الأحد، 5 يونيو 2022

ليلة في محبة الشعر

 

وسط طغيان المادة علي الروح الإنسانية والتسابق المحموم لأمور نظنها هامة لكن في الحقيقة هي فارغة المضمون,مفتقدة للمعني إلي حد مفزع,تندر في حياتنا الليالي الصافية التي تعيد للواحد منا توازنه,بعد معارك يومية بينه وبين ظروف الحياة,وبينه وبين نفسه,ومن تلك الليالي كان لي النصيب بأن أحظي بواحدة منها بجاليري بيت جلال أمام قصر عابدين التاريخي الشاهد علي تاريخ مصر منذ القرن التاسع عشر حتي اليوم,وسط زحام القاهرة وصخبها عقد هناك احتفال لتكريم الفائزين بالمسابقة الأولي لمبادرة ستاند شعر برعاية الشاعرة عبير عبد العزيز.

التكريم السادس لي في سنواتي الثلاثين – سرعان ما تلاشت تري أين ذهبت بحلوها ومرها؟!-التي قضيتها محاولاً فك لغز الآداب والفنون قارئاً وكاتباً,دخلت مبني القنصلية الصينية وكرمتني القنصلة وصعدت علي مسرح دار الأوبرا بالقاهرة,وكانت الجوائز ذات عائد كبير هواتف محمولة ومبالغ مالية كبيرة,لكن في بيت جلال الصغير وجدت الحميمية والألفة,رغم أني لم أطل المكوث بسبب ضرورة عودتي لمدينتي دمنهور في موعد محدد,ورأيت تصميم وأمل وصدق في كلام عبير عبد العزيز وأحلام كبيرة في ذهنها للشعر والشعراء,وقبل كلامها ضربت مثلاً فعلياً عن العطاء والعمل الواقعي,بتوزيعها علي الفائزين لوحات تشكيلية من مقتنياتها الشخصية,ولم تسع للدعاية لنفسها مع أن أسهل شئ هذه الأيام الدعاية والشهرة لسهولة وسائل الاتصال التي نقلت العالم لمراحل من التقارب وسرعة نقل المعلومات,لو شهدها علماء وأدباء القرون الماضية لقالوا أن الخيال العلمي أصبح واقعاً معاشاً وهو بالفعل كذلك,بل ظلت هويتها مخفية حتي موعد الحفل,ولم تنشره علي مواقع التواصل الاجتماعي!

كلما أستأذنت منها في الرحيل استبقتني بحرارة جعلتني لا أملك سوي المكوث,حتي وصلت"التورتة"لتفاجئنا بأن اليوم عيد ميلادها وقررت الاحتفال به في تلك المناسبة,وأعتقد أن أمامها عاماً حافلاً من العمل والعطاء وتشجيع شعراء قصيدة النثر,ذلك الاتجاه الشعري المعبر والمناسب لتيار العصر,فكما شكل العرب القدماء لغتهم الشعرية وصيغتها المرسومة بشواطئ البحور وأقفال القافية, علي الشعراء المحدثين تكوين عالمهم الشعري بلغتهم الخاصة وشكله المتغير,فأمام الزمن حتي قوانين العلوم تتبدل فيحل ببراديجم يطيح بالسابق,كما فعل مثلاًأينشتاين مع نيوتن وداروين مع أهل الأرض جميعاً!

حول النصوص الفائزة أسهب الشاعران عضوي لجنة التحكيم عاطف عبد العزيز وجمال فتحي في التأكيد علي نقاط معينة أفادت جميع الحضور ومنهم ابن عم لي جاء معي,وهو شاب صغير ليس له اهتمام بعالم الأدب لكنه تنبه وناقش معي في طريق العودة ما قالوه واعتبر الوقت المخصص للجنة التحكيم والشاعرة الراعية للحدث أجمل وقت في الاحتفالية لأنهم أشبعوا عقله وجعلوا آفاقه تتفتح لموضوعات غائبة عن عقول الأجيال الشابة,بل وكان له اقتراحات حول خطط عبير عبد العزيز لكنه لم يمتلك الشجاعة للبوح بها.

إنني شهدت ليلة صادقة تستأهل المشوار الطويل من مدينة حورس للعاصمة التي قهرت غزاتها علي مر التاريخ,وعدت متفائلاً بمستقبل جديد للشعر ترعاه سيدات يسعين للرقي العقلي والنشاط الوجداني ويهبن بكرم ويتفانين في خدمة الأدب كعبير عبد العزيز,فالمرأة المصرية منذ إيزيس هي المحرك الرئيسي والدينامو الحقيقي للمجتمع المصري,ولذلك يسعي المتطرفون وأعداء التقدم لتقييدها بكل قوتهم,لأنها إذا ظهرت بصورتها الحقيقية فقد آن للنور أن يُفني جيوش الظلام,وقامت الحقيقة لتمحو الباطل...إنني أدعوها أن تستمر في سعيها الدؤوب وعطائها,وتنفيذ خطتها لاكتشاف الشعراء وتشجيع القلوب والعقول,فالكل يشكو ويتذمر وقلة فقط هي من تعمل في صمت فهي الشخصية الحقيقية التي تستحق التكريم الليلة,وفي انتظار ليال عديدة تجدد الراكد وتدفع المتعطل,وربما يتشجع آخرون فينبت في عالم الشاشات وغابات الأسمنت زهرة نتركها للأجيال القديمة لعلم يذكروننا بالخير.