الجمعة، 20 سبتمبر 2019

ضحايا الشرف المزيف


في جنوب مصر عند مطلع القرن جرت جريمة قتل,تندرج تحت عنوان ما يسمي جرائم الشرف,وأصبحت حكاية تتناقلها الألسن منذ ذاع صيتها في الخمسينيات,علي يد الفنان الشعبي حفني أحمد حسن,صاحب موال"شفيقة ومتولي"الذي قدم الوقائع بأسلوب درامي محبوك, يفوح ببراعة الأدب الشفاهي الذي طالما قدم آيات فنية تنافس الروائع العالمية.
يسرد الموال حادثة قتل أخ لأخته بسبب انجرافها لعالم البغاء,بنظرة متشفية وحانقة علي المرأة بشكل عام,عبر تقديمها نموذج امرأة صعيدية بضاعتها الجنس, قال السيد المسيح عن مثيلتها من بني إسرائيل"من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر.ثم انحني إلي أسفل وكان يكتب علي الأرض,وأما هم فلما سمعوا وكانت ضمائرهم تبكتهم خرجوا واحداً فواحداً مبتدئين من الشيوخ إلي الآخرين وبقي يسوع وحده والمرأة واقفة في الوسط.فلما انتصب يسوع ولم ينظر إلي أحداً سوي المرأة فقال لها يا امرأة أين هم أولئك المشتكون عليك.أما دانك أحد.فقالت لا أحد يا سيد.فقال لها يسوع ولا أنا أدينك.اذهبي ولا تخطئي أيضاً".هذه عين الرحمة التي أطلت علي ماريا المجدلية وحُرمت منها شفيقة الجرجاوية,فكان مصيرها الشنيع يذكره الراوي بفخر"أتي بالغضب وفي إيده السكين/وقال دي لو عليلة مين يزورها/ وجه سريع وتلف منظرها/وعزل الجتة من زورها",وبسبب هذه الوحشية,بنبرة مزهوة ينسج مع الربابة تحية موسيقية,ويقربه إلي نفسه"يا أخي متولي يا جرجاوي"!
يحكي الريس حفني في الأحداث منذ التحاق متولي بالجيش حتي انجراف أخته لعالم الدعارة,ثم قتلها والحكم عليه بستة أشهر,مع تقدير القاضي والفرح العارم بالرجل بمخلص البلاد من عارها,متناولاً الواقعة من منظور ذكوري قائم علي أسلوب العنف والدم المعالج كل الأزمات بالتخلص من صاحب الأزمة,وسط طقس دموي يكتسب صفة القداسة بمحاولة استرداد شرف الأسرة المفقود,وانقلب القاتل إلي ضحية يرثي لها!
اتخذ الموال من(بطولة)متولي مادته الفنية,البداية نتعرف عليه كجندي في الجيش العظيم,يترقي فيه بفضل انضباطه حتي يبلغ رتبة باش جاويش,وفي العسكرية يضرب أحد المجندين المدللين"بالمال أهله بيكفوه",فيثور المضروب لكرامته ويجابهه بالسر الخفي"بتضربني ياجبان/روح ادفن نفسك جوه جبانة/آدي صورة أختك جوه جيبي أنا),الظهور شفيقة الأول يجئ عن طريق(صورة),وطوال الموال ستظل مجرد صورة من خلال حديث الآخرين عنها,ولن يتاح لها التعبير عن نفسها,إلا لتظهر بصورة المومس السكيرة,لا ماضي ولا ذكريات,لها جانب أحادي يُصدر لنا علي الدوام.
يترجي متولي القومندان ليصرح له بإجازة,يعود لبلده ويعرف من أبيه مآل شفيقة,يحاول الأب ادعاء موتها,لكنه يرضخ أمام إلحاح متولي ويطلعه علي الحقيقة,شفيقة ليست من النوع المعتاد الذي تضطره الظروف القاسية لبيع جسدها,فهي من أسرة كريمة,وبروح من يعرف أن كل النساء متهمات حتي يثبت العكس,يتأكد دور الذكر في إلجام الأنثي التي يسري في دمائها العهر!
يدبر خطة مع أصدقاؤه,تستقبلهم شفيقة باعتبارهم زبائن,ويقوم بجريمته غير عابئ بتوسلاتها"خدني وأتوب علي إيدك"فيكون رده"قالها يا شفيقة بعد ايه تتوبي/وتتمحكي وتقولي مكتوبي دي رقعة ما تتطلعش من توبي"يتعترف متولي بأن المصيبة ليست في شفيقة,بقدر ما يمسه منها من كرامته,وما يلحقه بسببها من مسبة,ثم ينزل بالطبول والأفراح,يتعاطف معه القاضي مؤيداً فعله,وينتهي الموال"صراحة شرف بلده".حول الموال اسم متولي ليصبح صفة يمتدح بها الرجال,قاتل أخته يتحول لبطل,الأخت لها نصيبها من الإثم باقترافها فعل ذميم,لكن القتل أفظع الآثام علي الإطلاق,من العبث معالجة ذنب بجريمة.
لصلاح جاهين وعلي بدرخان معالجة أخري,قدماها في فيلم"شفيقة ومتولي عام1979,من  خلالها تأخذ القصة مدلولات أعمق,عن شرف البلاد التي انتهكها الفقر والحرمان وضياع السند,في مشاهد شفيقة في المولد برمزيته عن الدنيا ومغرياتها التي تحرك شهوات الجياع والمحرومين,وعلي خلفية من أحداث تاريخية عن فترة حفر قناة السويس,وأعمال السخرة المقيتة التي عاني منها المصريون...معالجة تتسم بالشاعرية في الطرح وتجربة سينمائية فريدة,نأت بحساسية جاهين عن الرغبة المحمومة في الانتقام الأعمي,وصاغ رحلتها في الحياة بصورة تتماهي مع البلاد الواقعة تحت الاحتلال التركي البشع,نتفهم من خلالها منابع أزمة مصر ومواطنيها,مدركين قسوة الأقدار الدافعة إلي المحتوم.ينتهي الفيلم كتراجيديا يونانية,متولي يحمل أخته شفيقة المقتولة علي يد نخاس العبيد,سائراً بها في دروب القرية"يبكي عليها وعليه وعلي بنات الناس اللي تبيع عرضها في القحط وزمانه.
من الصعيد إلي البدو يرتحل بنا عميد الأدب العربي طه حسين في قصة "دعاء الكروان" الصادرة عام1934,وقد صدرها بقصيدة مهداة من مطران خليل مطران,يورد فيها أبياتاً يرثي بها هنادي ملقياً أصابع الاتها علي خاله القاتل:
أسأل أدمع خطب مطلولة         مقتولة في زهرة العمر
جني عليها واهم أنه              يثأر للعرض والطهر
وخامرتني حسرة خامرت       شهود ذلك المصرع النكر
أليس للأرواح في بثها           أواصر من حيث لا تدري
مأساة هذه الأسرة تنحدر من جهة الأب العابث اللاهي بأعراض الناس مما يعرضه للقتل,وبما أنه ميت علي هذه الحال فلا دية له ولا نفع للقصاص,يدفن ولا يترك لبنتيه إلا سوء السمعى,علي إثر ذلك تنفي الأم وابنتيها هنادي وآمنة,علي يد الخال بعيداً عن قبيلتهم بني وركان"...حتي صرع أبونا ورأيت كيف استقبل أمنا بأنباء هذا المصرع وكيف قسا عليها وعلينا ,لم يفكر في أنها أيمّ وفي أننا يتيمتان,وإنما فكر في الأسرة وحديث الناس عنها,وما يجر عليها هذا الفعل من عار".
سقوط هنادي نبت من الحب عندما تشكل في زهرة خبيثة,قطفتها وهي لا تدي أنها مسمومة فيها هلاكها,أضاعتها ثقتها الزائفة في المهندس الشاب الذي دأب علي إغواء الفتيات والنيل من عذريتهن,ومع افتضاح أمرها يقتلها خالها,فتسعي الأخت آمنة للانتقام ممن غرر بها,لكنها للمفارقة تقع هي الأخري في غرامه.
لا تسمح آمنة للضعف أن يستولي عليها بل هي تقاوم,ما جني علي أختها بعد أن وعت الدرس,وأبت تسليم نفسها,وحتي لو أرادت كيف تفعل وبينهما دم القتيلة ماثل في القلب والذاكرة.
تظهر مع طه حسين العقلية الجديدة المؤهلة لتفهم الناس لا الحكم عليها,الراغبة في تشريح الحدث لا تشريح الجثث,نشعر بتعاطفه مع هنادي ومثيلاتها من الفتيات اللائي يسقطن وعطفه علي ما يذقنه من مرار,أمام موجة عاتية للاتهام والرغبة في الخلاص منهن,وتمثلت لآمنة بطلات قصص يشبهن أختها في صورة أشباح حمراء,يترائين لها وقت حيرتها واضطرابها"هذه التي أمينة فقد احتز رأسها حتزازاً,وأما التي تسمي مارتا فقد شق صدرها شقاً,وأما هذه التي تسمي ملزمة يقال أنها دفنت حية ولقيت حتفها مختنقة في التراب",ظهورهن علي هذه الصورة الشنيعة لآمنة تنبئ عن رغبتهن في الانتقام المضاد ممن سلبهن الحياة,كأن آمنة استعارت من هاملت شبح الملك المقتول المطالب بثأره.
مع نجيب محفوظ في بداية ونهاية 1949,يتحد الدمامة والفقر ليدفعا بنفيسة اليتيمة التي"لم تحظ طوال حياتها بقلب يحبها ويعطف عليها,ولم تحد متنفساً عن توتر أعصابها إلا في الضحك والسخرية من نفسها وإخوتها والناس فاشتهرت بالعبث الضاحك الذي يتواري خلفه مراراً في الأعماق"إلي الشارع وحياة الليل بين طالبي المتعة السريعة,وتتخذ صورة المرأة الداعرة ملامح نفسية واجتماعية علي يد سيد الرواية العربية في خط درامي يواصل الصعود حتي يبتلعها النيل,بسبب شهوتها الملتهبة للحياة والحب والأمل الخجول في الزواج,بعد تسليم نفسها لرجل تافه لا وزن له إذا قيس بميزان الرجولة,سلب منها بكارتها لحساب لذته,فينبعث في نفسها"رغبتين متناقضتين يتناوبنها تناوباً متواصلاً,رغبة في التمرد والجموح ورغبة في الاستزادة من الظلم والتعذيب حتي الموت".
وكما في الأمثلة الأدبية والواقعية لبنات انتهت حياتهن لمجرد الشك في سلوكهن,يحول المجتمع أفراده لأدوات قاتلة,بدعوي الشرف,ولو كانت هذه المجتمعات فعلاً لها رغبة في الشرف لنهضت من كبوتها الطويلة,بالعلم والعمل والأخلاق,لكن السبب الحقيقي كلام الناس ونظرتهم للذكور المنوط بهم أن يحذوا حذو متولي,لسان حالهم كلمات حسنين الأخ الأصغر لنفيسة,ضمن أسرة كامل أفندي علي التي تضعضعت بعد وفاته,واضطرت لمواجهة الحياة عارية إلا من آمال تحدوها نحو الخروج من أزمتها المظلمة,بيد أن الظلمات تشتد عليها حتي تفقد الأسرة المكونة من الأم وثلاث إخوة لنفيسة,تماسكها ومعيشتها بهروب حسن من البوليس وانتحار نفيسة,مع إشارة لفعل مماثل من الأخ حسنين وقد أظلمت الدنيا في عينيه"لماذا لا أستهين بكلمات الناس وألسنتهم؟إنه شر لا قبل لي بالتعامي عنه!.هكذا أنا"










الأربعاء، 18 سبتمبر 2019

سارتر والآخرون


1
سارتر والآخرون
في عام 1944والحرب العالمية الثانية مشتعلة بالدمار والوحشية قبل أن تنتهي في سبتمبر1945,أشعل جان بول سارتر أشهر الفلاسفة الوجوديون,نيران أدبية لم تخمد حتي اليوم بمسرحيته"الأبواب المغلقة",مودعاً في سطورها فلسفته"الجحيم هو الآخرون",الصرخة التي انطلقت علي لسان جارسان بطل المسرحية,لتصبح هذه العبارة المدخل الأساسي لسارتر,ويتم استخدامها للحديث عن الوجودية وعلاقة الإنسان بالناس حوله.
يدور الفعل المسرحي في العالم الآخر,متمرداً علي التصور اللاهوتي والرؤي الأدبية الكلاسيكية التي يتقدمها جحيم دانتي,حيث المذنبون في عذابهم البدني المخيف,والنيران من حولهم تلتهمهم وتشويهم,هذا التصور الذي ترسخ في الذهن البشري الذي سالت عليه تصورات الغيب وترسخت داخله صورة  لهذا العذاب البدني المؤلم.
الجحيم في هذه المسرحية نسخة وجودية بتوقيع فلسفة سارتر,يصير فيها "الإنسان ذئب لأخيه  الإنسان",علي حد تعبير الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز.
جارسان رجل يعذب زوجته ويجبرها علي تقديم الإفطار له وعشيقته وهما في الفراش,و جبان فر من الحرب بذريعة الدعوي للسلام وأعدم بالرصاص,اينيز سحاقية تسببت في انتحار قريبها بعد استيلائها علي زوجته,استيل تخون زوجها وتحمل من عشيقها سفاحاً ثم تقتل طفلتهما,وجحيمهم حجرة صالون علي طراز الإمبراطورية الفرنسية الثانية(1852-1870),عذابهم يبدأ عندما يتكشف الواحد منهم أمام الآخر,يتجردون من الأكاذيب والمبررات الزائفة لأفعالهم الوحشية في حق الآخرين,يتسلط كل واحد منهم علي الآخر يعذبه ويضنيه,تجربة سارترية متفردة,عن أي فكرة أو رمز تلقنته البشرية من قبل في استشراف عالم ما بعد الموت.
الشخصيات علي المسرح طوال الوقت,الحبكة تعتمد علي الموقف,علي العلاقات الشخصية المعقدة مع الآخرين,التي اعتبرها الفيلسوف الألماني هيجل بأنها صراع طوال الوقت مع الآخرين,الآخرين لا يهتمون للنوايا ولا يدركون سوء النية أو حسنا,لا يقدرون غير الأفعال وعلي هذا الأساس يحكمون علي بعضهم.
2
"جارسان:لقد مت قبل الأوان,لم يترك لي الوقت لأحقق بطولاتي
اينيز:إنما يموت الإنسان دائماً قبل الأوان أو بعد فوات الأوان,في كلا الحالتين تكون حياة الإنسان كلها قد اكتملت وفي تلك اللحظة يجب عليه أن يصفي الحساب,فإنك لست شخصاً آخر غير حياتك."
تضيق اينيز علي جارسان كل مخارجه وتسد مسالكه؛لكي ينتزع اعترافاً بشجاعته,هذه هي الأبواب المغلقة النفسية, الباب الغرفة ينفتح عند النهاية,لكن الأبواب للتحرر الداخلي بتثبيت صورتنا التي نبتغيها في عيون الآخرين فهي الأبواب المغلفة حقاً,العذاب ليس شيئاً مادياً يهرب منه جارسان,هو الخزي والتعري,ومواجهة الآخرين بلا أكاذيب مريحة,بذرته كامنة في نفس الإنسان,أدواته النظرات والألسنة والكلمات,وحتي مجرد الشعور بوجود الآخرين يكون سبباً للألم والقلق.
يصرخ جارسان"افتحوا الباب,افتحوا الباب عليكم اللعنة,أنا مستعد لقبول كل شئ...آلات التعذيب,والقلابات المحمية,والرصاص المنصهر,والملاقط والأغلال وكل ما يحرق ويسلخ ويمزق,سأتحمل أي عذاب تعرضونه علي,أي شئ أفضل من عذاب الفكر,من هذا الألم الزاحف الذي يقرض"...وينفتح الباب ولا يخرج أحد,الحرية عجز عن تحملها أي واحد منهم,هذه الحرية التي ينظر لها سارتر علي أنها أمر يخشاه الإنسان ويتجنبه ورغم ذلك قدره المقدور,بعض البشر يطاردون الحرية وبعضهم حريتهم تطاردهم!الحرية تنتج عن خيار والخيار يعقبه فعل.
"جارسان:ألن يأتي الليل أبدا؟
اينيز:أبداً
جارسان:وسترينني دائماً؟
اينيز:دائماً"

3
النهار شباب دائم ولا فرصة في ليل مسود عاتم يحجز بينهم ويريحهم من عذاب الانكشاف وتبادل النظرات,الذي يكشط عنهم جلدهم المستخفيين تحته.
"جارسان:(.....)كل هذه النظرات منصبة فوقي تلتهمني(يلتفت فجأة)ماذا؟مجرد اثنتين؟وكنت أظنكما أكثر عدداً(يضحك)إذن,هذه هو الجحيم لم أكن لأصدق أبداً,هل تذكران كل ما قيل لنا عن غرف التعذيب ,والنار,والوقود والطين المحترق,يالها من حواديت عجائز!ليست هناك حاجة إلي أسياخ الشوي...إن الجحيم هو الآخرون".
لو كان كوجيتو ديكارت"أنا أشك إذن أنا موجود",فكوجيتو سارتر"أنا أتعذب وسط الآخرين إذن أنا موجود",الأنا الديكارتية محملة بالشك والشك نوع من العذاب,وليد الحرية التي لا تلزمنا بالإيمان بشئ ما,والأنا السارترية معذبة بالفكر ممثلة لآلام الطابع المأساوي لحياة الإنسان ووجوده"إذن لنستمر"
الغرفة بدون مرايا,لا يرون أنفسهم إلا في عيون بعضهم,غياب المرايا مدلول بالضياع وفقدان الذات.
استيل:أشعر بشعور غريب(تتحسس جسدها)ألا تشعرين هذا الشعور,حينما لا أري نفسي,أروح أتساءل عما إذا كنت موجودة حقاً أم لا فأتحسس جسدي لأتأكد,ولكن هذا لا يجدي كثيراً.
اينير:هذا من حسن حظك,أنا فأحس بنفسي دائماً في عقلي,إنني أدرك وجودي بشكل مؤلم(....)انظري في عيني ترين نفسك فيهما.
استيل:أوه إنني هناك!ولكنني ضئيلة جداً لدرجة إنني لا أري نفسي بوضوح.
تتعرف استيل علي ذاتها عن طريق الآخر المغاير,ويندمج وجود الأنا بوجود الغير,ويصبح وسيلة لتعرف الذات علي نفسها"ضئيلة جداً"تتلاشي الشخصية لحساب العين الناظرة تري نفسها بواسطة الآخرين لا برؤيتها هي الخاصة.

4
هذا ما يدركه جارسان وهو ينهر استيل"إن نفسي تشمئز منك أكثر مما تشمئز منه.لا أريد أن أغوص في عينيك أنت لزجة وناعمة,أنت مستنقع وأخطبوط".
الجنس عنصر فعال وحاضر في المسرحية,تستمر رغباتهم الشبقية بعد موتهم لتزيد من معاناتهم,اينير في استيل متوقدة,ورغبة استيل في جارسان متوهجة,ومن تلك العاطفة الجنسية يتولد بينهم الكراهية,لإداراك كل واحد منهم استحالة امتلاك الآخر والالتذاذ به,والتكامل معه...أليس الآخرون هم الجحيم؟!
في عمل آخر لسارتر وهو سيناريو سينمائي بعنوان"تمت اللعبة"لم يكن الجحيم هو الآخرون,بل كان الآخر هو الفرصة الوحيدة للعودة مجدداً للدنيا عن طريق الحب,بيير يموت قتيلاً علي يد أحد الواشين للشرطة,وتموت إيف مسمومة بيد زوجها,ولم يصعدا لجحيم أو نعيم,ففي جو فانتازي يليلق بالسينما وإمكانياتها الفنية,يختلطان مع الأحياء بصورة غير مرئية,ويجدان فرصتهما للعودة للأرض بشرط أن يدوم حبهما لمدة24ساعة,الإنسان هنا هو طوق نجاة الإنسان,الحرية تترصدهم ويختار بيير,هما من عالمين مختلفين,بل متضادين,إيف أرستقراطية برجوازية زوجة سكرتير الجيش وبيير من البروليتاريا العاملة يخطط للثورة,فهما علي خط متضاد متصادم,وبسبب خوفه علي زملائه لا يعود في موعده ويقتل وتضيع فرصتهما  في العودة للحياة من جديد,يفشلان ويتقرر مصيرهما المحتوم,يتقابلان في الحياة الأخري مع شخصين آخرين يودان تكرار التجربة:
"يسأله الرجل
أنستطيع حقاً أن نحاول أن نعيش الحياة ثانية؟
يتطلع بيير وإيف إلي بعضهما البعض في تردد.

يبتسمان برقة  للاثنين
ينصحهما بيير:
5
حاولا
تغمغم إيف:
حاولا علي كل حال".
رغم كل شئ تستحق الحياة محاولة أخري.
قدم سارتر صورتين للفرد في مواجهة الآخر,واحدة جعلت منه الجحيم والآخر صنعت منه السعادة,والنموذجان موجودان,ففي النهاية لا يمكن رؤية العالم بهذا المنظور السوداوي طوال الوقت,عبء هذا الاختيار في طريقة الاتصال مع العالم يقع علي عاتق الإنسان نفسه...جارسان أم بيير؟













الاثنين، 2 سبتمبر 2019

أمل أسماء


قدمت هند صبري في فيلم" أسماء"للمخرج والمؤلف عمرو سلامة,معادل سينمائي للعجوز سانتياجو في رواية الأديب الأمريكي إرنست هيمنجواي"العجوز والبحر",تحت إطار أن الإنسان قد يتحطم تحت ضغوط الواقع,لكنه لا يستسلم,وهكذا نري شخصية أسماء حاملة فيرس الإيدز والمرارة,المحقونة بمسكنات لتخفيف آلامها المتوحشة,حولتها من فلاحة قوية نشيطة,تصنع السجاد بمهارة وتقف أمام الرجال في الأسواق,إلي امرأة متهالكة يخرج منها الكلام بطلوع الروح,وكأي أم حبتها الطبيعة معني الأمومة,لا تضع لآلامها اعتباراً أمام مستقبل ابنتها,فكل ما تقوم به بعد وفاة الزوج الذي نقل إليها المرض بعد التعدي عليه في السجن,عقب قتله خطأ من صفع وجهها في مشاجرة بينهما,لخاطر البنت ولخاطر ذكراه المحفورة في قلبها كامرأة محبة,ضحت بجسدها في سبيل الحصول علي جسد آخر,يرث أرض أبيه ويحفظها من الضياع,فتتبادل معه الحب عارفة بالمخاطر التي تحيط بها بعد إيهامه أنها بالفعل التقطت العدوي منه,بينما هي حتي تلك الليلة سليمة تماماً.
بأداء هامس يشي بالضعف البدني الذي تتفجر منه قوي روحية,تنبعث منها لتقف في وجه الناس الذين لا يرحمون ولا يتركون رحمات الله تتنزل في أرضه,تواجه أسماء المجتمع بمرضها في إحدي البرامج الفضائية,مع مذيع في البداية لا يهتم سوي بالشو الإعلامي المرتقب,لكنه مع كلماتها المؤثرة في برنامجه التي ختمتها بـ"أني لما أموت مش هاموت بالمرض بتاعي...أني لما أموت هاموت بالمرض اللي عندكوا انتوا",عندها نراه يقدم لها مبلغ 300ألف جنيه كتبرع علي الهواء دون ذكر اسمه باعتباره فاعل خير,في مشهد دال علي قوتها النابعة من إرادة مصرية أنبتتها أرضنا الخالدة,بفضلها تغلبت علي أمراض المجتمع المزمنة المتعلقة بالجشع والنجاح علي حساب الآخرين,فالمذيع يعتبر نفسه صراحة يتاجر في مشكلات الناس كمهنة يرتزق منها,وفي لحظات نادرة كهذه يتجلي معدن الإنسان الحقيقي الذي تغطيه طبقات الصدأ في ظل ظروف متردية لم تبق الراكب راكب ولا الماش ماش كما يقولون في مثل شعبي عن تبدل الأحوال والأخلاق.
تسير أسماء بعد ظهورها في التليفزيون شجاعة ومشرقة لها نظرة تجمع بين التحدي والتصالح مع الذات,ووجه مبتسم يذكرنا بأسماء الشابة في أيامها الحلوة,برعت هند في إبراز التحول والتناقض بين المرحلتين,كما أدي العملاق سيد رجب دور الأب قليل الحيلة,الذي يتمني مساندة ابنته المريضة لكنه لا يعرف كيف,أما ماجد الكدواني بالسهل الممتنع يؤدي شخصية المذيع محسن بأسلوب قريب الشبه بمذيع آخر شهير,بينما الفنان أحمد كمال بدور مريض الإيدز, في كل مشاهده يعلن عن موهبة كبيرة لم تحسن السينما استغلالها حتي اليوم,وقام بدور الزوج هاني عادل بعيداً عن الافتعال والاستسهال الذي أبعداه عن قلوب المشاهدين في أعمال أخري,من هذه القماشة الفنية صاغ عمرو سلامة فيلم عن أمراض الذات وأوبئة المجتمع,وبما أني أحمل جراح شخصية من نظام التعليم المقيت في مصر,أنوه بمشهد طبيب الجراحة المتعجب من خوف الأطباء من إجراء عملية المرارة لها,واعتبار نظام التعليم البائس أحد أسباب أزمتها,وأقول بل هو السبب الرئيسي لأزمة مصر الكبري.
في لقطة لا تتعدي ثوان,يدمج المخرج بين شخصية أسماء وشخصية فايزة(بشري)في فيلم(678) للمخرج محمد دياب,حيث تهبط من نفس الأوتوبيس الذي تصعد إليه أسماء,في تجربة لخلق عوالم سينمائية متحدة من شخصيات السينما المصرية,ويبدو للمشاهد كأن الشخصيتان تستقيان آلامهما من منبع واحد,وهو المجتمع الذي يرمز له بالأوتوبيس الذي يهين كرامة وآدمية الإنسان,فركابه يتحرشون يومياً بفايزة مما يفقدها شعورها بالكرامة,وتتحول لمعتدية تطعن المتحرشين في ذكورتهم بآلة حادة عقاب توقعه علي المجرم وأداة الجريمة في ضربة واحدة,نفس هؤلاء الركاب من تخشاهم أسماء ويخشونها,مما يعرقل مسيرتها العلاجية,وزواج ابنتها حلمها الذي تعيش لأجله,ومن الفيلمين تُستدعي عبارة سارتر"الجحيم هو الآخرون"...وإني علي يقين بوجود آخرين هم النعيم لإخوتهم في الإنسانية,متوارين ونادرين...لكن الأمل معقود عليهم.