الأحد، 3 يوليو 2022

ترنيمة ديكنز الخالدة

 

 

في ديسمبر تتجمد الدماء في العروق,وتغدو السماء مكفهرة غاضبة منذرة بليال طويلة يشع منها البرد والصقيع,لكنه يحمل معه رغم قسوته الظاهرة رحمة غامرة,كأحد أطيب أوقات العام علي الإطلاق,فهو شهر ميلاد طفل السيدة مريم الذي جاؤه الرعاة عند ميلاده وسجد له المجوس حاملين الهدايا للطفل المبارك الذي سيصبح السيد المسيح رجل المحبة والسلام صاحب التعاليم السمحة ,التي دكت قساوة القلوب ليجيئ ميلاده معلناً عصراً جديداً به سيبدأ تقومينا المعاصر,وكان ذلك في 25ديسمبر-7يناير لاختلاف التقويم بين الكنائس-ذلك الشهر ملؤه الأغنيات الحلوة الفرحة بمقدم العيد,في سمعي تترنم فيروز "ليلة عيد ليلة عيد,الليلة ليلة عيد,زينة وناس صوت أجراس عم بترن بعيد صوت ولاد ثياب جداد وبكرة الحب جديد",وماجدة الرومي"ولد المسح هللويا,ولد المسيح هللويا",والأنشودة الرسمية we wish" you a merry Christmas" ليتدفأ قلبي وسط زمهرير الرياح الصاخبة وأبتهج رغم قرصة البرد,بقدوم عام جديد ذكري لميلاد طفل بيت لحم,والميلاد يحمل معه بذور الألم والسعادة,وياله من طفل ويالحكايته من حكاية,درس للأدباء وكتاب الدراما كما هي درس للمؤمنين بالرسالات السماوية,حكاية مشحونة بالمغامرة والصلابة النفسية أمام تهديدات لا يقدر عليها أعتي الرجال,طوال حياته عاش مهدداً,والعجيب أن ميلاده الذي كان متواضعاً بين الخوف والرجاء, يمنحنا الآن والبهجة وجو كرنفالي ساحر,الشجرة وسانتا كلوز,والتمنيات الطيبة بعام جديد يعالج جراح العام الفائت,ويهدئ آلام المكروبين والمعذبين في الأرض,أجل نكبر عاماً وندنو من نهايتنا المحتومة علي كل ابن أنثي,لكن كل إنسان يتمني أن يحقق في ذلك العام ما طارده واستعصي عليه عمره الفائت كله,كل تفصيلة في الكريسماس تستحق الاحتفاء ولنبدأ من بعيد...هناك في فلسطين نتجه نحو السيدة الحامل دون أن يمسهها بشر"قال كذلك قال ربك وهو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضيا.فحملته فانتبذت به مكاناً شرقيا"إنها المطهرة التي اختارها الله لتلد أحد أنبل من عرفهم التاريخ,إن قلبي ليهتز كل مرة أقرأ فيها وصاياه المؤثرة,أسمعه فوق الجبل يصيغ للإنسان معني لو عرفه,لتغيرت القلوب والنفوس للأفضل,ولحل الجمال محل القبح والخير محل الشر"سمعتم أنه قيل:عين بعين وسن بسن.وأما أنا فأقول لكم:لا تقاوموا الشر,بل من لطمك علي خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً.ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً.ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين.من سألك فاعطه,ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده.سمعتم أنه قيل:تحب قريبك وتبغض عدوك.وأما أنا فأقول لكم:أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم.أحسنوا إلي مبغضيكم,وصلوا لأجل الذين يسيئون لكم ويطردونكم,لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات,فإنه يشرق شمسه علي الأشرار والصالحين,ويمطر علي الأبرار والظالمين.لأنه إن أحببتم الذي يحبونكم فأي أجر لكم؟أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك؟وإن سلمتم علي إخوتكم فقط,فأي فضل تصنعون؟أليس العشارون يفعلون ذلك أيضاً؟فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل"إنه لخص كل الرسالات السامية في العالم بدءَ من مصر القديمة التي أشرق فيها فجر الضمير لأول مرة علي البشرية,حتي الرسالة المحمدية المنذورة لخير الإنسان في العالم,وقد أجلت المسيح وأمه,يوم فتح مكة أمر النبي بطمس الصور داخل بيت الله فطمست"ووضع كفيه علي صورة عيسي بن مريم وأمه عليهما السلام وقال:"امحوا جميع الصور إلا ما تحت يدي"فرفع يديه عن عيسي ابن مريم وأمه"سيصبح الطفل رجلاً علي مشارف الكهولة حاملاً رسالته للإنسانية في مواجهة القيصر والخبثاء من اليهود,معلناً أنه ملك أورشليم وسيُستخف به وسيسخرون منه كما يفعل الناس دوماً مع عظماء العالم,أين هذا النجار الفقير الذي يدعي أنه المسيح من ملك داود وسليمان,اليهود يريدون ملكا محارباً كهذين الجبارين لا رجلاً رقيقاً ينادي بالحب والسلام بين الأنام,ويتعرض لمحنة وأي محنة,يطل يهوذا وألف يهوذا بوجوههم القبيحة ليخونه ويسلموه إلي مصيره المحتوم,كما سيسلموا أتباعه الذين لم يعرفوا العالم إلا أنه مكان للقلب الطاهر والروح السامية,وعلي اختلاف نهاية القصة بين المسيحية والإسلام إلا أنهما الدينان الوحيدان في العالم المعترفان بالسيد المسيح المقرب من الله علي كل حال في نظر الديانتين,فأي رابطة أقوي لنحتفل سوياً بالميلاد غير عابئين بالأفكار الكريهة التي طغت علي العقل المصري,في زمنه المتردي الردئ...إنه الكريسماس يا سادة.

دعونا نستحضر روحه الجميلة عن طريق الأديب الإنجليزي الكبير تشارلز ديكنز,صاحب رواية"ترنيمة عيد الميلاد" أجمل القصص التي دارت حول الكريسماس وأكثرها رواجاً منذ صدورها عام 1843,وفي نفس العام بدأت لأول مرة عادة تبادل كروت التهنئة بالكريسماس,فأصبح الكارت والرواية من تقاليد العيد في الغرب وجعلت ديكنز هو الرجل الذي اخترع الاحتفال بالكريسماس,فقد كان ذلك العيد يمر علي العالم دون احتفاء كبير وبعد روايته أصبح أشهر الأعياد كأنه اكتشفه من جديد! كعادة الأدب العظيم يمكن للقارئ الإحساس به في أي زمان ومكان,فما زال شكسبير يحيرنا بهاملت وديوستوفسكي يؤلمنا بالإخوة كارمازوف وهوجو يبكينا مع البؤساء,وديكنز يعلمنا نبذ الخبث والبخل مع العجوز ابينيزر سكروج بطل روايته نبيلة المضمون والهدف,إنها لندن العصر الفيكتوري في القرن التاسع عشر عشية عيد الميلاد,البرد والضباب يلفان المدينة,وينسكبان علي بيوتها ومحلاتها من شقوق الأبواب,الظلام حل مبكراً جداً,فأضحي النهار ليلاً,والكل سعيد ومبتهج حتي المشردين في الشوارع,عدا شخص واحد اسمه سكروج,عجوز جامد الكف مصدود عن الخير بلا مشاعر ولا أحباب,يرفض دعوة ابن أخته المتوفية لتناول العشاء معهم,وماهو الكريسماس في نظره؟مصاريف وفواتير تنتظر الدفع,وسنة يخسرها الإنسان من عمره دون أن تزداد حصيلة نقوده,وتظهر طبيعته العدوانية وكراهيته للبهجة في قوله-المقتطفات من ترجمتي-"إذا كان الأمر يعود لي,فكل أحمق يتفوه بعبارة:عيد ميلاد مجيد,ينبغي غليه في حلوي البودينج الخاصة بعيد الميلاد,وأن يدفن وفي قلبه وتد مغروز",يدافع ابن الأخت معبراً عن معني الكريسماس الروحي"إنه وقت جميل ملؤه التسامح والإحسان والبهجة,إنها الفترة الوحيدة من العام الطويل الذي يفتح فيها الناس قلوبهم المغلقة رجالاً ونساء,ويتذكرون من هم أدني منهم علي أنهم رفاق رحلة واحدة نهايتها الفنا,وإذن يا خالي علي الرغم من أن الكريسماس لم يضع ولو خردلة من الذهب والفضة في جيبي,فأنا علي يقين أنه أهدي لي أموراً طيبة,وسيظل يفعل ذلك,وليباركه الله",كل ذلك بالنسبة له كلام فارغ أو كلمته الشهيرة"bah!humbug",يرفض الصدقة علي المعوزين والمشردين ليتدفأوا ويأكلوا ليلة العيد,ويوبخ سكرتيره بوب كراتشيت,علي أنه سينقطع في الغد عن العمل لقضاء الكريسماس مع أسرته,ويعتبرها مناسبة سنوية لالتهام ثلاث شلنات من جيبه دون وجه حق,ثم يغادر مكتبه ويتجه لمنزله ليري شبح شريكه مارلي الذي مات منذ سبع سنوات,فأخذ بيته ولم يتأثر بموته في خضم نهمه لتكديس الثروة,وفي ليلة الميلاد سيولد سكروج من جديد,عندما تزوره ثلاث أرواح متتالية,روح عيد الميلاد الماضي,فنكتشف مآزق حياته التي شكلت عقده النفسية,والثانية روح عيد الميلاد الحاضر,وفي ذلك الفصل يبرع ديكنز في الوصف السردي الأخاذ لاحتفالات الكريسماس البهيجة,المشحونة بالحيوية والخفة,تبرز حساسية ديكنز الخاصة نحو عيد الميلاد,والثالث شبح عيد الميلاد القادم المرعب,الذي ينذر سكروج بنهايته المؤلمة وحيداً مكروهاً لو لم يتبدل حاله,وفي النهاية يصبح سكروج كطفل صغير ويغدو صديقاً لبوب كراتشيت الصغير ويدعم أسرته الفقيرة في مواجهة الحياة ويصبح أباً ثانياً للطفل العاجز تيم الصغير ابن بوب,ونجاة تيم من تهديد الموت والفقر بشارة ديكينزية وأمل ينبعث من قلب كاتب كبير عاني الفقر والظلم تجاه جميع أطفال العالم,ويتحول سكروج من شخص بغيض ثقيل الروح قاتل للبهجة,إلي أكثر إنسان يعرف كيف يحتفي بالكريسماس ويقدر حضوره السنوي.

الأعمال الأدبية العظيمة من المستحيل تلخيصها أو إعادة سردها,فقوة السرد مقترنة بالمغزي الروائي,والتفاصيل التي تشكل اللوحة الأدبية لا تتوفر إلا لأصحاب القلوب الكبيرة أمثال ديكنز,وللأسف حتي اليوم لا توجد ترجمة عربية تليق بما أبدعه تشارلز ديكنز في تلك القصة,عن روح الكريسماس وولادة الإنسان من جديد إذا اخلص من الطمع والشر اللذين يحجبان عن بصيرته جمال العالم,وستبقي البشرية كل كريسماس تقرأ ترنيمة ديكنز لأنها من الأعمال العابرة للزمن والقوميات,ملكاً لكل روح بشرية في العالم,فالروايات المحلقة في سماوات الإنسانية الباحثة عن خير الإنسان وحريته من القيود المكبل بها في العالم الدنيوي,لاتبلي مع مرور السنوات,بل تزداد وهجاً وإمتاعاً.

أمدت ترنيمة عيد الميلاد السينما والمسرح والتلفزيون بعشرات الاقتباسات,ودخلت كلمة",scrooge"المخيلة العامة كدلالة لي البخل وضعة النفس مشيرة إلي ذلك الإنجليزي العجوز,الذي سيتحول إلي أحد أجمل الشخوص الروائية المؤثرة في ملايين القراء,وستشحذ همتهم في عمل الخير ومساعدة من حطمتهم الحياة,من تلك الاقتباسات مسلسل بطولة الفنان أسترالي الجنسية بريطاني المولد"جاي بيرس"بطل فيلم momentoلكريستوفر نولان,صدر عام2019وقدم فيه رؤية سوداوية مغايرة لحد كبير للنص الروائي الأصلي,فقد تخلت المعالجة الدرامية عن الروح الفكاهية التي زرعة ديكنز في روايته,واستبدلت رؤية فلسفية بليغة المعاني أوضحت لنا النقاط العميقة في نفسية وعقل سكروج,ليصبح رمزاً لإنسان العالم الصناعي الساعي للمال علي حساب ممتلكات ودماء البشر,غير عابئ سوي بالربح الوفير,يزن كل شئ بالنقود والصكوك البنكية,فيعري زوجة بوب كراتشيت أمامه في مقابل دفع تكلفة عملية جراحية لتيم الصغير فقط ليثبت أن كل شئ في العالم يمكن شراؤه بالمال حتي الشرف والإخلاص,وهو ليس فقط كاره للكريسماس بل متشكك فيه,ويتساءل عن دليل يؤكد أن السيد المسيح ولد في الشتاء,وكيف للجمال في فلسطين أن تسير علي الثلج,ومواجهته مع الأرواح يعتبرها معركة بين منطقه العقلي الصارم والأوهام والخرافات,لكن مع مرور الوقت تنبعث في كيانه المظلم نقطة نور...هوي ذاتها التي انبعثت في الشخصية الروائية من قبل,ذلك المسلسل المكون من ثلاث حلقات الذي عرض علي قناةbbc one من إخراج"نيك ميرفي"يدل علي أن المادة الروائية لديكنز مازالت خصبة مهما امتتح منها المؤلفون والمخرجون.

وستظل الترنيمة تسمع كل عام مقروءة ومسموعة ومرئية,رغم العدد الهائل من الاقتباسات ماتزال روايتنا رحيبة ومرحبة بمئات المعالجات ووجهات النظر المختلفة,عن أزمة الإنسان الأزلية...الخروج من أسر الذات والصدمات النفسية المؤثرة,والانفتاح علي العالم والمشاركة في بناؤه بدلاً من الرغبة المكبوتة في تدميره.