الأحد، 30 أبريل 2023

مع كل موجة حكاية

 مع كل موجة حكاية لو إحنا في سفينة فضائية بتدور حوالين الأرض، هانشوف كوكب الأرض لونه أزرق، ولو قربنا بالسفينة أكتر هانعرف ليه، لأننا هانكتشف إن معظم سطح الأرض في الحقيقة مش أرض! تلتين ميه وتلت أرض، والميه متوزع في البحار والمحيطات والأنهار، حوالي ٧٠% ميه و ٣٠%أرض، يعني ممكن نسمي كوكبنا الكوكب المائي وتبقي تسمية أدق، وممكن نشوف عالبحر ألوان تانية في بعض الأماكن ممكن تبقي خضرا في المناطق الضحلة اللي بيظهر من خلالها القاع الرملي، وفيه بحار بتتسمي بأسماء ألوان تانية عشان بينعكس عليها ألوان النباتات والحيوانات الدقيقة اللي عايشة فيها أو الرواسب اللي بتنجرف فيها، زي البحر الأصفر في الصين والبحر الأبيض في روسيا الشمالية، والبحر الأحمر، والبحر الأسود. 

هانسيب دلوقتي السفينة لإن الفضاء مش موضوعنا، وهاننزل علي شواطئ البحار، ونشم هوا البحر المنعش ونشوف الزحمة والمايوهات، ونسمع الدوشة المختلطة بصوت الأمواج، كل الناس مبسوطة وجاية تقضي يومين عالبحر، هربانين من الروتين ووجع الدماغ والقرف اللي بيتعرضوله في حياة البر وهمومها، هدفهم الوحيد يرفهوا عن نفسهم، كله عمال يبلبط وريحة اليود بتضرب في الدماغ، والجو كله سعادة وبهجة، حتي صريخ العيال فيه فرحة وإثارة مش مزعج، وتلاقي كل واحدة مع جوزها نسوا شوية المشاكل وقعدوا منسجمين، تجربة المصيف ماتتنسيش والواحد وهو صغير لما كان يعرف إنه رايح المصيف في اسكندرية، مكانش بينام قبليها بليلتين عالأقل من الشوق والفرحة ويسهر يتخيل المتعة اللي مستنياه، وآخر يوم في المصيف بتبقي الدمعة هاتفر من عينه كإنه راجع يعيش في الجبل مع المطاريد، أو عليه حكم مستنيه ولازم ينفذه! 

جو أجازة المصيف من الحاجات القليلة اللي البشر متفقين عليها، نفس الطقوس والعادات تقريباً، اللي بيعوم في عوامة كاوتش في شط مجاني والقناديل عمالة تلسوع فيه، واللي بيلف باليخت بتاعه عالمالديف و الريفيرا، والاتنين رغم الفرق الشاسع بينهم بيبقوا مبسوطين مع إن ده هاينزل من اليخت ياكل في مطعم فخم الحاجات اللي اسمها صعب ومنعرفهاش غير بالسمع، والتاني جايب حلة محشي ولا شايل ساندويتشين في علبة بلاستيك... بس في النهاية الاتنين بيصيفوا زي بعض... قد إيه البحر ده كريم ورزقه واسع فعلاً، بس البحر مكانش دايماً صورته في الأذهان زي دلوقتي مكان للبهجة والاستجمام، كان مكان الخوف والأهوال والرعب، اللي بيروح فيه مابيرجعش، مرادف بشكل ما للموت والحطام والضياع والمجهول اللي محدش قادر يفهمه أو يسيطر عليه، لحد إنجلترا في القرن التسعتاشر ما اخترعت مفهوم المصيف، إزاي ده حصل؟ هنأجل السؤال ده شويتين وهنجاوب عليه في وقته، الأول نعرف شوية عن تاريخ البحر، اتكون إزاي، والناس علي مر التاريخ شافته واتعاملت معاه إزاي، ولأي مدي ساهم في تشكيل العقول وبني الوعي، وتغيير مسار الحضارة، البحر والكلام عنه مابينتهيش، لو جمعنا مثلاً مادة علمية عن البحر والأدب، أو البحر والفلكلور، هانحتاج لمجلدات ضخمة جداً، إنما هنحاول نحكي اللي نقدر عليه. 

البحر اتوجد إزاي، وإيه مصدر الميه عموماً ؟ العلم بيقولنا عن طريقة ممكن نلخصها ببساطة إن سطح الأرض من ملايين السنين، كان درجة حرارته عالية جداً فالميه كانت موجودة وقتها في غيوم مالهاش عدد بتدور في الجو، مع الزمن حصل اللي دايماً بيحصل من الأزل للأبد، كل حاجة اتغيرت الحرارة انخفضت، وبخار الميه اتكثف، وبدأ عصر طويل جداً من الأمطار الغزيرة، اتجمعت في أماكن منخفضة من الأرض وهاتبقي بعد كده ولحد النهارده المحيطات والأنهار والبحيرات وبعضها اتسرب وبقي مياه جوفية، الميه حوالينا في كل مكان في السحب وفي الهوا وجنبنا وتحتنا لكن ٩٥%منه موجود في البحار، ولو كانت الكوكب كله علي مستوي واحد من غير تعاريج ومرتفعات ومنخفضات، كانت الميه غطت سطحه كله بغلاف مائي سمكه أكتر من كيلو متر والبحار تلات انواع: 

1- بحار داخلية شبه منعزلة وبتحوطها اليابسة باستثناء مضيق، زي البحر المتوسط وبحر البلطيق.

 2- بحار ساحلية ودي مكانها علي حدود القارات زي بحر الصين وبحر الشمال وخليج البنغال. 

3- بحار جزائرية موجودة جوه عدد من الجزر زي بحر جاوة وبحر إيجة. والسواحل برضه أنواع: 

1- سواحل رملية اللي نعرفها وبنصيف فيها أو اللي بنحلم نصيف فيها، ودي انحدارها تدريجي لداخل البحر.

 2- سواحل صخرية، ودي كلها نتوءات وانحدارها خطير ومش مكان للمصيف بتاتاً.

 الحضارات الأولي الكبري في مسيرة الإنسانية الطويلة من اكتشاف النار لإختراع chatgpt ظهرت عالسواحل البحرية، زي مصر واليونان وفينيقيا وروما والهند والصين واليابان، وبعد كده ظهرت دول شابة ومتقدمة زي إنجلترا وفرنسا وألمانيا وأسبانيا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، كأن التاريخ بيقولنا إن البحر مفتاح السيادة والتقدم والطريق للكنوز، وده اللي هايخلي الرحالة زي ابن بطوطة وماركوبولو اللي مصادفة ظهروا في جيل واحد وغيرهم عشرات يدونوا أسفارهم اللي فيها عن البحر غرائب للخيال فيها نصيب كبير، وهايخلي الدم يختلط بالملح والرمل في معارك عسكرية بحرية زلزلت الأمواج.

 في البداية اتعرف الإنسان عالبحر من خلال رحلات بتتم في أماكن محدودة، مع كده مكانتش بتبقي سهلة الأخطار بتحاوطه من كل جانب، عشان كده البحر كان ملعب خصب للخيال الإنساني، نسج علي أمواجه حكايات وأساطير امتزجت فيها الخيال بالواقع، وظهرت شخصيات البحارة اللي تعتبر مرحلة جديدة في تطوير الشخصية الإنسانية ونشأة مفاهيم البطولة والحرية ورفض التبعية، ونمو حب المغامرة والاكتشاف في النفوس وبالتالي مكنش بيركب سفن البحر غير الشجعان الحقيقيين، اللي بيلاقوا ذاتهم في تحدي الأخطار وبتثير فيهم الحماس والرغبة في التفوق، وبكده نقدر نقول إن أدب البحر اللي بتدور أحداثه في البحر وبيتحكم في مصير شخصياته اتولد.

 أول حكاياتنا عن البحر بتحصل في البلد اللي بدأت كل حاجة في الدنيا مصر القديمة، القصة مشهورة باسم الملاح التائه لكن سليم حسن عالم المصريات الكبير سماها"قصة الغريق"، وتعتبر قصة شرقية بامتياز فيها من روح العمل القصصي الأعظم ألف ليلة وليلة، وهي عن أمير وتابعه ويظهر إن الأمير أخفق في مهمة الفرعون كلفه بيها في رحلاته البحرية، وبيرجع خايف من عقاب الفرعون، فالتابع بتاعه وهو بطل القصة بيهون عليه أحزانه بمنطق بعد الشدة الفرج، وبيحكي له عن تجربته لما سفينته غرقت، وعاش علي جزيرة بيحكمها تعبان براس إنسان، في أول سطورها بنلاقي فرحة شديدة برجوع الملاحين سالمين، كل واحد بيهني التاني ماعدا الأمير فالتابع بيحكي له قصته لما سافر في البحر بسفينة مع ١٢٠ بحار نخبة بحارة مصر، وطبعاً العدد ده بيدي فكرة عن حجم السفينة الضخم وحسن تنظيمها، وبيقدمهم انهم قلوبهم أقوي من قلوب الأسود ومن خبرتهم يقدروا يتنبأوا بالعواصف والزوابع قبل ما تحصل، ودي فعلاً الصفات اللي لازم الشغالين في البحر، ولأن البحر غدار كالعادة سفينته بتغرق وهو الوحيد اللي نجا، والبحر بيرميه علي جزيرة مهجورة وبيقضي تلات تيام معهوش ونيس غير روحه، وبيلاقي التعبان المرعب، لكنه بيطلع طيب وبيطمنه إنه هايرجع لبلده بعد أربع شهور وفعلاً بيرجع بعد المدة دي لما يلاقي سفينة معدية، وبعد كل ده الأمير بيفضل خايف من عقاب الفرعون والمورال بتاع الحدوتة مأثرش فيه، وبيرد عليه ويقوله: انت عامل زي واحد بيسقي طير عند الفجر عشان هايصبح يدبحه... متهيألي الراجل البحار ده هو الأب الروحي لأوديسيوس والسندباد وروبنسون كروزو وكل الشخصيات الشهيرة اللي هاتواجه بعد كده متاعب البحر، وبتكشف جزء من تاريخ البحرية المصرية اللي تاجرت وسافرت في البحر، وبرعت في صناعة السفن، ولحد النهارده أقدم سفينة خشبية موجودة هي سفينة الدفن الملكية الخاصة بالملك خوفو، وأول البعثات البحرية المعروفة هي اللي قامت بيها ٤٠سفينة مصرية، طلعت من شواطئ مصر رايحة لسواحل فينيقيا، عشان تستورد خشب الأرز من لبنان في عهد الملك سنفرو آخر ملوك الأسرة التالتة، الكلام ده كان حوالي ٢٩٢٠قبل الميلاد حط عليهم ٢٠٢٣ بعد الميلاد وشوف الرحلة دي قديمة قد إيه، وفي عهد حتشبسوت طلعت بعثة من خمس سفن لبلاد الحبشة، وجابت معها البخور وأكتر من تلاتين شجرة من الأشجار النادرة لمعبد الدير البحري، وأيام تحتمس التالت من الأسرة التمنتاشر، أسرة الأبطال والأمجاد علي كل المستويات، الأسطول المصري وصل لذروة عظمته، فتح بلاد الشام، وسيطر علي سواحل البحر المتوسط حتي جزائر بحر إيجة في اليونان، ومن إنجازات رمسيس التاني ملك المجد والانتصار إنه جهز أسطول من ٣٠٠ قطعة بحرية أمن بيها سواحل البحر الأحمر والأبيض.

 تاني حكاية واحدة من أروع الأعمال الأدبية، بتقابلنا في اليونان بلد الأساطير والفلسفة والأدب، غذت عقول البشر علي مر التاريخ وبيرويها هوميروس الشاعر الأول في الثقافة اليونانية، وهي تاني ملحمة ليه بعد الإلياذة اللي بتحكي عن حرب طروادة، الأوديسة بقي بتدور حوالين رحلة أوديسيوس ورجوعه بعد الحرب لمراته بينلوبي وابنه تليماخوس، وخدت منه اسمها، أوديسيوس غضب عليه إله البحر بوسايدون، وخلاه يتوه بين الشواطئ والجزر محروم من الوطن والسكن والأمان، وبيتعرض لمغامرات ملحمية وبيخرج منها بفضل ذكاؤه وشجاعته المشهور بيهم، وبفضل رعاية الإلهة أثينا المتعاطفة معاه وبتساعده، باحث فرنسي معاصر اسمه فيكتور بيرار،حاول يحاكي رحلة أوديسيوس باستخدام نسخة من الاوديسة كخريطة، وبالطريقة دي قدر يعرف المواقع اللي زارها بالظبط في البحر المتوسط، وهي: طروادة في الاناضول، بلاد اللقلق والمرجح إنها في إيطاليا، بلاد أكلة اللوتس "ليبيا"، أرض العمالقة "كوما"، مملكة أبوللو "سترومبلي"، أرض القتلة "مالطا"، جزيرة الساحرة تسيرس "إيطاليا"، جزيرة عرائس البحر "كابري"، مضيق مسينا، جزيرة الشمس"صقلية"، جزيرة كاليبسو" عند مضيق جبل طارق"، جزيرة كورفو، جزيرة إيثاكا.

 وإيثاكا هي وطن أوديسيوس ولما بيرجع بيتبقي له مغامرة أخيرة، وهي إنه يتخلص من الخطاب الطمعانين في الجواز من مراته بعد ما فكروا إن البحر بلعه، أوديسيوس قابل في كل مكان مغامرة، في جزيرة كاليبسو بيتسجن ٧ سنين عند الحورية كاليبسو، وفي بلاد أكلة اللوتس بياكل مجموعة من زمايله زهرة اللوتس وبتخليهم ينسوا كل حاجة، ويفتكروا إن هنا وطنهم الأصلي، في كوما بيواجه الوحش بوليمفيوس ابن بوسايدون العملاق، اللي عنده عين واحدة في راسه ومعروف باسم السايكلوب، وبيحبسهم في كهفه وبياكل رجالته اتنين اتنين، اوديسيوس بيهرب منه وبيعميه بعد ما يخليه يسكر، وكده غضب بوسايدون بيزيد عليه، وعند الساحرة تسيرس زمايله بيتحولوا لخنازير وبيقدر يرجعهم بشر بمساعدة الإله هرمس، وفي مضيق مسينا بيقابل سيلا وده كائن نصه إنسان ونصه سمكة، وبيواجه كاريدي اللي بتبلع مية البحر وبتلفظها بقوة شديدة، والبحارة بيطمعوا في جرة اداهاله ملك جزيرة الأوليين وبيفكروا إن فيها كنز، وبيفتحوها وبيتفاجئوا إن محبوس فيه طاقة الرياح اللي خرجت وضيعتهم تاني بعد ما كانوا خلاص قربوا بلدهم، وفي كابري بيتعرض لإغواء السيرينيات أو عرايس البحر بصوتهم الساحر لأي بحار لدرجة إنه ينط في البحر عشان يوصل لهم، لكنه بيحط شمع ودن بحارته وبيطلب منهم يربطوه في الصاري ولما بيسمع صوتهم بيحاول فعلاً يفك نفسه عشان يروح لمصدر الصوت لكنهم بيشددوا عليه الحبال، وفي صقلية الجوع بيخلي زمايله ياكلوا قطعان الإله أبوللو، ويعاقبهم بتحطيم السفينة. 

العملين دول من أدب البحر الأولي حصلت في البحر الأحمر والتانية في البحر المتوسط بيدونا فكرة، عن التصورات الأولي للإنسان عن عالم البحر المخيف والمجهول، وبيرسموا صور عن وحوش كامنة تحت السطح في اتتظار الضحايا البشرية، عبر عنه الشاعر الساخر أركيبوس في القرن الخامس قبل الميلاد لما قال: قد إيه جميل إنك تتفرجي عالبحر طول ما انتي عالبر،لكن اوعي تركبي في سفينة.

 الأدب الروماني متأثر جداً بالأدب اليوناني، والحقيقة إن كل الأدباء لحد النهارده متأثرين بالأدب اليوناني، سحره غريب جداً يعني اللي عمل زي الإلياذة والأوديسة دول من قرون طويلة جداً، ومع كده لسه قلب الواحد بيتهز والدموع ممكن تخنقه كل ما يقرا مشهد وداع هيكتور لمراته، وقلبه يدق من الإثارة مع مغامرات أوديسيوس ويتغاظ من خطاب بينلوبي، ومازالت مسرحية أوديب لسوفوكليس واحدة من أعظم المسرحيات، وتعتبر العمل الدرامي النموذجي بحسب قواعد أرسطو، فمكانش غريب إن الشاعر الروماني فرجيل يتأثر بالإلياذة والأوديسة في ملحمته الإنيادة اللي بتحكي عن تأسيس روما علي يد أينياس، واحد من أبطال طروادة اللي هايهربوا منها بعد دمارها وفيها سرد لمغامراته البحرية في البحر المتوسط، اللي بعد كده هايبقي لأحفاده مجرد بحيرة رومانية ضمن ممتلكات الإمبراطورية الضخمة، وده مجاش غير بعد صراع مرير علي الشواطئ، ومعارك رهيبة اهمها اللي دار بين جنرالات روما مع جيش قرطاجة بقيادة هانيبال صاحب العقلية العسكرية الفذة والخطط العبقرية في ميدان الحروب، وقرطاجة دي كانت في مكان قريب من مدينة تونس الحالية، حكمت بحار وجزر وعاشت في ثراء دفعها إنها تتحدي روما القوة العظمي في الوقت ده،وشجعهم علي كده طموح وخطط هانيبال، ولأن أسطولهم في البحر مش ممكن مواجهته، اختار الطريق البري لمهاجمة روما عن طريق جبال الألب، زحف ١٥٠ ميل في أسوأ الظروف الممكنة خسر فيها الآلاف من جنوده، واستلهم منه نابليون كتير في حياته العسكرية، وقلد خطته في طريقه لإيطاليا بعد كده، وبعد سنين من المواجهات والكر والفر كان مصير قرطاجة نفس مصير طروادة، الاتنين اتدمروا عشان يفتحوا الطريق لقوة جديدة، وده حال الدول والممالك في عصر وأوان.

 وممكن الصراع الروماني يبقي داخلي بينهم وبين بعض، ويكون مكانه البحر، زي ما حصل في معركة أكتيوم بعد وفاة يوليوس قيصر، واتواجه أسطول أوكتافيوس مع أسطول ماركوس أنطونيوس وكليوباترا السابعة، وانتهت بانتصار اوكتافيوس وهزيمة مارك أنطونيو وانتحار كليوباترا، في الزمن ده اللي كان الدم مغرق البحر والإنسان مالهوش تمن، حصل حاجة غريبة، الملح بقي واحد من الملامح الأساسية للإدارة، وعامل مهم في التجارة، ومن أهميته أثر حتي في اللغة، كلمة salary اللي معناها المرتب بالإنجليزي اتاخدت من الكلمة الرومانية saltration ومعناها حصص الملح، وفي حاكم قوطي عاش في القرن الخامس، لخص أهمية الملح لما قال: مش كل الناس محتاجة للدهب بس مفيش بني آدم مش محتاج الملح، وفي القرن العشرين كان إنتاج الملح في الهند خاضع لسيطرة الحاكم البريطاني، وده اللي خلي غاندي يقود مسيرة الملح مع ٨٠شخص من أتباعه، مشوا ٣٨٤ كيلو متر، ومع الطريق الأعداد زادت لحد ما حصل عصيان مدني شارك فيه ملايين للهنود، من ٢٥٠٠سنة قبل الميلاد والإنسان عارف كنوز البحر، وأول حاجة طبعاً السمك اللي اعتبره أكل يناسب الملوك، واستغل الطحالب لإنتاج "الأجار" وده مادة هلامية بتستخدم في العلاج وساعات بتبقي سماد للأرض الزراعية، ولاحظ قدرة الأسفنج علي الامتصاص، وكان الجنود الرومان بيخزنوا فيه الميه وبيبطنوا بيه خوذهم وفي إنجيل مرقص إن المسيح في ساعاته الأخيرة قدم له جندي روماني أسفنجة مليانة خل يشرب منها، وفضلت تجارة الأسفنج مركزها البحر المتوسط، لحد ما في يوم تاجر فرنسي سنة ١٨٤١ سفينته اتحطمت في الباهما، وهناك لاحظ إن الأسفنج في المنطقة دي أحسن وأسس هناك تجارة للأسفنج سحبت البساط من أي منافس، فيه بعض المؤرخين بيشوفوا إن حضارة العالم القديم انتهت لما البحر المتوسط مابقاش بحيرة رومانية واتشكلت دول وممالك مستقلة.

 هانبحر مع التيار ونروح لشواطئ تانية في المحيط الهندي أو البحر الشرقي الكبير اللي غامر فيه ملاحين الفرس والعرب والصين ووحوشه مرعبة بتحطم المراكل، وطيوره متوحشة بتسد عين الشمس، الطيور دي سماها الصينيين الفنج والفرس السيمورغ والعرب سموها العنقاء أو الرخ، ودي حتة بيظهر فيها العرب بوضوح وجلاء وعلي رأسهم السندباد واحد من أشهر شخصيات ألف ليلة وليلة العمل القصصي العظيم اللي نقدر نقول عليه بضمير مرتاح مالهوش مثيل في الدنيا، وفيه معلومة تاريخية متداولة إن العرب مكانوش أهل بحر، ودي مش دقيقة العرب دول جغرافياً وتاريخياً مكانوش زي بعض، موطنهم أصلاً اسمه "شبه الجزيرة"، وسواحلها تشهد بتفرد الملاحين اللي فيها، أما اللي في قلب الجزيرة زي مكة والطائف كان الجبال بتحاوطهم ودول فعلاً معظمهم عاشوا وماتوا ومايعرفوش حتي يعني إيه بحر، ورغم كده كانوا أهل تجارة ورحلات، وشخصيات شهيرة من قريش قبل البعثة النبوية، كانت بتروح لكسري فارس وقيصر الروم الممثلين لأكبر قوتين في العصر ده لأسباب تتعلق بصراعات سياسية وبعضهم كان بيبقي في مقام السفير في القصور الملكية، وساعات ناس بتسافر بهدف إنها تتعلم وتدور عالحقايق الدينية والروحية المفقودة في شبه الجزيرة العربية، وعالعموم كانوا مختلفين جداً عن الصورة اللي كرستها الدراما واللي دخلت نمط تفكيرنا ورؤيتنا للتاريخ،من ٥٠٠سنة قبل ظهور الإسلام أسس مجموعة من صيادين الحيتان مدينة جدة الساحلية وسكنها واحد من أولاد معد بن عدنان الجد التستعاشر للنبي، وبالتزامن مع الوقت ده عرفوا الرياح الموسمية في المحيط الهندي، ودي خلت سفنهم الشراعية الصغيرة وكان اسمها "الدو" ، تقوم برحلتين كل سنة، وابتكروا الشراع المثلث وبفضله السفن بقي عندها مقاومة للعواصف، وفخر العرب في الملاحة هو احمد بن ماجد المولود في جلفار"رأس الخيمة" في الإمارات، وفيه جزء من سيرة البحار النابغة ده لسه محتارين فيه، هل هو اللي دل فاسكو دي جاما البرتغالي علي طريق الوصول للهند ولا لأ، شخصيته مالهاش وجود في أدبيات المعاصرين للحدث ده، لكن مؤرخين عرب كتير بيأكدوا عالموقف ده في مقابل مؤرخين تانيين رافضينه باعتبار إنه كده هايبقي مسئول غير مباشر عن المدابح اللي هاتحصل علي إيد دي جاما بعد كده، ووراه السكة اللي هايضعف بيها القوة البحرية العربية ومركزها الممتاز في مناطق زي عمان وحضر موت والتجارة العربية، بسبب إن الهند تعتبر أرض الكنوز، كنوز غريبة شوية عن تصوراتنا، عبارة عن توابل، وكانت حاجة مش متاحة في الزمن ده في أي مكان، والطلب عليها زايد من الناس بصورة كبيرة بعد ما عرفوا اللذة اللي بتديها لأي أكلة والعرب اتعودوا عالمتاجرة السلمية مع الهنود واتعاملوا بوفاق بمبدأ عيش وسيبني أعيش علي نقيض البرتغاليين اللي بهدلوا الدنيا هناك، عن نفسي ميال إنه يكون ساعد دي جاما لأنه مستحيل بخرايطه الغلط وأدواته البدائية يوصل في المحيط المجهول ده من ماليندي علي شط القارة الأفريقية، لكالكوتا علي الشط الغربي لشبه جزيرة الهند، إلا بخبرة واحد زي ابن ماجد، ودي الرحلة البحرية اللي حولته لواحد من أبطال الملاحم في البرتغال ولو فشل فيها كان تاه ولا غرق في البحر زي كتير سبقوه في المحاولة.

 عارف الواقعية السحرية بتاعت أدباء أمريكا اللاتينية؟ أهي المؤلفات البحرية للرحالة والمؤرخين العرب فب القرون الوسطي شبهها كده، خليط من الخيال والواقعية، حواديت فيها حقايق جغرافية اختلطت بأوهام بصرية وقصص سمعوها ونقلوها ودي ظاهرة عامة في التاريخ القديم كله مانجاش منها حد من ساعة هيرودوت ما فكر في كتابة التاريخ، من الحكايات دي بيصوغ الراوي العبقري المجهول لألف ليلة وليلة حكايات السندباد البري، وبالبحث في التراث البحري العربي هنلاقي تشابهات كتير دايبة في تفاصيل السرد الممتع للرحلات الخالدة في ضمير كل اللي قراها، وسمع السندباد البحري بيحكي للسندباد البري عن اللي عاناه في البحر قبل ما يبقي غني وعنده قصور سمع السندباد البري بيحسده عليها، من عظمة قصص ألف ليلة وليلة إنها ماتتحكيش لازم تتسمع من بق شهر زاد شخصياً فممكن تقراها، وتقرا عن القصص البحرية عموماً، وصدقني مش هاتندم وهاتشوف البحر بعيون جديدة تماماً.

 الحقيقة في كتير نفسي أتكلم عنه زي رواية موبي ديك لهيرمان ميلفيل، وروبنسون كروزو ورحلة كريستوفر كولومبس اللي هايكتشف فيها أمريكا وينزل علي شواطئها مفكر نفسه وصل الهند! وبعدها التاريخ هياخد مساره اللي حاسينه بوضوح في زمننا ده، وألف حاجة وحاجة في دماغي تخص البحر، بس الكتابة عن البحر زي العوم فيه ممكن التيار يسحبنا ونغرق ونقعد سنين نجيب سيرة البحر وبرضه الكلام مش هايخلص، فنختم بقي مع المصايف والحاجات الحلوة دي ونقول إزاي فكرة إن حد ياخد بعضه ويروح راكب أي مواصلة واللي يسأله رايح فين يا فلان؟ يقوله: رايح المصيف يومين مع العيال، ونجاوب عالسؤال اللي طرحناه في البداية.

 في أساطير وقصص الشعوب بتتكرر معاناة الإنسان مع امواج البحر، لغاية الحقبة الكلاسيكية بيفضل البحر كيان غامض وغاضب ومخيف زي ما بيحس بيه شكسبير في مسرحية العاصفة، لحد القرن التسعتاشر بياخد البحر صورة جديدة بنشوفها في رسومات الرسام الروسي- الأوكراني إيفان إيفازوفسكي وهو واحد من أجمل رسامين البحر، بنشوفه هادي دافي مغري ملهم مكان يتمني أي إنسان يزوره مش يهرب منه كالعادة، طبعاً الثورة الصناعية اللي بدأت في إنجلترا كان ليها دور، العلم اتقدم والإنسان المذعور قدام الطبيعة بقي يقدر يسيطر عليها لحد ما، والبحر مابقاش له نفس الرهبة القديمة، والناس بقت بتروح البحر مش عشان تغامر زي السندباد، ولا عشان تصطاد وتاكل وتروح مرضية، بقت بتروح عشان تريح أعصابها!!! دنيا غريبة فعلاً....البحر بقي مكان للاستحمام وتقضية اوقات مرحة، بعد الهوا ما اتلوث بدخان المصانع الإنجليزية والمدن اتزحمت، لوردات بريطانيا لقوا إن صحتهم وصحة ولادهم نتيجة للرفاهية اللي عايشين فيها بقت ضعيفة وواهنة، في مقابل خشونة وقوة في عمال المصانع محدش بياخد كل حاجة فعلاً، كان من ضمن الأفكار الجديدة إن هوا البحر الطبيعي ليه مميزات في الشفاء وانتعاش الروح والجسم، وبدأت تتكون المنتجعات السياحية عشان تخدم وتلبي طلبات السادة اللي جايين يفرفشوا، الفكرة دي خدتها أوروبا والعالم كله، ومع الوقت بقي كل الناس نفسها تروح تصيف، وفيه اللي بيروح وفيه اللي بيفضل نفسه بس. 

اتبقت ملاحظة أخيرة شخصية تخصني... دي أول مرة أكتب فيها بالعامية، لما وزيز دعت للكتابة عن البحر، اتملا وجداني بذكريات المصيف والحاجات اللي قريتها عن البحر، والدافع اللي جاني رغبة في الفضفضة والدردشة، اتخيلت إني قاعد علي شط المعمورة مع صديق أو صديقة ليا عالبحر وبتكلم معاه، الصديق أو الصديقة ده إنت ياللي بتقرا الصفحات دي،لو كنت بتقرا الكتاب ده عالبحر أو في الشاليه خليك عارف إن الكيان الرهيب اللي قدامك ده مليان أسرار وألغاز لسه بتتحدي العقل البشري، ولو كنت بعيد عن البحر أو ماشوفتهوش فاتمني في يوم من الأيام تستمتع بنسمات البحر وتبلبط، وفي الحالتين نفسي تكون قضيت معايا وقت مفيد وظريف... عن نفسي قضيت معاك وقت جميل مش هنساه أبداُ.

الأحد، 23 أبريل 2023

حكاية سالم وسليم

 حكاية سالم وسليم في قديم الزمان عاش فلاح في إحدي القري، مع زوجته وولديه سالم وسليم، وحين مات الفلاح تولي سالم مسئولية زراعة الأرض والعناية بها، بينما سليم ملأت رأسه الشائعات التي انتشرت مؤخراً حول وجود كنز مدفون بين الجبال البعيدة، كان سالم ينهض في الصباح يحمل فأسه ويمضي نحو الأرض يوليها كل طاقته وعنايته، ويظل يعمل بإخلاص حتي الغروب، أما سليم فكان يستيقظ متأخراً ويقضي وقته مع العاطلين في القرية يتتبع أخبار الكنز ويحلم به، تاركاً أمر العمل وإطعام الأسرة لأخيه سالم، وكان سالم يحتمل راضياً دون أن يشتكي، وفي أحد الأيام قرر سليم الرحيل بحثاً عن الكنز، حاول سالم إقناعه بالبقاء معهم قائلاً: 

-الكنز الحقيقي يا أخي ليس هو ما يجده الإنسان دون تعب أو كفاح، بل هو ما يحققه في حياته بالعمل والاجتهاد. لكن سليم صمم علي تحقيق رغبته في البحث عن الكنز، غير مهتم بنصائح أخيه وتوسلات أمه كي لا يرحل عن قريته وأرضه ويعرض نفسه للهلاك في سبيل وهم، بينما أرض أبيه في حاجة إليه، وفي صباح يوم شتوي بارد خرج سليم من القرية سراً وذهب نحو الجبال البعيدة يحلم بالكنز المدفون الذي سيغير له حياته ويجعله سعيداً وفي أثناء سفره قابل رجل عجوز عند الطريق المؤدي إلي الجبال يسأله

: -إلي أين تتجه أيها الشاب؟ خشي سليم أن يخبره عن وجهته لأنه كان يريد الكنز لنفسه فقط، فأجاب في وقاحة

: -لا شأن لك بي أيها العجوز. 

ضحك العجوز وقال: 

-انتظر قليلاً... ألست ذاهباً للبحث عن الكنز؟ 

بدت الدهشة في ملامح سليم فأكمل الرجل:

 -إني رجل عجوز رأيت الكثير في حياتي، وكل من مر في ذلك الطريق يقصد الكنز المدفون بين الجبال... إني أستطيع أن أدلك عليه. 

فرح سليم واتجه نحو العجوز الذي قال في حزم:

 -بشرط واحد. قال سليم بحماس ممزوج بالسرور: 

-كل ما تبتغيه أيها الرجل الطيب مجاب، قل مرادك. 

-أن تتزوج ابنتي. بدا الشرط غريباً ومفاجئاً، لقد توقع سليم أن يشترط عليه العجوز نسبة في الكنز، أو أن يؤدي له عملاً ما لكنه لم يرد علي ذهنه أن يتزوج، وقبل أن يجيب سليم، نادي العجوز ابنته:

 -يا زعانف ظهرت زعانف من أحد الكهوف أمام عيني سليم، فوجد صورتها منفرة وفي نظرتها قسوة واضحة، لكنه لما تذكر الجواهر والذهب والأموال التي ستصبح في حوزته زينها له الطمع، ووافق علي الزواج دون تردد، وبعد مكوثه في الكهف عدة أيام، أنهي العجوز رسم خريطة تفصيلية لمكان الكنز وقال: 

-أخبرنا أجدادنا أن في ذلك الطريق جبل قمته صفراء كالذهب وسفحه أسود كالقطران تحته صندوق كبير فيه ما يسعد من يجده. وبما أن زعانف كسولة جداً استغرقت رحلتهم شهور طويلة كي يصلا إلي الجبل ذو القمة الصفراء كالذهب والسفح الأسود كالقطران، ولما وصلا بقي سليم يحفر وحده لأيام طويلة حتي عثر أخيراً علي صندوق فولاذي ضخم حاول فتح قفله الضخم بكل الحيل الممكنة لكنه لم يفلح ، فظل بجواره ليل نهار متألماً لعجزه عن فتح الصندوق بعد إيجاده، ومن طباع زوجته السيئة ومضايقاتها المستمرة له، وذات ليلة اكتمل فيها البدر ظهر بسبب ضوئه الفضي عبارة منقوشة علي الجانب الأيمن من الصندوق نصها " المحظوظ هو من يكتشف علي ما أحتويه، إذا أردت الحصول علي ما بداخلي اذهب إلي النهر الكبير واجعل السمكة في منقار الديك، فذلك هو مفتاح الققل " اصطحب معه ديكاً وانطلق إلي النهر الكبير، ثم اصطاد سمكة وجعلها في منقار الديك وحاول أن يفتح بها القفل وظل يحاول طوال الليل، وعند الفجر مر به صياد ولما رآه علي هذه الحال ضحك وقال ساخراً:

 -يا للعجوز الماكر لقد أفلحت حيلته حقاً!

 لكن سليم لم يهتم البتة بما قاله، وفي اليوم الثاني مر عليه نفس الصياد وقال مرة أخري:

 -يا للعجوز الماكر لقد أفلحت حيلته!

 وفي اليوم الثالث كرر:

 -يا للعجوز الماكر لقد أفلحت حيلته! حينها استوقفه سليم وسأله مغتاظاً: 

-ما معني كلامك أيها الرجل؟

 -لن تفهم كلامي لأنك أحمق. 

غضب سليم وهجم علي الصياد، قهقه الصياد وهو يدفعه عنه بيده: 

-ألم أقل لك أنك أحمق؟!... وهل يوجد في الدنيا من يصدق أنه يمكن فتح صندوق فارغ، بمنقار ديك فيه سمكة؟ صاح سليم:

 -فارغ؟

 -سأثبت لك. 

حمل الصياد الصندوق وخلع جانبه بسهولة شديدة وقال:

 -إنه مجرد صندوق خشبي ردئ الصنع!

 نظر سليم داخله فوجده فارغاً إلا من ورقة مكتوب فيها" كنزك الحقيقي هو ما تنجزه فوق الأرض، فاترك باطنها وعد لتجده" جلس منهاراً منهكاً علي ضفة النهر وحكي له الصياد عن حقيقة والد زوجته:

 -ذلك العجوز أخبرني حكايته في جلسة جمعتني به في أحد الخانات علي طرق السفر، كان له ثلاث بنات قبيحات شريرات، فاحتار في أمر زواجهن كي يرتاح من مشاكلهن وإزعاجهن المتواصل له، فابتدع حكاية الكنز، وأخذ يقف في الطريق المؤدي للجبال كي يلتقي بالحمقي الباحثين عن الثراء السريع بدون عمل، فيخدعهم ويدلهم علي مكان صناديق وضعها بيده ويحتارون في فتحها علي شرط أن يقبلوا الزواج ببناته، وبالفعل نجحت حيلته بتزويجك آخر بناته، ولما تمت خطته أصبح يحكيها علي سبيل المزاح، للسخرية من أمثالك...فوداعاً يا من تحاول فتح قفل وهمي بمفتاح سحري!

 قهقه الصياد من جديد وراح ليصطاد رزقه من النهر، تاركاً سليم في قبضة الحزن والندم. استغرقت رحلة العودة سنوات عديدة، كان سليم خلالها يعمل عند الناس أجيراً كي يوفر تكاليف السفر، وأحياناً يسمعه الناس يبكي وهو يقول" ليتني لم أترك أرض أبي، وبقيت في بلادي أعمل مع أخي" ولما تقدم به العمر عاد أخيراً مع زوجته التي تسبب له الإزعاج والمشكلات إلي قريته، وبجوار منزله القديم رأي طفلاً يشبه أخيه تماماً حتي خيل له أنهما عادا طفلان يلعبان في الحقول، أفاق من تصوراته علي صوت الطفل يصيح:

 -يا أبي هناك غريب في أرضنا.

 تأثر سليم لكلمة غريب، وفاضت عيناه بالدموع، خرج سالم علي صوت ابنه وتعانق الشقيقان شوقاً بعد غياب طويل، واحتضن سليم أمه والحزن يعتصرهما، وحكي لهما ما لقيه من متاعب وآلام فأشفق عليه أخيه وقال: 

-مازالت أرضنا بخير يا أخي، لقد تضاعفت مساحتها ونصيبك فيها محفوظ. 

عاش سليم بقية حياته مع زوجته المزعجة وحيدين يملأ حياتهما الشجار والتلاسن اليومي، وكان كلما رأي أسرة أخيه السعيد والأرض التي أثمرت بعرق جبينه وكفاحه علي مدار السنوات الفائتة يردد لنفسه همساً" حقاً إن الكنز هو ما يحققه الإنسان بعمله وصبره"

الاثنين، 10 أبريل 2023

نداء عند المنعطف

                        نداء عند المنعطف

 انتظرت نهال وأمها في الشارع المزدحم يرقبان المارة، حتي ظهرت امرأة في الخمسينيات من العمر تلهث من الحر، وعندها أكدت الأم علي ابنتها للمرة المائة منذ صباح ذلك اليوم: 

-كوني صبورة معها، إنها طيبة ولكنها ثرثارة!

 وعندما اقتربت المرأة رسمت نهال ابتسامة باهتة مقلدة الأم، التي ابتسمت بحرارة وهي تحتضن المرأة حتي نفدت رائحة عرقها إلي أنفها:

 -إننا نسبب لك المتاعب يا ست أماني... يعلم الله أنني أتمني لك الصحة والعافية وطول العمر. مدت نهال يدها بالسلام، فتلقتها أماني بين أصابعها ببرود، وسرعان ما كان الثلاثة يشقون زحام الشارع، حتي وصلوا لمحل أدوات منزلية علي درجة من الفخامة، قام صاحب المحل لملاقاتهم وفرجهم علي كل ما عنده، اختارت نهال وأمها طاقم كئوس، وجلس الرجل إلي مكتبه كي يكتب لهم فاتورة البيع، وجاء دور أماني في الفصال، تعنت الرجل في البداية، فصرفت نهال وأمها إلي آخر المحل، فوقفت كلاً منهما تحدق في الأرض منكسة الرأس في جمود، كأنها تلميذة خائبة لا تجرؤ علي النظر لزملائها، وقالت للرجل بلهجة لم تخل من فخر وتباهٍ: 

-إنني أشتري لتلك العروس الغلبانة بعضاً من جهازها، لقد كانوا أسرة من الأثرياء يعيشون في بحبوحة ورغد، لكن جار عليهم الزمان وجري عليهم تبديل الحال الذي لا يفلت منه حي في هذه الدنيا، فساعدها معي وستدعو لك. كان الرجل رقيق القلب يخشي تقلب الأحوال، ويري بعينيه حال الأسر الفقيرة بحكم مهنته التي تعرضه للعديد من القصص المشابهة، ولديه ابنة في مثل سن نهال، فهاودها إلي أقصي درجة، ولاحت منه نظرة لنهال وأمها، رأي البنت فارعة القوام جميلة الوجه نضرة البشرة ترتدي ثياباً أنيقة، فتشكك للحظة، فطنت أماني لما يدور في رأسه فقالت:

 -لا تجعل المظاهر تخدعك، إنها بقية من العز الغابر. كانت نهال وأمها تستمعان إلي كلام المرأة بقلب كسير، ولم يلحظ الرجل وهو يتأملها، أن البنت وجهها تضرج بحمرة منبعها الإحراج الشديد، والذل الذي تشعر به يسري في عروقها، في موقف تتعرض له لأول مرة، اعتادت في حياة والدها أن تشتري مسلتزماتها من أرقي المحال في المدينة، ولم يخطر لها علي بال أن تتحول إلي فرجة تقتحمها عيون الناس لتكتشف مدي فقرها وإن كانت تستحق الصدقة أم لا، أما الأم فكتمت أحزانها الملتاعة في قلبها ولم تفرج عنها بأي تعبير، بل ظلت في جمودها يظن من رآها أنها شاردة الذهن، فقد اعتادت ألا تبدي أوجاعها المرضية أو النفسية بأي شكل حتي لا تزيد من هموم ابنتها، وفي سرها تلعن الساعة التي وافقت فيها أماني علي عرضها بمساعدتها في جهاز ابنتها انتظاراً لعريس قد لا يجئ أبداً وهم أسرة تصارع الجوع ولم تعد تأمل سوي في لقمة العيش، ظنت أن الأمر سيتم دون حاجة لتعريتهما أمام رجل غريب. تمتم الرجل متنهداً في أسي وهو يدون نسبة الخصم في الفاتورة:

 -ربنا يسترها... إن دوام الحال من المحال. اخترقت تنهداته سمعها، ورأت أماني تدس يدها في حقيبتها وتخرج النقود، ونظرة الاستعلاء والرياء ترقص علي وجهها المتجعد، فصاحت نهال بصوت جاهدت لتتحكم فيه لكنها أخفقت، فخرج شرساً محشرجاً يملؤه الغضب والعنف:

 -لتوفري نقودك، ولتوفر بضاعتك لزبون أفضل لم يسقط من عز الثراء إلي مهانة الحاجة، إني لا أريد شيئاً من أحد. هرعت إلي الخارج عائدة للشارع المزدحم من جديد، ومضت في تيار السائرين وهي تمسح دمعة ساخنة انحدرت علي وجنتيها، وأسرعت في سيرها مهتاجة المشاعر حتي غابت عند المنعطف، دون أن تلتفت ولو مرة لنداء أمها المتواصل بصوتها المفطور من البكاء.