الأحد، 19 يناير 2020

الخوف والزمن



الزمن تجربة يومية يحياها الإنسان,ومع ذلك لا يدركه أبداً؛لأنه من أعقد المشكلات العلمية علي مر التاريخ,حارت فيه عقول النوابغ من كافة الاتجاهات وأرهقهم دراسة وبحثاً,ولم يظفروا منه بطائل,تأكيداً لعبارة"من أشكل المشكلات توضيح الواضحات",والزمن ليس هو المقصور علي توقيتنا البشري المحبوس في ساعة يد أو ساعة ذرية,إنما هو ذلك المجهول الهارب أبداً.
في الفيزياء الكلاسيكية يعرف الزمن بأنه تعاقب الأحداث  من نقطة في الماضي,مروراً بالحاضر,متجهة إلي المستقبل,يصف هذه الحركة الزمنية الفلكي البريطاني آرثر إدنغتون باسم"سهم الوقت"في كتابه"طبيعة فيزياء الكون"عام1927,شارحاً فيه طبيعة جريان الزمان في اتجاه واحد,بهذا الرأي اعتقد شخصيات ساهمت في تشكيل الحضارة البشرية كأرسطو نيوتن,وقرروا وجود زمان مطلق مستقل عن البعد المكاني,وهذا لا يجانب تجربتنا البشرية في التعامل مع الوقت الأرضي المحدود.
وبظهور النظرية النسبية عام1905قلب أينشتاين-الاسم الأشهر في علم الفيزياء- الكون وهو في السادسة والعشرين,ليصور لنا بأرقامه ومعادلاته لوحة سريالية ويمنحنا عين جديدة نطل منها علي الكون الهائل,ويتحول الزمن مع هذه النظرية إلي مادة للفانتازيا تدير الرأس من فرط جموح خيالها,وقبل عشر سنوات من نشر أينشاين لثورته الفيزيائية علي نيوتن ببراديجم علمي مغاير ثم تبعه الرياضي الفرنسي هنري بوانكاريه بفكرة مماثلة لكن عبر الأرقام الرياضية,كتب الأديب الإنجليزي روايته"آلة الزمن",كأنه أراد أن يفتتح زمن القرن العشرين الذي شغله سؤال الفيلسوف الألماني لودفيج فيتجتشتاين"إلي أين يسير الحاضر حين يصير ماضياً,وأين هو ذلك الماضي؟"
النظرية تنفي أي ثابت كوني ووضحت ديناميكية الكون الدائمة,وهو ما حير نيوتن فتخيل أن في الكون نقطة ثابتة يمكن قياس الحركة استناداً لها,واعتبرت الزمن نسبي حسب سرعة الجسم,ولأن كل الأجسام متحركة فكل واحد منها له زمنه الخاص,قد يتباطأ وقد يسرع كمفارقة التوأمين حين يسافر أحدهما في الفضاء ويعود ليجد أخاه عجوزاً هي مفارقات منطقية بالنسبة للمنطق الإدراكي لكن في العالم الفيزيائي حوادث عادية,وزمن نفسي عبر عنه العالم الفيزيائي والأديب الأمريكي ألان لايتمان"مأساة هذا العالم أنه لا يوجد أحد سعيد,سواء أكان لصيقاً بزمان الألم أو بزمان الفرح.مأساة هذا العالم أن كل فرد فيه وحيد.ذلك لأن حياة في الماضي لا يمكن اقتسامها مع الحاضر,فكل شخص يلتصق بزمان ما,يلتصق به وحيداً".ومع التقدم في العمر يشعر الإنسان بتسارع الزمن لتباطؤه هو بيولوجياً,ولاستغراقه في هموم تنسيه الإحساس بالوقت.
 وحل مصطلح "الزمكان"في النسبية الخاصة وانحناؤه في النسبية العامة,محل المفهوم النيوتوني عن زمن يتقدم في مسار مستقيم,واندمج المكان والزمان في بعد رابع عكس ما تصور ديكارت في القرن السابع عشر عن أبعاد ثلاثة بمعزل عن الزمن,مع ذلك بطريقة ما نحن نحيا في الماضي كل ما ندركه من حولنا يحتاج لوقت لا يمكننا قياسه إلا أنه موجود,كالصوت حين يحمله الهواء للأذن,والمناظر التي ينقلها الضوء لأعيننا.
بالمقاييس الأرضية المقيدة قوانين نيوتن وهندسة إقليدس فعالة وناجحة ومازالت تعمل حتي اليوم,لكن العالم الفضائي فهمه الإنسان وارتحل فيه بفضل نظرية أينشتاين التي نتجت عن عبقرية جبارة,ولإدراك هذا الزلزال العلمي لابد من معرفة أن المجتمع العلمي بعد نيوتن ظن أن العلم قد اكتمل ولم يعد هناك جديد ليقدمه,بعد أن حُلت كل مشاكل الطبيعة!!نظرية أينشتاين أثبتتها التجارب المعملية والملاحظات الفلكية الخاصة بكون يتمدد باستمرار,ما يعني ضرورة وجود نقطة بدأ عندها تعرف بالانفجار الكبير,وفي الواقع هي أكثر دقة من فيزياء نيوتن وأوسع قابلية للتطبيق استشرافاً للآفاق الكونية.
اختلف الفيلسوف الفرنسي برجسون مع أينشتاين,في نقاش دار بينهما صرح فيه أينشتاين بأن "الزمن غير موجود",ورد برجسون"وحدها اللحظة الحاضرة مدركة ضمن حركة أبدية هي لحظة الحقيقة"
الروائي مارسيل بروست صاحب الزمن المفقود دار في فلك نسبية الزمن دون متفقاً مع أينشتين دون وعي علمي بالحدث الفيزيائي. كتب في روايته"إن ذاتنا الحقيقية تتجاوز ترتيب الوقت ونظام الزمان بل ويمكنها بلوغ الجوهر الدائم والخفي للأشياء"
وفي خطاب لصديق له يقول"كم أحب أن أحدثك عن أينشتين!لقد قيل لي أن أفكاري مشتقة من أفكاره والعكس صحيح,وأنا لا أفهم كلمة مما يقوله في نظرياته,فلست أعرف الجبر.وأنا أشك أنه قرأ رواياتي,يبدو أن لدينا طريقة متشابهة في النظر إلي الزمن"
أما نيتشه فنري عنده حدس بنسبية الزمن في نظريته عن العود الأبدي والتكرار لأحداث الكون"إن كل مسار علي خط مستقيم إنما هو مسار كاذب,فالحقيقة منحرفة لأن الزمان ذاته يسير في بداية ونهاية دائرية",وهو نفس ما شرحه هوكينج عن نظرية الانفجار الكبير حيث سينكمش الكون وينفجر مرة أخري علي نفس النسق مرات لا حصر لها.
وفيلسوف الشعراء العرب أبي العلاء المعري رؤية لمتاهة الزمن:
ولو طار جبريل بقية عمره          من الدهر ما استطاع الخروج
للزمن وجه آخر,نجده في الفن,دون معادلات ولا أرقام, نشهده ينساب في طيات الأعمال العظيمة,كثلاثية نجيب محفوظ,والبحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست,وأفلام كريستوفر نولان,وأغنيات الشعوب عن الزمان وسحره وألاعيبه المستفزة.نجده في الفلسفة,في صراعات برجسون وليبتز وديكارت وباشلار.
أيها الزمن...من يكشف عن لحظة حقيقية واحدة منك؟!

...........

إحساسنا بالخوف يبدأ من مجرة شاسعة كامنة في الجمجمة...الدماغ صاحب المائة مليار خلية عصبية متشابكة,تحديداً في اللوزة المخية,أحد أجزاء الجهاز الحوفي المعروف باسم الدماغ الانفعالي والكيمائي, تقع بالقرب من قرن آمون,تقوم بتحفيز ملكة الغدد في جسم الإنسان وهي الغدة  النخامية لإفراز الهرمون الأدرينالين الذي يؤدي إلي تغيرات بيوكيميائية,تنتشر عبر الجسد الذي بدوره تكون ردة فعله تفتح الغدد العرقية ,لتبريد الجسم وهو يبذل طاقته في الهجوم أو الهرب,زيادة سرعة ضربات القلب,اتساع  بؤبؤ العينين ليكشف عن المواقع والحركات,تسارع الشهيق والزفير, تتسع الأوردة لتسمح للدم بالعودة للقلب الذي يصخ خمسة جالونات في الدقيقة الواحدة بدلاً من جالون ليصل للعضلات أكبر قدر من الأكسجين,ويفرز الكبد الجلوكوز ليوفر لها الطاقة التي تحتاجها أثناء عملية المواجهة أو الهرب,تتباطأ عمل الأجهزة الحيوية كالجهاز الهضمي والتناسلي والكليتين بانقباض الأوعية المؤدية لها,ضغط علي المثانة يتسبب في التبول اللاإرادي,يجف الفم,وينشط الرجلان والذراعان,كما يفرز الجسد استجابة للجهد المبذول,هرمون الأندروفين القاتل للألم باعتباره مخدر طبيعي استعداداً لما يحدث من إصابات.
شعور متأصل في النفس الإنسانية قديم قدم الكائنات الحية, يتصل بتاريخ التطور البيولوجي,يتجلي وجهه الإيجابي في دوره الحاسم للحفاظ علي حياة أسلافنا عندما كان يشحذ حواسهم للتهديدات المحيطة بهم فيعمل كآلية للنجاة,ليضعهم بين اختيار المواجهة أو الهرب((fight or flight يفسر هذه العملية الأديب البريطاني جورج أورويل"في لحظات الخطر لا يكافح المرء ضد عدو خارجي بل ضد جسده هو",ومنهم تلقينا جينات الخوف المسئولة عن الحفاظ علي الروح البشرية وسط ما تجابهه من أخطار,قد يكون بسيطاً كاستجابة الحلزون(الأبليزيا)حين يلمس,فيحرك خيشومه في حركة دفاعية,وقد يكون معقداً ومنهكاً كالقلق الوجودي عند البشر.
يحذر الأديب البرازيلي باولو كويلو في روايته"السيميائي من الخوف حينما يصبح مرضاً يعيق قدرات الإنسان وسماً يقتل أحلامه"الشئ الوحيد الذي يجعل الأحلام مستحيلة التحقيق:الخوف من الفشل",ويجعل منه جورج مارتن في رواية"أغنية الجليد والنار"الرحم الذي تولد منه الشجاعة:
"-هل يمكن للإنسان أن يبدي شجاعة في ظل خوفه؟
-إنه الوقت الوحيد الذي يثبت فيه شجاعته."
جوهر الخوف يتمثل في ثلاث اتجاهات:
1-الخوف المباشر المهدد للبقاء,أو باختصار الكلمة الرهيبة عند الحدث,العادية عند الحديث"الموت",أول مخاوف الإنسان وأبقاها,المحرك الأساسي لعمل الإنسان علي الأرض وسعيه للخلود عن طريق الأعمال العظيمة للنوابغ,أو بالتناسل لاستمرارية توريث الجينات,أما موت الغير العزيز علي النفس فهو الانهيار والفراغ والآمال والأفراح التي يأخذها معه للقبر,الموت الذي"لا يوجع الموتي بل يوجع الأحياء"كما وصفه محمود درويش.
2-الخوف من اهتزاز الاستقرار الاجتماعي,هناك نوع من الناس عبيد للوظائف والأموال,يرتبط كيانهم المادي والنفسي بنوع وظيفتهم ومقدار دخلهم,يقيسون أنفسهم بمعايير النجاح الاجتماعية,التي تؤهل لهم فرص البروز في المجتمعات وتساعدهم علي تسكين عقدة النقص-الموجودة فينا جميعاً,لكن الاختلاف يكمن في سبل تعويضها-يكدحون طوال حياتهم في سبيل الارتقاء الاجتماعي,ولهم تقديس عجيب للنظام الهيراركي الوظيفي,هذه النقطة نسج منها الأديب الروسي العظيم أنطون تشيكوف قصته"وفاة موظف"وتدور أحداثها حول موظف يعطس دون في قفا أحد كبار رجال الدولة,فتتحول العطسة التي لم يهتم بها الجنرال بفعل مخاوفه إلي مأساة درامية تودي بحياته!
3-الخوف الناشئ من علاقتنا بالآخرين, يقرر فيلسوف الوجودية الفرنسي سارتر في مسرحية الأبواب المغلقة"الجحيم هو الآخرون",يشرح فيها العلاقات الإنسانية عندما تتقاطع ويتعري فيها الفرد أمام الآخر,فتغدو أشد إيلاماً من أي عذاب آخر,أما الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز فيعتبر أن"الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"ورأي الحياة الاجتماعية"حرب الجميع ضد الجميع"الأعمال الفنية والأدبية المستشرفة للمستقبل اتفقت في أغلبها مع رأيه,فغزا فيها الخوف نفوس الأفراد وعزلهم عن بعضهم,وحُكمت باسمه المجتمعات,واستخدمته السلطات علي اختلافها للسيطرة علي البشر,مع زيادة جرعة العنف فيها لأنه نابع من الخوف وكفاح الإنسان الأبدي للنجاة,وتفتقت الصور السينمائية والروائية عن صور كابوسية للمستقبل.
الإنسان دوماً في حالة خوف,إما خائف من شئ ,أو علي شئ...من يتحرر منه هو القادر علي الترديد مع زوربا اليوناني"أنا لا أطمع في شئ...أنا لا أخاف من شئ...أنا حر"