الاثنين، 18 مارس 2019

التجلي الفرعوني في مرآة نجيب محفوظ1



عبث الأقدار

"إن صوت الناس يفني,لكن صوت الكاتب يعيش أبد الدهر"
بتاح حتب

نجيب...نجيب...نجيب محفوظ,الحب الجارف والإعجاب الشديد,والاحترام لإنجاز هذا الرجل العظيم-الرجل والإنجاز كليهما يتسم بالعظمة-يثقلون لساني ويدي حينما أتكلم عنه,لكني طالما كتبت وتكلمت عنه علي الرغم من ذلك,فقد تأكدت منذ أن قرأت له للمرة الأولي قبل سنوات عديدة مضت,أن هذا الرجل مدرسة في العمل والكفاح وغزارة الإنتاج,فأحببته إنساناً أيضاً,قادته موهبته ليسكن وجداني ويصبح هو أول من يوقظ فيه الوعي,وفي عقلي التفكير وفي عيني رؤية جديدة للحياة,فأصبح مثلي الأعلي الذي أرنو له بجلال متمنياً أن أسعي سعيه في الحياة,مكباً علي الأدب,مؤمناً بالعلم ومتبعاً للمنهج العلمي,راضياً بنصيبي من الحياة ولا يمنعني قلة ما أحصده عن الإنتاج والعمل المتواصل...رأيت فيه أباً روحياً,وحينما أنظر لصوره تدمع عيني تأثراً,كم حلمت أني أقابل أبي وأحدثه!...أبي نجيب محفوظ أعرف أن روحك المحلقة في السماوات تسمعني,إني مفتون بأدبك وحكمتك وفلسفتك,فتقبلني في عداد الدراويش الذين يقدرون قيمتك.
وباركني إذ أحاول أن أتمسح بك دارساً متأملاً أدبك,الذي أدين له بالكثير...سأظل أكتب وأكتب وأكتب عنك,فأنا وأنت نعلم أن بلدك التي صغت تاريخها وناسها أدباً وفلسفة وحكمة لم توفِك حقك بعد,ولم ينل فيها اسمك وذكراك ما يستحقان من المجد والخلود,عزائي يا أبي ما يموج في قلبي لك من الحب والإعجاب,يماثلني في ذلك آلاف ممن أثرت فيهم و عشت معهم حياتهم.
.............................

,تطحنني المأساة السورية,وتدمي قلبي حزناً وعيني دماً,الكوراث تتكاثر علي البلدان العربية جميعاً,دول الحضارة والثقافة يُراد لها الهدم والانهيار,سقطت العراق ثم سوريا,وتبقي مصر كأسد عجوز حكيم يحاول الأقزام جره بالفعل والقول نحو الشرك ليقع...ويثور السؤال,ما الحل للخروج من تلك الأزمة,كيف يستعيد الأسد العجوز شبابه؟
تطل الهوية الفرعونية أحد العناصر الأساسية لحل الأزمة المصرية,التي جعلت البلاد والعباد يترديان في هوة اليأس والضياع السحيقة التي تعرف لانحدارها نهاية,هويتنا الحقيقية وماضينا التليد اللذين تعرضا لتشويهات لو صادفتها أي حضارة أخري لانهزمت...لكن بلد إيمحوتب وبتاح حتب وقاقمنا وأمينموبي وتحتمس ومينا ورمسيس وحور محب وحم إيونو,التي عرفت الله الواحد منذ بدايتها,وقدست العلم والعمل فوصلت لذروة الحضارة لا شئ يقضي عليها,فهؤلاء الأجداد العظام بنوها بحكمتهم وقوتهم وسياستهم للخلود لا للاندثار,أو كما يقولون "إن العالم كله يرهب الزمان,لكن الزمان نفسه يرهب الأهرام".
الهوية التي لو استعدناها سنسترجع ذواتنا وبلادنا ومجدنا,وسنجد فيها ذات المعتقدات والأفكار التي نعتنقها الآن ويعتنقها العالم,اليوم باسم الدين أوالفلسفة أوالعلم...هويتنا التي بناها لنا الأجداد,لنمد إليها أيدينا فهي المنقذ الوحيد الضلال الذي نتخبط فيه اليوم,ومن هجوم الصحراء الأصفر الذي طغي علينا.

..........................

الطفولة منبع كل شئ في حياة الإنسان,فكل ملكاتنا واتجاهاتنا تتشكل في تلك المرحلة,ونبقي طوال حياتنا ننميها ونطورها لتصبح,أو كما عبر فرويد باختصار"الطفل أبو الرجل",طفولة نجيب محفوظ تبزغ فيها أمه الأمية التي تعتبر أكثر انفتاحاً من كل الأمهات اللواتي يحملن اليوم شهادات وألقاب من مكبات القمامة المصرية المسماة مدارس وجامعات.
تلك السيدة هي أول من فتحت وعي نجيب محفوظ علي تراث بلاده,فقد كانت تصحبه معها في جولاتها في أحياء القاهرة القديمة,وخاصة عشقها الجارف للآثار الفرعونية,حيث كانت تمضي في قاعة المومياوات ساعات تتأملها وتعيش معها,طبعاً لا يمكننا الجزم بما كان في ضمير هذه السيدة,الأكيد أنها شكلت فيه بذرة خصبة لاستقبال وهج حضارة أجداده العظام.
كان نجيب محفوظ يتعجب من والدته وهي تزور شهيد الغدر والظلم الحسين حبيب المصريين هو وكل آل البيت, وتقف أمامه بخشوع وتتطلب منه الابتهال والدعاء,وبنفس الحماس تزور شهيد آخر ضحي من أجل دينه ووقف في وجه الطغاة وكالعادة يصبح ضحية هوالقديس مارجرجس,محفوظ في هذا الوقت لصغر سنه كان متعجباً كيف لها هذا الحماس في كلتا الديانتين,فتجيب المصرية المثقفة بثقافة الفطرة السليمة"كلهم بركة",وحين مرضت جاءها وفد كامل من دير القديس مارجرجرس لعيادتها؛فمن فرط تكرار زياراتها له نشأت بينها وبينهن صداقة متينة..في خطابه لجائزة نوبل التي تشرفت بحصول محفوظ وهو شيخ في السبعين عليها يلقي علي مسامع العالم وهو يتجه له بأنظاره كأول سفير للأدب العربي يحصل علي نوبل"أنا ابن حضارتين تزوجتا فى عصر من عصور التاريخ زواجا موفقا، أولاهما: عمرها سبعة آلاف سنة وهى الحضارة الفرعونية، وثانيتهما: عمرها ألف وأربعمائة سنة، وهى الحضارة الإسلامية",هو ابن هذه الأيام البعيدة صبي صغير تسحبه أمه خلفها كطفل تربي كوحيد والديه,نظراً لزواج كل إخوته ومفارقتهم المنزل,وكان الذي يسبقه في الترتيب يكبره بعشر سنوات,غير عارفة ما تخبئه الأيام لهذا الطفل الذي يتأمل بعينيه مقام الحسين وآثار الفراعنة.
أما الأب فقد كان أحد أصدقاء الأديب محمد المويلحي صاحب "حديث عيسي بن هشام",وهي رواية في النقد الاجتماعي كتبها علي صورة اللون الأدبي العربي"المقامة",فكانت محافظة في شكلها حداثية جداً في مضمونها وبها وضع المويلحي حلقة وصل بين الأدب العربي القديم واللون الوليد"الرواية",وربما استخدم هذه التقنية؛لأن سمعة الأديب الروائي في ذلك الزمن علي نقيض هذه الأيام,فالآن الروائي الموهوب يحوذ المجد والشهرة والتكريم,أما بالنسبة لزمن المويلحي فقد كان من الفئات الغير راقية اجتماعياً,وكانت كلمة"أدباتي"معيبة,وبعد نشر المويلحي لكتابه بسنوات سيكتب محمد حسين هيكل روايته الرائدة"زينب"و سيخجل من وضع اسمه عليها,ويكتفي بعبارة بـ"بقلم فلاح مصري"؛حتي لا يسئ إبداع فن الرواية له!!!
رجل الثقافة المنسي!
سلامة موسي كان بيشجع الكتابة بالعامية,وعشان كده الفقرة اللي عنه دي هاتكون بالعامية إكراماً ليه.في الحقيقة أنا بعتبر العامية لغة كاملة مش مجرد لهجة بتتقال في مصر,لغة ليها قواعدها الخاصة المستشرقين عملوا لها كتب والأجانب اللي بيعيشوا في مصر بيتعلموها زي مابيتعلموا العربي,والكتابة بالعامية مش عيب بالعكس دي اللغة الأقرب للشعب,وفي ظل انهيار حضاري مصر ماعشتهوش علي الأقل من بعد ثورة 19الكتابة بالعامية ضرورة قصوي في العلوم الطبيعية والإنسانية وياريت أي حد عنده خبرة ودراية كافية في علوم زي الفلك والفيزيا والكيميا والأحياء والتاريخ والفكر السياسي والاجتماع والفلسفة يكتب عنهم بالعامية فهي دي لغة الشعب اللي أبدع فيها أدباؤه,فكفاية قصيدة زي قصيدة صلاح جاهين "علي اسم مصر"عشان نعرف قد إيه العامية المصرية عبقرية وجميلة وفيها معاني مبتكرة,ده غير شغل الأبنودي وفؤاد حداد,وحتي في الرواية هانلاقي"السيد ومراته في باريس"لبيرم التونسي,و"قنطرة اللي كفر"لمصطفي مشرفة, ودلوقتي بنلاقي مؤمن المحمدي وكيرلس بهجت,بيبسطوا الأفكار الكبيرة في لغة بسيطة وحلوة تتحب وتتقرا باستمتاع,وحاجات تانية  كتير انكتبت بالعامية,كانت عظيمة من الناحية الأدبية,العامية المصري اللي سمعنا بيها أجمل الأغاني من المطربين المصريين والأفلام اللي قام بيها فنانين حقيقيين قدموا سينما حقيقية,اللي شكلت وجدان أجيال وانطبعت في ذاكرتهم للأبد,ومافيش خوف نهائي عالفصحي فالفصحي محفوظة للأبد لأنها لغة القرآن ولغة الأدباء العظماء من أول امرؤ القيس لحد نجيب محفوظ وبيها بنقرا في أمهات الكتب والمراجع,العربية ليها جمالها,والعامية برضه ليها جمالها اللغوي.
سلامة موسي منسي من الثقافة المصرية,علي الرغم من أنه هو أول واحد دخل كلمة"ثقافة"في اللغة العربية,وهو أول واحد اللي وضح مثلث خراب المجتمع في تلات كلمات"الفقر و الجهل والمرض"سنة 1940 واعتبر أن الفقر هو أبو الشرور كلها ومنه بيتولد الجهل والمرض,لحد النهاردة التلات وحوش دول لسه بيخربوا في مصر !!! وكل ما قلبي يتنفض وجسمي يقشعر من بشاعة الجرائم في المجتمع المصري,بافتكر اللي قاله"ومن يتأمل المجرمين في سجوننا باختلاف جرائمهم يجد أن 99في المائة منهم من الطبقات الفقيرة.فهم إما محتاجون لا يجدون حاجتهم إلا عن طريق الجريمة,وإما سئمون لأن الوسط الذي يعيشون فيه خلو مما يسري عن النفس ضيقها.فهم ينفجرون لأقل غيظ وأهون معاكسة" التاريخ مليان بعظماء منسيين كانوا هم أساس حاجات ياما النهاردة واللي يشوف أعمال العالم"نيكولا تسلا"ويستغرب أن اسمه مايبقاش مشهور زي داروين ونيوتن أديسون وآينشتاين وهوكينج,يحس قد إيه الناس النهاردة بتظلم ناس ياما"آفة حارتنا النسيان".الراجل ده مايقلش عن طه حسين والعقاد,ومحفوظ ليه مقالة في بداياته بيتكلم فيها عن التلاتة سلامة وطه والعقاد,واحنا ماينفعش نتكلم عن محفوظ وبداياته الأولي من غير الكلام عن سلامة,اللي أُعجب بيه محفوظ وفضل يفتكر تأثره بيه طول عمره,فيعتبر هو أستاذ محفوظ الأول,التعتيم عليه كان لأن أفكاره الجريئة ماكانش بيميعها ولا بيحور فيها ولا كانت بتحتمل التأويل,كان خطير علي العقليات المتحجرة,كان اللي بيعتقده بيقوله من غير لف ولا دوران وكان مؤمن بيه وبيدافع عنه,ويظهر إنه كان راضي رضا تام عن نفسه ففضل علي منهجه الفكري لحد ما مات.باختصار كان مثال متجسد لواحدة من أهم تعريفات"المثقف"أنه الشخص القادر أنه يجهر بالحقيقة ونجيب محفوظ كان بيحبه بيحبه.والحقيقة الراجل ماتشهرش بأي نشاط غير الكتابة فالثقافة كانت بالنسبة له حياته كلها فكان موسوعي له مساهمات في كذا مجال علمي وأدبي,ويمكن كما ما اتكسبش باللي هو بيكتبه,والدليل علي كده أن الأزهر بعت لوزارة المعارف المصرية طلب منها أنها ماتشتركش في مجلته,بسبب أفكاره الجريئة الصادمة للمجتمع المصري,الاشتراك ده اللي خلي أحمد حسن الزيات صاحب مجلة من أهرامات المجلات الثقافية مصر وهي مجلة"الرسالة"يشتري بيها عزبتين.
في بداية محفوظ وهو لسه بيكتب مقالاته الفلسفية عند سلامة في مجلته,عرض عليه تلات روايات كان كاتبهم,ماعجبتش سلامة فقطعهم نجيب وفي حوار مع يوسف القعيد بيبرر الفعل ده بأنها فقدت قيمتها في نظرة بعد لأنه كان بيشوف سلامة رجل صادق وكلامه مافيهوش نقاش وكان بيعمله بحب فكان بالنسبة له عظيم وصريح,وبيقول في مناسبة تانية,إنه كل ما بيفتكر أول رواية اتنشرت ليه,ضربات قلبه بتعلي ولو كان عنده قوة البعث كان عايز يبعث سلامة موسي وأثر عليه وعلي جيل كامل,وبيوصفه بأنه :الراعي والمربي والناقد الأول ليه.
العلامة الكبير سليم حسن قال في موسوعته"مصر القديمة":....والمصري في كل أطوار حياته عبداً لعاداته",سلامة موسي كان مدرك ده بشدة,وعاني منه في حياته,عشان كده كان شعلة من الحماس للتطور والحداثة,وده كان مفتاحهم عنده العلم الحديث والثقافة اللأوروبية وكان عنده بعد بصيرة لما حذر من السلفية الذهنية والاستشهاد بالماضي علي الحاضر والتمسك بموضوعات جدلية عقيمة مقززة,ما بتثيرش غير الفتن والخلافات وهي أساساً محض هراء خالص بياخد تسميات كبيرة بتوحي إنه موضوع مهم,في مقابل أوروبا المهتمة بالصناعة والفن والتفكير والفلسفة,شوف الخيابة اللي بتشغل الشعب المصري وواكله دماغه ووقته وبرامجه والأحلام الكبري اللي بيسعي لها فرد واحد اسمه إيلون ماسك تربية وتعليم العالم اللي كان بيقدره ويحترمه سلامة ونفسه نبقي زيه,وفي نفس الوقت كان مؤمن بالقومية الفرعونية هويتنا الحقيقية وطابعنا الأصيل وده مش عن تناقض وإنما عن فهم ووعي,لازم نعرف تاريخنا كله بكل ما فيه المؤسف إننا بنمسك في النماذج والأحداث اللي بتتملق شهوتنا للشوفينية والقوة والاستعلاء وأوهام الغلبة والتفوق وننام بعدها في العسل متطمنين,طبعاً"العرب"هم أصل أفكار العالم و"أول من" عند معظم الناس وفي الحقيقة عرب الصحرا الصفرا في شبه الجزيرة اسمهم كان هايفضل مجهول إلا بالحروب والدم والقتل علي الميه والأكل لولا إن أهل مصر والعراق والشام وفارس دخلوا بسبب الدين تحت رايتهم وانتسبوا ليهم واستلهموا من حضاراتهم العريقة الخالدة وأبدعوا العلوم والفنون والآداب,دعوته للقومية لقت صدي كبير عند نجيب اللي كان أصلاً مؤمن بيها ومقدر جلالها ورونقها وفي الوقت اللي كان سلامة بيكتب فيه بأسلوب بحثي تقريري كتاب"مصر أصل الحضارة"نجيب كان بيكتب بشكل روائي سردي عمله الأول بعد قراره بكتابة تاريخ مصر الفرعونية علي شكل روائي زي ما عمل والتر سكوت أبو الرواية التاريخية لما أعاد ألقي أضواء جديدة علي التاريخ الأسكتلندي بروايات تاريخية بعثت الحياة في تاريخ بلاده وصاغته بطريقة جعلت المؤرخين نفسهم يعيدوا حساباتهم ورأيهم!و خليته نموذج للعديد من الأدباء اللي اتأثروا بيه في العالم, محفوظ كان واحد منهم, و قرر يسميه خوفو علي اسم بطل الرواية و علي اسم ابن من أبناء أستاذه لكن سلامة اختار له اسم تاني"عبث الأقدار".
خوفو
طغت شهرة خوفو ظلماً وتضليلاً كواحد من جبابرة التاريخ القساة,سخروا آلاف العمال تحت الكرباج والقهر لبناء هرمه العملاق...واحدة من أكبر أكاذيب التاريخ,يُروج لها عن جهل في الداخل وعن هدف خبيث في الخارج,ليصبح واحداً من أهم علامات النبوغ الإنساني وعبقرية العقل ونبل الغاية,عنوان مجد مصر ودلالة روحها الخالدة,وصمة تلطخ تاريخها بالدم والعذاب والألم.بالضبط كهراء تدخل حضارات من خارج الكوكب في بناء معجزات مصر القديمة,بينما معجزات أوروبا وأمريكا العلمية اليوم تخصهم وحدهم لا شريك لهم!
بنيت هذه الأكذوبة علي واحدة من سخافات هيرودوت عن مصر,بل قد بلغ به الخيال وعدم التدقيق فيما يسمع من أخبار,أن يورد أن خوفو فرعون مصر وأعظم رجل في زمانه,قد جمع أموال بناء هرمه من عمل ابنته في الدعارة!!!
انزعاج الضمير المصري الحاضر من هذا الكلام المستفز الغير قائم علي أساس علمي,يعبر عنه أمير الشعراء أحمد شوقي بنفاذ صبر:

 بيد البغي ملؤها ظلماء
أين كان القضاء والعدل والحكمة
والنهي والرأي والذكاء؟
إن كان غير ما أتوه فخار
فأنا منك يا فخار براء!
وقد قدم محفوظ خوفو بشخصه التاريخي في"أمام العرش" بوصفه:"رأس الأسرة الرابعة,صاحب الهرم الأكبر,نظم الإدارة تنظيماً لم تعرفه مصر من قبل ولا من بعد,وفي عصره فاضت الأرض بالخيرات وعمرت الأسواق وبلغت الزراعة والصناعة والفنون أقصي درجات الرفعة,وانفجرت هيبة فرعون في الآفاق كالشمس فهابتها القبائل فشمل السلام الربوع والأنفس...
ودعا أوزوريس الملك للكلام فقال:
-فُتنت منذ صغري بالدقة والنظام,وآمنت بأنه يجب أن يكون لكل نشاط قوانينه وتقاليده لا فرق في ذلك بين الشرطة و النحت أو العمارة أو الحياة الزوجية,فنفذت شخصيتي إلي كل قرية متمثلة في الموظفين ورجال الأمن والمعابد,وأصبحت مصر مجموعة من التقاليد السامية والنظم الدقيقة,وهو ما أعانني علي تشييد أعظم بناء عرفه الإنسان,اشتركت فيه الألوف المؤلفة علي مدي عشرين عاماً,فلم يتسلل إليه اضطراب أو إهمال,ولم يحرم أحد من العاملين فيه من الرعاية والعناية ولم يغب في الوقت نفسه عن عين الرقابة الساهرة,هكذا خاض قومي تجربة خاصة بنجاح مثالي,وأثبتوا قدرتهم الفائقة علي خدمة الإله والفوز برضاه وبركاته.
فسأله أوزوريس:
-هل سخرت أمتك لبناء قبر لك؟
فقال الملك خوفو:
لو أردت قبراً لحفرته بعيداً عن الأعين الطامعة,لكني شيدت رمزاً للخلود الإلهي يحوي من الأسرار ما لا يحيط به عقل بشر,وتنافس الناس في العمل به حتي أقمت لهم مدينة كاملة وسعيدة ومقدسة,حيث يبذل الجهد فيها من أجل الإله وحده..كان عملاً يليق بالأحرار لا العبيد"
النقاط التي ارتكز عليها محفوظ في دفاعه حقيقية مائة في المائة,وليدة الاكتشافات الأثرية التي جلت لنظر العالم,حقيقة خوفو التي شوهتها الأكاذيب والطعون وأفلام هوليوود وكتب الصهاينة التي امتلأت بمشاهد جبروت وسخرة وقسوة تصرف النظر عن عظمة الهرم وصاحبه وتشير للحضارة المصرية بإصبع اتهام نكافح اليوم,يدعمنا العلم والتاريخ والنقوش لدفع الظلم والفهم المغلوط لمصر وتاريخها!
بردية وستكار
قصة خوفو والسحرة التي استلهم محفوظ محتواها في رواية عبث الأقدار,وردت في بردية تعرف اليوم باسم بردية وستكار,التي سبقت ألف ليلة وليلة وأدباء أمريكا اللاتينية في واقعيتها السحرية,حيث ذكرت من ضمن قصصها واقعة خوفو والسحرة,التي تعتبر دعاية سياسية لملوك الأسرة الخامسة الذين تولوا عرش البلاد ولم يكن لهم دماء ملكية,حيث تبرر القصة أن ارتقاء العرش كان بناء علي رغبة إله الشمس رع,كما نجد صداها في الإصحاح الثاني من إنجيل متي,عن مولد المسيح وتهديده لهيرودس,وفي قصة موسي القرآنية,وفي أوديب وصراع الإنسان مع القدر والنبوءات.
عبث الأقدار
كأن عنون هذه الرواية سيكون تمهيداً لأحد جوانب الفلسفة المحفوظية,فكل شخصياته يطيح بها القدر وتنهار آمالهم وتتفاقهم أحزانهم بضرباته التي لا ترحم,وخصوصاً حينما يظن الإنسان أنه في أمان من يده الباطشة,فموت الأب المفاجئ في "بداية ونهاية"يمزق الأسرة وتتخلخل صلاتها,فيهوي كل ابن فيها لمصير مظلم,بين الانتحار والدعارة والجريمة,ويزيح القدر في "خان الخليلي"السعادة التي كادت تقترب من أحمد عاكف,ويمنحها لأخيه الصغير متمثلة في جارتهم التي ما كادت ترتبط بالشاب العابث وتستقر نفسه بعد حياة لاهية حتي يصيبه السل ويموت,وتنهار الملكية ويبدأ عهد جديد فينهار عيسي الدباغ معها في "السمان والخريف"وتتجلي العبثية القدرية في "اللص والكلاب"حيث يموت الأبرياء خطأ علي يد طالب العدلة سعيد مهران وينجو الخونة بأفعالهم.....ولا يفلت منه خوفو بكل قوته وقدرته الفذة.
في الفصل الأول يقدم نجيب بصورة بانورامية المجموعة الحاكمة في مصر من أبناء خوفو والمقربين منه, مصوراً الجانب الإنساني في نفسه"وكان فرعون يحب تلك الجلسات العائلية التي تعفيه من أثقال الرسميات وترفع عن كاهله أعباء التقاليد,فيغدو فيها أباً رقيقاً وصديقاً ودوداً,ويخلص وصحبه إلي النجوي والحديث,ويطرقون تافه المواضيع وهامها,فتلوك ألسنتهم الفكاهات وتبرم الأمور وتقرر المصائر"وتقدم بصورة كبيرة شخصيات مرسومة جاهزة فنعرف منذ البداية الروح الفنية الرقيقة للمعماري ميرابو,وقسوة وصرامة الأمير رعخعوف ولي العهد,وحكمة ورزانة الوزير خوميني وإخلاص وحماس القائد الحربي أربو,ومن الشرفة يقلب خوفو عينيه بين أبنائه وصحابته وبين"الهضبة الخالدة التي يرقب مشرقها أبو الهول العظيم,ويسكن جوفها رفات الآباء والأجداد ويملأ سطحها مئات الألوف من الخلق يزيلون كثبانها ويشقون صخورها,ويحفرون الأساس الهائل لهرم فرعون,الذي أراد أن يجعله آية للناس علي كر الأيام وتوالي الأزمان"...كيف وُجد أبي الهول قبل بناء هرم خوفو-مع وجود نظرية غير منطقية تنص بأن أبي الهول نُحت قبل الأهرامات بزمن لكن الرمال طمرته!-؟ولماذا لم يذكر صريحاً"حم إيونو"المهندس العبقري باني معجزة الهرم؟وحين تتقدم أحداث الرواية كيف يتألق "ددف"في ركوب الخيل بالكلية الحربية ومصر لم تعرف الخيول في هذا العهد؟إنه الهوي الفني الذي يطيح بالكثير من الحقائق التاريخية لحساب مزاج المؤلف وما يراه يتماشي مع حسه وطريقته في الكتابة,وليس هذا الأمر مزعجاً أو شائناً,لو فقط قرأنا التاريخ وفرقنا بين المؤرخ والأديب...بلد ابتدأ منه التاريخ وتفجر في قلوب أبنائه يبنايع الأدب والفن,يخلط اليوم بين الشخصية الفنية والشخصية التاريخية!!!
في الحوار بين ميرابو وخوفو وولي العهد وخوميني,يعرض نجيب لآراؤه المبكرة في فضيلتي القوة والصبر,يؤمن فرعون وولي عهده بالقوة كسبيل إلي العرش ووسيلة للحفاظ عليه من الطامعين,بينما خوميني يردد ما قاله الفيلسوف قاقمنا وزير الملك حوتي:الصبر ملاذ الإنسان من القنوط ودرعه ضد الشدائد,وميرابو يري في القو والإلوهية تعبيراً عن الرحمة والمحبة,يريد خوفو حسم الرأي الأخير فيسأل ميرابو"إنك تخالط-منذ عشرة أعوام-جيوش هؤلاء العمال الأشداء,وإنك لذلك حقيق بأن تطلع علي خبايا ضلوعهم وما تختلج به نفوسهم في السر والنجوي..فما الذي تظن أنه يلزمهم لطاعتي ويصبرهم علي أهوال العمل؟قل الحق صراحة يا ميرابو"فيجيب ميرابو متحدثا عن الشعب المصري"أما طائفة المصريين,وأغلبيتهم من مصر العليا,فهم أناس ذوو عزة وكبرياء وجلد وإيمان,تحملهم للعذاب عجيب وصبرهم علي الشدائد صارم,وهم يعلمون ماذا يفعلون,وتؤمن قلوبهم أن العمل الشاق الذي يهبونه حياتهم واجب ديني جليل وزلفي للرب المعبود وطاعة لعنوان مجدهم الجالس علي العرش,فمحنتهم عبادة وعذابهم لذة,وتضحياتهم الجبارة فرض لإرادة الإنسان السامي علي الزمان الخالد...تراهم يا مولاي في وهج الظهيرة وتحت نيران الشمس  المحرقة يضربون الصخر.بسواعد كالصواعق وعزائم كالأقدار,,هم ينشدون الأغاني ويترنمون بالأشعار".
لكن خوفو وقد ظهرت بوادر ميوله الفلسفية وتساؤلاته المنطقية التي ستدفعه فيما بعد لاعتزال الناس,والعكوف علي تأليف كتاب حكمة للشعب المصري جزاء علي ما تحمله في سبيل عرشه ومجده,يؤرقه الجهاد والشقاء الذي يبذله الشعب في لخدمته وسعادته,وكما كان الجهاد هائلاً كان القلق أيضاً هائلاً,يجعل العذاب يضرب سياطه في قلب فرعون القوي فينغص عليه صفوه,فطالع صحبه بوجه غاضب"من الذي ينبغي أن أن تبذل حياته لصاحبه؟الشعب لفرعون أم فرعون للشعب؟"وهذا التساؤل عن علاقة الحاكم بالمحكوم,تظهر إجاباته بصور متناقضة علي مدار التاريخ,فنجد حكاماً مخلصين سعوا لرفعة شعوبهم ومجدها,وحين أدوا ما عليهم وشعروا أن الشعب يحتاج لدماء جديدة فضلوا الانسحاب بعد تأدية واجبهم,أو يثور الشعب علي الظلمة فينتزعون من الحاكم عرشه وحياته.
كان من الممكن أن تمر الجلسة كأي جلسة عادية في يوم آخر لولا تطوع الأمير هورداديف بتقديم الساحر ديدي...
نبوءة ديدي فعلت في ددف رع,ما فعلته في أوديب,غيرت مجري حياته ليعيش مع والدين مزيفين ثم تتكشف الحقيقة,ثم تنتصر الأقدار وتتحقق النبوءة,خاف خوفو علي عرشه فزحف بمجموعته الصغيرة هذه فوراً صوب أون ليشهد بنفسه الرضيع وليد نفس اليوم الذي شاءت الأقدار أن يكون العدو الأكبر لأقوي رجل في زمانه,منكراً"الحكمة المصرية التي لقنتها الأرباب للسلف وأذاعها قاقمنا علي الخلف,بأن الحذر لا يغني عن القدر"قائلاً:"لو كان القدر كما تقولون لسخف معني الخلق واندثرت حكمة الحياة,وهانت كرامة الإنسان وساوي الاجتهاد الأقتداء,والعمل الكسل,واليقظة النوم,والقوة الضعف,والثورة الخنوع,كلا أيها السادة إن القدر اعتقاد فاسد لا يخلق بالأقوياء التسليم به"...أين المفر يا سيد مصر وحاكمها المُهاب!!"المكتوب علي الجبين لابد تشوفه العين"
في طريقه لمنزل كاهن رع الذي من صلبه خرج طفل الأقدار,يلتقي بالخادمة سرجا التي استمعت لزلة لسان الكاهن لزوجته رده ديديت عن بشارته أن طفلها سيرث عرش,فهربت لتبلغ فرعون،لكن الأقدار ساقت فرعون لها ليتأكد من صحة النبوءة ويبدأ صراعه مع القدر,وتتحول رغبة الأمير هورداديف في تسلية أبيه لسبب في إزهاق أرواح بريئة.
كيف نحكم علي الخادمة التي قابلها خوفو في طريقه لـ"أون"حيث يقع منزل الكاهن,هل خانت سيدها أم وفت لولائها لحاكم مصر وسيدها,حينما هربت لإفشاء السر؟ربما تكون هذه إحدي إشكاليات فلسفة الأخلاق,عندما يلتبس الوفاء بالغدر والولاء بالخيانة.
نزلت المأساة بأسرة الكاهن,فخطط لتهريب الوالدة النفساء وابنها الذي فارق رحمها من ساعات,خبئهما في عربة تقودها الخادمة المخلصة زايا وبفضل ثباتها تمكنت من المرور بها أمام الحرس الفرعوني.
الكاهن والفرعون وقطة شرودنجر!
إن العجب يتملكني كلما سمعت من يبغي وصف حاكم مصري ظالم أو مستبد بلفظ فرعون,ويصف رجل الدين متلون سياسياً بالكاهن,ويظل يتحدث عن هذه الجدلية طوال تاريخ مصر,فلفظ فرعون لا يفز به غير حاكم أمين حكيم بني حضارة عظيمة كفراعنة مصر الأقدمين,وكافح لرخاء شعبه ورفعة أمته في السلم والحرب,والكاهن في مصر القديمة كان يساوي اليوم لقب "عالم"برع في فنون الكيمياء والطب والآداب وفروع المعرفة الإنسانية براعته في الكهنوت,سلم قلبه للإله الواحد وثقف ذهنه بمعارف دنياه,وليس من يحكم في غفلة من الزمان بلا خطة أو فهم أو معرفة,أو من يتكسب في الدنيا بالدين ويحصل علي ملايين الفضائيات ليتحدث بالكلام الفارغ المعيب المثير للسخرية والاشمئزاز.
في التاريخ المصري مواقف عديدة واجه فيها الفرعون كهنته,أشهرها موقف إخناتون مارق تل العمارنة عن دين الإله الواحد"آمين",حيث قام نزاع داخلي بين الشعب,انتهي بسقوط إخناتون أمام صلابة الكهنة المدعومة بجبروت جيش مصر وقوتها الضاربة,تحت قيادة حور محب.
يضع محفوظ الفرعون في مواجهة الكاهن,لكن الطرفان ليس علي مستوي واحد ففي عصر الدولة القديمة يكفي ذكر فرعون مصر ليخشع أكبر رأس في البلاد أمام سطوة وسيطرة ملك وادي النيل مزلزل الدول والقبائل الناحت في الصخر مجده وفي القلوب خشيته,فصوت خوفو وحده جعل الكاهن ينتفض لدي سماعه"كما ينتفض الحمل لزئير الأسد,وذهبت عيناه زائغتين تبحثان عن صاحب الصوت العظيم حتي استقرتا علي قلب القوة,فتولاه العجب والرعب أن يأتي فرعون بذاته إلي بيته.ولم يتردد علي أداء واجبه,فهرع إلي سدته لا يلوي علي شئ,فلما بلغ عربته سجد بين يديه وقال بصوت متهدج:
-مولاي فرعون ابن الرب خنوم,نور الشمس المشرقة وواهب الخياى والقوة,إني يا مولاي أضرع إلي الرب أن يوحي إلي قلبك الكبير بالإغضاء عن سهوي وجهلي,كي أفوز بعفوك ورضاك"
بعد حوار مخابراتي أداره خوفو,انهار الكاهن وأوحي له أن يقتل هو ابنه بيديه,فللفراعنة تقاليد موروثة في احترام الكهنوت ورعايته لا يود أن يخرقها...التجربة هي ما تظهر معدن الإنسان تحت قشرة الحضارة المغلفة له,حين وجد الكاهن نفسه في خطر تفتق ذهنه عن فكرة شيطانية لا تليق بمن عاش عمره في خدمة الرب,وعزم أمام هيبة فرعون الحاضرة في منزله أن ينفذه,فكر علي الفور في كاتا خادمته التي أنجبت وليدها في نفس اليوم,استعار خنجراً من ولي العهد,وقرر أن يقتل هذا الولد عوضاً عن ابنه,لكن بمجرد رؤيته الأم وهي تخاطب وليدها بأن الله عوضه عن وفاة والده بالكاهن أباً وراعياً,تنهار الدنيا من أمامه وتجرف عواطفه الطيبة ما ران علي قلبه من الإثم,وبين مطرقة الفرعون وسندان الضمير أين المفر؟!يطعن نفسه بالخنجر ويدخل رعخعوف ليطيح برأس المرأة وابنها في ضربة واحدة,يأبي فرعون الفرار راجعاً لمنف كالمجرمين ويقرر جمع الكهنة لتوضيح موقفه أمامهم.
منذ هذه اللحظة سيصبح ددف رع كقطة العالم شرودنجر الحاصل علي نوبل عام 1933,التي تعتبر ميتة وحية في نفس الوقت طبقاً لقوانين الكوانتم المدهشة,فهو ميت بالنسبة لفرعون وحي في الواقع لكنها حياة ناقصة,فهو ليس ددف بن مرن رع ورده ديديت,بل هو ددف بن زايا وبشارو,وكما يتم التعرف علي موقف القطة حينما يأتي راصد خارجي ليفتح الصندوق,يجعل محفوظ بطله في نفس الوضع فلن يتم بعثه من جديد بهويته الحقيقة-ما الإنسان بغير هوية؟!-إلا عن طريق راصد خارجي سيفتح له صندوق الذكريات,وحينها سينادي"انهض فقد نوديت باسمك"شخصيتك وهويتك وطريقك الذي عليك أن تسلكه.