ألا وهي إنكار المعرفة!
الحق أن هذا الأمر صعب وعويص وغير مفهوم علي الإطلاق,وكل تاريخ العلم وطرائق إنتاج المعرفة سقطت باكية تحت قدمي قصيدة إيليا أبي ماضي "الطلاسم" بعدما سمعتها وتحيرت في أسئلتها الوجودية ورددت معه"أتمني أنني أدري ولكن...لست أدري!"لكن ما دامت أعمدة العلم الرئيسية قائمة في الحياة,سيظل كفاح الإنسان في السعي للتحصيل لا يهدأ مهما كانت الصعاب التي تواجهه وعلي رأسها ما قبل الميلاد وما بعد الموت!!ستظل العقول الإنسانية تفكر وتفكر في كل جيل متأملة في الماضي آملة في مستقبل جديد تكون فيه الاستنتاجات العلمية أكثر تأكيداً وأقوي حجة,وهكذا...فلا ارتاح بال الإنسان!!!
من الناس الذين لا يرتاح لهم بال فيلسوف كتب سيرته الذاتية تحت عنوان"بحث لا ينتهي"!كارل بوبر صاحب كتاب"منطق البحث العلمي"الذي وضع فيه رؤيته للطريقة التي يتمكن بها عقل الإنسان من الوصول لنتيجة ما مبنية علي آليات معينة,فهو ينقد وينقض مبدأ الاستقراء الذي يعتمد علي الملاحظة والمعطيات كالمثال الذي قدمه بيكون الذي عاش في عصر شكسبير العظيم,ولسبب التشكيك في وجود شخصية شكسبير أصلاً,اعتقد البعض أنه هو نفسه من كتب تلك المسرحيات الخالدة باسم مستعار وهو "شكسبير"!!عن حبات العنب,يعترض بوبر علي ذلك فعنده أن النظرية هي ما تسبق الملاحظة فلا يمكن أن يبدأ العلم من الملاحظة فقط,والعلوم الحديثة في بحوثها تظن أن الإنسان أصلاً يولد و في مخه بقايا تجارب لحياة سابقة!فلا يمكن للعلم أن يبدأ من مجرد ملاحظة بلا أي تصور سابق.ويعتبر الفيلسوف الشهير رسل مبدأ السببية المرتبط بمنهج الاستقراء أحد مبادئ العلم تماماً كالاعتقاد في سيادة القانون.
والمحور البارز في فهم بوبر للابستمولوجيا هو مبدأ الدحض والقابلية للكذيب,و محاصرة كل الفروض بهذا المبدأ حتي يبقي في النهاية فرض واحد يتم التحقق من صحته,فيبدأ الخط البحثي من التكذيب حتي التحقق من الصدق.وأيضاً نظرية التخمينات الافتراضية في العلم,فلا يمكننا التيقن أبداً من نظرية أو قانون ما والمثال علي ذلك قوانين نيوتن التي كانت بمثابة يقين ثابت عند العلماء حتي جاء إينشتاين بزلزاله النسبي الشهير وأثبت خطأ عدد من فرضياتها وصحهها.ثم يميز بين الكشف والتبرير فيما يسميه"منطق الاختبار العلمي",ربما ينحو بوبر نحو الاعتماد علي الخطأ قبل الصواب في الطريقة التي ينمو بها علم الإنسان فهو يقول"يمكن للمعرفة أن تنمو,ويمكن للعلم أن يتقدم فقط لأننا يمكن أن نتعلم من أخطائنا"وهو درس بشري عام لا يرتبط بالمناهج العلمية المعقدة فحسب,بل نري صدقه في الحياة اليومية البسيطة,ثم يقرر فلسفته مكملاً"فالطريقة التي تتقدم بها المعرفة للإمام,بخاصة معرفتنا العلمية,تتم عن طريق توقعات غير مبررة وغير قابلة للتبرير,وتخمينات وحلول مؤقتة لمشكلاتنا,وحدوس افتراضية,هذه الحدوس الافتراضية تخضع للنقد أي تتعرض للتفنيدات التي تنطوي علي اختبارات نقدية حاسمة.وربما تجتاز هذه الاختبارات,لكن لا يمكن تبريرها علي نحو إيجابي مطلقاً,أي أنه لا يمكن النظر إليها بوصفها صحيحة بشكل يقيني أو حتي محتملة"وهنا نتذكر عبارة ديكارت"منذ سنواتي تلقيت كماً من الآراء الخاطئة علي إنها حقيقة,وكان علي أن أتخلص من كل تلك الآراء التي تلقيتها...إذا كنت أريد تأسيس شئ صلب وثابت في العلوم"
قام سكوليموفسكي بوضع عدة أسئلة وأجاب عليها مرة من وجه نظر الوضعية المنطقية التي تأسست علي يد جماعة فيينا التي ارتبط بها وتبنت منهج الاستقراء ومرة من وجة نظر بوبر الذي ارتبط اسمه باسم تلك الجماعة التي شتتها السياسة والحروب وقتل زعيمها شليك صديق آينشتاين ورسل علي يد طالب نازي:
1-ما الذي يجب علينا أن ندرسه لنفهم العلم؟
الوضعية:تركيب العلم
بوبر:نمو العلم
2-ماهي نقطة البداية في أبحاثنا؟
الوضعية:الملاحظات
بوبر:المشكلات
3-ما هي وحدتنا التصورية الأساسية؟
الوضعية: قضايا البروتوكول
بوبر:الفروض المؤقتة
4-كيف يتم اكتساب المعرفة؟
الوضعية:الاستقراء
بوبر:التخمين الشجاع المتبوع بالنقد
5-ما هي أسس المعرفة وهل توجد معرفة لا يمكن الشك فيها؟
الوضعية:تتكون المعرفة من الوقائع الأساسية المعطاة لنا من خلال الخبرة المباشرة ويمكن التعبير عنها من خلال قضايا البرتوكول.
بوبر:لا يوجد أساس ثابت للمعرفة,فكل معرفة هي معرفة مؤقتة
6-كيف يمكن تمييز المعرفة العلمية من المعرفة اللا علمية؟
الوضعية:بمبدأ قابلية التحقيق للمعني
بوبر:بمبدأ التمييز الذي يميز النظريات العلمية القابلة للتكذيب والنظريات غير العلمية الغير قابلة للتكذيب.
بتلك الأسئلة يحاول سكوليموفسكي عرض جوانب الاختلاف بين بوبر والوضعية المنطقية.
اتخذ توماس كون من التاريخ مجالاً لفهم كيف تنمو المعرفة فأنتج كتابه"بنية الثورات العلمية"ومن العنوان يمكننا أن نفهم كيف رآها!يتصور كون وجود نموذج ارشادي في كل عصر دعاه"البراديجم",ويتلاقي براديجم مع مقصد بوبر بأن كل معرفة مؤقتة,فبتغير الزمن يتطور إدراك الإنسان للعالم والعلم,وليس هناك أفضل من نموذج نيوتن/آينشتاين مرة أخري,فتاريخ العلم عند كون هو الجولات التي تصارعت فيها النظريات والأفكار والمناهج العلمية,وكل نقلة علمية إنما هي ثورة وقفزة نحو الأمام بلا اعتماد علي التراكمية في العلم,فنحن هنا أمام عملية إزاحة لبراديجم قديم لحساب براديجم جديد تصوغه عقول تالية بأدوات مغايرة للأجيال السابقة,فلعقود طويلة اعتقد الناس أن الأرض هي مركز الكون هذا براديجم,حل محله براديجم جديد(الشمس هي مركز المجموعة الشمسية والأرض مجرد كوكب يدور حولها)وهكذا يتقدم العلم كل فترة.يتفق مرة أخري مع بوبر في مبدأ التكذيب والتحقق.
كلاهما مثلا فصل هام في تاريخ العلم,رغم كونهما خصمان يود يري واحد فلسفة العلم من زاوية والآخر يراها من زاوية أخري,لكن الأكيد أن هناك زوايا لا حصر لها لرؤية العلم...لرؤية أي شئ في العالم!




الأربعاء، 7 يناير 2015

حيرة مذهبية!


ما تصور المسلمون في معركتهم التاريخية الأولي في بدر,أن يأتي زمن تقاتل فيه هذه السيوف المسلطة علي العدو بعضها البعض,هؤلاء الذين تجمعوا حول النبي وكانوا تحت إمرته مازالوا معتصمين بحبل الله كما أمرهم كتاب الله,حتي مات النبي,وبدأت أول بوادر الانشقاق في السقيفة حتي احتواها أبو بكر وعمر وترك الجمع سعد بن عبادة الذي كاد أن يكون هو الخليفة وحيداً؛ليكون هو صوت المعارضة الأول في الإسلام حتي يقتل في ظروف غامضة!!
ثم توالت الأحداث حتي بداية مأساة الإسلام الكبري في زمن عثمان,التي نضجت علي صورة وحش فتاك شرب دماء المسلمين بلا رحمة منذ خلافة علي الهاشمي وصراعه مع معاوية الأموي ووراثة كل جيل خلافات آبائه حتي زمننا هذا!!يومها ظهرت أول فرقة من الثلاثة وسبعين فرقة التي تحدث عنها النبي في حديث ينسب إليه"افترقت اليهود علي إحدي وسبعين فرقة,وافترقت النصاري علي اثنتين وسبعين فرقة,وستفترق أمتي علي ثلاث وسبعين فرقة"في أكثر من مناسبة يخبر النبي أصحابه عن المؤثرات التي ستفرقهم عن بعض المأخوذة من ديانات سبقت,أولاً لأن تلك الديانات لم تكن مختلفة كثيراً عن الإسلام نفسه,وثانياً لأن الديانتين الإبراهيميتين السابقتين-اليهودية والمسيحية جزء لا يتجزأ مما أتي به الإسلام,فالدين الإسلامي يحتوي بداخله علي العديد من الأفكار الدينية والاعتقادات القديمة بدءً من اعتقادات الأجداد العظام في وادي النيل أول الموحدين والسومريين في العراق وغيرهم من الحضارات القديمة المبهرة,تأمل النبي مسيرة التاريخ وشاهد في المستقبل كيف ستتفرق أمته كما تفرقت أمم سبقت....قبل كل هذا,الاختلاف سنة من سنن الخلق,وكلما تقادم الزمن وتشعبت الطرق التي تشقها الأحداث وتبنيها التفاعلات الإنسانية,تفرق الناس فيها,فكل مجموعة تذهب في طريق وتتمذهب بعقيدة تخالف الفرق الأخري,وكعادة كل البشر تبدأ لغة الدم لقهر الآخر طمعاً في الحكم والغلبة وهي آفة في نفس الإنسان,تجعله لا يكف عن إهراق الدم حتي يتسلط علي أخيه تماماً,واضعاً سيفه علي رقبته ويده في جيبه!!
سنجد الشيعة مثلاً متأثرة بدرجة كبيرة جداً بالحضارة الفارسية القديمة,وحتي اليوم نجد أن الشيعة يكثرون في تلك المنطقة وما حولها,كما أنها تأثرت باليهودية حتي وصف "الشعبي" واحدة من فرق الشيعة وهم الرافضة بأنهم"يهود هذه الأمة"!تفرقت عن الشيعة ( أديان!!)جديدة سلبت النبوة من النبي كالغرابية بل وبعضها كالسبئية سلبت الإلوهية عن الله تعالي!!!وطبعاً هراء هؤلاء وهؤلاء حوصر مع الزمن ولم يعد يذكر سوي علي سبيل التذكرة بسيئات بعض الناس في صدر الإسلام!
من المتشيعين للإمام علي,خرجت فئة منهم فئة ولأنها أول فئة تخرج من فئة في الإسلام فسميت الخوراج!!هم أول من تطرف في الفكر الإسلامي,متمسكين بصورة هزلية بظاهر النصوص,يعادلون في الحياة العادية الإنسان المتهور الهوائي فاقد البوصلة السليمة لينجو من مطحنة الحياة بأقل قدر من الخسائر!فهم من ضغطوا علي علي بقبول التحكيم,وبعد أن حدث ما حدث طلبوا منه أن يتوب عن واقعة التحكيم,ثم كانوا أعدائه وقاتليه,تعصبهم إنتحاري يذكر بما كان يفعله المسيحيون من استدعاء أسباب الموت طلباً للاستشهاد في سبيل العقيدة,تفرعوا لفروع شاذة مجنونة منها من استحلت الدم والعرض وجعلت ديار المسلمين المخالفين لهم دار حرب يجري عليها ما يجري علي العدو حيث التكفير عندهم له ألف باب وباب,لا يمنعهم عنه لو أرادوا مانع,يجدونه بزعمهم في ظاهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية.ومن أمثال هؤلاء ما زلنا نعاني لليوم بعد حوالي ألف وأربعمائة عام من ظهور نماذجهم الأولي في حياة الناس.مع مراعاة إنهم من ربيعة وبين ربيعة ومضر قبل الإسلام عداوات وضغائن اختفت في حياة النبي ثم عادت في الفتنة بصورة جديدة وعوامل أخري ليس محلها هنا كونت فكر الخوارج الحاد الجلف في الكثير من الأحيان,مع ذلك اشتهر عن أغلبهم الإخلاص وأن نيتهم كانت السعي وراء الحق,لكن ما للسياسة والحق؟! والطريق إلي جهنم مفروش بالنوايا الطيبة!!
بدأت المملل والأجناس تدخل في دين الله أفواجاً,فظهرت عقول غير عقول أهل شبه الجزيرة البعيدة عن الفلسفة المكتفية بقول الله في كتابه وقول الرسول في حديثه ولا يدخلون أنفسهم في مسالك فكرية لا تستهويهم كثيراً,بدأ الفرس والهنود مع اليهود والمسيحيون يحتكون بالإسلام وبعضهم اعتنقه ولم تفرغ نفسه من دينه القديم,ثم نضحت أرض العراق العريقة بمذاهب واتجاهات جعلتها نهباً للقتال دوماً,فهؤلاء هم ورثة سومر ورافد للفرس...المهم أن الناس بدأوا يتفلسفون,فظهرت الجبرية والمرجئةوالقدرية والمعتزلة والمشبهة.....و.......و.....ازدحمت النصوص وتصارعت العقول وبدأت الأفكار تقاتل الأفكار,مما ترك لنا ثروة ممتعة من الجدل الفكري...-الحق أن الفكاهة تحتل جزءً لا يستهان به من قول العض ممن انتسبوا لعقيدة ما وتوغلوا فيها فقد ابتدعوا مسائل ومواقف تثير الضحك في الكثير من الأحيان!-فكان كل عقل يأتي بما عنده من البراهين لإثبات تصوره عن الله والكون والحياة والقدر,وما إلي ذلك من مفاهيم تحير فيها عقل الإنسان منذ أن وعي بما يدور حوله,ونظر في مبتدأ عمره وتصور منتهي وجوده.
لو أردنا جمع كل الفلسفات الإسلامية تحت خطوط عريضة فسيكون:
1القدرية 2-الصفاتية 3الخوراج 4-الشيعة
من تحت هؤلاء تفرعت الفروع وتمذهبت المذاهب,وطبعاً كل اعتقاداتهم لها أصولها القديمة في الديانات السابقة...فقد جاء الوحي في حياة النبي مثبتاً في كتاب الله أقاويل المجادلين في القدر"لو كان لنا من الأمر  من شئ ما قتلنا هاهنا,وفي الجبر"لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ"وفي مسألة صفات الله"ويرسل الصواعق فيصب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال"فهي مسائل إنسانية نفسية صرفة صبغها كل دين بصبغته وألفاظه أما المعاني فخالدة ولا يمكن لمخلوق مهما سما عقله أن يجيب عليها إجابة قاطعة مانعة,كل ذي عقل مهيئ لهذا التفكير يجتهد ويتفلسف وهذا ما فعله الرجلان اللذان يهمنا أمرهما الآن أبو الحسن الأشعري المنسوب له المذهب الأشعري وأبو منصور الماتريدي المنسوب له المذهب الماتريدي.
من الصعب الولوج لفكرهما المذهبي دون المرور علي المدرسة الفلسفية الكبري في الإسلام وهم المعتزلة,فقد كانت اعتقاداتهما بنسبة كبيرة رد فعل مضاد للمذهب المعتزلي,يكفي القول بأن أربعين سنة مرت علي الأشعري داخل العباءة المعتزلية,قال بعد إعلانه (توبته!) وإقلاعه عن المذهب المعتزلي وتصديه لإخراج(فضائحهم!)"وانخلعت من جميع ما أعتقد كما انخلعت من ثوبي هذا"ثم خلع ثوباً كان عليه!والماتريدي كذلك تصدي للرد علي المعتزلة نواحي سمرقند مسقط رأسه.
يتندرون علي اليسار بقولهم:"لو تبقي في العالم يساري واحد فسينشئ حزباً وينشق عليه"!هذا القول ينطبق أيضاً علي المعتزلة في زمنهم,من قال أن أصحاب العقول في راحة؟!أصحاب العقول في جحيم فكري ملتهب لا نهاية له,لا يستقرون ولا يقرون,يظل العقل مهتاجاً طوال الوقت لا يقبل ولا يرفض إلي حين يدمي من التفكير,ثم يتشكك...وهكذا!!!مع ذلك لن يعدم التائه في بحار هؤلاء المفكرين اتفاقهم في مسائل أساسية في العقيدة المعتزلية.
المذهب الأشعري  يتسبب في أزمة حادة,فهو عقيدة الأزهر,يتخذه شيخ الأزهر سبباً لعدم تكفير داعش؛لأنهم أهل القبلة لا يمكن تكفيرهم طالما شهدوا أن لا إله إلا الله,وهو بذلك يتسبب للأزهر في ازدياد سوء سمعته التي أصبحت تطارده من مناهجه المخجلة وأقوال المنتسبين إليه,ولو كانت داعش في مصر-حماها الله وقطع دابر أعدائها في الداخل قبل الخارج!!- لكان الأزهر أول ضحاياه ولو أدركوا الأشعري في زمانه لقتلوه!!!...وعذراً لكل ضحايا هؤلاء المجانين,لأن منا من يقول أن القاتل المجرم المعتدي الأثيم يدين بنفس دين الضحية المسالمة,التي كانت تعبد الله ولا تبغي من وراء عبادته رياء ولا قوة ولا سلطان في الأرض,ما سعوا لسبي امرأة ونكاحها غصباً مثلاً,ولا هجروا الآمنين من بيوتهم,ولا عاثوا في الأرض يبغونها عوجاً,إنما كانوا لا يريدون سوي وجه الله الذي سده طريقه عليهم وشوه صورة دينه تشويهاً لا يمحي,هؤلاء من يرفض شيخ الأزهر إبعادهم عن دين الرحمة,كأن الأزهر بذلك يعطيهم إشارة السماح ويطمئنهم أنهم من أهل القبلة ومسلمون وأن ما يفعلونه يندرج تحت بند الإسلام,مع أن الأشعري نفسه ذكر....ولا حول ولا قوة إلا بالله!

في البصرة ولد وفي بغداد مات,ومابين البصرة وبغداد عاش حياة عقلية متغيرة وصنف مؤلفات مشكوك في جزء منها أتعبت من سعي للبحث عن إبانة صاحب "الإبانة"!يعود نسبه للصحابي أبي موسي الأشعري أحد أبطال واقعة التحكيم الشهيرة في التاريخ الإسلامي,عاش ربيباً للجبائي تتلمذ عليه,ولما كبر وبدأ القلق المعرفي يسيطر عليه,ناظره أكثر من مرة فلم ترضه إجاباته,فمكث خمسة عشر يوماً يبحث ويدقق ثم أعلن للناس ما أعلن عنه,وينفرد ابن عساكر برواية رؤية رأي فيها النبي بعد أن صلي ركعتين لله يطلب فيهما الهداية,ونصحه النبي باتباع سنته,فغدا المذهب الأشعري أوسع مذاهب أهل السنة انتشاراً!اضطربت فيه الأقوال وتنازعت فيه الفرق كعادة أي عقلية برزت في التاريخ,فمنهم من يحقد عليه يدعي أن سبب رجوعه عن مذهب المعتزلة أن قريباً له مات ولم يكن بد من وراثته بأمر حاكم البصرة سوي الانخلاع من المعتزلة والتسنن حتي يستحوذ علي المال!!!كما ذكر الأهوازي!
أما أغلبية أهل السنة حتي وقتنا هذا فسلموا بمعظم آراء الأشعري,فالشعراوي كان أشعرياً وإئمة الأزهر,واليوم يميل إلي المذهب الأشعري الخطيب صاحب اللسان الموهوب المؤثر عدنان إبراهيم الذي أعتقد أنه واحد من أهم العقول الإسلامية اليوم,في زمن يحتاج إلي صوت مثقف متعلم مغاير لما اعتادته الأسماع حتي ملته,وردد علي المنابر حتي حفظه خشبها وسلالمها وميكروفوناتها!!أكثر الله من أمثاله في زمن فقد المثل والمثال!
عبر المذهب الأشعري قرون صامداً أمام تقلبات الدنيا,بعكس المذهب الذي خلعه كما خلع ثوبه,لم يعد هناك معتزلة وانتشر الأشاعرة في بقاع العالم الأسلامي.
توسط الأشعري بين المعتزلة والسنة وتوسط الماتريدي بين المعتزلة والأشاعرة وقد اتفق الماتريدي مع الأشعري في مسائل واختلف معه في أخري.
سلطان العقل في الماتريدية أوسع منه في الأشعرية,فالأشعرية تعطي للنقل الأولوية,فهي كما ذكرنا في خط وسط بين المعتزلة وأهل الحديث,ترتب علي ذلك أن الماتريدي اعتمد علي العقل واسترشد بالشرع,مخالفاً المحدثين الذين يوجبون النقل ويعتقدون أن فيه الحق,ولو خالف العقل الشرع فالماتريدي يأخذ بحكم الشرع المنقول.
ويري الماتريدي أن معرفة الله يمكن إدراكها بالعقل وهذا قريب من رأي المعتزلة,كما يرون أن للأشياء قبحاً ذاتياً,والعقل يستطيع التمييز بين الحسن منها والقبيح في حين أن الأشعري لا يري في الأشياءحسناً ذاتياً ولا قبحاً ذاتياً بل أن الحسن حسن لأن الله أمر به والقبيح قبيح لأن الله نهي عنه.
ويختلف مع الأشعري في أن أفعال الله لا تعلل,فهو وحده "لا يُسأل عما يفعل وهو يسألون",بينما يري الماتريدي أن أفعال الله ورائها حكمة فهو الحكيم العليم فكل فعل لله خلفه حكمة وصلاح وهو رأي المعتزلة لكنهم أساءوا التعبير عنه بقولهم"يجب علي الله فعل الأصلح لعباده"فكان وجوبهم علي الله -حاشا لله- مفسداً لرأيهم في الأساس ,تبعاً لذلك رأي الأشاعرة في واحدة من -المسائل الخيالية!!!-أن الله كان يمكنه أن يخلق الناس ولا يكلفهم,أما الماتريدية فيعتقدون أن الله أراد التكليف لحكمة منه,وأجاز اللأشاعرة أن الله تعالي يجوز أن يثيب العاصي ويعاقب الطائع فهو"لا يسأل عما يفعل"وهنا طبعاً تنتفي الحكمة عن هذا الفعل في رأي الماتريدية فلا تري الماتريدية هذا الرأي!ولحكمة أيضاُ لن يخلف الله وعده ولا وعيده عند الماتريدية بينما الأشاعرة يرون إمكانية أن لا ينفذ الله وعده ووعيده ورأيهم في تلك المسائل تستند إلي العقل!!!!!
ثم تأتي المشكلة الأزلية في الحياة,ثنائية غرقنا في بحر الكلام عنها طوال أعمارنا(الجبر,الاختيار/مسير/مخير),يقول الأشعري بنظرية الكسب والمعتزلة يرون أن العبد يخلق أفعاله من عندياته,بينما الماتريدي يعتقد بكون أعمال العباد من خلق الله وتدبيره لقوله"والله خلقكم وما تعملون",فالعبد يستطيع أن يعمل بقدرة خلقها الله فيه,ويستطيع ألا يعمله بنفس المقدرة المخلوقة فهو حر فيها!
أثبت الأشاعرة صفات الله من الحياة والسمع والكلام والبصر والعلم وقالوا أنها شئ غير الذات,أما المعتزلة فنفوها وقالوا لا شئ غير الذات,وأن تلك الصفات هي أسماء لذات الله تعالي,ويتفق الماتريدية مع المعتزلة ولا يرون إلا أنها ليست شيئاً مغايراً للذات,ولأن الله عند المعتزلة ليس له صفة الكلام فقد صنعوا أزمتهم الشهيرة التي انتقصت منهم كثيراً وبقي منها مثال تعذيب الإمام أحمد كنموذج للاضطهاد الفكري,وقالوا أن القرآن مخلوق وليس كلام الله وقد أصبحت تلك القضية بعد سنوات من الأزمة مثار للتندر والفكاهة والضحك ,كما ورد في قصة عبادة مضحك الخليفة الواثق لما عزاه في القرآن الكريم لأن كل مخلوق يموت وتساءل"من يصلي بالناس التراويح لو مات القرآن؟!"اعترض الأشاعرة وقالوا أنه كلام الله,وقال الماتريدي أن القرآن "حادث"وليس قديم فهو بذلك يقترب من المعتزلة,وينزه الله تعالي عن التشبيه والتجسيم والمكان والزمان ويؤول الآيات التي تذكر أن الله سبحانه وتعالي له عيناً ويداً ووجهاً أو تحدد حركته كقوله"ثم استوي علي العرش",في حين نري أن الأشاعرة يعتنقون مبدأ التشبيه ويقولون أن الله يداً لا نعلمها ولا تشبه يد المخلوق تليق بجلاله وعظمته,لكن الأشعري في كلام منسوب إليه يعتقد أنه آخر ما وصل إليه في حياته وهو رجل قلق التفكير كثير الإنتاج يحمل الآيات التي فيها التشبيه علي المحكم...تلك عموماً مسألة شائكة ومحيرة لحد كبير,لكنها ازدادت وانحدرت لمسائل عجيبة عن كون الله في السماء فقط!!! استناداً لحديث الجارية مع النبي وهو حديث فيها اضطراب وخلط كثير,وأنه ينزل ويجئ وما إلي ذلك من أفعال بشرية!! بل وتساءل البعض في أبحاثهم حول تلك النقطة "فهل يموت الله" !!حاشا لله.ونجد أن الماتريدي والأشعري أثبتا رؤية الله يوم القيامة في حين نفاها المعتزلة...
تلك أمثلة صغيرة لقضايا متعددة ضخمة وأسئلة محيرة تثير جنون القارئ العادي لو أكثر التفكير فيها,دون بحث أو دراية بأبعادها...ومهما فكر من ظنوا أن في أنفسهم تلك الدراية والمعرفة فلن يجدوا لها إجابة,مصداقاً لقول عمر الخيام"يارب فى فهمك حار البشر
وقصر العاجز والمقتدر
تبعث نجواك وتبدو لهم
وهم بلاسمع يعى ولا بصر"