الأحد، 28 يونيو 2020

زانج ييمو


عندما ظهرت السينما في القرن التاسع عشر كانت تخيف الناس في عروضها الأولي,يرون القطار مسرعاً فيقفزون في هلع مستديرين نحو الأبواب,وقيل وقتها أن"السينما اختراع لا مستقبل له"!!وبعد مضي عقود أصبحت السينما أكثر من مجرد اختراع وجهاز ميكانيكي,تحولت إلي بساط سحري ينقل المشاهد إلي أي مكان وزمان,فأنت اليوم في الهند وغداً في أمريكا وبعده في روسيا وهكذا حتي تطوف بلاد الشرق والغرب مع فناني السينما خلاصة الفنون وحاوية المتعة اللامتناهية,بيت الأحلام والمشاعر الإنسانية الصادقة.
والصين تلك البلاد البعيدة عنا في الشرق الأقصي تبدو غامضة وغير مألوفة,حكي عنها ابن بطوطة وماركوبولو حكايات ظلت تأسر خيال العالم وتلهب رغبته في التعرف علي ساكني ضفاف نهر اليانجستي,وهاهي اليوم تريد إعادة أمجاد طريق الحرير من الصين للعالم ومن العالم للصين, تحوطني كل اليوم بمنتجاتها وصناعاتها التي جعلت الحياة أسهل وأيسر لغير القادرين علي تحمل تكلفة المنتجات الأوروبية,وفي كل مرة أري واحدة من تلك المنتجات يزداد إعجابي بإرادة وصلابة ذلك الشعب الذي عاش مآس مرة في القرن العشرين ضحي وجاع ونزف قبل أن يستيقظ التنين الكامن فيه,فيعود من جديد عملاقاً كما كان قبل آلاف السنين ينافس الغربيين فيما تربعوا علي عرشه لقرون طويلة خلت كان الشرق فيها مجرد مساحة واسعة للمواد الخام ولتصدير المنتجات,ومن بين ما نافسوا فيه وتفوقوا بجدارة فن صناعة الأفلام.
تتجلي عظمة السينما في التقريب بين الشعوب فيلم من هنا وهناك نكتشف أن كل البشر واحد وإن تعددت ألسنتهم وتفاوتت ملامحهم,كلهم يكافحون لأجل العيش,يحلمون أحلاماً متشابهة تشمل الأسرة والسعادة والوطن والنجاح,ويواجهون نفس الأزمات الفراق والفقدان والفشل والانهيار والمذلة,وقد سافرت للصين بعيني أو بالأصح سلمت عيني لصناع السينما الصينية وعلي رأسهم المخرج الكبير زانج ييمو صاحب العلامات الذهبية في ذهن كل عاشق للفن,من ينسي كريستيان بيل في دور متعهد دفن الموتي الأمريكي وزيارته للصين زمن الحرب الصينية اليابانية عام 1937وإنقاذه اثنتي عشر عذراء صينية من الاغتصاب والتعذيب وتضحية بائعات الهوي النبيلات بأرواحهن فداء لاثنتي عشر زهرة صنينية بريئة في فيلم"زهور الحرب",درس في الحب والتآخي والتضحية وكل ما أقرته الأديان والفلسفات من معان سامية بحثاً عن جوهر القلب الواحد والروح الواحدة المقسومة بين بني البشر.
تحفته"فترة حياة"المقتبسة عن رواية بنفس الاسم للأديب الصيني يو هوا,زرت في ذلك الفيلم صين الأربعينيات والخمسينيات والستينيات بصحبة زوجين هما بطلي هذا الفيلم جياشين(جونج لي)وفوجي(يو جي) جسدت جونج لي في هذا الفيلم جمال المرأة الصينية وصلابتها وقدرتها علي مشاركة زوجها أعباء الحياة مع وفاء نادر في السراء والضراء كل ماتتمناه أن تحيا حياة هادئة,والفيلم يدور حول ثلاثين عاماً من حياة أسرة فوجي المقامر اللاهي وخسارته أمواله ومنزله بسبب إدمان موروث من أبيه علي لعب النرد,تضطرب حياته الشخصية في خضم اضطراب كبير مرت به الصين ومع كل مرحلة تتغير حياة الأسرة تبعاً للظروف المحيطة بها,الفن العظيم لا يؤخذ إلا من مصدره كيف يمكن تلخيص ألف ليلة وليلة أو مائة عام من العزلة أو قصة لتشيكوف؟!لذلك لن أسرد الأحداث طالما يمكن مشاهدتها في الشريط السينمائي,أريد حكاية تجربتي مع الأفلام...
أمام السينما أقف مسحوراً مشدوداً للممثلين والقصة والكادرات,أنسي الدنيا والواقع مع الأفلام الحقيقية,الأفلام المصنوعة لتحيا لا لتجمع الأموال,تتلاشي الموجودات من حولي وتغدو الخيال واقعاً معاشاً,رحلت بكاميرا زانج ييمو وأداء جونج لي ويو جي من مصر للصين,أثرت في التقلبات التي مرا بها بكيت عندما فقدوا الابن والابنة,واطمئننت علي المستقبل بوجود الحفيد الذي سيركب يوماً الطائرات والقطارات,تأملت مرور السنوات وتبدل الأحوال,تغيرت المذاهب والاتجاهات الاجتماعية ولم يبق سوي الحب والألفة بين المحبين,خسرا ما لا يعوض علي مدار حياتهما وظلت إرادة الحياة مشتعلة في روحيهما ونقلاها للمشاهدين في كافة بقاع العالم ممن تأثروا بالفيلم ,وعرفوا تجربة صينية أصابت في أشياء وجانبها الصواب في أشياء أخري وفوق الكل ظلت الصين وسكانها يعيشون وينتظرون غد جديد أفضل من الأمس,بوابته الوحيدة عمل اليوم.أمدني بحكمة الصبر وعزيمة الإصرار رغم كل العوائق,وبينما الحياة تزمجر في حياتهما كان وجودهما مع بعضهما أكثر من كاف لمواجهة ما تقذف به الدنيا في وجوههم من فقر وعذاب واضطهاد وظلم وفقدان.





الأربعاء، 10 يونيو 2020

التراث المهدور


1-التجربة الأوروبية في عصر النهضة
التراث وبعث الروح الوطنية
ينبثق التراث من منبعين أولهما فردوس بهيج مرصوف بلآلئ المنطق ومغطي بذهب مصفي من عرق البحث عن الحق والخير والجمال,تظله سماء صافية تسبح فيها أطيار المساواة وتقدير الآخر واحترام العلم والعمل,يحوطها نظريات فلسفية وفكرية ناصعة العبقرية,متعة وفائدة أنتجهما علماء ومفكرون ومتصوفة ومخترعون,وثانيهما موحل يشتد فيه الجدال الديني المقيت ويحقر من الآخر ويريد الإستيلاء في كل ثقافة علي العالم وإخضاعه باسم الدين والعنصرية,ورغبة نفسية مريضة لتشويه كل ما هو جميل ورائق,مسور بأسوار من الشوك ينبت عليها الحنظل,تجد فيه الاستهزاء بالمختلف والسخرية من المخالف ويستعر بين الساكنين فيه مشاجرات لا تحل سوي بالدم والشنق والحرق,وتلك ظاهرة عرفتها كل الحضارات الكبري التي لامست الثريا ثم انطمرت في الثري والسبيل الوحيد لاستعادة مجدها القديم يكمن في المنبع الأول.
لأهداف سياسية وتقلبات عرفتها مصر كانت تهدف لتعطيل قواها العقلية وطمس طريقها القديم نحو السمو بالإنسان والاشتباك مع الكون في لغة علمية وأدبية ووضع منظومة لمستقبلها تم تغييب المبنع الأول وارتبطت اللحظة المعاصرة بالمنبع الثاني,فنتجت كل الأمراض التي عانت منها المنطقة العربية كلها,دول انهارت وآثار حضارية شوهت بالمعني كالرؤية الجاهلة حضارة مصر القديمة الباهرة التي انبثق منها فجر الضمير وأرسيت الأخلاق والمبادئ والمعارف البشرية التي تناقلها البشر كلهم فيما بعد من مصدر لاحق وهم اليونانيون,حيث كان الشرق القديم هو الأصل التراثي للثقافة الإنسانية علي الإطلاق وقد علق مؤرخ العلم الشهير جورج سارتون علي المسار الذي اتخذه ظهور العلم في الجزء الأول من"تاريخ العلم بقوله"مما أفسد فهم العلم القديم كثيراً من الأحيان ظاهرتان من الاهمال الذي لا يمكن التسامح فيه أما الظاهرة الأولي فتتعلق باهمال العلم الشرقي فمن سذاجة الأطفال أن نفترض أن العلم بدأ في بلاد الإغريق,فإن"المعجزة اليونانية"سبقتها آلاف الجهود العلمية في مصر وبلاد ما بين النهرين وغيرهما من الأقاليم,والعلم اليوناني كان إحياء أكثر منه اختراعاً.والظاهرة الثانية اهمال الإطار الجغرافي الذي نشأ فيه العلم,لا الشرقي فحسب,بل اليوناني ذاته كذلك وكفانا سوء إننا أخفينا الأصول الشرقية التي لم يكن التقدم الهليني مستطاعاً بدونها"أو آثار وتراث دمرت بالفعل كهدم المنجزات الحضارية السومرية في بلاد الرافدين والفنينقيين في سوريا,في مشاهد خلدها الألم والحزن والحسرة علي الروح الإنسانية المفقودة,وربما انعكس الأمر كذلك علي الشخصيات المؤثرة في تاريخ الحضارة العربية ممن لا يتوائمون مع المفاهيم المتخلفة المستخرجة من المنبع الموحل فقطعت رأس تمثال أبي العلاء المعري فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة في سوريا علي يد الجماعات الإجرامية المنتشرة هناك,وقد أقيم في مسقط رأسه بالمعرة عام1944.
المعاصر لا وجود له بدون تأسيس قبلي علي مرحلة سابقة,فالنهضة الأوروبية النموذجية في القرن الرابع عشر,نشأت علي التراث دون تفرقة بين مصر القديمة واليونان والرومان,والعرب,وعليه بنت أوروبا مرحلة متألقة نزعت عنها آليات الكهنوت والمقولات العبثية الفارغة,وشمرت عن ساعد العمل الجال وفي رأسها موديل حضاري تريد الوصول إليه ثم تخطيه,منقذة نفسها من ظلام العصور الوسطي,وبعد قرون من النهضة الأوروبية لم نتعلم الدرس حتي اليوم,مازال مفهوم التراث في الذهن العام محصور علي الأفكار والاستنتاجات للمتحدثين باسم الدين التي لا جدوي منها ولا فائدة في زمن العلم والذكاء الاصطناعي وتعديل الجينات,مازالت نفس المقولات العبثيةحول المذاهب والتكفير والاتكال وكراهية الآخر والنفور من المعرفة والفن,والدعوة العمياء لقطع روابط الأخوة الإنسانية وزرع الحقد في النفوس تماماً كزمن العصور الوسطي في أوروبا,وكما وجدت هناك آذناً واعية وقلوباً سوداء وجدتها هنا,وهذا ليس التراث موضوع حديثنا هذا,بل مخلفات أزمنة القهر والجهل والتخلف والصراعات العسكرية والنزعة الغريبة التي تنبت في نفوس غير ناضجة لم تفهم الهارمونية للتنوع والاختلاف وأفكار طفولية في سيطرة فصيل واحد علي مقدرات الجنس البشري,التراث الذي أقصده ولابد من الرجوع إليه واستعادته من جديد في صورته العذبة المفتخرة الممجدة للإنسان وعقله الحامية لكينونته وتفرده القائمة علي مرتكزات من شأنها أن تجعل العالم أفضل مما هو عليه,أبطاله أمثال إيمحوتب وحم إيونو وبتاح حتب في مصر القديمة ,سقراط وأفلاطون وأرسطو في اليونان, سنيكا وفرجيل وأوفيد في روما,هيباتيا وأفلوطين ومانيتون في الأسكندرية,ابن سينا والبيروني وابن الهيثم في بلاد العرب,دافنشي وجوته وروسو في أوروبا,حتي برتراند رسل وأحمد زويل وهوكينج في العصر الحديث,هؤلاء هم من استعان بهم الغرب في سبيل نهضتهم بينما نحن متمسكون بأسماء أخري متحجرة لم تقدم شيئاً حقيقياً للبشرية,وللأسف لهؤلاء ورثة بيننا يرددون أفكارهم المتطرفة بينما نجوم الفن والعلم والفلسفة في ضباب التخبط الأعمي.
إذن فنحن مرضي ونزيد المرض بارتشاف السم الزعاف,تاركين ترياق الشفاء في دلالة علي غياب أي نوع من التفكير,المستشرقون هم من اكتشفوا لنا تراثنا وناضلوا في سبيل تحقيقه ونشره ودراسته وشرحه,هؤلا هم الورثة الحقيقيون للمجد الإنساني والتراث في منبعه الصافي,ومن سعوا سعيهم في سبيل إنتاج أعمال فكرية تتماس مع التراث القديم سواء شرقياً أو غربياً هوجموا ونغصت عليهم حياتهم,كرفاعة الطهطاوي وطه حسين,اللذين أصبحا اليوم تراثاً لا يجد من ينفذ أفكارهما وخاصة طه حسين في كتابه العمدة"مستقبل الثقافة في مصر,كهدف أساسي لإرساء تعليم علي أساس متين كما كان يتمني-ونتمني نحن الآن أكثر وأكثر-ومن أفكار هذا الأديب التنويري يبدأ عبورنا للمستقبل.
ذلك هو المدخل الذي أريد أن أبدأ منه مقالتي عن التراث في مواجهة العصر,أو علي الأصح التراث لإصلاح العصر,هل لأوروبا عقل ونحن محرومون منه؟!بالطبع لا,لكل الناس ذكاء وعقل يتفاوت بين فرد وآخر,لكن الفيصل فيم يستخدم هذا الذكاء وأين يذهب هذا المجهود.
النهضة الأوروبية ابتدأت منذ الفترة التي آمنت فيها بالإنسان قبل أي شئ آخر,السماء لله عز وجل أياً كانت أسماؤه المتعددة الدالة علي رب واحد تجلي بصور متعددة علي مر التاريخ,أما الأرض التي نحيا عليها فهي للبشر وعليهم مهمة إعمارها بالحب والعلم والتكاتف والفن,وهذا المعني كانت تحتقره الكنيسة فوقفوا في مواجتهتها ومواجهة آراء أرسطو التي استخدمتها في السفسطة الدينية دفاعاً عن مكتسباتها الخاصة,وأدت تلك المواجهة لاستشهاد عدداً كبيراً من العلماء في سبيل الحقيقة والإنسان,نبذوا الغيبيات وتبنوا التفكير المنطقي,أحرق من أحرق وأعدم من أعدم,ومن أرواح هؤلاء المتصوفين في محراب ملكوت الله الحقيقي ولدت أوروبا الحديثة كما نعرفها اليوم ولأنها أهينت ونزعت عنها كرامتها بسبب الجهل والظلام,لن تخضع من جديد لأي سلطة غير سلطة البحث العلمي,نفضت أوروبا عن نفسها الجزء العقيم من التراث,وبدأ العهد التجريبي الاستقرائي القائم علي الخوض في القضايا بروح جديدة,في اليد اليمني ميزان المنطق والعدالة وفي اليسري مصباح من اختراعاتها للكشف عن الطريق المؤدي للفلاح,هذا ما أراده طه حسين فكمموه وأنهكوه حتي توفي وحرب أكتوبر المجيدة في عز فورانها وأبطالنا يستعيدون سيناء الغالية,فمات في صمت ليعيش للأبد.
لا نريد أن يكون كلاماً في الهواء,إني أبحث عن صيغة جديدة وأتضرع من قلبي أن ألهم الصواب دون حساب لأي شئ آخر,وإن كان المجتمع حولنا لا يسمح سوي بالتكرار وإعادة سماع ما تعود عليه ويداعب سكونه ودعته ويخبره أننا الأفضل وإننا خير أمة أخرجت للناس دون أن يسمع الشرط لذلك بأن نأمر بالمعروف وننهي عن المنكر,والحق هو أول الطريق لذلك,لا الباطل المتسيد والهراء المقدس,الحق هو ما يجب علينا السعي خلفه بكل جهدنا محتملين ما في طريقه من أشواء.
أكثر من ذكر أوروبا ونهضة أوروبا,أجل وسأكثر منها حتي نتعلم منها ونسلك سبييل المنهج العلمي وهو السبيل القويم,ألم تكن الصين وجارتها اليابان وسنغافورة وماليزيا والنمور الآسيوية في ظلمات يعمهون حتي لاح لهم نور أوروبا فذهبوا يقتبسون منه ويعمرون في بلادهم فأصبحت الصين قوة عظمي واليابان نموذج للعمل الحقيقي.
إنني أفكر معك يا سيدي القارئ,وأول ما أفكر فيه تلك المدينة الإيطالية التي ولد فيها الرينيسانس...فلورنسا الجميلة,لو كان هناك بقرش صاغ واحد تعليم في بلادنا بدلاً من جريمة التجهيل وتحميل شهادات لمن لا يفقهون شيئاً, لكنا نعرف فلورنسا كما نعرف طيبة في مصر القديمة وبغداد في العراق والقاهرة في العصر الإسلامي والأسكندرية في الزمن اليوناني عندما كانت مدينة الله العظمي وهونج كونج في الصين وكل المدن التي كانت منابع التقدم والرقي في العالم,علي العموم ليس عيباً أن يتعلم الإنسان حتي ولو كان الجهل هو ما يلاحقه في كل سني حياته,مستقدياً برجال عصر النهضة الأوائل.
فلورنسا هي عاصمة أقليم توسكاني في إيطاليا المنقسمة حينئذ لولايات متصارعة,كانت مسقط رأس وراعية نوابغ الرينيسانس كدافنشي ودانتي وبرارك وميكافيلي ودوناتيلي وأوتشيلو وغيرهم,عرفت باسم "أثينا الصغري"و"أثينا القرون الوسطي"دلالة علي مدي تنوع روافد ثقافتها وافتتاحها لعصر جديد يغرف من تراثه القديم,وتأمل معي من جديد اللقب ستجد فيه نظرية إحياء تراث أثينا تاج الحضارة اليونانية,الرينيسانس في الأصل معناه البعث والصحوة والعودة والرجوع والولادة الجديدة,بدأت النهضة فيها في القرن الرابع عشر وانطلقت لبقية أوروبا,من موقعها المتميز تراكمت الثروات في يد التجار والبنكيين,من الثراء والحرية السياسية التي كانت تتمتع بها واحترام حقوق الإنسان وإعطاؤه مساحة للمشاركة في الحكم,ظهرت روح جديدة ورغبة في التمتع بالحياة دون النظر إليها باعتبارها خطيئة أو دنس لابد من تجنبه وغيرها من الأوصاف السلبية التي عششت في العقل الأوروبي من قبل,لكنهم لم يفكروا في ذواتهم باعتبارهم إيطاليون,لأن إيطاليا في ذلك الوقت لم تكن دولة موحدة,فكان الناس ينقسمون لفينيسيون أو رومانيون أو ميلانيون,هنا يأتي فضل التراث في تعريف الإيطاليين بهويتهم ودفعهم لاستعادة المجد الروماني,وكان دانتي أول البارزين في نداؤه نحو بعث القومية,واستلهام الحضارة القديمة من جديد,واستنقاذها من سلطة رجال الدين وعودتها لحكم موحد تحت سلطة رجل واحد علي الطريقة الرومانية,دعوته تلك كانت ثورية في وقتها بعدما قضت الكنيسة علي الشعور القومي في نفوس الإيطاليين وجعلتهم يشعرون بالعار تجاه أمجاد أجدادهم الرومان ويتبرأون من حضارتهم,واعتبار أن اضمحلالها علامة علي الغضب الإلهي الذي حل علي روما بعدا ضلت الطريق واستغرقت في الحياة الدنيا وملذاتها فسلط الله عليها أعدائها ليقوضوا بنيانهم ويعلنون أنهيارها,أما دانتي في كتاب"الحكم الملكي"يعترف أنه في البداية كان متأثراً بتلك الرؤية لكن غلبة الحس الوطني عليه جعلته ينفد نحو الحق"كان هناك زمن كنت أنا أيضاً أقف ذاهلاً أمام هذا التصور,وهو أن الشعب الروماني بلغ قمة السؤدد علي الكرة الأرضية,لا يجد من يقاومه,وكنت أحسب لأني لم أكن أري إلا سطح الأمور,أن الرومان بلغوا كل هذا السؤدد بقوة السلاح وحدها.ولكني الآن وقد نفدت بعقلي إلي لب الأشياء,ورأيت بدلائل مقنعة كل الإقناع أن العناية الإلهية هي التي حققت ذلك لم أعد أقف متعجباً أمام هذا المجد الدنيوي"واستمع لهذ الصوت المدوي منه يعبر البحر المتوسط ليستقر في وجدان الباحثين عن مجد أوطانهم"يا للرومان من شعب مبارك!يا لأوزونيا من دولة مجيدة-أوزونيا هي اسم إيطاليا في الأدب القديم-ليته ما ولد قط من أضعف امبراطوريتك يا روما,أو ليت تقواه لم تقده في سبيل الضلال!"وهكذا اختار دانتي القيصر ونبذ البابا,فحكم عليه بالنفي المؤبد خارج وطنه,وإذا عاد يحكم عليه بالحرق حيا!!!
نظرة مماثلة لتلك ما زالت تتردد بالنسبة للحضارة المصرية القديمة,التي تم اختزالها بين الجماهير لأهداف مسمومة في قصة موسي التوراتية التي وردت في القرآن,وأصبح الرمز الديني المجازي يؤخذ حرفياً ياعتباره حقيقة تاريخية,فأصبحت بلاد وادي النيل في نظر من أعماهم ظلام العصور الوسطي الكامن في الألفية الثانية وسط نور المنجزات العلمية والتكنولوجية,ليست سوي مقراً للظلمة والطغاة,وأصبحت كلمة فرعون علماً علي الحضارة المصرية القديمة ارضاء لمفسري التوراة ممن يتلاعبون بالكلمات,وتتحول الدولة قامت علي الماعت (النظام والعدل والحق) لدولة عاشت علي الباطل وشيدت آثارها الخالدة بالسخرة والقسوة!!! والتي ورد فيها قبل أن تظهر الأديان الإبراهيمية الثلاثة عبارات كـ:
"يعترف بفضل الرجل الذي يتخذ العدالة نبراساً له فينهج نهجها"
الحكيم بتاح حتب في القرن 27ق.م
"إن فضيلة الرجل المستقيم أحب عند الله من ثور الرجل الظالم"أي من قربان الرجل الظالم.
الأمير مريكارع مخاطباً ولده في القرن 23ق.م
"إن العدالة خالدة,فهي تنزل مع من يقيمها إلي القبر...ولكن اسمه لا يمحي من الأرض بل يذكر علي مر السنين بسبب العدل"
الفلاح الفصيح موجهاً(تحذيراته)للحاكم في 23ق.م
وغيرها من التعاليم والمعاني التي شكلت الحس الأخلاقي للإنسان,دون إملاء من قوي خارجية بل صادرة عن قلب سليم يتهم اليوم بالظلم والجفاء!
تبع دانتي في روحه الوطنية واهتمامه بتراث بلاده الشاعر بترارك أحد الذين يؤرخ بهم المذهب الإنساني"الهيومانيزم"وأحد فطاحل الشعر في إيطاليا وصاحب أبيات ملتهبة بالعزة الوطنية:
فضيلة القوة سوف تسود
الرومان أهل البطولة... سلوا عنا الجدود
هم يزحفون...يزأرون كزئير الأسود
الحمية في قلوبنا كفعل الوقود
مجدك إيطاليا سوف يعود
 شاركهما الفيلسوف السياسي ميكافيللي أول من تجرأ وفصل صراحة بين السياسة والأخلاق تحدوه أمنياته في إنهاء الاقتسام وتوحيد الوطن تحت حكم رجل وحد فكتب كتابه الشهير"الأمير",وقد كان رجال الدين في ذلك الوقت لا يعترفون بالوطنية بل ربما انحازوا للأجانب مقابل حماية مصالحهم,كما فعل الراهب سافونا لولا الذي دأب علي مهاجمة العلوم والفنون وكل ما يمت للحياة بصلة,وكان رجلاً معقد نفسياً يشبه لحد كبير متعصبي الدين الإسلامي ومهاويس التطرف الذين يجأرون ليل نهار بأوهام وتخيلات ورغبات مريضة,لم ير في التراث الإنساني كله سوي وبدع وهرطقة,ومع أول فرصة لاحت له خان بلاده,عندما طلب شارل الثامن حق المرور بجيوشه في أراضي فلورنسا ليزحف علي نابولي,عندها رفض بيرو دي مديتشي أن يمنحه ما رأراد,فاحتل شارل الثامن فلورنسا بحجة(تحريرها)من طغيان آل مديتشي!آل مديتشي راعية الفنون والآداب التي كان يمقتها سافونا رولا,آل مديتشي وعميدها لورينزو الملقب بالمجيد الذين قدموا لإيطاليا خدمة لا ينساها التاريخ برعايتهم للعباقرة والأفذاذ.
رجل النهضة الأشهر وصاحب الأعمال التي شكلت جزء من وعي العالم هو ليوناردة دافنشي,الأيقونة العلمية والفنية لعصر النهضة المبكر,قال عنه مؤرخ الفن كلارك كينيث بأنه"أكثر إنسان فضولي بلا هوادة في التاريخ",ممسكاً بمفتاح الشخصية الدافنشية,الرغبة في التعلم وحب الاستطلاع والقدرة علي الخوض في مجالات عديدة,والسبيل الوحيد لذلك القراة والدرس والتحصيل,نظر للماضي نظرة رشيدة بصورة مكتملة وبدأ يحرث في أعمال السابقين عليه,اطلع علي قائمة تشمل التجارب العلمية اليونانية,فصنع الإنسان الآلي الذي سبقه إليه هيرون السكندري وأدخل عليه ابن الجزري تحديثاته,واطلع علي أعمال ابن الهيثم في البصريات فأدخل تحسيناته علي الغرفة المظلمة,وأتاح له رؤية أكثر عمقاً لفن الرسم,وظل يدرس إلي أن انتهي للمهندس تاكولا فاطلع علي تصاميمه الأولية للغواصات,كما اهتم بالتشريح والرياضيات والموسيقي,وقد كان في شبابه شغوفاً بليون باتستا ألبرتي,درسه بعناية فائقة وتأثر به في حياته وأعماله فاكتملت عبقريته الشاملة علي أكتاف رجال عظام قدرهم واتخذ سبيلهم.
دافنشي رجل اكتشف الماي فحق له رؤية المستقبل...
في عام2003ظهرت رواية"شيفرة دافنشي"بحبكتها المثيرة وأحداثها الملغزة,وحققت صدي عالمي تأرجح بين السلب والإيجاب,وردت فيها عبارة منسوبة لدافنشي,تشير لجوهر هذا الرجل العبقري ودوره الذي اختاره في الحياة,وقام به كالأبطال رغم الصعوبات في طريقه:
الجهل يعمي أبصارنا ويضللها
أيها البشر الفانون!افتحوا أعينكم!
فتح عينيه وحدق في الطبيعة والكون بحثاً عن الحقيقة الكامنة خلف ظواهر الأشياء,نقل إلينا علوم السابقين وطبق نظرياتهم,فكان جسراً علمياً بين مرحلتين فصلت بينهما قرون مظلمة.
دافنشي الفنان كان أصيلاً في فنه,ذو رؤية متفردة لم يسبقه لها أحد,فإذا كان في تاريخ العلم,لا يتصدر قائمة الشرف الأولي فهو في فن الرسم سيدها بلا منازع,مازالت ابتسامة الموناليزا لغزاً مستفزاً بعد 500والعشاء الأخير حافلاً بالأسرار والرموز,أما الرجل الفيتروفي مزيج من العلم والفن جمع بينهما دافنشي علي مر حياته,فرويد كان دقيقاً عندما أوجز قيمته بقوله"رجل استيقظ في الظلام الدامس بينما الجميع ما يزال يغط في نومه".
في أيامنا هذه رجل به قبس من روح دافنشي الوثابة الجريئة إيلون ماسك صاحب شركة space xوالمسئولة عن توسيع الأفق الإنساني أمام الكون الواسع بالرحلات الفضائية الغامرة والاختراعات المبتكرة,وبناء زاوية متسامية للرؤية البشرية,تسعي للخير والمعرفة وتستكمل مسيرة علمية طويلة,مع كل مكوك يطلقه أو سيارة تنطق محركاتها:
أيها البشر الفانون!افتحوا أعينكم!
إذا عرفت ماذا تريد عرفت ماذا تفعل,ونحن في منطقة لا تعرف ألف باء عن أي شئ في الحياة,عيشها خليط من الأوهام والأكاذيب والادعاء والزيف,تلك الحقيقة للأسف,وأنا أعزي كافة أزمات المجتمع العربي لأصل واحد:غياب تام للتعليم واستبداله بمؤسسات لصناعة الجهل والتشوهات النفسية,والمفارقة أن العاملين فيها أنفسهم لم يتعلموا شيئاً وهم الآن يخوضون مهمتهم الملعونة في إعادة تدوير الجهل والتخلف,وقد نادي أحد العقلاء منذ سنوات بإغلاق الجامعات سنيتين ليتعلم العاملين فيها أولاًّ!!ولم ينصت أحد وستظل الآلة الجهنمية تعمل- هي الوحيدة التي تعمل في هذه البلاد!!!-لإغراق المجتمع المصري والعربي بأعداد هائلة من الجهلة الحائزين علي عدة شهادات لا تساوي قيمة الإطار المعلقة فيه.
إنها مصيبة بل مأساة متكاملة...وهي الأصل لكل البلاوي.
وبما أن الأساتذة اختفوا ولم يبق سوي البلهاء في كل واد يهيمون يتبعهم القطعان لحتفهم,تتلألأ درر التراث العربي القديم تلمع,تخطف الأبصار ببهائها وقدرتها علي المشاركة في الحل,والاشتباك مع الواقع.
وها هو ابن خلدون يجلس متربعاً في فردوس التراث العربي,اصحبني لنسمع منه,ويسمع منا.
-"اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان علي التدريج شيئاً فشيئاً,وقليلاً قليلاً,يلقي عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب,يقرب له من شرحها علي سبيل الإجمال,ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتي ينتهي إلي آخر الفن,وعند ذلك يحصل له ملكة ذلك العلم,إلا أنها جزئية وضعيفة,وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله.ثم يرجع به إلي الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلي أعلي منها,ويستوفي الشرح والبيان,ويخرج عن الإجمال,ويذكر له هنالك من الخلا ووجهه إلي أن ينتهي إلي آخر الفن فتجود ملكته,ثم يرجع به-وقد شدا-فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا مغلقاً إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولي علي ملكته.وهذا وجه التعليم المفيد,وهو كما رأيت يحصل ثلاث تكرارات,وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه".
-سيدي ابن خلدون,إن الكارثة ليست في غياب التعليم فقط,بل أن المدارس المنوط بها هذا الواجب المقدس والمعلم الذي كاد "أن يكون رسولاً" كما قال أمير الشعراء,يقومون  بفعل إجرامي لن تصدقه,إنهم يقتلونهم,لا مجازاً لأنهم مسئوليين عن قتل عقولهم ومواهبهم وطموحهم في الحياة,بل حقيقة يا سيدي يضربونهم حتي الموت ولم تعد تخلو الأخبار من حوادث مرعبة من عينة مدرس يفقأ عين تلميذ أو يضربه حتي يلفظ أنفاسه أو يمنعه من الذهاب للحمام حتي يتبول علي نفسه وسط أقرانه أو مدرس في الجامعة التي لم تجمع سوي الهراء كله في مكان واحد يتشاجر مع أحد الشباب أو يطلب منهم خلع سراويلهم...وغير ذلك مما لا يحكي!
-"إرهاف الحد من التعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه سوء الملكة.ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر,وضيق علي النفس في انبساطها,وذهب بنشاطها,ودعاه إلي الكسل,وحمل علي الكذب والخبث,وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه,وعلمه المكر والخديعة لذلك,وصارت له هذه عادة وخلقاً وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن,وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله,وصار عيالاً له علي غيره ذلك,بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل,فانقبضت عن غايتها ومدي إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل السافلين.
وهكذ وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف,واعتبره في كل من يملك أمره عليه ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به,وتجد ذلك فيهم استقراء.وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء,حتي أنه يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج,ومعناه والاصطلاح المشهور التخابث والكيد".
سمعه أبو عبد الله ابن خلصون فنادي بالزجر كأداة رادعة لسوء الخلق...طبعاً مع الأخذ في الاعتبار أن حديثه عن الوضع الطبيعي,لا الشذوذ الغارقين فيه:
-"ولا ينبغي أن يحمل الطفل في الزجر والتأديب قبل سبع سنين,فإذا أكملها فلا بأس بأن يدخل المسجد,ويوصي مؤدبه أن لا يعنف عليه,فإن ذلك يكسر نشاطه ويمنع من حسن نشره حتي يبلغ عشر سنين,فلا بأس بالزجر المعتدل في التأديب والتعليم,وليكن هذا إلي كمال أربع عشرة سنة"
أما عن عظمة الإنترنت وقدرته علي تعويض غياب التعليم فأبو إسحاق الشاطبي له أري قديم في التعلم عن بعد وعن طريق الأجهزة الحديثة ومصادره المتعددة:
-"من أنفع طرق العلم الموصلة إلي غاية التحقق به,أخذه عن أهله من المتحققين به علي الكمال والتمام,وذلك أن الله خلق الإنسان لا يعلم شيئاً,ثم علمه وبصره وهداه طرق مصلحته في الحياة الدنيا,غير أن ما علمه من ذلك علي ضربين:
ضرب منها ضروري داخل عليه من غير علم,من أين ولا كيف,بل هو مغروز فيه من أصل الخلقة كالتقامه الثدي ومصه له عند خروجه من البطن إلي الدنيا-هذا من المحسوسات-وكعلمه بوجوده,وأن النقيضين لا يجتمعان-من جملة المعقولات-وضرب منها بواسطة التعليم,شعر بذلك أم لا,كوجوه التصرفات الضرورية,نحو محاكاة الأصوات,والنطق بالكلمات,ومعرفة أسماء الأشياء في المحسوسات,وكالعلوم النظرية التي للعقل في تحصيلها مجال ونظر في المعقولات.
وكلامنا من ذلك فيما يفتقر إلي نظر وتبصر,فلابد من معلم فيها,وإن كان الناس قد اختلفوا:
هل يمكن حصول العلم دون معلم أم لا؟فالإمكان مُسلم,ولكن الواقع في مجاري العادات أن لابد من المعلم,وهو المتفق عليه في الجملة وإن اختلفوا في بعض التفاصيل...واتفاق الناس علي ذلك في الوقوع وجريان العادة به كاف في أنه لابد منه.
وقد قالوا:إن العلم كله في صدور الرجال ثم انتقل إلي الكتب,وصارت مفاتحه بأيدي الرجال.وهذا الكلام يقضي بأن لابد في تحصيله من الرجال,إذ ليس وراء هاتين المرتبتين مرمي عندهم."



الأربعاء، 3 يونيو 2020

ثلاثة وجوه تضحك


أصبح صوت باب المحل وهو يغلق إعلان عن حد فاصل بين حياتين,الأولي ممتلئة بالصخب والثرثرة والوساوس حول الوباء المستشري في الدنيا المعروف باسم كورونا,تحاك فيها القصص والنظريات حول الجاري في أنحاء الأرض والثانية هادئة صامتة يقضيها أحمد في منزله,ما زال يعيش مع أبيه وأمه وقد جاوز الثلاثين ولا عيب فيه يمنع من الزواج,المحيطون به يتعجبون من عزوفه عن الزواج,يستعجلون ليلة العرس والملابس الجديدة و"مبروك" والطعام في الفرح تعقبه ألوان من الحلوي والمشروبات,ثم انتظار الحمل ورؤية الأبناء,مما يعمق شعوره بالنفور من فكرة الزواج كلها,ألم يعد في القضية حب وتوافق وانسجام أين الثقة التي تجعله يأتمن امرأة علي نفسه وأن تأتمنه علي ذاتها, علي ما يذكر كان في الاقتران عواطف أسمي من فرش المنازل وتجهيزها.
في الأيام السابقة كان معظم وقته يتبعثر في المحل محتملاً جدال الزبائن وفصالهم,وغير مرة صبر علي صلفهم و قلة ذوقهم,في البداية كان يحزن علي حاله ومع الوقت تأقلم,وحينها عرف أنه هُزم وسيظل هكذا بين جدران الدكان يحلق علي المال كما كانت أمه تحلق علي الدجاج في العشة فوق سطح الدار,وكلما عاودته أحلامه القديمة في تغيير العالم والشرب حتي الموت من بحار العلم في الدول الأوروبية تعويضاً عن الجفاف القاحل في مجتمعه الذي أفسد حال بلاده وجعل حالها مائلاً,يسخر من نفسه ويصعب عليه ذاته,يتسرب تحت جلده الألم دون شفقة,يقبض علي قلبه لا يتركه قبل أن يبكي.
بين إغلاق المحلات وإعلان حظر التجول ثلاث ساعات,قبل المرواح يعرج علي كورنيش ترعة المحمودية,هناك تنقسم دمنهور إلي برين البر الرئيسي الذي يحيا فيه والبر الثاني الذي لم يزره في حياته سوي مرة أو مرتين,في تلك الساعة صعب العثور علي مقعد فارغ,الكل جاء لنفس هدفه,إطالة وقت مكوثه في الخارج قليلاً.
رصيف الكورنيش كله مزدحم,سار باتجاه كوبري إفلاقة حتي وجد دكة,فألقي عليها جسده بإنهاك,ينظر إلي زحام السيارات في الشارع,لم يشهد في حياته زحام في المدينة يفوق زحام هذه الساعة,علي مد البصر المرور متوقف,أخرج سيجارة وأشعلها متوجساً حذر أناس من التدخين لأنه يضعف مقاومة الرئة أمام غزو الفيروس,لكنه عاد وتذكر أن أناس آخرين مدحوا قدرتها علي تعزيز الدفاعات في مواجهته,وهو يخرج أول نفس ابتسم وكادت تفلت منه ضحكة عالية,لهذا الحد تبلبل كل ما يعرفه الإنسان واضطرب حاله,إذن كيف كان يتحدث عن الألفية الثالثة وماذا عن الذكاء الصناعي وإطالة الحياة وهندسة الجينات,كلها تهاوت أمام أصغر المخلوقات,بتر ضحكته شاعراً بالرثاء للجنس البشري كله ألسنة طويلة وأسلحة فتاكة في مواجهة بعضهم وعند الخطر الحقيقي لا حيلة لهم,ولم يجدوا سوي التباعد الاجتماعي ومنع المصافحة وأغراق الكفوف بالكحول!
علي مقربة سمع صياح ولدان وبنت,الولد الكبير أطلق طائرته الورقية فحلقت في السماء,بينما الأصغر طائرته معوجة عاجزة عن الطيران,البنت اقتربت من صاحب الطائرة العالية وبدأت تلعب معه,تمسك الخيط مرة وهو مرة,الصغير حائر,يرجع بظهره بسرعة عكس اتجاه الرياح لعل الطائرة ترتفع لكنه يصطدك بامرأة سمينة فيقع أرضاً والمرأة تصب عليه اللعنات,يتعثر في مشيه من ألم السقطة لكنه يحاول من جديد فيصطدم بأحمد ويقع عند قدميه,يساعده علي النهوض مبتسماً,يمد يده ويحمل الطائرة,يتأملها ويعود بذاكرته لزمن فات كان فيه مثل هذا الولد ليس له هم سوي طائرة ورقية في ذيلها خيط,فكر أن يسأل الولد هل يخاف من الكورونا أو سمع بها لكنه بدلاً من ذلك قال:
-لن يمكن لها أن تطير...الحل الوحيد أن تحل كلها ثم يعاد سبكها من جديد لتتوازن وسط الرياح القوية.
قفز الولد ناحيته وقف بجواره وقال في ضراعة وأمل:
-هل تستطيع إصلاحها؟
أحس نحو بشفقة عارمة,ربت علي رأسه وقال في حماس طفولي:
-لنحاول معاً.
حل الخيط واستبدل العيدان الخشبية بأخري وجدها في طائرة ملقاة بجوار المياه غارقة في الطين,وثب فوق السور وأحضرها,في ربع ساعة كانت جاهزة للإقلاع.
قام من مكانه ممسكاً بطرف الخيط,الطائرة تعلو نحو السماء وكلما علت دوت ضحكات الولد,فيحس أحمد بالامتنان وتعاوده الرغبة في تغيير العالم وهمس لنفسه"لابد أن يتغير" التفت للشرفة المواجهة للكورنيش تقف فيها فتاة بعيون عسلية كانت ترقب الموقف منذ بدايته,فوجدها مبتسمة في سعادة وهي تنظر للسماء,التقت نظراتهما فبادلها الابتسام الصافي,ثلاث وجوه تضحك علي الأرض وفي السماء يسمو ما كان يضطرب في السقوط,جرت البنت نحو الولد الصغير تبعها الولد الكبير وبدأوا يصخبون كلهم في وقت واحد.
شفق المغيب المنعكس علي السحب اليضاء وجمال الفتاة جعلاه يغمض عينيه لحظة ليثبت المشهد في ذاكرته,وعندما حل الليل,مضي في الظلام ترقبه عيون الفتاة حتي ابتلعته الشوارع المظلمة,دخلت ذات العيون العسلية من الشرفة وأغلقتها بإحكام.